اقتصاد الحرب الروسي: منظومة بُنيت لتصمد

تقرير
ﺷﺎرك

 مع اقتراب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا من عامه الرابع، تدخل روسيا مرحلة جديدة من التعبئة الدائمة، فما بدأ كحملة عسكرية تطور إلى نظام حكم يدمج بين القوة المالية والاقتصادية والصناعية في إطار منطق الحرب، إذ لم يعد الكرملين يخوض صراعاً مؤقتاً؛ بل يدير اقتصاداً مصمماً للمرونة، والانضباط، والسيطرة.

لم تعد روسيا تموّل حرباً فحسب، بل أصبحت تُنظّم نفسها، فمنذ عام 2022، تحوّل الإنفاق الطارئ إلى نهجٍ دائمٍ، يرتكز على ثلاثة عناصر أساسية، أولاً: ميزانية ترتفع فيها حصتا الدفاع والأمن الداخلي، وثانياً: آلية تمويل تربط البنوك بالدولة عبر سندات القروض الفدرالية، وثالثاً: منظومة صناعية تُعطي الأولوية للطلبيات العسكرية، فتوجّه رأس المال والمهارات بعيداً عن القطاعات المدنية.

لم تعد روسيا تموّل حرباً فحسب بل أصبحت تُنظّم نفسها فمنذ عام 2022 تحوّل الإنفاق الطارئ إلى نهج دائم

يتكرر هذا النمط كل عام: خططٌ تحفظية، ثم زيادات في منتصف العام، يتبعها إنفاقٌ مفرط في ديسمبر، حيث تتغير الأرقام الرئيسة، لكن البنية تبقى على حالها، فالنظام مصمَّم لتحمّل الضغوط وتوزيع الإيرادات، لا لزيادة الإنتاجية أو تحسين الدخل.

يرتكز هذا النظام على ثلاث حلقات مترابطة، الأولى هي الميزانية: حيث تحدّد باستمرار مخصصات عالية للدفاع والأمن الداخلي (نحو 40% من إجمالي النفقات الفيدرالية)، مع توسيع حصة الإنفاق السري إلى نحو 30% من الميزانية، والثانية المالية: تُوجّه هذه الحلقة ودائع الأسر والشركات إلى سندات القروض الفيدرالية بعوائد ثنائية، ما يُحوّل الميزانيات العمومية للبنوك إلى احتياطيات مالية، ويُؤجّل تكاليف الفائدة لسنوات، والثالثة الصناعية: تربط هذه الحلقة مناطق بأكملها بالطلبات العسكرية، وشبكات المقاولين من الباطن، وبرامج المحاربين القدامى، ما يُولّد فرص عمل وسيولة نقدية مقابل امتثال مُوجّه نحو الكرملين.

هذه الحلقات مجتمعةً لا تقتصر على دعم الإنفاق الحربي فحسب؛ بل تُعيد تشكيل الهيكل المالي، والسيطرة السياسية، والتوافق الخارجي، فكل منها تعمل على استقرار التدفق النقدي على المدى القصير، بينما يُضعف القدرات المدنية بمرور الوقت.

الضغط الأمريكي المباشر على قلب النفط

يُعدّ الإعلان عن العقوبات الأمريكية الجديدة على شركتَي “روسنفت ولوك أويل” في أواخر أكتوبر 2025 تصعيداً هيكلياً في حملة الضغط الاقتصادي التي تقودها واشنطن، فهذه الإجراءات، إلى جانب التهديدات بفرض عقوبات ثانوية على قطاعات الشحن والتأمين البحري والقنوات المصرفية، تستهدف بشكل مباشر المحركات الرئيسة لتدفق السيولة في الاقتصاد الروسي.

مبنى المقر الرئيسي لشركة لوك أويل النفطية  في موسكو (أ ف ب)

كما تُعزّز هذه العقوبات الإقصاء القائم عن منظومة المقاصة بالدولار، وتُوسّع نطاق المخاطر التنظيمية لتشمل أنظمة الدفع القائمة على اليوان والدرهم والروبية، في الوقت الذي تزيد فيه تكاليف المعاملات عبر شبكات “أسطول الظل” لنقل النفط.

وقد شملت ردود الفعل الفورية في الأسواق ارتفاعاً مؤقتاً في سعر خام برنت بنسبة تقارب 5 %، إلى جانب توقعاتٍ باتساع الفارق السعري لخام الأورال ليصل إلى ما بين 15 و20 دولاراً أقل من سعر برنت المسجل، مع إعادة المشترين الآسيويين تقييم مستوى انكشافهم على السوق الروسية.

بالنسبة للكرملين، تؤدي هذه الإجراءات إلى تضييق الحيّز المالي وإجباره على إعادة توجيه الموارد بتكاليف مرتفعة، إذ قد تُصبح الحاجة إلى دعمٍ ميزاني أو شبه مالي أمراً ضرورياً لتعويض الضغوط على السيولة والخسائر في الإيرادات الإقليمية.

وفي الواقع، تتقاطع الحلقتان المالية والصناعية مباشرةً مع نظام العقوبات الخارجية، ما يضغط على هامش المناورة المالية ويحوّل الأساس من حالة الاستقرار النسبي إلى واقعٍ من التكيّف المكلف أو الاضطراب المحتمل.

في الواقع تتقاطع الحلقتان المالية والصناعية مباشرةً مع نظام العقوبات الخارجية ما يضغط على هامش المناورة المالية

ردّت موسكو على العقوبات الأمريكية الجديدة بقدرٍ من الهدوء الاستعراضي وبالخطاب المألوف عن القدرة على الصمود، ومن خلال توسيع شبكات اللوجستيات الموازية وتسريع تحويل التسويات التجارية إلى اليوان، يسعى الكرملين إلى تعويض الخسائر المباشرة.

غير أن النتيجة الفعلية لا تتمثل في تحقيق التوازن المتعدد الأقطاب الذي تدّعيه موسكو، بل في نشوء تبعية غير متكافئة تجاه الصين، وهي تبعية تهدّد بتحويل روسيا من إمبراطورية للطاقة إلى ملحق سلعيّ يخدم راعيها الشرقي.

أداة سياسية محلية للتبعية شرقاً

ينتج عن ذلك أمران يحددان أطر النقاش للعام 2026 وما بعده، أولاً، أصبح اقتصاد الحرب أداة سياسية داخلية، فعمليات الشراء والدعم المالي ومخصصات قدامى المحاربين تُوجَّه لتعزيز الولاء بين النخب الاقتصادية، والزعماء الإقليميين، والدوائر الانتخابية الأساسية، أما الهوامش والإعفاءات والتطبيق الانتقائي للقوانين تكافئ من يلتزمون، بينما تُحمل الضرائب العالية وتراجع قيمة الروبل على من لا يستفيدون من التدفقات الحكومية، كما تعمل التحويلات المالية الموجهة على كبح الاحتجاجات بتكلفة يمكن التحكم بها.

الهوامش والإعفاءات والتطبيق الانتقائي للقوانين تكافئ من يلتزمون بينما تُحمل الضرائب العالية وتراجع قيمة الروبل على من لا يستفيدون من التدفقات الحكومية

ثانياً، ما وُعد به من تحول نحو الاعتماد على الذات لم يُفضِ إلى الاستقلالية، بل إلى التبعية شرقاً، فاستبدال الواردات يغطي بعض الثغرات، لكن المدخلات الأساسية، مثل الآلات الدقيقة، والميكروإلكترونيات، والبصريات، والروبوتات الصناعية، وأنظمة الدفع، تعتمد بدرجة كبيرة على الإمدادات والالتزام الصيني.

 كما أن للهند دور بالغ الأهمية، لكنه اقتصادي أكثر من أن يكون تكنولوجياً، فالنفط الخام المخفض والفروق السعرية للمنتجات تساعد في تدفق السيولة، إذ يمكن لموسكو التجميع وإعادة التأهيل على نطاق واسع، لكنها لا تستطيع تكرار قاعدة صناعية شاملة بتكلفة مقبولة في ظل عزلتها عن التقنيات المتقدمة والتمويل، وهذا هو السياق الذي يجب أن تُقاس في ضوئه جميع الخيارات القريبة المدى، أي “اقتصاد حرب مستدام يُدار مركزياً، يشتري السيطرة الداخلية ويستبدل التعرض للغرب بتبعية غير متكافئة للصين، وبدرجة أقل للهند”.

في ظل هذا السياق، تُطرح الأسئلة التالية: إلى متى تستطيع القنوات المالية والمصرفية استيعاب الديون ذات العائد المرتفع دون أن تطغى على القطاع المدني بشكل لا رجعة فيه؟، وإلى أي مدى يمكن لهذه المركزية توسيع نطاق رعايتها قبل أن يُولّد عبء الضرائب والتضخم احتكاكاً اجتماعياً ملموساً خارج دوائر العوائد؟، وما مدى النفوذ الذي تمنحه التبعيات الخارجية الجديدة للموردين الذين لا تتوافق أهدافهم الاستراتيجية مع أهداف روسيا؟، إن الإجابات على هذه الأسئلة ستحدد ما إذا كان التوازن الحالي سيظل ثابتاً أم سيتحوّل إلى تعديل بطيء وأكثر تكلفة.

حلقة التمويل

الحرب لا تمول بالنفط وحده؛ فالدين المحلي هو الأداة الرئيسة للتكيّف، ومع قلة الأصول الآمنة المتاحة، تمتص البنوك سندات القروض المحلية، محوّلة ودائع الأسر والشركات إلى تمويل حكومي، أما العوائد العالية لسندات القروض تحسّن التدفقات النقدية الحالية لأن البنوك تُعيد تدوير رأس المال وتتلقى الخزينة النقد بشكل فوري، لكنها تربط الحكومة بمستحقات فائدة أعلى للفترة 2026–2028، ما يقلّص مساحة الإنفاق غير الدفاعي، وكل شريحة جديدة تزيد من تكلفة التمويل وتضيق المجال المالي لأي إنفاق لا يتعلق بالحرب أو بالرفاهية للفئات المرتبطة بالحرب، والتأثير على القطاع الخاص دقيق لكنه متراكم، فالائتمان الخاص يُرشد بالسعر، والاستثمار غير المحمي من قبل طلبات الدولة يتراجع إلى نهاية القائمة، حيث تستحوذ خدمة الدين الآن على نحو 5% من إجمالي الإنفاق، بارتفاع حاد عن مستويات ما قبل الحرب.

يعمل صندوق الثروة الوطنية الآن كصمام أمان، فالمخزون الرئيسي ضخم، والشريحة السائلة صغيرة؛ ومعظم الباقي موجود في حصص وأصول شبه مالية لا يمكن بيعها دون إلحاق ضرر سياسي أو اضطراب في السوق، إذ تبلغ أصول صندوق الثروة الوطنية السائلة نحو 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي؛ وتُعرّف وزارة المالية “السائل” بأنه الأموال المودعة في حسابات الخزانة لدى بنك روسيا نقداً (عملات أجنبية أو ذهب) والمتاحة بسهولة لتمويل العجز، مع استبعاد حصص الأسهم والقروض طويلة الأجل.

 عندما “يستثمر” الصندوق، فإنه عادةً ما يتحمل الخسائر، ويؤمم المخاطر، ويحافظ على سيولة الشركات المتعثرة، أي أنه ببساطة يشتري الوقت، وعندما لا تكتمل الحسابات، يلجأ الكرملين إلى أدوات أخرى هادئة لملء الفجوات.

في ظل نظام العقوبات الجديد، سيُختبر صمام الأمان المالي بشكل أكبر، حيث تواجه شركتا “روس نفط ولوك أويل” الآن اضطرابات في المدفوعات وقيوداً على إعادة التمويل بدرجات متفاوتة، فروس نفط تتأثر عبر الشركات الفرعية المحظورة وقنوات الشحن، أما لوك أويل تواجه تقييداً في الوصول إلى التمويل التجاري.

كلا الشركتين مُقترضان مهمان نظامياً، ومن المرجح أن يستخدم الكرملين خليطًاً من ضخ الأموال من الصندوق الوطني للثروة، والقروض المدعومة، وتأجيل الضرائب لتهدئتهما؛ وهو حل مؤقت يستنزف السيولة ويؤجل العبء المالي إلى 2026–2027.

تدر ضريبة القيمة المضافة بالفعل نحو ثلث الإيرادات الفيدرالية؛ ورفع المعدل من 20% إلى 22% يزيد هذا العائد دون التأثير المباشر على الأجور، ومن المتوقع أن يولّد هذا الرفع، الذي يبدأ تطبيقه اعتباراً من يناير 2026، أكثر من تريليون روبل سنوياً، ما يزيد من الضغوط على ميزانيات الأسر، ويتم توسيع قاعدة ضريبة القيمة المضافة بخفض حد الإيرادات التي تفرض عنده الضريبة، ما يزيد عدد الشركات الخاضعة للضريبة.

أما الآثار فتكون تنازلية، فالأسر ذات الدخل المنخفض تنفق نسبة أكبر من دخلها على السلع الخاضعة للضريبة، وتكون أقل قدرة على مواجهة تأثير تقلبات سعر الصرف.

 كما أن ضعف الروبل يرفع العوائد الاسمية للنفط ويقلّص القيمة الحقيقية للالتزامات الثابتة مثل مكافآت الجنود، والمعاشات، والتحويلات الإقليمية، وبالنسبة للأسر، تعمل هاتان الأداتان كأنهما ضرائب بوسائل أخرى، فالاستيراد يرتفع سعره، ويواكبه المنتجون المحليون، بينما تتأخر الأجور الحقيقية.

الرعاية كسياسة

اقتصاد زمن الحرب هو أداة سياسية أيضاً، فالإنفاق الدفاعي وعمليات الشراء لا تتعلق بالقذائف والطائرات المسيرة فحسب، بل تهدف إلى فرض الانضباط وتعزيز الولاء، فالعقود تتجمع حيث يجب ضمان الولاء، بدءاً من الشركات الكبرى ذات الصلة بمركز الرئاسة إلى الشركات الإقليمية التي تثبّت العمالة، وفي مدن صناعية أحادية أكثر من 50% من الطلبات الجديدة منذ عام 2023 كانت مرتبطة بالدفاع، ما يحوّل عملياً عمليات الشراء إلى سياسة صناعية محلية، ويتم التقييم على أساس الإنتاج، واستقرار الشوارع، وتوفير اليد العاملة، ومن ينجح في الأداء يحصل على المشاريع والتسهيلات المالية، ومن يفشل يفقد الوصول ويواجه عمليات تدقيق انتقائية.

اقتصاد الحرب أداة سياسية أيضاً فالإنفاق الدفاعي وعمليات الشراء لا تتعلق بالقذائف والطائرات المسيرة بل تهدف إلى فرض الانضباط وتعزيز الولاء

 وتحافظ التسعيرات القائمة على التكلفة والمناقصات غير الشفافة على هوامش مرتفعة بما يكفي لربط النخب الاقتصادية، بينما تضمن التصنيفات السرية أن يظل التدقيق محدوداً وفي سلطة تقديرية.

على الصعيد الاجتماعي، تصنعُ الدولة القبول الشعبي عبر المشاركة المادية، فالأجور والمزايا المرتبطة بالحرب، والتي تُقدّر بنحو 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، تتضمّن مكافآت تجنيد في المناطق الفقيرة تعادل من 3 إلى 10 أضعاف متوسط الأجر الشهري.

 أما مزايا المحاربين القدامى مثل: السكن، والرعاية الصحية، وأولوية الوصول إلى الخدمات، فتؤكد أن الدولة تُكافئ من ينضمون إلى دوائر عوائد الحرب.

الأثر هنا مزدوج: أولاً، يُحفّز الاستهلاك في مناطق التجنيد دون أن يبني إنتاجية حقيقية، وثانياً، يعمّق التبعية؛ إذ تسعى النخب المحلية إلى الوساطة في الحصول على المزايا والعقود، بينما ينظّم السكان سبل عيشهم حول تدفقات مالية لا يملكون السيطرة عليها.

لوحة إعلانية في موسكو تعلن عن عقود الخدمة العسكرية بـ 5.2 ملايين روبل للسنة الأولى من العقد (أ ف ب)

 وهنا يُحافظ على التماسك الاجتماعي عبر التحويلات المالية الحكومية والمشتريات العامة، وليس عبر الأيديولوجيا، أما الخطاب السياسي فيمر عبر المال: فالإنفاق الحربي يُصوَّر على أنه رفاهية اجتماعية مثل: “دعم العائلات”، “والإسكان للأبطال”، و”التنمية الإقليمية”.

وبهذه الطريقة، تقوم الدولة بإعادة صياغة ميزانية قسرية لتصبح سردية توزيعية، حيثما يهم الولاء، تُفتح الخزائن؛ وحيث لا يهم، يُنقل العبء عبر رفع ضريبة القيمة المضافة، وتراجع العملة، وتحميل تكاليف اللوجستيات على الأفراد والشركات، والنتيجة تكون توازن مستقر لكنه هش: “يتم شراء انخفاض نشاط الاحتجاج على حساب قدرة الدولة المستقبلية على النمو والإنتاجية”.

الانقسامات الإقليمية والمؤشرات الصامتة

جغرافيا هذا الاقتصاد حادّة وواضحة، فموسكو وسانت بطرسبورغ تستحوذان على المقرات الرئيسة، والتمويل، والخدمات المرتبطة بالدفاع، فيما تبلغ الأجور المتوسطة في العاصمة ضعف المتوسط الوطني، ما يزيد من عوامل الجذب للهجرة الداخلية، أما المناطق المحيطة، فتوفر اليد العاملة والمواد الخام، ثم تعيش تبعات ذلك من نقص في السلع، وارتفاع في الأسعار، ونزوح سكاني متواصل.

أصبح الوقود أوضح اختبار لضغوط النظام الاقتصادي؛ فتعطل المصافي وازدحام ممرات السكك الحديدية يؤديان أولاً، إلى بدء التقنين في المناطق المنتجة للنفط وعلى امتداد سلاسل الإمداد الطويلة.

 أما العاصمتان، فتبقيان محميّتين لفترة أطول بفضل الأولويات في التخصيص والبنية التحتية الأكثر كثافة، ومنذ أواخر الصيف، واجهت أكثر من عشر مناطق تقنيناً متقطعاً للوقود أو إغلاقاً لمحطات التعبئة.

وخلف هذا المظهر الكلي المستقر، تتدهور المؤشرات المبكرة، فقد ارتفعت مبيعات المشروبات الكحولية القوية بشكل ملحوظ في المناطق منخفضة الدخل، وازدادت نسبة الجرائم الخطيرة رغم استقرار إجمالي معدلات الجريمة، كما وصل صافي فقدان السكان في بعض المناطق الحدودية والصناعية إلى عشرات الآلاف.

ما يتبقى هو هرم مقلوب، أي سكان يتقدمون في السن، وقواعد ضريبية إقليمية تتقلص، وارتفاع تكاليف الخدمات العامة، ونتيجة لذلك، تعتمد الميزانيات المحلية بشكل متزايد على التحويلات القادمة من موسكو، والتي تأتي مشروطة بتوقعات سياسية واضحة.

أصبحت فجوات التوظيف في المستشفيات التي تتجاوز 10%، وعمليات دمج المدارس في المناطق ذات الدخل المرتفع، أموراً روتينية خارج المناطق الرئيسية، ويعمّق الإنفاق الحربي هذه الانقسامات عمداً؛ فمدفوعات المحاربين القدامى ومكافآت التجنيد تُبقي الاستهلاك مستقراً في المناطق الفقيرة لكنها لا تبني إنتاجية، بل تربط سبل المعيشة بتدفقات الدولة.

تتركز العقود الدفاعية في المناطق التي يجب فيها دعم فرص العمل أو إظهار الولاء؛ فتحصل المدن الأحادية الصناعة المرتبطة بمصنع واحد على الطلبات وخطوط الائتمان، بينما تُستبعد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المدنية بسبب معدلات الفائدة العالية ومدخلات الإنتاج غير الموثوقة.

كما يتعلّم المحافظون مؤشرات الأداء الرئيسية الجديدة: الإنتاج، واليد العاملة، وهدوء الشوارع، فمن يحقق هذه المؤشرات يفوز بالمشاريع والتسهيلات، ومن يتعثر يواجه التفتيش والضغوط المالية، وهكذا تُترجم الرعاية السياسيةإلى جغرافيا، وتتحول الجغرافيا إلى سياسة.  

من خطاب الاكتفاء الذاتي إلى التبعية الشرقية

يُشيد الخطاب الرسمي بالسيادة واستبدال الواردات، لكن البنية التحتية تُشير إلى خلاف ذلك، فروسيا تقوم بإصلاح المعدات القديمة وزيادة الطاقة الإنتاجية حيث تستطيع، لكنها تعتمد على سلاسل إمداد خارجية، خاصة من الصين، وفي الجانب التجاري من الهند للحصول على الأدوات الآلية، والإلكترونيات الدقيقة، والبصريات، والروبوتات الصناعية، وأنظمة الدفع.

تُمثل الصين الآن نحو 70% من واردات أدوات الآلات، ونحو 90% من قيمة الإلكترونيات الدقيقة ذات الصلة بخطوط الإنتاج ذات الاستخدام المزدوج، وتسدد الآن نسبةٌ كبيرةٌ من المعاملات العابرة للحدود باليوان، ما يزيد من تعرّض النظام المصرفي الصيني لتقلبات الامتثال، كما يؤدي تشديد البنوك الصينية الكبرى لسياساتها إلى رفع تكاليف المعاملات الروسية وأوقات التسليم على الفور؛ بينما يُؤدي تخفيف القيود إلى عكس ذلك، وهذه السياسة تزيد من مخاطر التسعير والتوقيت في قطاعات أدوات الآلات والإلكترونيات والمدفوعات.

مع الهند، تعد العلاقة معاملاتية بحتة، حيث يُتداول نفط الأورال بخصم مزدوج الرقم مقارنة بسعر برنت المسجّل؛ وتعتمد هوامش الموازنة في المنتجات على توافر تأمين الحماية والتعويض، والالتزام بسقف الأسعار، وقيود التوجيه.

وفي ظل نظام سقف الأسعار لدول مجموعة السبع (G7)، يكون تأمين الحماية والتعويض الغربي متاحاً فقط عند التأكيد أن الشحنات عند الحد الأقصى أو أقل منه؛ ويعد “برنت المسجّل” هو المعيار المادي لبحر الشمال المُستخدم في مقارنات الامتثال، ومن هنا يأتي التركيز على الفارق بين أورال وبرنت المسجّل.

الفائدة هنا مالية بحتة لتدفقات النقد، لكنها ليست منصة لتسريع اللحاق بالتقنيات المتقدمة، فهي ترسّخ هيكلية البائع والمعالج والمشتري التي يحدد فيها السعر طرف خارجي، وتجعل سلسلة اللوجستيات عرضة للاضطرابات الناجمة عن التأمين والامتثال.

بالمحصلة، السعي نحو الاكتفاء الذاتي أنتج تبعيات جديدة بدل الاستقلالية، فروسيا قادرة على التجميع، والتجديد، والتكيف على نطاق واسع، لكنها غير قادرة، بتكلفة مقبولة، على إعادة بناء قاعدة صناعية شاملة وهي معزولة عن المدخلات المتقدمة والتمويل.

وكلما استمر اقتصاد الحرب، كلما تعمّقت هذه التبعيات الخارجية في العمليات اليومية، بدءاً من قائمة المواد لمصنع الطائرات المسيرة وصولاً إلى خطة السيولة لبنك إقليمي.

  السعي نحو الاكتفاء الذاتي أنتج تبعيات جديدة بدل الاستقلالية

نهاية المرحلة السهلة

تلاشى النمو المدفوع بالتحفيز المالي في 2023-2024، بينما اتسعت الفجوة المالية، حيث لا يؤدي التخفيض الطفيف في نفقات الدفاع إلى تطبيع الميزانية، إذ تظل الدولة أكبر مستثمر ومدين؛ حيث يتم دعم التوظيف، ولكن الإنتاجية لا تتحسن.

تلتهم خدمة الدين جزءاً أكبر من الميزانية، وتحافظ عمليات إعادة إصدار سندات القروض على القسائم المرتفعة، ويؤدي ارتفاع ضريبة القيمة المضافة، إلى جانب الروبل الأكثر ليونة، إلى تحويل العبء إلى الأسر.

يشعر الاقتصاد المدني بالتأثير أولاً من خلال الائتمان الأغلى، وهوامش الربح الأقل، والاستثمار المؤجل، فبعد نمو تحفيزي للحرب بنسبة 3-4 % في 2023–2024، انخفض التوسع السنوي حتى نحو 1٪ مع تلاشي التحفيز وبلوغ الحدود الإنتاجية.

كما أن سندات القروض ذات العوائد العالية الصادرة في 2024–2025 تؤجل تكاليف الفائدة إلى 2026–2028، ما يحد من الإنفاق الاختياري غير الدفاعي، وحتى في حرب مستقرة، فإن إعادة تعبئة المخزونات والحفاظ على الجاهزية يحتاج إلى مشروع يمتد من 7 إلى 10 سنوات، أي أن مستوى الإنفاق المستقر يمدد القدرة التشغيلية ولكنه لا يعيد التوازن.

لن تكون إعادة أو إنهاء التعبئة العسكرية مساراً سلساً، فالفجوات المبلغ عنها في العمالة تتجاوز 2 مليون عامل؛ بينما يبقى معدل البطالة عند مستويات قريبة من أدنى مستوى قياسي، وهو ما يخفي سوء تخصيص الموارد بدلاً من القوة الاقتصادية الحقيقية.

يعود المحاربون القدامى بمهارات لا تتوافق بسهولة مع الطلب المدني وبتوقعات دخل محددة على أساس رواتب القتال، وسيحتاجون إلى إعادة تدريب، ورعاية صحية، ودعم متوقع، وهي تكاليف ترتفع مع تراجع الطلب الدفاعي.

يعود المحاربون القدامى بمهارات لا تتوافق بسهولة مع الطلب المدني وبتوقعات دخل محددة على أساس رواتب القتال

أما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحربية التي ازدهرت في تصنيع الطائرات المسيرة والإصلاحات، فستواجه صعوبة عندما تعود العقود إلى التكتلات الحكومية التي تحمي عوائدها وامتيازاتها السياسية في زمن السلم، والنتيجة هي تحويل تدريجي متقطع وليس تسليماً سلساً.

كل نقطة مئوية مضافة لضريبة القيمة المضافة ترفع الإيرادات أكثر من رفع مماثل لضريبة الأرباح في ظل ضغط الأرباح الحالي؛ وفي الوقت نفسه، تحدث سندات  القروض الفدرالية بعوائد منتصف العشرينيات فجوة بأسعار الفائدة.

 الهبوط الناعم يتطلب ما يعارضه النموذج الحالي، أي خفض حقيقي في الشراء العسكري، ومناقصات شفافة، وقيود صارمة على الميزانية للشركات الحكومية الكبرى، وإفلاس عند الحاجة، وتحويل الائتمان من المقاولين المحميين إلى الشركات المدنية التنافسية.

كما يحتاج إلى سياسة عمل مستهدفة تعطي الأولوية للشهادات القابلة للنقل، وتسريع تطوير المهارات، وتحفيز التنقل الوظيفي، واستثمار عام يزيد إنتاجية العوامل الكلية بدلاً من مجرد معالجة النقص الورقي.

بدون ذلك، ستحصل روسيا على استقرار مدار: تدفق نقدي مستقر، وتآكل رأس المال الثابت، وارتفاع الالتزامات الاجتماعية، وتسرب بطيء للمواهب نحو العواصم أو الخارج.

 وبالتالي، فإنّ الوضع المستقرّ لروسيا داخلياً، ولكنه معرّضٌ للمخاطر الخارجية، حيث تتفاقم هذه القيود التشغيلية الآن بسبب سلوك المشترين الآسيويين الرئيسيين لروسيا، فصدمة العقوبات لم تُعطل القنوات الغربية فحسب، بل أجبرت أيضاً شركاء موسكو في الشرق على إعادة تقييم مخاطرهم وإجراءات الامتثال لديهم.

تواجه الصين والهند الآن معضلات امتثال أشدّ، فقد بدأت المصافي والبنوك الصينية المملوكة للدولة في تشديد إجراءات العناية الواجبة وتأجيل التسويات في قنوات التسوية باليوان لتقليل التعرض للعقوبات الثانوية.

أما المصافي الهندية، ورغم استمرارها في استلام الشحنات المخفضة، فقد قلّلت المشتريات الفورية وأدخلت بنود إثبات إضافية لتلبية متطلبات الامتثال لسقف الأسعار.

تؤدي هذه الإجراءات إلى تأخيرات في تمويل التجارة ورفع احتياجات رأس المال العامل للمصدرين الروس، ما يزيد من تقلبات الروبل وعدم اليقين المالي، وهكذا، فإن اعتماد الكرملين على بكين يتعمق ليس فقط تقنياً بل ومالياً؛ فكل حلقة من الامتثال المفرط الصيني تتردد أصداؤها عبر سلسلة سيولة روسيا.

تضيف بيئة الامتثال المتغيرة هذه طبقة جديدة من الهشاشة إلى التوازن المالي لروسيا، وهي ثغرة ستؤثر بشكل متزايد على ملامح اقتصادها الحربي طوال عام 2026.

عمال روس في مصنع إصلاح القاطرات (أ ف ب)
السيناريوهات لعام 2026

تحدد ثلاثة سيناريوهات التطور المحتمل لاقتصاد روسيا الحربي، كل منها مبني على الواقع المالي والديناميات الخارجية، وتحدد احتمالاتها هامش التحرك الغربي في عام 2026:

سيناريو الاستقرار (الاحتمالية: 45%):

يستمر تمويل الحرب عبر رفع ضريبة القيمة المضافة والتجارة المقومة باليوان، ما يحافظ على الاستقرار، لكن التضخم يرتفع من 8–10٪، ما يقلل القدرة الشرائية للمدنيين دون إثارة اضطرابات كبيرة.

سيناريو التكيف (الاحتمالية: 35%):

تؤدي ارتفاع تكاليف الامتثال الصيني أو تقلب أسعار النفط إلى خفض المشتريات العسكرية، ما يثير احتكاكات اجتماعية محلية في المناطق الطرفية مع تقلص نظام المحسوبية.

سيناريو الاضطراب (الاحتمالية: 20%):

يؤدي ارتفاع حاد في عائد سندات القروض الفدرالية (أكثر من 20٪) إلى إرهاق خدمة الدين، ما يسرّع إجراءات التسريح من الجيش ويكشف عدم توافق القوى العاملة، مع احتمال تعزيز النفوذ الغربي إذا تزامن مع التزامات مساعدات متعددة السنوات.

تُؤكد هذه السيناريوهات ضرورة مراقبة الاحتياطيات المالية الروسية ومؤشرات الاعتماد الخارجي عن كثب، فالآثار المُجتمعة لتقييد عائدات الطاقة، وارتفاع عوائد سندات القروض الفدرالية، وتقييد إعادة التمويل، تُفاقم خطر حدوث صدمة مالية متعددة القنوات بحلول منتصف عام 2026، وما لم ترتفع أسعار النفط بشكل حاد أو تُقدم الصين دعماً واضحاً للسيولة، فإن الاحتياطيات المالية لموسكو ستتآكل بوتيرة أسرع من المخطط لها، ما يُقلل من قدرة الكرملين على تحمل الإنفاق العسكري والرعاية المحلية في آن واحد.

استراتيجية الضغط لا الصبر

يتمتع اقتصاد الحرب الروسي بقوة في التدفق النقدي، لكنه هش في بنيته، فهو يشتري النظام المحلي بتأجيل التكاليف الهيكلية، لا بتوليد طاقة مستدامة، حيث يقايض الكرملين الإنتاجية بالسيطرة، والاستدامة طويلة الأجل بالمرونة قصيرة الأجل، وهذا ليس نموذجاً مبنياً للربح، بل للاستمرار، ومع عقوبات أكتوبر 2025 التي تُشدد الخناق الخارجي على العمود الفقري للطاقة الروسية، أصبحت المقايضة أكثر وضوحاً، فكل روبل مخصص للاستقرار هو روبل غير مُستثمر في الإنتاج.

الانتظار لانهيار النظام ليس استراتيجية، إنه رهان على فشل داخلي لا يمكن للفاعلين الخارجيين توقيت حدوثه ويجب ألا يعتمدوا عليه، فعدم التناسق الزمني حالياً يميل لصالح موسكو: “نظام قادر على تغيير معدلات ضريبة القيمة المضافة، والتحكم في البنوك المحلية، وتوجيه تدفقات المشتريات يستطيع الحفاظ على الإنفاق بمستوى الحرب لفترة أطول من الغرب المجزأ الذي يناقش، ويؤجل، ويوزع المسؤولية”.

عدم التناسق الزمني حالياً يميل لصالح موسكو فنظام قادر على تغيير معدلات ضريبة القيمة المضافة والتحكم في البنوك المحلية وتوجيه تدفقات المشتريات يستطيع الحفاظ على الإنفاق بمستوى الحرب لفترة أطول

لمواجهة ذلك، يجب على الفاعلين الغربيين التحرك بدلاً من التفاعل على ثلاث جبهات:

أولاً: تقصير دورات الإنتاج وضمان استمرارية التدفق، إذ يجب تمويل الذخائر والقدرات ذات الاستخدام المزدوج على مدى سنوات متعددة، بحيث تكون معزولة عن تقلبات الجداول السياسية ومصممة لتحقيق كفاءة التكلفة.

ثانياً: فرض العقوبات من خلال آليات تنفيذية، وليس عبر التصريحات الإعلامية فقط، حيث يجب سد ثغرات المسؤولية، لا سيما في اللوجستيات، وإعادة التصدير، والمكونات ذات الاستخدام المزدوج، من خلال إجراءات صارمة مستمرة، لا من خلال حملات قمعية متقطعة.

ثالثًا، استغلال التبعيات غير المتكافئة، حيث يفتح تحول روسيا نحو الصين والهند نقاط ضغط لم يختبرها الغرب بعد، إذ يمكن أن يؤدي الاطلاع على المعاملات المقومة باليوان، والضغط على سلاسل توريد الآلات والبصريات، وتشديد الرقابة على التجارة الموازية إلى رفع تكاليف روسيا بشكل تدريجي لكن بشكل حاسم، كما تُظهر العقوبات الجديدة على شركتي “روسنفت ولوك أويل” أن الضغط المالي الموزون يمكن أن يزيد التكاليف الداخلية دون إثارة انهيار نظامي فوري، والتحدي الآن هو الاستدامة، والحفاظ على تنسيق التنفيذ حتى يحدّ العبء المالي واللوجستي التراكمي من قدرة الاقتصاد الحربي الروسي من الداخل.

الهدف ليس الصدمة الفورية، بل الاستنزاف المستمر، إذ لا يحتاج الغرب إلى تقليد نموذج موسكو القسري، لكنه يجب أن يضاهي صبرها وقدرتها على التحمل، فتجاوز اقتصاد الحرب الروسي يتطلب أكثر من العزيمة؛ فهو يتطلب دقة، ومثابرة، وإرادة سياسية لرفع التكاليف الهيكلية للحرب أسرع ما يمكن للكرملين استيعابه أو تحويله، والانتظار والأمل في انهيار آلة الحرب الروسية ليس خطة، فالضغط الاستراتيجي هو الخطة.

ألكسندر دوبوي

ألكسندر دوبوي

الدكتور ألكسندر دوبوي، محلل مقيم في فيينا متخصص في المخاطر الجيوسياسية والأمن في أوروبا الشرقية وروسيا والمنطقة ما بعد السوفيتية، ويتمتع بخبرة تزيد عن 20 عاماً في مجال البحث والاستشارات والتحليلات السياسية، ويعمل مع معاهد بحثية ومراكز فكرية دولية رائدة. يُضفي دوبوي على تحليلاته رؤى جيوسياسية وقانونية معمقة، بخبرة إقليمية واسعة، ووجهات نظر عملية.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.