أوروبا.. صعود اليمين الشعبوي أم انهيار الاتحاد؟

تقرير
أوروبا: على شفير صعود اليمين الشعبوي وانعكاس مسار الاتحاد الأوروبي (أ ف ب)
أوروبا: على شفير صعود اليمين الشعبوي وانعكاس مسار الاتحاد الأوروبي (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

بدأت الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا بفرض عقيدتها على الساحة السياسية، فهي تُقلد الأساليب الشعبوية، وتتبنى مواقف في السياسة القارية، مستعينة بشعارات وببرامج الأحزاب المتطرفة، ما يشير لصعود اليمين التقليدي في مراكز القوة الكبرى في أوروبا.

وتعمل هذه الأحزاب الآن على تعزيز نفوذها في دول مثل: إيطاليا، وبولندا، والمجر، وسلوفاكيا، والنمسا، ورغم أن هذه الدول ليست من بين القوى الأساسية التي تشكل السياسة الأوروبية، إلا أنها تتمتع بدرجات متفاوتة من التأثير في هذه الساحة.

في الوقت نفسه، يستعد اليمين لتولي السلطة في دول أوروبية كبرى مثل: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، وهناك تقديرات متطرفة بشأن السياسات التي ستتبعها الأحزاب اليمينية المتطرفة بمجرد وصولها إلى الحكم، ومن بينها أن تلك الأحزاب ستُغير وجه أوروبا إلى الأبد، إذ من المتوقع أن تتراجع عن جميع المكاسب التي تحققت في العصور السابقة، بدءاً من السياسات البيئية، وحقوق الإنسان، والمساواة، وصولاً إلى برامج دمج المهاجرين، وغيرها.

فيما يرى تيار سياسي آخر أن العكس تماماً قد يحدث؛ فعند وصول هذه الأحزاب إلى السلطة، قد تبدأ في رؤية الأمور من منظور مختلف، وتحرص على الحفاظ على الوضع الراهن، خلافاً لما وعدت به في التجمعات الجماهيرية.

معظم الأحزاب الشعبوية اليمينية تتبنى مفهوماً ضيقاً للهوية الوطنية، غالباً ما يستند إلى العرق أو الثقافة، ما يدفعها إلى رفض الهجرة والتعددية الثقافية

تُراهن هذه التحليلات على مسارات مختلفة قد تسلكها هذه الأحزاب بعد تولّيها الحكم،
وأحد هذه المسارات يتمثل في أن تقوم تلك الأحزاب بتخفيف من حدّتها والانخراط في السياسة التقليدية، وآخر يرى أنها قد تمزج بين أكثر من نهج في آنٍ واحد، فبمجرد وصولها إلى السلطة، قد تتبع برامج شعبوية، مستعينة ببعض المفردات اليسارية لتمثيل الفئات الأضعف، والأقل تعليماً، والأقل حظاً من حيث الفرص.

  رئيسة الوزراء الإيطالية

القضية تعد حالة نموذجية لفهم التطور الأيديولوجي للأحزاب اليمينية المتطرفة، وكثيراً ما يشير الباحثون إلى أن جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، التي تقود دولة تُعد جزءاً من مجموعة الدول السبع الكبرى، وتلعب دوراً مؤثراً نسبياً في السياسة الأوروبية، رغم أن دورها لا يرقى حالياً إلى مستوى الدور الفرنسي أو الألماني أو البريطاني، فإنها تملك تأثيراً ملحوظاً على سياسات البحر الأبيض المتوسط.

وصلت ميلوني إلى رئاسة الحكومة الإيطالية بعد أن بدأت حياتها المهنية كنادلة، بينما كانت تقود حزباً يمينياً متطرفاً ذي جذور فاشية، ومع ذلك، فإنها تبدو اليوم شخصية معتدلة، وكأنها تمثل أحزاب الوسط اليميني الأوروبية.

حتى على المستوى الشخصي، تخلّت ميلوني عن الخُطب الحادّة، والنبرة القوية، والتهديدات الموجّهة ضد هيمنة بروكسل أو ضد الرئيس إيمانويل ماكرون، وكانت معروفة سابقاً بموقفها الصارم من بروكسل، ومن السياسات الفرنسية والأوروبية في إفريقيا، وكذلك من المهاجرين الأفارقة.
وخلال أزمة اللاجئين في أوروبا، لعبت إيطاليا دور المحطة الانتقالية الأساسية للاجئين الأفارقة القادمين بحراً، فبعد وصولهم إلى السواحل الإيطالية، كان اللاجئون يتوجهون لاحقاً نحو الدول الأغنى في شمال أوروبا، ولم يستقر المهاجرون الأفارقة في أول وجهة لهم، أي إيطاليا، لأن اليمين المتطرف كان يرفض تطبيق سياسات صديقة للهجرة هناك.

اتهامات

اتهم الأوروبيون الحكومة الإيطالية بالتساهل في حماية سواحلها ومنع وصول اللاجئين، ويقول المنتقدون: “إن إيطاليا لم تكن تنوي من الأساس تحمّل عبء اللاجئين، الذين كانوا يغادرون البلاد فور وصولهم إليها”.

 ورداً على تلك الاتهامات، هاجمت ميلوني الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزعماء أوروبيين يساريين آخرين، قائلة: “قبل أن تتهموا إيطاليا، هل تساءلتم يوماً عن سبب وصول الأفارقة الفقراء إلى أوروبا؟”.

 وتابعت: “إنهم يأتون بسبب إفقار بلدانهم على يد فرنسا، التي تنهب موارد ومعادن الدول الإفريقية.”

ومع ذلك صعدت ميلوني إلى السلطة، فمنذ تولّيها الحكم، تحاول أن تُقدّم نفسها بصورة مسؤولة ومعتدلة وعقلانية، كما أنها لم تُظهر الإعجاب المعتاد الذي يُبديه اليمين الشعبوي تجاه شخصيات القادة السلطويين، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل كانت في طليعة الداعين إلى دعم أوكرانيا وتزويدها بالأسلحة خلال الغزو الروسي، فهل تُعتبر هذه النظرية صحيحة؟، وهل يعتدل اليمين الشعبوي بمجرد وصوله إلى السلطة؟.

في الواقع، لا تكفي حالة ميلوني وحدها لتكون نموذجاً يُحتذى به في سلوك اليمين الشعبوي  إلا أن الطابع الحقيقي لليمين المتطرف سيبدأ بالظهور فعلياً عندما يتولى زمام، الحكم في إحدى الحكومات الأوروبية الكبرى، فمثلاً تخيّل أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” يتولى منصب المستشارية الألمانية، أو أن حزب “التجمّع الوطني” الفرنسي يدخل قصر الإليزيه، أو أن “حزب الإصلاح” يتولى الحكم في مقر رئاسة الوزراء البريطانية في داونينغ ستريت (رقم 10) في لندن.

وهذا ما يشير، إلى عدد من التساؤلات حول ما الذي يريد اليمين الشعبوي تغييره في السياسة؟.

الهجرة

تشهد كل دولة أوروبية تقريباً موجة متزايدة من الهجرة؛ وهي ظاهرة لم تتمكن أوروبا حتى الآن من إيجاد وسيلة فعالة لوقفها، وبدرجة معينة، تُعد هذه الظاهرة عاملاً محفزاً لصعود الشعبوية اليمينية.

تركّز شعارات وبرامج هذه الأحزاب، داخلياً وبشغف، على وقف الهجرة كخطوة أولى، ويشعر كثير من المواطنين في الدول الأوروبية بأن بلدانهم تُنتزع منهم، وأنهم عاجزون أمام ما يرونه غزواً ديموغرافياً مقبلاً، بسبب معدلات المواليد المرتفعة بين المهاجرين.

بعيداً عن قضية الهجرة، تبدو السياسة الخارجية للأحزاب اليمينية في أوروبا أكثر تعقيداً، ولا يمكن اختزالها في توجه أيديولوجي واحد

خطوات جذرية

في المرحلة المقبلة، من المرجّح أن يتبع اليمين الأوروبي خطوات أكثر عمقاً، على غرار ما قام به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فهيئة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE)، المعروفة بسمعتها السيئة، تقوم بترحيل المهاجرين بأعداد كبيرة.

 كما أن الإدارة الأمريكية تُلغي جميع البرامج المتعلقة بدمج المهاجرين، وتقوم الحكومة بسحب الجنسية من أفراد يُشتبه في تورطهم في الإرهاب أو دعمهم المزعوم لأيديولوجيات متطرفة وعنيفة.

ويفقد كثيرون وضعهم القانوني لمجرد تعاطفهم مع منظمات متطرفة مثل القاعدة أو داعش أو حماس أو حزب الله، بل إن الترحيل قد يتم لأسباب بسيطة، مثل عدم تعلّم اللغة أو عدم العثور على عمل.

 ومع ذلك، فإن تنفيذ برامج مشابهة في أوروبا يتطلب من اليمين المتطرف تجاوز القيم الراسخة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

المقاومة

وعلى النقيض من ذلك، يُشكّل كل من البرلمان الأوروبي، والمنظمات الأوروبية لحقوق الإنسان، واتفاقية دبلن، والصحافة الليبرالية، عقبات كبيرة أمام مخططات اليمين المتطرف في أوروبا، إضافة إلى ذلك، فإن لجوئه إلى مثل هذه السياسات سيؤدي إلى صدامات مع القوانين والمحاكم الأوروبية.

والبرامج السلطوية لليمين المتطرف، التي تزدري الإجراءات القضائية الطويلة أو التقاضي أمام مجلس حقوق الإنسان أو المحكمة الأوروبية، ستواجه مقاومة شديدة من المجتمعات الأوروبية النشطة، وتجاوز قرارات المؤسسات الأوروبية العريقة سيُعد بمثابة تقويض لمبدأ فصل السلطات نفسه.

ومع ذلك، فإن المهاجرين من الجيلين الثالث والرابع لن يقبلوا مصيرهم كما يتصوّره اليمين الشعبوي بهدوء واستسلام، وإلى جانب صعوبة تطبيق هذه السياسات، فإنها تُخلّف تبعات وعواقب لا يُستهان بها.

البُعد الاقتصادي

اعتاد الأوروبيون على تجاهل المهن اليدوية مثل النجارة، وتنسيق الحدائق، وإصلاح الأسطح، وأعمال البناء، وتوصيل البريد، وغيرها من الأعمال المشابهة.

 ومنذ عصر الازدهار الأوروبي في خمسينيات القرن الماضي، كان المهاجرون القادمون من الدول النامية هم من يشغلون هذه الوظائف في الغالب، وبعد انهيار الستار الحديدي وسقوط جدار برلين، انضم المزيد من المهاجرين من الدول الأوروبية الأقل تطوراً إلى المهاجرين السابقين، مستفيدين من انضمام بلدانهم إلى الاتحاد الأوروبي.

وشهدت الوظائف النمطية التي كان الأوروبيون يرفضونها ويتولاها المهاجرون، تغيّراً كبيراً منذ بداية الألفية الثانية، فأبناء الجيل الرابع أو الخامس من المهاجرين، الذين وصل أسلافهم إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، باتوا اليوم أكثر مهارة وتأهيلاً، وهم يشغلون مناصب مرموقة في المجتمع الأوروبي المعاصر، مثل: محامين، ومهندسين، وصنّاع أفلام، وبرلمانيين، وشخصيات إعلامية.

النخب الجديدة

في نظرة سريعة على وضع الخدمات الأساسية في الدول الأوروبية الكبرى، تُظهر أن الخدمات الصحية قد تدهورت إلى درجة تهدد الصحة العامة.

 كما أن البرامج الاجتماعية الموجهة للفئات الأقل حظاً في المجتمع لم تعد قادرة على تلبية الطلب المتزايد، واليوم، تنتشر في ألمانيا نكتة شائعة مفادها: “إذا مُنع اللاجئون من العمل، فلن يتبقى في المستشفيات الألمانية سوى المرضى”، في إشارة إلى أن غالبية الكوادر الطبية هم من المهاجرين.

أما اليسار، فقد غرق وتخبط في سياسات النوع الاجتماعي (الجندر) باعتبارها بديلاً عن برامج العدالة الاجتماعية، ما دفع بالكثيرين نحو أحضان الشعبوية اليمينية، فبرامج اليمين الشعبوي، التي كانت في السابق على هامش المشهد السياسي في أوروبا الغربية، بدأت الآن تتصدّر الواجهة.

وهذا يشير إلى أن الأحزاب الشعبوية اليمينية أصبحت تمثل الفئات التي وجدت نفسها خارج منظومة العولمة: بقايا الطبقة العاملة، وأطلال المصانع المدخّنة في يوركشاير التي دمّرتها البضائع الصينية الرخيصة، وهؤلاء وجدوا أنفسهم فجأة مهددين في ثقافتهم وهوية بلدانهم، وعلى نقيض ذلك، اختارت النخب الأوروبية المتعلّمة أوطاناً بديلة لها في أمريكا الشمالية وأستراليا.

  السترات الصفراء في فرنسا

لقد اختبرت فرنسا الفوضى لسنوات من خلال حركة السترات الصفراء، إذ إن تساهل الرئيس ماكرون مع السياسات المصرفية والنيو ليبرالية لم يُفضِ إلى أي شيء ملموس، حيث نجت فرنسا بصعوبة لأن الضواحي لم تشارك في الاحتجاجات ولم ترَ صورتها في الاحتجاجات التي نظمتها السترات الصفراء، ولو شاركت الضواحي، لكان الحديث عن فرنسا اليوم مختلفاً تماماً.

ومع ذلك فإن مزيج السياسات النيو ليبرالية القاسية تجاه الفئات الأكثر حرماناً، والسياسات القاتلة المتعلقة بالهوية، وفساد النخب، وخضوعهم لطبقة اجتماعية مهيمنة ومتسلطة، كلها ستؤدي حتماً إلى سياسات أبعد من أحلام أولئك الذين يسعون إلى نموذج اجتماعي أكثر عدالة.

قناعة اليمين

رهان الأحزاب الشعبوية اليمينية يشبه رهان الرئيس ترامب في الولايات المتحدة، الذي يعتقد أن فرض الرسوم الجمركية سيرتفع بأسعار السلع، ما سيؤدي إلى الضغط على الرأسماليين الأمريكيين لتصنيع المنتجات داخل البلاد عن طريق تعبئة العمال الأمريكيين.

لذلك تميل الأحزاب الشعبوية اليمينية إلى تبني نفس النهج، مع سياساتها المعادية للهجرة، حيث يعتقدون أن غياب المهاجرين سيدفع الأوروبيين للعودة إلى العمل في الأعمال اليدوية، والمصانع، والمهن الصعبة، ومع ذلك، لم تُختبر سياسات ترامب أو سياسات الأحزاب الشعبوية اليمينية بعد.

أزمة الهوية

لكن بعيداً عن سياسة الهجرة، لا تبدو الأمور في الاتحاد الأوروبي مثيرة للانقسامات كما هي الحال في الولايات المتحدة، حتى سياسات النوع الاجتماعي ليست مثيرة للجدل بنفس القدر، وصحيح أن الإشارة إلى المثلية الجنسية في خطاب افتتاح أولمبياد باريس 2024 أثارت غضب اليمين الفرنسي.

ومع ذلك، تلاشى هذا الغضب بعد أن تم تناوله في بعض المقالات الصحفية والإدانات على وسائل التواصل الاجتماعي.

وهذا يشير إلى أن المعضلة الرئيسية في أوروبا هي أزمة الهوية، وكيفية تعريف كل دولة لنفسها، على الرغم من أن اليمين المتطرف لا يبدو متشبثاً جداً بالهوية المسيحية لأوروبا، إلا أنه ركز على نفس القضية في بعض الدول.

الانقسامات الفرنسية

فرنسا، على سبيل المثال، تُعرّف نفسها على أنها دولة علمانية بحتة، ويُعتبر هذا التعريف العلماني سبب وجودها، وبالنسبة لها، لا يوجد شيء أكثر أهمية من إبعاد الدين عن الحياة العامة.
ومع ذلك، في بعض الحالات المتطرفة، تقوم حتى بانتقاد الدين والسخرية منه، لكن هذه الفرضية النظرية تتدهور بشكل كبير على مستوى التنفيذ.

بعض دول أوروبا الشرقية والوسطى شهدت اندماجاً بين المحافظة الدينية والشعبوية اليمينية، مدفوعاً بدور الكنيسة المتنامي في المجال السياسي

الحقيقة هي أن الأمة الفرنسية مهتمة للغاية بما ترتديه الفتيات في المدارس، أو ما هو نوع القلادة التي يجب ارتداؤها، أو نوع السباحة المناسبة على الشواطئ، أو كيفية تسمية المواليد الجدد.

 وهذا يشير إلى أن هذا النوع من التفكير يتجاهل مسار التنمية الاجتماعية والذاكرة الجماعية في البلاد، وهو يختلف بشكل واسع بين الأجيال القديمة والحديثة في فرنسا، ويقسم الأجيال، فالجيل الفرنسي القديم مدفوع بمشاعر الثورة الفرنسية، والحرية، والعداء للكنيسة.

تصوير الإسلام كتهديد

الأجيال الفرنسية الجديدة -الذين هم في الغالب مسلمون قادمون من شمال أفريقيا، والسنغال، وساحل العاج، أو حتى من أوروبا الشرقية- لا يتبنون مفهوم العلمانية المتطرفة، حيث لا يزال الدين يلعب دوراً روحياً في حياة الفرد في البلدان التي جاءوا منها.

كما تختلف السياقات في بلدانهم الأصلية بشكل كبير عند مقارنتها بأوروبا الغربية، فقد تطور دور الكنيسة ومشاركتها في السلطة بجانب الملوك خلال العصور الإمبراطورية الأوروبية الكبرى، لكن هذا لم يكن الحال بالنسبة لهم، إذ لم تحكم بلادهم الكنيسة والأرثوذكسية.

ومع ذلك، اليوم يُجبر الطلاب الشباب على الاستماع إلى دروس تنتقد النبي محمد (ص)، وهذا يخلق توتراً دائماً بين الدولة ومواطنيها، والرئيس الفرنسي ماكرون ووزير الداخلية ذو الأصول الجزائرية يصوران المواطنين المعارضين على أنهم انفصاليون، وهذا التصنيف يعزل الأجيال الشابة التي تعيش في الضواحي بشكل دائم.

وبالمثل هناك ظواهر تتكرر في بلجيكا، وهولندا، والدنمارك، وألمانيا، ما يثير مشاعر الجيل الجديد هو الانتقاد الموجه تحديداً ضد الإسلام، بينما تظل الكنيسة نقية، وبالتالي، لم يعد أحد يتعامل معها، كما يتجنب العلمانيون المتطرفون انتقاد اليهودية خوفاً من اتهامهم بمعاداة السامية، وهذه المواجهة العلمانية العامة تكون موجهة فقط ضد الإسلام.

رغم غياب هوية دينية واضحة، فإن بعض الدول تروّج بشكل متزايد للتراث المسيحي باعتباره أداة ثقافية للتعبئة السياسية، لا روحانية

الإنجيليون الأوروبيون

تحت هيمنة الديمقراطيين المسيحيين، بدأت الدول الأوروبية الغربية تعتاد على العلمانية المتطرفة.

في بريطانيا، التي ما زالت تعتبر الملك رأس الكنيسة، فقد أصبحت تُرى في أوروبا على غرار البلدان الإسلامية أو الهندوسية أو السيخية، إذ يسكن المملكة المتحدة عدد ضخم من المهاجرين من الشرق الأوسط ومن شبه القارة الهندية، وغالباً ما يُثير زعيم اليمين المتطرف البريطاني، “حزب الإصلاح” نايجل فاراج، الشعور العام حول الهوية الدينية، محذراً من أن الدين قد خرج إلى حد كبير من النقاش في أوروبا.

وفي ألمانيا، تجاوز عدد الأشخاص الذين يُعرّفون أنفسهم على أنهم ملحدون أولئك الذين يفضلون هويتهم البروتستانتية أو الكاثوليكية، أما فرنسا، فهي لا ترغب في سماع أي شيء عن الدين في الحياة العامة.

وهذا يشير إلى أن أوروبا تفتقر إلى جهد حقيقي لإعادة صياغة هوية موحدة -تتماشى مع الواقع الديموغرافي الجديد- لكل دولة أوروبية، كما أنها تفشل في تبني نماذج مشابهة لتلك الموجودة في كندا أو الولايات المتحدة (قبل ظهور حركة “ماغا”) أو أستراليا أو نيوزيلندا، فهذه البلدان تفتقر إلى هوية دينية واضحة أو عرقية مهيمنة، وما زالت أوروبا تتمسك بنظريات الهوية الوطنية الحديثة من القرن الثامن عشر.

لكن من دون تبني هوية موحدة جديدة -تضم الجميع ولا تُبعد أحداً- ستواصل أوروبا بحثها عن الإجابات في الأماكن الخطأ.

وفي هذه العملية، ستتمكن الأحزاب الشعبوية اليمينية من فرض سيطرتها وتنفيذ وعودها، وسيتم طرد اللاجئين، وسحب الجنسية من المهاجرين الذين يندمجون ببطء، وستُستبعد المحاكم، وتشريعات حقوق الإنسان، وأصوات البرلمانات، ووسائل الإعلام، بمعنى آخر، سيتغير وجه أوروبا، ولكن بطريقة مختلفة.

استياء اليمين المتطرف

من بين القضايا الأكثر إثارة للجدل في أوروبا، تأتي قضية الاتحاد الأوروبي نفسه، فمعظم الأحزاب الشعبوية اليمينية تحمل نظرة سلبية للغاية تجاه بروكسل، مقر المفوضية الأوروبية،
ويعود السبب في ذلك إلى تحكم مجموعة من البيروقراطيين غير المنتخبين في سياسات حكومات منتخبة ديمقراطياً.

ومع ذلك يرى اليمين المتطرف أن سياسات المفوضية تُقيد هامش المناورة أمام دول مثل: فرنسا وألمانيا في مواجهة منافسين عالميين مثل الولايات المتحدة والصين، وفوق ذلك، فإن العملة الموحدة (اليورو) تحرم الدول الأوروبية من التحكم بأسعار الفائدة المرنة التي يمكن أن تساعدها في أوقات الأزمات.

انعكاس نموذج الاتحاد الأوروبي

وعلى النقيض من ذلك، تعتبر الأحزاب اليمينية المتطرفة عدداً من الدول الأوروبية مثل: اليونان، وإسبانيا، وبولندا بمثابة طفيليات، وتتهمها بعدم أخذ اقتصاداتها على محمل الجد واعتمادها على المساعدات الأوروبية.

وهذه الأحزاب واضحة في موقفها، بأن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى إصلاحات فورية، وإلا، فإنها تتوقع خروج دول أوروبية من الاتحاد واستعادة عملاتها الوطنية السابقة، مثل: المارك الألماني والفرنك الفرنسي.

وعلى سبيل المثال، لم تتخلّ بريطانيا عن الجنيه الإسترليني حتى أثناء عضويتها في الاتحاد الأوروبي لسنوات، ولم تكن جزءاً من منطقة اليورو أصلاً، أما الآثار الكارثية لانهيار النموذج الأوروبي، فيمكن فقط تخيلها على ديمقراطيات حديثة نسبياً مثل كوريا الجنوبية والبرازيل والأرجنتين، وفي الشرق الأوسط وأفريقيا، ستكون الآثار أكثر دماراً وعنفاً.

رفض منطق الدولة الحديثة

السؤال الأكثر إلحاحاً هو: كيف ستبدو السياسة الخارجية لأوروبا إذا سيطرت الأحزاب اليمينية المتطرفة على الدول الأوروبية الكبرى؟.

رئيس الوزراء المجري

يُعد فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، أحد أبرز السياسيين الذين يقدمون رؤية واضحة للسياسة الخارجية الأوروبية من منظور اليمين المتطرف، وبالنظر إلى موقف أوربان، يتّضح أن مفاهيم التقاليد الديمقراطية، وفصل السلطات، وحقوق الإنسان، سيتم تهميشها ووضعها على الهامش.

النموذج المنشود أشبه بروسيا بوتين، حيث يُصبح كل شيء مباحاً للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، وتتمثل المبادئ في إسكات الصحافة، وملاحقة المعارضين، واتهام أعضاء الفريق بالخيانة وعدم الولاء إذا اختلفوا مع الحاكم، بل إن الولاء المطلوب يجب أن يكون شخصياً للحاكم، لا للدولة.

ضياع الحلم الأوروبي

وهذا يشير إلى أن نماذج الاستبداد والطغيان ستُصبح النموذج المنشود، في حين أوروبا كانت تقدم نموذجاً مختلفاً تماماً، فهي لم تكن مجرد فكرة، بل نموذجاً جديراً بالتقليد على مستوى العالم.
لقد كانت حلماً يُلهم الشباب في العالم العربي، وإيران، وأفريقيا، والصين، إلا أن الاتحاد الذي يتجه نحو الشعبوية اليمينية سيفشل في تقديم نماذج يُحتذى به كما كان عليه الحال في السابق.

وهذا سيلحق ضرراً عميقاً بأوروبا نفسها، ويُغرقها أكثر في الاستبداد والنخبوية في ظل غياب الوضوح الفكري، والنموذج الأوروبي، الذي كان يوماً ما جديراً بالتقليد عالمياً، سيضيع إلى الأبد، وستخسر الديمقراطية بريقها في ظل صعود نماذج وأفكار جديدة قادمة من خارج الغرب.
ومع ذلك، سيدرك بقية العالم تدريجياً أن حلم أوروبا المتألقة آخذ في التلاشي، وفي المقابل، سيستمر الحكم الاستبدادي في أوروبا بمواجهة مقاومة من أجيال جديدة أكثر وعياً، ومن المؤسسات الليبرالية والحقوقية.

التفكك الداخلي

فرض حزب الإصلاح الشعبوي في بريطانيا استفتاءً للخروج من الاتحاد الأوروبي ونجح، لكن بريطانيا لم تحقق شيئاً حتى بعد “بريكست”، وسقطت الحكومات بسرعة، وإن اعتبار الاتحاد الأوروبي هو المشكلة بدلاً من كونه الحل الذي لم يُحقق أي فائدة تُذكر لبريطانيا.

في الواقع، بعد بريكست، ازدادت النزعات الانفصالية في اسكتلندا وويلز، ونجحت بريطانيا بشق الأنفس في إيجاد حل معقد يخص أيرلندا الشمالية للحفاظ على ارتباط اقتصادي مع جمهورية أيرلندا، التي بقيت ضمن الاتحاد الأوروبي.

 ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت برامج اليمين الشعبوي في أوروبا ستُشكل وصفةً للحل أم للحرب الأهلية.

وهذا يشير إلى الفكرة القائلة بأن الحل يكمن في التخلص من أوروبا لتقليل المشاكل وإيجاد حلول وطنية، ستدفع الأقاليم إلى التفكير بنفس الطريقة، فعلى سبيل المثال، إذا قال حزب “فوكس” اليميني المتطرف: “إن الحل في إسبانيا هو الابتعاد عن أوروبا، فقد تسعى مناطق ككاتالونيا أو إقليم الباسك إلى حلول إقليمية وترغب بالانفصال عن إسبانيا نفسها”.

آراء مشابهة ستُشعل دعوات الانفصال في بلجيكا وفي الإقليم الفلامندي، فلماذا لا تتكرر القصة نفسها داخل حدود ألمانيا؟.

 قد تجد بافاريا أن بروسيا متحررة أكثر من اللازم، ترحب باللاجئين، وتفخر بالمثليين، ومهووسة بالسياسات البيئية، فلماذا لا ننفصل عنها؟، من المؤكد أن بسمارك يتقلب في قبره الآن، إلى جانب الإيطالي غاريبالدي، الذي اكتشف أن جزءاً من مواطنيه في إقليم لومبارديا شمالاً لا يشبهون كثيراً إخوتهم في الجنوب، في نابولي وباليرمو.

لهذا السبب، تحولت جورجيا ميلوني -وهي سياسية ذات جذور فاشية، كانت تسعى بحماسة لاستقلال إيطاليا عن بروكسل في الماضي- إلى أكثر المدافعين حماسةً عن أوروبا اليوم.

مستقبل الاتحاد الأوروبي

استبعدت أوروبا من المفاوضات السياسية لتحقيق السلام في أوكرانيا، كما حدث مع الاتفاق النووي الإيراني، وفي كلتا الحالتين، فإن الشخص الذي تعتمد عليه واشنطن هو ستيف ويتكوف، مطوّر عقاري سابق، لا تربطه أي صلة بالاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، تبدو أوروبا في حالة من اليأس، تحاول جاهدة فهم الاتجاه الذي تسير فيه الأمور، وما زاد الطين بلّة، أن الولايات المتحدة لا تُجري المفاوضات عبر القنوات الرسمية مثل وزارة الخارجية أو وزير الخارجية الأمريكي، حيث تعطلت الاتصالات الموثوقة لأوروبا مع خبراء الإدارات الأمريكية.

 بغضّ النظر عما إذا كان الرئيس جمهورياً أو ديمقراطياً، إلا أن الأوروبيين في حالة من الغموض، يتساءلون عن الكيفية التي ستؤول إليها الأمور.

أوكرانيا

أصبح العرض الذي قدمته واشنطن بخصوص أوكرانيا واضحاً جداً، بتخليها عن شبه جزيرة القرم لصالح روسيا، وإيجاد حلولاً للمناطق الأخرى التي تحتلها روسيا مثل: دونباس، ودونيتسك، ولوغانسك، وقد تكون هذه الحلول متمثلة في ترتيبات قانونية تمنح الأقاليم الثلاثة وضعاً خاصاً، كأن تُمنح حكماً ذاتياً، ربما يكون الانسحاب الروسي من الأجزاء المحتلة من محافظة خيرسون هو النتيجة العملية الوحيدة.

على النقيض ذلك، ستحصل الولايات المتحدة على امتياز حصري لاستكشاف واستخراج المعادن الثمينة في أوكرانيا.

أما عضوية أوكرانيا في حلف الناتو، فقد أصبحت من الماضي، ولتقديم نوع من التعويض، يُرجّح أن يوافق بوتين على الاعتراف بحق أوكرانيا في بناء جيشها والدفاع عن نفسها، وتقديم ضمانات لحمايتها، وبهذا الشكل، لم تعد فكرة انضمام أوكرانيا للناتو، أو نشر قواته على أراضيها، احتمالاً مطروحاً.

مع ذلك، فإن هذه النتائج تتناقض بشدة مع تصورات أوروبا بشأن أوكرانيا في نهاية الحرب، إذ كانت خطط الاتحاد الأوروبي تهدف إلى جعل أوكرانيا خط الدفاع الأول لأوروبا ضد روسيا، حيث كان الأوروبيون يأملون في تطويق روسيا من بحر البلطيق في الشمال والبحر الأسود في الجنوب، وزادت آمالهم بعد انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو.

الخسائر الأوروبية

حتى الآن، لا تزال الأهداف الأوروبية بعيدة عن التحقق، وقد تكبّدت أوروبا خسائر كبيرة بالفعل، فإلى جانب نفقات الحرب، فقدت أوروبا إمدادات الطاقة الروسية الرخيصة من غاز ونفط مجاور.

 كما خسرت الشركات الأوروبية السوق الروسية نتيجة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو، ومن المرجّح أن تستمر الخسائر.

فلاديمير بوتين تعهّد بألا يسمح للأوروبيين بالعودة إلى السوق الروسية، حتى لو تم التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا، فمنذ بداية الحرب، استقبلت أوروبا أكثر من مليون لاجئ أوكراني، وخشيةً من تزايد الأعداد، دفعت مليارات الدولارات لدعم أوكرانيا اقتصادياً، بالإضافة إلى مليارات أخرى أُنفقت على الأسلحة والذخائر، واستنفدت بعض الدول الأوروبية مخزونها العسكري بالكامل.

ومع ذلك، باستثناء الخسائر الكبيرة، لا تمتلك أوروبا إنجازاً يُذكر بعد ثلاث سنوات من الحرب.

 وعلاوة على ذلك، فإن اتفاق السلام المتوقع أن تتوسط فيه الولايات المتحدة قد يُفضي إلى تعزيز العلاقات الأمريكية-الروسية، خاصةً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وإذا سارت الأمور بهذا الاتجاه، فستواجه أوروبا تداعيات سياسية كبيرة.

مكانة أوروبا

في الواقع، بدأت هذه الحكومات تشعر بالفعل بالنتائج مع الهزيمة المدمّرة لتحالف “الأخضر-الأصفر-الأحمر” بقيادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا، ومن منظور استراتيجي، يراقب العالم عن كثب كيف تواجه الحكومات الأوروبية الهزيمة، وهو ما أضعف بالفعل من مكانتها الدولية، حيث تتراجع هيبة أوروبا أمام اللاعبين الدوليين في الشؤون العالمية.

ومن المتوقع، خاصة بعد الحرب، أن تؤدي العلاقات الوثيقة بين واشنطن وموسكو إلى تقليص دور أوروبا إلى مجرد لاعب هامشي في السياسة الدولية، وفي ظل هذه الظروف، هل سيكون لصوت أوروبا -حتى في شؤونها الداخلية- أي وزن يُذكر؟.

وهذا يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي كنظام سياسي هشّ، يفتقر إلى الثقة والسلطة، ففكرة اتحاد يضم قرابة ثلاثين دولة قد اهتزت أساساً منذ خروج بريطانيا (بريكست).

 وأضف على ذلك صعود الأحزاب اليمينية الشعبوية في دول أعضاء مثل هولندا، والنمسا، وسلوفاكيا، والمجر، وهذه الأحزاب المتطرفة بدأت بالفعل في الحديث عن الخروج من الاتحاد الأوروبي.

الاتفاق الأمريكي–الروسي

 يتضمّن أي اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة وروسيا، تعهّدات روسية بعدم منافسة النفط الأمريكي في الأسواق الأوروبية، ما سيجعل السوق الأوروبي تحت رحمة إمدادات الغاز والنفط الأمريكية، حيث بدأت أوروبا باستيراد الغاز الأمريكي فور اندلاع الحرب، لكن تكلفة الاستيراد لا تُقارن بأسعار الطاقة الروسية.

كانت أوروبا الغربية تتلقى الغاز الروسي في حالته الطبيعية عبر موانئ روسية قريبة، من خلال أنبوبي “نورد ستريم 1” و”نورد ستريم 2″، لكن هذه البنية التحتية دُمّرت بالكامل، بعدما فجّرها عملاء الاستخبارات الأوكرانية.

ومع ذلك، تكمن مشكلة الغاز الأمريكي في جوانب عدّة وتكاليف مرتفعة، حيث سيضطر الأوروبيون لاستيراد الغاز المسال عبر ناقلات بحرية، ثم إعادة تحويله إلى حالته الغازية لاستخدامه في المصانع الأوروبية، هذا إلى جانب تكاليف النقل عبر المحيط الأطلسي، إذ يصل الغاز من موانئ أمريكية في تكساس ولويزيانا.

كما أن ارتفاع تكاليف الطاقة سيؤثر مباشرة على القدرة التنافسية للصناعات الألمانية، التي تعاني أصلاً في منافسة السلع الصينية الأرخص.

العدوان الروسي

على النقيض من ذلك، إذا خرجت روسيا منتصرة في أوكرانيا، فإن أوروبا ستواجه حالة من القلق المستمر عسكرياً، إضافة إلى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية القائمة وهيمنة الولايات المتحدة المتزايدة.

والانتصار في أوكرانيا سيزيد من شهية الكرملين لاستفزاز دول البلطيق وبولندا، وقد يسعى لمحاسبتهما على دعمهم العسكري لأوكرانيا لمدة ثلاث سنوات وفرض العقوبات الاقتصادية الأوروبية عليها.

 وفي خضم هذه الأحداث، يجب أن نتذكر أن الرئيس الأمريكي ترامب لا يمد أوروبا بضمانات عسكرية مجاناً، وفي تصريحاته، قال: “لا شيء يحمي الأوروبيين من روسيا”، وغالباً ما يشتكي من أن الأوروبيين لا يدفعون مقابل الحماية العسكرية الأمريكية.

الجيش الأوروبي

في هذا السياق، تبدو الحلول الأوروبية مألوفة وتدور حول أفكار متكررة، والفكرة المفضّلة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هي إنشاء جيش أوروبي موحّد، وهي فكرة يعود إليها بين الحين والآخر، لكنها لا تلقى تجاوباً من أقرب حلفاء ماكرون، سواء من قادة ألمانيا أو بقية القارة.
أما بريطانيا، فهي أقل اهتماماً بمثل هذا الطرح نظراً لعلاقتها العسكرية الأساسية مع الولايات المتحدة.

 وبعيداً عن فكرة الجيش الأوروبي، تُطرح في القارة مقترحات بزيادة عدد القوات المسلحة، إما عبر فتح باب الالتحاق أو من خلال التجنيد الإجباري، وفي الحالتين، فإن فكرة توسيع أبواب المؤسسات العسكرية أمام الشباب الأوروبي ليست أقل غرابة من فكرة إنشاء جيش أوروبي موحّد.

الشباب الأوروبي المعاصر

بعد سبعة عقود من السلام في أوروبا، تغيّر الشباب الأوروبي كثيراً عمّا كانت عليه أجيال أجدادهم.
اليوم، يشكّلون شريحة متنوعة للغاية، وغالبيتهم من المهاجرين الجدد أو من الجيلين الثالث والرابع من أبناء المهاجرين القدماء، وأصبحت ثقافة السلام جزءاً أساسياً من الثقافة الأوروبية.

واليوم من الصعب على الشباب المعاصر التخلي عنها، فليس كل شاب أوروبي يحلم بقضاء شبابه في خنادق السوم كما حدث في الحرب العالمية الأولى، أو بخوض حروب مدمّرة مثل الحرب العالمية الثانية.

فرصةٌ للمهاجرينَ الجدد

ربّما تلقى الدعوات للتطوّعِ صدىً إيجابياً لدى الشّباب المهاجرين الجدد، فقد يرون في ذلك فرصةً للتقدُّم الاجتماعيّ، والوضع سيكون شبيهاً بما حصل عندما التحق الأمريكيّون من أصلٍ إفريقي بالجيش الأمريكي بأعداد كبيرة خلال الحرب العالميّة الأولى.

 ولكن بالعودة بالتّاريخ قليلاً، يتبين أنَّ أوائل المهاجرين إلى أوروبا كانوا من الذين خدموا في الجيش الفرنسي أو البريطاني في الحربين العالميّتين، أو في جيوش المستعمرات، وبعد نهاية الاستعمار، عاد الأوروبيّون بجيوشهم، ومعهم الجنود المهاجرون إلى أوروبا.

في أسوء الاحتمالات، فإنّ الانضمام إلى الجيش سيكون وظيفة متاحة براتب جيد للشّباب المهاجرين الجدد، لكن الإستراتيجيين الأوروبيّين يفشلون في رؤية أنّ الجيش الأوروبي النّاتج سيكون مكوناً بشكل أساسي من جنود وضباطٍ مهاجرين من الجزائر، والمغرب، والسنغال، وتركيا، والهند، والبوسنة.

على النقيض من ذلك، ترى الأحزاب اليمينيّة المتطرفة الصاعدة في أوروبا أن تركيبة الجيش الأوروبي تُشكّل تهديداً أكثر إلحاحاً من روسيا، فما معنى كل هذا؟.

هل الأفق مسدود تماماً أمام الأوروبيّين لإيجاد حلول اجتماعيّة، واقتصاديّة، وعسكرية؟، وهل ستكتشف أوروبا طريقاً للخروج من مستقبل غير محمودٍ، قد يكون صعباً كما يرى البعض؟.

 هذه الأسئلة تخص أوروبا، القارة التي أبدعت أكثر الأفكار الثورية والتقدّمية في العالم خلال القرون الأربعة الأخيرة، وأوروبا العنيدة، التي خاضت حربين مدمّرتين في القرن العشرين، وهزمت الفاشية والنازية، وسلكت طريقاً طويلاً نحو الحقوق الاجتماعية والإنسانية، لن تستسلم بسهولة.

العلمانيون المتطرفون يتجنبون انتقاد الأديان الأخرى، خصوصاً الإسلام، بينما يعارضون بشدة أي حضور للمسيحية في الحياة العامة، ما يخلق مفارقة في جدل اليمين والليبراليين

العلاقات الأوروبية-الأمريكية

زيارة واحدة فقط لنائب الرئيس الأمريكي جي. دي. فانس، وعدد قليل من التصريحات الصادرة عن الملياردير الشهير إيلون ماسك ضد أوروبا، كانت كفيلة بتأجيج التوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا إلى مستوى لم يُسجل منذ الحرب العالمية الثانية، وخلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن، أطلق نائب الرئيس الأمريكي انتقادات لاذعة ضد أوروبا.

وقال: “إن ما يقلقه ليس روسيا أو الصين أو أي جهة خارجية أخرى، بل تراجع أوروبا عن قيمها الأساسية، خاصة حرية التعبير”، مؤكداً أن حرية التعبير في أوروبا تشهد تراجعاً كبيراً.

كما انتقد سياسات الهجرة الأوروبية، قائلاً: “إن إرادة الناخبين الأوروبيين في هذا الملف يتم تجاهلها بشكل صارخ”.

ماسك يدعم اليمين المتطرف

 ماسك كان أكثر وضوحاً بشأن ما تريده الولايات المتحدة من أوروبا، حيث قال: “إن الحزب الشعبوي “البديل من أجل ألمانيا” هو الوحيد الذي يمكنه إنقاذ ألمانيا”، والإدارة الجديدة في واشنطن ترفض عملية استبعاد الأحزاب اليمينية المتطرفة من الائتلافات الحكومية في أوروبا، وتنتقد الأحزاب اليسارية والوسط-اليمينية لإقصائها الأحزاب اليمينية عن حكومات الائتلاف.

وعلى النقيض من ذلك، تريد إدارة ترامب-فانس أن ترى مشاركة حزب فوكس الإسباني، وحزب المصلحة الفلمنكية، وحزب الشعب الدنماركي وأمثالهم في الحكومات الأوروبية، مشاركات مشابهة، لتلك التي قادها حزب الحرية بقيادة غيرت فيلدرز في هولندا، أو حزب الديمقراطيين السويديين في السويد.

لكن الجوهر هو اعتبار اليمين جزءاً لا يتجزأ من الحياة السياسية الأوروبية، وليس على الهامش كما كان الحال في العقد الماضي.

رؤية الولايات المتحدة للتحالف

إدارة الرئيس ترامب، بما في ذلك نائب الرئيس فانس، وماسك، وآخرين في حركة “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، لديهم رؤية محددة للتحالف عبر الأطلسي، والقيم المشتركة التي تجمع جانبي الأطلسي يمكن تلخيصها في دول ذات أغلبية عرقية بيضاء؛ واعتناق القيم المسيحية البروتستانتية أو الكاثوليكية؛ واتخاذ مواقف سياسية مناهضة للهجرة، ومناهضة لليسار، ومناهضة للنوع الاجتماعي؛ واعتناق قيم الأسرة.

هذه القيم نفسها يتم التعبير عنها بصوت عالٍ من قبل حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا، والاتحاد المدني المجري في الوقت الحالي، حيث تعرض هذه الرؤية الأمريكية أوروبا بشكل مقلوب.

 وبعد سقوط جدار برلين، حلمت أوروبا الشرقية بأن تسير على خطى أوروبا الغربية، ومع ذلك، يتعين على أوروبا الغربية الآن أن تتبنى نهج الحكام الاستبداديين في المجر وسلوفاكيا وبولندا، ومع الرئيس ترامب، لم يعد الأمر مجرد قضية أيديولوجية، بل انتقل إلى مستوى آخر.

حرب ترامب التجارية

في اليوم التالي، فرض ترامب تعريفات جمركية مرتفعة على المنتجات الأوروبية ثم جمد تلك التعريفات حتى يجلس الأوروبيون إلى طاولة المفاوضات.

ومع ذلك، أوروبا، كما يراها ترامب، أسوأ بكثير، فهي مجرد طفيلي يستنزف أمريكا مالياً من خلال التجارة غير العادلة، حيث إن الميزان التجاري منحاز للغاية لصالح أوروبا.

 وقال ترامب: “إن أوروبا لا تشتري السيارات الأمريكية أو المنتجات الزراعية، وإن أمريكا بالنسبة للأوروبيين ليست سوى سوق ضخم للاستغلال، وهذا يجب أن ينتهي”، كان يشكو باستمرار من أن الأوروبيين لا يدفعون مقابل الحماية العسكرية الأمريكية.

لجعل الأمور أسوأ، قام بتوضيح كوابيس أوروبا، إذ اعترف أنها في خطر وتفتقر إلى الحواجز الطبيعية الدفاعية مع روسيا، على عكس الولايات المتحدة التي تحيط بها المحيطات الهادئة والأطلسية لحمايتها من الأعداء.

 وقال ترامب: “نحن لسنا في خطر لأن هناك المحيطين الأطلسي والهادئ الجميلين لحمايتنا، بينما ليس لدى الأوروبيين أي شيء لحمايتهم من روسيا”.

وكان يشكو من أن الولايات المتحدة هي التي تدفع المبالغ الكبيرة لأوكرانيا، وطلب الرئيس الأمريكي من الأوروبيين زيادة مساهماتهم في نفقات حلف الناتو، ورفع ميزانياتهم الدفاعية، وشراء المزيد من الأسلحة الأمريكية.

الرد الجماعي الأوروبي

على النقيض من ذلك، تحاول أوروبا إيجاد طريقة للرد على الوضع، إذ يبدو أن الحل الأوروبي الشامل مستحيل في الظروف الحالية لأنه يتطلب التوافق، وفي أي حال، من المؤكد أن أي حل سيواجه معارضة من الدول الأعضاء مثل دول أوروبا الشرقية.

 كما أن الرد الموحد للجماعة الأوروبية يعرقله التنافس الفرنسي-الألماني داخلها، وهذا يدفع كل دولة أوروبية للبحث عن حلول شخصية من خلال الدبلوماسية الخلفية.

حول غرينلاند

كان الرد الجماعي الأوروبي ضعيفاً وغير مقنع حتى في أكثر مطالب ترامب إثارة للجدل، مثل ضم جزيرة غرينلاند الدنماركية، بعد ذلك، اضطرت رئيسة وزراء الدنمارك إلى إجراء جولة أوروبية للحصول على التضامن، وأفضل ما سمعته كان دعوات للتهدئة والحوار مع الولايات المتحدة.

الاتحاد الأوروبي وأمريكا

هناك مدرسة سياسية في أوروبا تتعلق بالولايات المتحدة تدعو إلى التروي والاعتدال تجاه أمريكا، بغض النظر عن مستوى الإساءة التي قد تأتي منها، إذ يجب على الأوروبيين أن ينحنوا ويتركوا العاصفة تمر، والهدوء والتسويف مطلوبان لمدة أربع سنوات، أو ثماني سنوات كحد أقصى، في أسوأ السيناريوهات، بعد ذلك، ستتغير الإدارة الأمريكية، وستعود العلاقة بين ضفتي الأطلسي إلى مجدها السابق.

حالة الحرب على العراق

يبدو أن الدعوة لهذه المدرسة السياسية كانت مجدية، وبالعودة بالذاكرة إلى الوقت الذي أعلنت فيه إدارة جورج بوش الابن الحرب على العراق، لم تقدم أي دليل على أن بغداد حصلت على أسلحة دمار شامل أو لعبت دوراً في الهجوم الذي وقع في 11 سبتمبر، ولم يتم حتى عرض إعلان الحرب على مجلس الأمن الدولي.

في مثل هذا السيناريو، تصادم وزيرا الخارجية الفرنسي والألماني، دومينيك دو فيلبين ويوشكا فيشر، مع وزير الخارجية الأمريكي كولن بأول، ما أدى إلى تعرض فيلبين وفيشر لانتقادات شديدة من قبل الأوروبيين، الذين اعتبروا أن الوزيرين قد دمروا العلاقة بين أوروبا وواشنطن.

بعد حرب العراق، خسر الجمهوريون الانتخابات في عام 2008، وتولى الرئيس الديمقراطي باراك أوباما المسؤولية، ومع ذلك، استعادت العلاقة الممتازة بين أوروبا والولايات المتحدة على الفور، وعاش الجميع بسعادة حتى وصول ترامب إلى البيت الأبيض في 2017.

لذلك، فإن رد الفعل الأوروبي الحذر تجاه سلوك واشنطن هو التهدئة والانتظار حتى تمر العاصفة.

  ترامب ولعبته

اللعبة تبدو مختلفة هذه المرة، ففي ولايته الأولى، تحدث ترامب عن ثورة ولكنه لم يفعل شيئاً، والآن، هو في الواقع يبدأها ويفكر حتى في ولاية ثالثة، ونائبه، فانس، لا يزال شاباً وأكثر تطرفاً من ترامب نفسه.

إذا نجحت الإدارة الأمريكية في تثبيت واستمرار سياسات ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية ووفرة الأموال الناتجة عنها، أو عودة التصنيع إلى أمريكا، أو الاستثمارات الكبيرة التي تصل إلى تريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي، فقد يمتد الانتظار بالنسبة للأوروبيين لفترة أطول مما كان متوقعاً، ما يترك أوروبا في حالة فوضى في محاولة للحصول على جزء من الكعكة.

قد تتحول باقي الحلول الأوروبية إلى مجرد رغبات طويلة الأمد، وأفكار تتناثر داخل الاتحاد الأوروبي بشأن تشكيل تحالف وثيق مع كندا أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، من أجل إخراج الولايات المتحدة من التعاون الأوروبي، إذا استمرت مثالية ترامب الأمريكية بعده، فإن أوروبا ستظل تحاول إيجاد أسواق عالمية بديلة للسوق الأمريكية.

التعاون مع روسيا محظور

ومع ذلك، كل هذا لا يشكل خطة واضحة أو مساراً قد يؤدي إلى شيء محدد، والشيء الغريب هو أن المسؤولين الأوروبيين لم يجرؤوا على التحدث عن المحظور باستكشاف التعاون مع روسيا.

 ووفقاً للعديد من الخبراء، يمكن لموسكو الغنية بالنفط والغاز أن تقدم حلاً لمشكلة الطاقة الأوروبية، إذ يمكن أن تتفاوض أوروبا أيضاً على تنسيق أمني مع موسكو ضمن الأطر الأوروبية، وقد يكون هذا هو البديل الأفضل للتسليح وزيادة ميزانيات الدفاع على حساب المخصصات الاجتماعية والصحية والبيئية.

في الواقع، خلال فترة الرئيس الروسي بوريس يلتسين، توصلت أوروبا إلى تفاهم مع روسيا بشأن القضايا الأمنية، حينها، كانت روسيا تُعتبر في دور المراقب في بعض الهياكل العسكرية التابعة للناتو وأوروبا.

ولكن لماذا دُمرت تلك العلاقة؟، يقول الأوروبيون: “إن روسيا في عهد يلتسين كانت مشغولة بشؤونها الداخلية، أما اليوم، فإن روسيا بوتين عدوانية وترغب في التوسع”.

وهل كل هذا صحيح حقاً؟ بعض الباحثين، مثل الفرنسي إيمانويل تواد، يرفضون كل هذه النظريات، ويجدون صعوبة في تصديق أن دولة تمتد على 17 مليون كيلومتر مربع مع عدد سكان صغير ومعدل ولادة منخفض ترغب في التوسع.

يقول الباحث الفرنسي: “إن روسيا، التي يبلغ عدد سكانها 150 مليوناً، تنتج أكثر من القمح مقارنة بالولايات المتحدة التي يزيد عدد سكانها عن 350 مليوناً، لذا، فإن هدفها ليس العدوان”.

  أوروبا وروسيا

يعتقد إيمانويل تواد أن أوروبا هي من دمرت علاقاتها مع روسيا، مشيراً إلى اعترافات الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بعد مغادرتهما المنصب، حيث يقول: “إن الأوروبيين وافقوا على اتفاقية مينسك بشأن أوكرانيا فقط لكسب الوقت وتسليح أوكرانيا، وبالتالي، كانت النوايا جاهزة من البداية”.

وعلى النقيض من ذلك، تطرح الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا المطالبة بفهم العلاقة مع موسكو سؤالاً: ماذا نريد من الحرية في أوكرانيا وجورجيا وبيلاروسيا؟.

 هم يرون أن هذه البلدان هي ساحة خلفية لموسكو، ويفضلون تركها تتصرف وفقاً لمصالحها هناك، ولكن بعد العداء المرير خلال الحرب التي استمرت ثلاث سنوات في أوكرانيا، هل من الممكن حقاً استعادة التفاهم مع موسكو؟ يرى كثيرون أن ذلك أمر بالغ الصعوبة.

إن العداء الذي أظهرته أوروبا تجاه روسيا خلال الحرب مدمّر – ليس فقط سياسياً، بل يشمل التجارة والطاقة والثقافة الروسية- كما منعت الجامعات الأوروبية، بلا مبالاة، تدريس أدب تولستوي ودوستويفسكي، وفي ذروة العبث، قامت إحدى الاجتماعات الأوروبية بإزالة المأكولات الروسية من القائمة.

هل يعني كل هذا أن لا مخرج أمام الأوروبيين سوى الخضوع للإرادة الأمريكية؟، وهل هذا يعني أن الأوروبيين سيستسلمون لكل المطالب الأمريكية، سواء كانت تجارية أو عسكرية؟
الإجابة ليست سهلة.

ما هو واضح أن القادة الأوروبيين الحاليين لا يشبهون ونستون تشرشل وخطابه الشهير الذي قال في: “سنقاتل على الشواطئ، وسنقاتل على أراضي الهبوط، وسنقاتل في الحقول وفي الشوارع، وسنقاتل على التلال؛ ولن نستسلم أبداً.”

معظم القادة الحاليين لا يتمتعون بحماس خطابي ملهم، وبعضهم مجرد تكنوقراط بلا ملامح واضحة، ومع ذلك، لا تزال المعركة في بدايتها.

هل تواجه أوروبا تهديداً وجودياً؟

الإجابة: نعم، أوروبا تواجه تهديداً وجودياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، دون الانزلاق نحو المبالغة، إذ أن التهديد الحالي يتجاوز في طبيعته حتى التهديد الذي مثّله النازيون في حينه.

التوسع الألماني في أوروبا الغربية في بداية الحرب العالمية الثانية لم يكن حدثاً استثنائياً أو غير مسبوق في التاريخ الأوروبي.

شهدت القارة العديد من حملات التوسع الإمبراطوري، مثل حملات نابليون ونابليون الثالث، وهيمنة الإمبراطورية النمساوية المجرية، والحروب السويدية، وطموحات بسمارك، وجميع هذه التوسعات انتهت بحروب مدمّرة خلّفت موجات هائلة من الهجرة عبر الأطلسي، وانتشار المجاعات والفقر والأوبئة.

مع ذلك فإن التهديد الحالي، مقارنة بجميع الحالات السابقة، هو تهديد مزدوج: داخلي وخارجي في آنٍ معاً، فالاقتصاد الأوروبي يعاني، وهناك ضغوط تجارية متزايدة من الولايات المتحدة، ويهدد غزو صناعي صيني بمزيد من الانكماش في القدرة التنافسية الأوروبية، إلى جانب خطر توغل عسكري روسي، وهذا التهديد المركب يجعل أوروبا تقف على مفترق طرق مصيري يتطلب رداً موحداً واستراتيجيات شاملة لمواجهته.

الصراعات

جميع أطراف وحدود الاتحاد الأوروبي، بل وحتى ساحاته الخلفية، أصبحت غارقة في الصراعات.
في سورية، بات أحد فصائل تنظيم القاعدة يسيطر فعلياً على بلدٍ دمرته الحرب؛ أما مصر، فهي على وشك الإفلاس؛ والدول المغاربية تشهد اضطرابات متزايدة؛ وحرب غزة تحوّلت إلى جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية والسياسية في كل من فرنسا وألمانيا.

تتزايد النزعات الانفصالية في بعض المناطق، فيما تشهد وسائل التواصل الاجتماعي انفجاراً غير مسبوق في التفاعل والتحريض.

تشوّش التيارات السياسية

أوضاع الطبقة السياسية، باستثناء أحزاب اليمين الشعبوي، ليست جيدة على الإطلاق، فمنذ تبنّي نهج الطريق الثالث، تخلّت الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار عن برامجها الكلاسيكية.
في الواقع، بات من المستحيل التمييز بين حكم حزب العمال وحكم المحافظين في بريطانيا، أو بين حكم الغوليين والاشتراكيين في فرنسا، فقد تلاشت الفروقات التي كانت تفصل بينهم، وصعد اليمين المتطرف بعد أن توقفت السياسة عن تقديم حلول واقعية وفعّالة، فجاء خطاب اليمين المتطرف أشبه بالموسيقى في آذان الناخبين الذين خاب أملهم بالأحزاب التقليدية.

حلول اليمين المتطرف

هل تملك الأحزاب الشعبوية اليمينية الحل لكل هذه الأزمات، كما يأمل نائب الرئيس الأمريكي جي. دي. فانس وإيلون ماسك؟، وهل تطرح برامجها حلولاً حقيقية؟.

 ربما نعم، ولكن فقط إذا كانت واقعية، أي إذا استطاعت، بمعجزة ما، إيقاف الهجرة تماماً، وطرد جميع اللاجئين غير المنسجمين، وإبرام اتفاقيات في الشرق الأوسط لوقف تدفّق المهاجرين من إفريقيا، كما أن تحقيق ذلك يتوقف على هدوء التيارات السياسية الإسلامية، وتحسن أداء الحكومات العربية، وحل أزمة الطاقة لصالح تعزيز القدرة التنافسية، وأخيراً، وضع حد للبيروقراطيين المتسلطين في بروكسل.

وعلى النقيض من ذلك، كل هذا كلام من غير فعل، فالزعماء يدركون أن إلقاء الخطب النارية أمام جماهير غاضبة أسهل بكثير من تحويل هذه الأفكار إلى سياسات ناجحة على أرض الواقع.

فصل عابر في التاريخ

كل ذلك يحدث في وقتٍ يجلس فيه رئيس أمريكي متهور وغاضب من أوروبا في البيت الأبيض، بينما يتربّع في الكرملين زعيم متحمّس لا يتردّد في التلويح بالزر النووي.

 من جهة أخرى، تستمر سلاسل الإمداد العملاقة القادمة من الصين في فرض سطوتها، ويغرق جوار أوروبا في نزاعات دموية وأزمات اقتصادية متصاعدة.

كما تتهاوى الحكومات الأوروبية بسرعة، دون أن تتمكّن من إكمال ولاياتها، مثلما يحدث حالياً في ألمانيا وبريطانيا، وفي الأفق، يزداد احتمال اكتساح الأحزاب اليمينية الشعبوية للانتخابات المقبلة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وهو تهديد لم يعد مجرد فرضية، بل يوشك أن يصبح واقعاً فعلياً.

في ظل هذا المشهد، قد يكون هذا العقد بداية نهاية عصر السلام والازدهار والعدالة الذي عاشته أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد يُنظر إليه بوصفه نهاية مرحلة تاريخية مشرقة انتصرت فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان والاهتمام بالبيئة واقتصاد السوق على كل التحديات.

بالمحصلة، يبدو أن ما تعيشه أوروبا اليوم ليس نهاية التاريخ كما تصور البعض، بل مجرد فصل عابر من فصوله الطويلة.

EIR

EIR

منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.