Getting your Trinity Audio player ready...
|
يشهد النظام الدولي تحوّلات جذرية في موازين القوى، ستؤدي إلى تصدّع التحالفات التقليدية وظهور فاعلين جدد في مشهد الطاقة العالمي، في وقتٍ يتسم بعدم اليقين الجيوسياسي وتضارب المصالح بين القوى الكبرى، وذلك في ظل انحسار هيمنة الوقود الأحفوري وتزايد الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة.
وبالتالي إن إعادة تشكيل خريطة النفوذ الطاقي لا تعكس فقط تحولات تقنية واقتصادية، بل تنذر أيضاً بإعادة تعريف الاصطفافات الاستراتيجية في عالم ما بعد الكربون.
وتختزل عبارة “اخترع الروس لعبة الشطرنج، ثم بدأوا يمارسونها عبر أنابيب الغاز” -التي ذكرها تيموثي ميتشل، مؤلف كتاب “ديمقراطية الكربون”- بذكاء حقيقة عميقة حول العلاقة بين الطاقة والهيمنة الجيوسياسية.
لقد ظلّت الطاقة عنصراً جوهرياً في معادلات الدبلوماسية الدولية، على مدار العقود الماضية، تؤثر في مسارات التحالفات، وتشعل الحروب، وتعيد تشكيل السياسات الاقتصادية، وتحول النفط والغاز إلى أوراق ضغط حيوية في لعبة النفوذ العالمي، حيث تسعى الدول إلى تأمين إمداداتها بأي ثمن.
وفي القرن الحادي والعشرين، بقيت دبلوماسية الطاقة في صميم العلاقات الدولية، مع استمرار القوى الكبرى، كالولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي، في رسم سياسات تمسّ مباشرة استقرار العالم وأمنه.
يكشف هذا التحليل الخاص، كيف أن الطاقة ما تزال أداة استراتيجية فاعلة في يد اللاعبين الدوليين، وسط عالم تزداد فيه الصراعات التجارية برودة والجبهات السياسية سخونة.
أزمة الطاقة العالمية
أصبحت عبارة “أزمة الطاقة” العنوان الأبرز في كل محفل، من نشرات الأخبار مروراً بالمنصات الاقتصادية، والمنتديات الجماهيرية إلى تقارير السياسات الدولية.
لكن هذا الحضور الكثيف لا يُعد مفاجئاً، إذ إن التحديات التي تنطوي عليها هذه الأزمة تمسّ كل ركن من أركان العالم، وتفرض نفسها على الأجندات السياسية والاقتصادية في آن معاً، وفك جذورها، وفهم أبعادها، ورسم مسار للخروج منها، هو مفتاح التعامل مع أحد أكثر التحديات تعقيداً في عصرنا الحالي.
بدأت الشرارة الأولى للأزمة نتيجة تراجع الاستثمارات في البنية التحتية للطاقة عقب الانخفاض الحاد في أسعار النفط عام 2014، إلا أن الوضع تفاقم بسرعة مع الطفرة المفاجئة في الطلب على الطاقة بعد جائحة كوفيد-19، إضافة إلى تصاعد التوترات الجيوسياسية، خاصة في مناطق الإنتاج والتوزيع الحيوية.
اليوم، تواجه الدول تحديات متنوعة من ارتفاع تكاليف الطاقة، واضطراب سلاسل الإمداد، وتراجع موثوقية شبكات الكهرباء، إلى جانب التحديات المناخية المتصاعدة، وكل ذلك يعمّق من آثار الأزمة ويجعلها تضغط بقوة على الاقتصادات والأفراد في وقت واحد.
على النقيض من ذلك، فإن هذه الأزمة، رغم حدّتها، شكلت لحظة انعطاف حاسمة؛ ودفعت الحكومات والشركات إلى إعادة تقييم أولوياتها الطاقية، وأعادت طرح سؤال الاستدامة على رأس الأجندة العالمية.
وفي الوقت الحالي، نشهد تسارعاً غير مسبوق في تبني مصادر الطاقة المتجددة، بوصفها ركيزة الخروج من الأزمة وبوابة نحو أمن طاقوي أكثر توازناً واستدامة.
الطاقة النظيفة
تشير بيانات وكالة الطاقة الدولية (IEA) -وهي هيئة تضم 31 دولة تمثل نحو 75% من الطلب العالمي على الطاقة- إلى أن حجم الاستثمارات في قطاع الطاقة لعام 2024 بلغ نحو 3 تريليونات دولار، أي ما يعادل 3 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مدفوعاً بموجة استثمارات دورية في قطاع النفط والغاز، وارتفاع تمويل مشاريع الطاقة النظيفة.
بعد سنوات من الركود منذ عام 2010، بدأت استثمارات توليد الطاقة النظيفة تسجل نمواً ملموساً، نتيجة التغيرات المناخية، والتزامات الحياد الكربوني، وضغوط السوق.
لكن وفقاً للاتجاه السائد، جاءت نحو 75% من هذه الاستثمارات من القطاع الخاص، بينما أسهمت الحكومات بالربع المتبقي، ما يعكس تزايد دور رأس المال الخاص في تمويل التحوّل الطاقوي العالمي.
وهذا يشير إلى أن التغير الأعمق يتجلى في وجهة هذه الاستثمارات؛ فمنذ توقيع اتفاق باريس للمناخ عام 2015، انقلبت موازين توزيع التمويل، وأصبحت الطاقة النظيفة تتلقى استثمارات تُقارب ضعف ما يُخصص للوقود الأحفوري، في دلالة واضحة على التحول البنيوي الذي يشهده قطاع الطاقة العالمي.
الطاقة الشمسية
يتوقع أن تتجاوز الاستثمارات في الطاقة الشمسية العام الحالي نحو 500 مليار دولار، بشكل يفوق إجمالي الاستثمارات في جميع مصادر توليد الطاقة الأخرى مجتمعة.
وهذا التحول اللافت يعكس الصعود السريع للطاقة الشمسية كأحد أعمدة التحوّل العالمي في قطاع الطاقة.
وقد أسفر هذا النمو عن نتائج ملموسة؛ إذ تحسّن الوصول إلى الكهرباء في العديد من المناطق، فيما انخفضت تكلفة الطاقة الشمسية بأكثر من 80% منذ عام 2010، واستمرت المنشآت المتجددة في التفوق على مشاريع الوقود الأحفوري من حيث النمو والانتشار.
ورغم أن ملامح المستقبل لا تزال غير محسومة بالكامل، إلا أن الواضح بأن العالم يسير بخطى ثابتة نحو عصر طاقوي جديد، تُهيمن فيه المصادر النظيفة على المشهد.
وتتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن السعة التراكمية العالمية للطاقة الشمسية الكهروضوئية (PV) ستتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2028، لتتجاوز الغاز الطبيعي بحلول عام 2026، والفحم بحلول عام 2027.
وهذا يشير إلى أن التقنيات الشمسية الناشئة، مثل الأنظمة الشمسية الموزعة والألواح الشمسية فوق الأسطح (RTS)، ستشهد نمواً متسارعاً مدفوعاً بارتفاع أسعار الكهرباء بالتجزئة، وتوسّع السياسات الحكومية الداعمة التي تهدف إلى مساعدة المستهلكين على خفض فواتير الطاقة.
محركات التغيير
التحوّل من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، لا يتمحور فقط حول إنتاج طاقة نظيفة، بل يتعلّق أيضاً ببناء مستقبل طاقوي أكثر استقراراً، وكفاءة، واعتمادية، واستدامة، لكن ما الذي يقود هذا التغيير العميق؟.
وتشمل أبرز عوامل الدفع لهذا التحوّل، بالقلق المتزايد بشأن تغير المناخ، وتقلبات أسواق الطاقة، والالتزام العالمي بتحقيق الحياد الكربون بحلول عام 2050، ويتمثل أحد التحديات الرئيسية في تحقيق التوازن بين تلبية الطلب المتزايد على الطاقة، والحفاظ على الزخم نحو إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي.
مع ذلك، تُحدث التقنيات المبتكرة في مجالات الطاقة المتجددة، والشبكات الذكية، والوقود منخفض الانبعاثات، تحوّلاً جذرياً في صناعة الطاقة، وتعيد تشكيل البنية التحتية والممارسات التشغيلية.
كما تُعد إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي بحلول منتصف هذا القرن مسألة حاسمة في مواجهة أزمة المناخ، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة شاملة لأنظمة الطاقة حول العالم.
التحول من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة لا يتعلق فقط بالطاقة النظيفة؛ بل ببناء مستقبل أكثر استقراراً للطاقة وموثوقية وتكلفة معقولة واستدامة
وعلى النقيض من ذلك، فإن الأشخاص الذين يرغبون في بذل المزيد لمكافحة تغيّر المناخ، وأولئك الذين يترددون في ذلك، يتفقون غالباً على نقطة واحدة، أن إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي ستكون عملية مكلفة بشكل كبير وتحدياً هائلاً.
تحديات المرحلة المقبلة
رغم التقدم الملحوظ في مجال الطاقة، تُشير التوقعات إلى أن الطريق لا يزال مليئاً بالتحديات على صعيد استخدام الطاقة حول العالم، إذ من المتوقع أن تواصل قضايا الطاقة تأثيرها المباشر على الأسر التي تكافح لتسديد فواتيرها، والقطاعات الصناعية التي تواجه اضطرابات تشغيلية، والاقتصادات التي تتضرر من عدم استقرار الموارد.
وفي تقريرها الأخير حول المناخ والتنمية، تحذر مجموعة البنك الدولي قائلة: “إن معالجة انعدام الأمن الغذائي وفقر الطاقة تُعدّ محوراً أساسياً لتحقيق الاستقرار العالمي، لكن التعامل مع هاتين الأزمتين بشكل منفصل لم يعد كافياً.”
وهذا يشير إلى أن الأزمات المتشابكة في الأمن الغذائي وأمن الطاقة باتت ترسم ملامح القرن الحادي والعشرين، وتُلقي بظلال ثقيلة على استقرار العالم في الحاضر والمستقبل.
تحولات القوى
تُحدث الصدمات في أسواق الطاقة كوارث سياسية قد تهز استقرار الدول، فثلث نسبة التضخم التي بلغت 8% في الدول الأكثر ثراءً يُعزى إلى الارتفاع الحاد في أسعار الوقود والكهرباء، ما أثار غضب الأسر التي تكافح لتسديد فواتير الطاقة.
وهذا الواقع دفع العديد من الحكومات إلى تبني سياسات تُعزز إنتاج الوقود الأحفوري كإجراء لتخفيف آثار الصدمات الطاقوية، بغض النظر عن الطبيعة الكربونية المكثفة لهذه المصادر.
معالجة انعدام الأمن الغذائي وفقر الطاقة أمران جوهريان لتحقيق الاستقرار العالمي، لكن لم يعد من الممكن التعامل مع هذين التحديين بشكل مستقل
الوقود الأحفوري
رغم محاولات السياسات المتكررة على مدار عقدين من الزمن، إلا أنه ما زال الوقود الأحفوري يشكل أساس حركة الاقتصاد العالمي، ولن يتغير هذا الواقع في الأمد القريب.
في عام 2022، لبّى الوقود الأحفوري نحو 81 % من الاحتياجات الطاقوية العالمية، مقارنة بـ81.2% في عام 2000، وهو تراجع طفيف للغاية يدل على استمرارية الاعتماد الكبير عليه.
وتتوقع منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) أن يصل الطلب العالمي على النفط إلى 105.05 مليون برميل يومياً هذا العام، كما قامت بخفض توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي إلى 3 % بشكل طفيف.
ووفقاً لأكثر السيناريوهات تفاؤلاً، سيظل الوقود الأحفوري يزود ثُلثي الطاقة العالمية بحلول عام 2100.
شعار ترامب
كان هذا الشعار المحفز الذي أعاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ووعد بإحياء صناعة الوقود الأحفوري الأمريكية.
وتستعد الولايات المتحدة، كأكبر منتج نفط في العالم، تحت قيادة الرئيس ترامب لتوسيع إنتاج الوقود الأحفوري في ظل تزايد الطلب من الاقتصادات النامية في الجنوب العالمي.
وتمتلك الولايات المتحدة نحو 360 مليار برميل من النفط الخام القابل للاستخراج تقنياً، ونحو 3000 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي القابلة للاستخراج، وهي كميات تكفي للاستخدام المحلي والتصدير إلى أوروبا وآسيا.
وفي الوقت نفسه، يتخلى الرئيس ترامب عن السياسات الخضراء المكلفة، حيث رفع الحظر الذي فرضه سلفه على تصدير الغاز الطبيعي، فاتحاً بذلك أبواب السوق الأمريكية لتسيطر على أسواق الطاقة العالمية.
وخلال 100 يومه الأولى في الرئاسة، وقع ترامب أمراً تنفيذياً يعلن حالة الطوارئ الوطنية في قطاع الطاقة، لكن هذا القرار أعاد إشعال النقاشات حول التنافسية الطاقوية وضرورة التنويع من خلال الاستفادة من موارد مثل الغاز الطبيعي المسال (LNG) والطاقة النووية، وهذه السياسات كانت غير شعبية خلال الإدارة السابقة.
وبحسب شركة Citigroup Inc، فإن روسيا، التي تزود نحو 40% من سوق اليورانيوم منخفض التخصيب عالمياً، كانت تورد نحو ربع احتياجات المحطات النووية الأمريكية في عام 2022.
تعريفات ترامب
أثارت دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لزيادة إنتاج النفط الخام من السعودية، وتحفيز شركات النفط الأمريكية على التوسع في عمليات الحفر، آمالاً في خفض تكاليف المعيشة على الأسر الأمريكية.
إلا أن هذه الوعود سرعان ما باتت مهددة بالانهيار، بعدما تسببت حملته المفاجئة لفرض تعريفات جمركية في إشعال أكبر أزمة نفطية منذ جائحة كورونا.
وقد تراجعت العقود الآجلة لخام برنت بمقدار 10 سنتات، أي بنسبة 0.1%، لتسجّل 74.67 دولاراً للبرميل عند الساعة 00:13 بتوقيت غرينتش، بينما انخفضت عقود خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي 11 سنتاً، أو ما يعادل 0.1%، لتستقر عند 71.37 دولاراً، وذلك بعد أن بلغت أعلى مستوياتها خلال خمسة أسابيع في اليوم السابق.
من جانب أخر، أظهر استطلاع أجرته وكالة رويترز في مارس الماضي، شمل 49 اقتصادياً ومحللاً، أن أسعار النفط مرشّحة للبقاء تحت ضغط خلال العام الجاري، في ظل التأثير المزدوج للتعريفات الأمريكية والتباطؤ الاقتصادي في الهند والصين، إلى جانب الزيادة المتوقعة في إمدادات تحالف “أوبك+”.
على النقيض من ذلك، فإن الانخفاض الحاد في أسعار النفط، نتيجة للصدمة المزدوجة من الرسوم الجمركية والزيادة المفاجئة في الإنتاج، قلب موازين قطاع الطاقة العالمي بسرعة لافتة.
ورغم هذا الاضطراب، يُعدّ تراجع أسعار النفط والغاز بمثابة بصيص أمل وسط الفوضى، فهو من النتائج القليلة التي يمكن النظر إليها بإيجابية.
ومع ذلك، يظلّ العالم في حاجة ماسّة إلى سوق نفطية مستقرة، تضمن توازناً عادلاً في الأسعار.
الصين
أصبحت شركات إنتاج الغاز الطبيعي المسال -في ظل تداعيات الحرب التجارية وفرض التعريفات الجمركية (LNG) – عُرضة لخطر الانتقام التجاري، خاصة في حال استمرار حدة التوترات بين الولايات المتحدة والصين في التصاعد.
ومع ذلك فقد استوردت الصين نحو 77 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال في عام 2024، نحو 6 % منها استوردت من أمريكا، إلا أن هذه الواردات انخفضت إلى الصفر في شهر مارس، بعد أن أطلق الرئيس ترامب حربه التجارية، بحسب بيانات صادرة عن بورصة لندن.
وأظهرت تلك البيانات أن المشترين الصينيين بدأوا في البحث عن مورّدين بديلين، من مناطق أبعد، لتلبية احتياجاتهم من الغاز.
رغم مرور عقدين على السياسات المتكررة، لا تزال مصادر الوقود الأحفوري في عام 2022 تلبي 81٪ من احتياجات الطاقة العالمية، مقارنة بنسبة 81.2٪ فقط في عام 2000
حقول غاز غزة
في ظل الدمار الذي خلفته الحرب في غزة، من منازل مدمرة، وأطنان من الركام، وأراضٍ زراعية محروقة، وانعدام شبه كامل للإنتاج الاقتصادي، تبقى هناك ثروة طبيعية غير مستغلة في أعماق البحر قبالة سواحل غزة، تضم حقول الغاز الطبيعي.
ويعد أحد أبرز هذه الحقول هو “غزة مارين”، الذي يقع في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد اكتشفته شركة بريتيش بتروليوم عام 1999، حيث يبعد هذا الحقل نحو 36 كيلومتراً عن شاطئ غزة، ويمتد على مساحة تتجاوز 1,000 كيلومتر مربع، وفقاً لبيانات رسمية فلسطينية.
وخلال 100 يوم الماضية، بدا الرئيس ترامب مهتماً بشكل مفاجئ بقطاع غزة، ففي كل مرة تحدث فيها عن غزة، لم تكن الإشارة إليها بوصفها منطقة صراع، بل كمشروع اقتصادي محتمل.
وجاءت لغته مشابهة لتلك التي استخدمها حين تحدث عن كندا، ذات المساحات الشاسعة، وغرينلاند، أكبر جزيرة في العالم.
وغير الفنادق والشواطئ، يبدو أن ما يجذب انتباه ترامب هو أعماق البحر، حيث تكمن الثروة الاقتصادية غير المستغلة، وتركيزه هذه المرة منصبّ على الفرص الكامنة تحت سطح الماء، في حقول الغاز المدفونة، والتي يرى فيها صفقة اقتصادية كبرى محتملة.
دبلوماسية الغاز
على مدار أكثر من عقد من الاكتشافات المتتالية للغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، تعززت الآمال بإمكانية أن تؤدي “دبلوماسية الغاز” إلى إعادة تشكيل العلاقات بين دول الحوض وربما ما هو أبعد من ذلك.
وقد ساهم تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط في ترسيخ هذا النهج التعاوني، إلا أن آفاق هذه الدبلوماسية لا تزال محدودة، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الدبلوماسيون الأمريكيون على مدار سنوات لتقريب اقتصادات دول كانت متخاصمة، مثل إسرائيل ومصر والأردن.
مصر واستقلال الطاقة
لكن مع بدء تدفق الغاز من حقل ظهر في عام 2018، حققت مصر محطة بارزة في مسيرتها نحو الاستقلال الطاقوي، ما جعل منطقة شرق المتوسط تبرز كقوة صاعدة في إنتاج الغاز.
إلا أن هذا الإنجاز لم يخلُ من التحديات؛ إذ أدى تراكم متأخرات مالية بمليارات الدولارات على الحكومة المصرية لصالح شركات الغاز المحلية إلى تقويض المصداقية وتعطيل الاستثمارات الحيوية في قطاع التنقيب والإنتاج، حيث تأثرت مصر بشدة من تداعيات أزمة الطاقة.
في مواجهة ذلك، بدأت مصر باتخاذ خطوات لاستعادة الاستقرار الاقتصادي وثقة المستثمرين، وذلك من خلال سداد جزء من المتأخرات بدعم مالي من صندوق النقد الدولي وبعض الدول الخليجية.
ومع ذلك، لا يزال منتجو الغاز يشكون من التقلب في مواعيد المدفوعات، ما يعوق الاستثمارات الجديدة، إذ إن انتظام الدفع والتوقعات المستقرة أمران أساسيان لطمأنة المستثمرين.
بوادر انتعاش استثماري
وعلى النقيض من ذلك، فإن الاتفاقيات التي أُعلن عنها مؤخراًَ بين مصر وقبرص تشير إلى شهية مفتوحة للاستثمار في قطاع الغاز من جانب كل من البائعين والمشترين.
وبعد عقد من اكتشاف أول حقل غاز في قبرص، بدأت أخيراً خطوات ملموسة للتطوير، فقد توصلت شركة شيفرون إلى اتفاق لتصدير الغاز عبر أنابيب من حقل أفروديت، الذي يحتوي على 3.5 تريليون قدم مكعب من الغاز، إلى مصر.
كما وقّعت شركة إيني اتفاقية مع حكومتي قبرص ومصر لتطوير حقل كرونوس الذي يحتوي على 2.5 تريليون قدم مكعب، وذلك باستخدام بنية مصر التحتية في حقل ظهر ومحطة دمياط لتصدير الغاز المسال.
احتياطات الغاز الإسرائيلية
يُعدّ شرق البحر الأبيض المتوسط واحداً من أكثر المناطق تعقيداً من الناحية الجيوسياسية، فكثيراً ما تعيق المصالح الوطنية المتضاربة فرص التعاون الإقليمي، حيث أدى تصاعد الحرب في غزة إلى شلّ مشاريع تطوير الغاز بشكل شبه كامل، ما ألقى بظلاله على مستقبل الطاقة في المنطقة.
ومع ذلك، رغم هذه التوترات، تبرز إسرائيل كأكبر مورد للطاقة في شرق المتوسط، وتتصدّر دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في مجال الحفاظ على احتياطاتها من الغاز الطبيعي لاستخدامها المستقبلي، وفقاً لتقرير عام 2024 الصادر عن رابطة تجارة الغاز الطبيعي الإسرائيلية حول أمن الطاقة، والذي أعدته شركة الاستشارات الاقتصادية BDO .
ويشير التقرير إلى أنه، بالرغم من تحقيق إسرائيل مستويات إنتاج قياسية في عام 2023، فإن احتياطاتها من الغاز استمرت في الارتفاع، ووصلت إلى أعلى مستوى تاريخي لها حتى الآن.
وفي إطار استراتيجيتها التصديرية، تتجه إسرائيل بشكل متزايد إلى مصر كشريك رئيسي لتسييل وتصدير الغاز، في ترتيبات يُتوقع أن تعزز مكانة البلدين في سوق الطاقة الإقليمية والدولية.
وعلى الجانب الآخر من الحدود، يأمل كل من إسرائيل ولبنان أن يشكل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بينهما نقطة انطلاق نحو اكتشافات غاز جديدة في المناطق البحرية التي كانت محل نزاع لعقود.
وبالفعل، وبعد توقيع الاتفاق بساعات، التقى كبار مسؤولي شركة توتال إنرجيز الفرنسية بمسؤولين لبنانيين لبحث الخطوات التالية.
وفي وقت سابق من هذا العام، بدأت شركة إنيرجيان البريطانية إجراء اختبارات في حقل كاريش الإسرائيلي القريب من الحدود اللبنانية.
الجدير بالذكر أن تسعاً من أكبر عشرين دولة تمتلك احتياطيات مؤكدة من الغاز تقع في منطقة الشرق الأوسط الأوسع.
وتستعد قطر، أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، لزيادة إنتاجها بنسبة 43% بحلول عام 2026، ما يعزز من المنافسة الإقليمية على النفوذ في أسواق الطاقة العالمية.
قوة طاقة لأوروبا
تقبع دول الشرق الأوسط فوق محيط من احتياطيات الغاز الطبيعي، إلا أن القدرة على تصدير هذه الثروة إلى أوروبا، التي تواجه طلباً متزايداً وجوعاً طاقوياً، لا تزال محدودة إلى حد كبير.
ورغم الأهمية الاستراتيجية لهذه الموارد، فإن مزيجاً من التوترات الجيوسياسية وسوء الحوكمة يقف عقبة رئيسية أمام استغلالها، حتى الوصول بالغاز إلى الأسواق الأوروبية يُعد تحدياً في حد ذاته، نظراً لضعف البنية التحتية اللازمة للنقل من شرق المتوسط إلى القارة الأوروبية.
خيار الأنابيب
أحد السيناريوهات المقترحة يقضي بمدّ خط أنابيب شمالاً إلى تركيا، ليرتبط بالبنية التحتية الحالية للاتحاد الأوروبي، لكن هذا الخيار يتطلب عبور الأراضي القبرصية، ما يفتح الباب أمام تعقيدات سياسية حادة بسبب النزاع الطويل بين تركيا وقبرص.
أما الخيار الآخر يتمثل في مدّ خط أنابيب تحت البحر إلى اليونان، ومن ثم إلى إيطاليا، إلا أن هذا المشروع سيكون الأطول من نوعه في العالم تحت سطح البحر، وسيستغرق سنوات طويلة لتنفيذه ربما قرابة عقد كامل.
أزمة غاز جديدة
بعد أن أوقفت روسيا تصدير الغاز عبر خطوط الأنابيب التي كانت توفّر أكثر من 40% من احتياجات أوروبا، سادت مخاوف جدية بشأن قدرة القارة على تجاوز فصول الشتاء القاسية، ورداً على ذلك، بدأت مشاريع ضخمة في الولايات المتحدة وقطر بإعداد كميات هائلة من الغاز الطبيعي المسال (LNG) لطرحها في الأسواق العالمية.
وعلى النقيض من ذلك، وُضع رهان عالمي على قدرة أوروبا على النجاة خلال شتاءين متتاليين، لكن الواقع تجاوز هذه التوقعات، إذ لم تكتفِ القارة الأوروبية بتجاوز الأزمة، بل أحرزت تقدماً ملحوظاً، ووصلت منشآت تخزين الغاز لديها إلى 94% من سعتها، متجاوزة هدف 90% المحدد لشهر نوفمبر.
ويعود الفضل في ذلك إلى عمليات شراء ضخمة للغاز الطبيعي المسال، الذي شكّل 60% من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز في العام الماضي.
2025 عام الإنقاذ
لكن في خضم أسوأ مراحل أزمة الطاقة، كان يُنظر إلى عام 2025 بوصفه عام الإنقاذ، والآن، يبدو أن أوروبا تقترب من هذا الموعد بقدر أكبر من الاستعداد، ولكن دون ضمانات طويلة الأمد، خاصة في ظل استمرار هشاشة سلاسل الإمداد واعتمادها الكبير على الغاز المسال المستورد من مناطق بعيدة.
الصراعات وتأثيرها على أسعار وإمدادات النفط
حرب روسيا وأوكرانيا
أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا قبل نحو ثلاث سنوات، إلى تعطيل أكبر مصدر للغاز في أوروبا، ما هزّ أسواق الطاقة العالمية بعنف، وهذا الحدث المفصلي مهّد الطريق لتحقيق أرباح غير متوقعة ومتتالية لشركات الوقود الأحفوري التي استفادت من الأزمة.
لكن مع مرور الوقت، بدأت هذه العوائد الاستثنائية في التراجع، مع استقرار الأسواق وتكيفها مع الواقع الجديد.
التصعيد الإقليمي
مع ذلك، أثار تصاعد التوترات في الشرق الأوسط مؤخراً مخاوف متجددة بشأن تقلب أسعار النفط العالمية، فالمنطقة تظل شرياناً حيوياً لإمدادات النفط والغاز على مستوى العالم، ومرتبطة بممرات طاقة استراتيجية تمتد من روسيا إلى اليمن.
وبدت كل من إسرائيل وإيران حريصتين حينها على تجنب التصعيد، حيث شهدت أسواق النفط استقراراً نسبياً، وعادت الأسعار إلى مستويات منخفضة ومستقرة استمرت طوال العام بعد أحراث 7 أكتوبر.
وهذا يشير إلى أن الاستقرار كان يُعزى جزئياً إلى عاملين رئيسيين: تنويع مصادر الإمداد، وتراجع أهمية صادرات إيران بسبب العقوبات، ما قلل من تأثير الصراع الإقليمي المباشر على أسعار النفط.
ورغم استمرار الحرب في غزة طوال العام الماضي أيضاً، والهجمات المتكررة على لبنان، لم تُسجَّل تأثيرات كبيرة على الأسواق، نظراً لأن لا فلسطين ولا لبنان يُعدّان من الدول المنتجة للنفط، لكن الوضع يختلف تماماً مع إيران.
ولكن المخاوف يبدو أنها ستعود لأسواق النفط مع بدء الحرب بين إسرائيل وإيران، سابع أكبر منتج للنفط الخام عالمياً في 13 يونيو 2025.
الطلب العالمي وتوازن التأثيرات
في الوقت نفسه، قد تُسهم وتيرة النمو الاقتصادي البطيء عالمياً في خفض الطلب على الوقود، وهو عامل من شأنه أن يعوّض جزئياً أي نقص في الإمدادات قد ينجم بعد قصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إيران، أو فرض تعريفات ثانوية على مستوردي النفط الروسي.
وهذا يشير إلى أنه في ظل هذا المشهد المتقلب، تبقى أسواق الطاقة رهينة توازن هش بين التهديدات الجيوسياسية والانكماش الاقتصادي العالمي.
روسيا ودول الخليج
منذ أن أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي منافساً مباشراً للولايات المتحدة في أسواق النفط العالمية، تبنّت هذه الدول موقفاً متوازناً بين الشرق والغرب، ساعية إلى ترسيخ موقعها كقوة مستقلة على الساحة الجيوسياسية الدولية.
واليوم، تتعاون روسيا ودول الخليج العربي ضمن شراكة قائمة على هدف محدد وواضح، يضمن استقرار سوق النفط العالم، ورغم أن هذا التعاون يبدو مثمراً من الناحية العملية، إلا أنه يفتقر إلى الأسس الاستراتيجية التي يمكن أن تُفضي إلى شراكة طويلة الأمد.
ومع ذلك، فإن العلاقة بين الكرملين ودول الخليج لا يمكن وصفها بزواج مصلحة فحسب، لكنها في الوقت ذاته لا ترقى إلى مستوى تحالف استراتيجي شامل.
تحالف
ومنذ عام 2014، وبشكل أوضح منذ 2022، بات تحالف “أوبك+” واحداً من المؤسسات القليلة التي تُعامل فيها روسيا كعضو محوري يتمتع بتأثير حاسم في قرارات السوق.
وقد وضعت وزارة الطاقة الروسية آلية دقيقة لمراقبة الإنتاج، حيث تُراجع مستويات الإنتاج بشكل أسبوعي لضمان التزام روسيا بالحصص المتفق عليها ضمن “أوبك+”.
من الناحية القانونية، لا تملك الحكومة الروسية صلاحية إلزام الشركات الخاصة أو حتى الشركات الحكومية في قطاع النفط بتخفيض الإنتاج.
ومع ذلك، فإن الشركات الروسية، مدفوعة بتغيّر توازن القوى داخل روسيا، تلتزم طوعاً بتوجيهات الدولة، وتؤدي الحكومة دور المنسّق والموجّه.
ومنذ بداية عهد فلاديمير بوتين، يشهد النظام الروسي تحوّلاً تدريجياً في مراكز القوة من أيدي الأوليغارشية وشركات النفط الكبرى إلى الدولة، على عكس ما كان عليه الحال في أزمتي 1998 و2008، باتت الشركات الخاصة في قطاع الطاقة تُولي اهتماماً أكبر لتوجيهات الحكومة، خصوصاً بعد عام 2017.
شراكة اقتصادية
يُعد المجال الاقتصادي نقطة الانطلاق لتحليل طبيعة انخراط روسيا في علاقاتها مع دول الخليج العربي، حيث تأتي الطاقة على رأس أولويات الأجندة الاقتصادية الروسية، وتتجلى بوضوح في تدفّقات التجارة والاستثمار التي تُظهر طابعاً قوياً ومركّزاً على قطاع الطاقة.
ومع ذلك، وجدت المنتجات الروسية، من الموارد الهيدروكربونية إلى المنتجات الزراعية والتكنولوجيا، سوقاً مُرحّبة في الخليج، ما يعكس طبيعة العلاقة التي تقوم على البراغماتية بدلاً من الأيديولوجيا.
تعاظم العلاقات
شهدت العلاقات الاقتصادية بين روسيا ودول الخليج، لا سيما الإمارات والسعودية، نمواً ملحوظاً منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، حيث ارتفعت التجارة بين روسيا والإمارات من 5.3 مليارات دولار في 2021 إلى 11.2 مليار دولار في 2023، كما زادت التجارة الروسية-السعودية بمقدار 1.1 مليار دولار خلال الفترة نفسها.
كما برزت الإمارات كمركز محوري في تجارة النفط الروسي، حيث أصبحت منصة رئيسية لشركات تجارية جديدة تعمل في قطاع الطاقة.
وقد مثّلت السنتان الماضيتان فترة مربحة للغاية للإمارات، ما أبرز قدرتها الاستراتيجية على التكيّف مع التحوّلات الجيوسياسية العالمية.
تعاون متعدد الأطراف
وهذا يشير إلى أنه رغم اتساع قاعدة التعاون، لم تتبلور العلاقات ضمن إطار تحالفي صريح.
ومع ذلك، فإن انضمام الإمارات إلى مجموعة بريكس في عام 2024، والحوار الاستراتيجي المستمر في إطار أوبك+، يعكسان تلاقي المصالح الاقتصادية بين الجانبين.
كما لعبت دول الخليج دوراً محورياً في مشروع ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، الذي يُعتبر مساراً استراتيجياً لربط روسيا بالأسواق الآسيوية والإفريقية، عبر ميناء تشابهار الإيراني وميناء الفجيرة الإماراتي.
أمن الغذاء والطاقة
استفادت كل من روسيا ودول الخليج من التحوّل الروسي المتسارع نحو آسيا لتعزيز أمنهما الغذائي والطاقوي.
كما تتقاطع رؤى الطرفين فيما يخص التحول في قطاع الطاقة، إذ يُدرك الجانبان أن هيمنة النفط على مزيج الطاقة العالمي ستتراجع في المستقبل، غير أنهما يُفضّلان نهجاً تدريجياً في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، بدلاً من التحوّل السريع والمفاجئ الذي تدعو إليه بعض القوى الغربية.
هل الهيدروجين وقود المستقبل؟
الطاقة هي نبض الحياة اليومية، والطريقة التي ننتجها ونوزعها ونستهلكها تتغير بوتيرة متسارعة.
وفي هذا السياق، يُطرح الهيدروجين كوقود نظيف، مرن، وفعال من حيث الكفاءة، مشتق من أكثر العناصر وفرة في الكون.
وتشير التقديرات الحالية إلى أن حجم اقتصاد الهيدروجين قد يصل إلى 500 مليار دولار بحلول عام 2030.
تحديات التمويل
أدّت الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تداعيات واسعة -سواء كانت مقصودة أو لا- على الاقتصاد العالمي.
وقد أثّرت سياساته في مجال النفط والغاز بشكل مباشر على سوق تمويل الطاقة، الذي تبلغ قيمته نحو 1.4 تريليون دولار، ما أحدث اضطراباً في مسارات الاستثمارات التقليدية، وطرح تساؤلات حول مستقبل مصادر الطاقة البديلة، وفي مقدمتها الهيدروجين.
من الناحية النظرية، يبدو الهيدروجين وقود الأحلام؛ نظيف ولا يصدر عنه انبعاثات ضارة عند استخدامه، لكن على أرض الواقع، فإن إنتاجه ونشره على نطاق واسع لا يخلو من التعقيدات.
اقتصاديات الهيدروجين يمكن أن تساهم على المدى البعيد في استقرار البُنى الاجتماعية والسياسية القائمة، وتعزيز الطموحات الجيوسياسية للمنطقة
ورغم الحماس الدولي، فإن معظم إنتاج الهيدروجين اليوم يُعرف بـ”الهيدروجين الرمادي”، ويتم عبر إعادة تشكيل الوقود الأحفوري بالبخار وهي عملية تكثيف الكربون.
ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA)، فإن 98 % من الهيدروجين المنتج عالمياً في عام 2022 جاء من مصادر أحفورية، خصوصاً الغاز الطبيعي.
ويُنتج كل طن من الهيدروجين المُستخرج بهذه الطريقة ما بين 10 و14 كيلوغراماً من ثاني أكسيد الكربون، في حال عدم استخدام معدات باهظة الثمن لاحتجاز الكربون وتخزينه، بحسب الوكالة الدولية للطاقة .
أما الهيدروجين الأخضر، الذي يُنتج عبر عملية التحليل الكهربائي للماء باستخدام مصادر طاقة متجددة مثل الرياح أو الشمس أو المياه، فلا يزال يمثل 2 % فقط من إجمالي الإنتاج العالمي.
لكن توسيع إنتاج الهيدروجين الأخضر يتطلب نمواً هائلاً في قدرة التحليل الكهربائي، وهي عملية تعتمد على تكنولوجيا معقدة وتحتاج إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية، ناهيك عن تحديات الكفاءة والتكلفة.
جيوسياسية الهيدروجين
في منطقة الخليج، برز الهيدروجين كحل طويل الأمد وواعد للمساهمة في تقليل الانبعاثات في أكثر القطاعات كثافة في الكربون، مثل توليد الكهرباء، ووسائل النقل البرّي والبحري والجوي، بالإضافة إلى صناعة الفولاذ والأسمنت.
وتتصدر عُمان والسعودية والإمارات قائمة الدول الخليجية الأقرب إلى تحقيق اقتصاد قائم على تصدير الهيدروجين، وبالإضافة إلى وفرة الموارد الطبيعية في شبه الجزيرة العربية، مثل الأراضي الواسعة، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والغاز الطبيعي، تملك هذه الدول خبرة كبيرة في تصدير الطاقة، ما يمنحها ميزة تنافسية حقيقية في هذا المجال الناشئ.
اقتصاد الهيدروجين
تسعى هذه الدول إلى بناء قطاع تصديري للهيدروجين لا ليحلّ محل النفط والغاز، بل ليكمل دوره، مع التركيز أيضاً على تعزيز سلاسل القيمة المحلية، مثل استخدام الهيدروجين في إنتاج الفولاذ الأخضر، بما يدعم القيمة المضافة داخلياً، ويخلق وظائف ويعزز النمو الصناعي منخفض الكربون.
ومن منظور أوسع، يُنظر إلى اقتصاد الهيدروجين كأداة يمكن أن تُسهم في استقرار البنى الاجتماعية والسياسية القائمة على المدى الطويل، مع دعم الطموحات الجيوسياسية للمنطقة.
بينما تُعتبر أوروبا ودول شرق آسيا (خصوصاً كوريا الجنوبية واليابان) من أبرز المشترين المحتملين للهيدروجين الخليجي، حيث تشير العطاءات الأخيرة والزيارات الدبلوماسية والتجارية إلى أن كفة الطلب بدأت تميل نحو آسيا، في وقت تواجه فيه أوروبا تحديات تنظيمية ومالية أكبر.
بالمحصلة تظل الطاقة التقليدية أو المتجددة أداة مؤثرة تعيد تشكيل العلاقات الدولية، فالتنافس على مصادر الطاقة النظيفة وتنوع الأهداف الوطنية يدفعان الدول إلى البحث عن مسارات وتحالفات جديدة لضمان أمن الطاقة العالمي.
لا تزال الطاقة أداة فعالة تُعيد تشكيل العلاقات الدولية، سواء من خلال مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة أو من خلال النفط والغاز التقليديين