من ترومان إلى ترامب: القيادة الأمريكية إلى أين؟

تقرير
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

أكاد أجزم أن الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، لو رأى صورة القادة الأوروبيين مجتمعين بقلق وحذر أمام ترامب في البيت الأبيض بعد قمته مع بوتين في ألاسكا، لأيقن أن المبدأ الذي أرساه، والنظام الدولي الذي شيّده قبل ثمانية عقود، قد تلاشى إلى غير رجعة.

صورة ترامب والأوربيين، التي انتشرت مثل النار في الهشيم تختصر الكثير، فمجيئهم دفعة واحدة إلى واشنطن لمرافقة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يشي بالكثير، فالقناعة السائدة حالياً أن واشنطن يقودها حالياً مزاج الرئيس ترامب، وطموحه بإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية، بأي ثمن حتى ولو بقبول صفقة مع بوتين، الذي يريد من المجتمع الدولي شرعنة ابتلاعه نحو 20% من الأراضي الأوكرانية.

من خطاب زعامة العالم إلى خطاب “الصفقة”، تختزل أمريكا ثمانية عقود من تاريخها الدولي، فما بين خطاب الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان أمام الكونغرس عندما قال في مارس 1947: “إذا تراخينا في قيادتنا، فقد نُعرّض سلام العالم للخطر، وسنُعرّض بالتأكيد رفاهية أمتنا نفسها للخطر”، وبين مارس 2025  عندما صرح الرئيس الحالي دونالد ترامب للصحفيين في المكتب البيضاوي: “إذا لم يدفعوا، فلن أدافع عنهم”، تبدو الفجوة عميقة جداً، إلى الدرجة التي قد توصف بها واشنطن أنها “ليست راضية عن إرثها”، الذي صنعته بنفسها لقيادة النظام الدولي الحديث.

من خطاب زعامة العالم إلى خطاب “الصفقة” تختزل أمريكا ثمانية عقود من تاريخها الدولي

السياسة الأمريكية التي عرفها العالم هي أقرب إلى التضاد مع سياسة واشنطن اليوم، فهناك تحول جذري عميق، فبينما صاغ ترومان نظاماً مؤسسياً يقوم على التحالفات والأمن الجماعي والتجارة الحرة والمؤسسات الدولية، يدفع ترامب نحو صفقات عابرة، وتعريفات جمركية وتحالفات مشروطة بالمال، في مشهد تعيد فيه واشنطن النظر في القواعد التي بنت بها هيمنتها العالمية، ولكن السؤال هو: هل ما نشهده حالياً مجرد تصحيح مؤقت لشروط القيادة، أم بداية انهيار للهيمنة الأمريكية التي بدأت مع ترومان قبل ثمانية عقود؟.

أمريكا الحاضر تتلخص سياستها بحجم الفائدة التي ستجنيها من أي تحرك تقوم به، فما يقودها ليس “مبدأ ترومان” إنما حركة “اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى”، حيث منح ترومان أمريكا شرعية القيادة العالمية عبر مؤسسات وقواعد دولية مثل: الأمم المتحدة، والناتو، والبنك الدولي، أما ترامب فيعمل جاهداً على تحويل التحالفات إلى صفقات مشروطة والانسحاب من اتفاقيات دولية، فهو يضعف صورة أمريكا كـ”قائد قائم على القواعد” ويقدّمها كـ”قوة تفاوضية قصيرة الأجل”.

ما تقوم به واشنطن في هذه المرحلة، لا يمكن قراءته بعيداً عن مرحلة المخاض الكبرى التي يمر بها النظام الدولي برمته، فزعامة أمريكا انتقلت من هيمنة توافقية مؤسساتية بناها الرؤساء الأمريكيون منذ روزفلت، إلى قوة تتعامل بشكل قسري قائم على التجارة مع حلفاء تقليديين، وهذا ما يمنح واشنطن نفوذاً تكتيكياً سريعاً، لكنه يقضم ببطء الأساس الذي جعلها زعيمة النظام الدولي طوال العقود الماضية.

ما تقوم به واشنطن في هذه المرحلة لا يمكن قراءته بعيداً عن مرحلة المخاض الكبرى التي يمر بها النظام الدولي برمته

البعض يرى بما يحدث مجرد أربعة سنوات وستمضي، إلا أن هذا يخالف منطق الأمور، فالعالم لن ينتظر ليرى هل سيعود الرئيس المقبل إلى قوة المؤسسات والأمن الجماعي، أم سيكرس سياسة الصفقات والتفاوض بالإكراه، فالثقة العالمية بالزعامة الأمريكية تعرضت لهزة قوية، والحلفاء الذي لطالما رأوا في أمريكا الحليف الموثوق بدأوا جدياً بالتفكير بخيارات أخرى، تجنبهم تقلبات السياسة الأمريكية، وهذا ما عبر عنه الرئيس الفرنسي في خطاب متلفز للفرنسيين بقوله: “أريد أن أصدق أن الولايات المتحدة ستبقى إلى جانبنا، ولكن علينا أن نكون مستعدين لعدم حدوث ذلك”.

حديث الرئيس الفرنسي جزء من خطاب عام بات يستحوذ على القادة الأوروبيين، نتيجة فقدان الثقة بالحليف الذي أطلق مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، فالجميع اليوم قلق من السياسة الأمريكية، ولديه شكوك حول قيام ترامب بعقد صفقة ما مع روسيا على حساب أمن أوروبا، وهذا ما يفسر حالة الوجوم التي اتسم بها اللقاء الذي جمع القادة الأوروبيين بترامب بعد قمته مع الرئيس الروسي.

ترامب خلال لقائه زيلنيسكي والقادة الأوروبية مؤخراً (البيت الأبيض)

ما تفعله أمريكا ليس مجرد سياسة خارجية تتعلق بمصالحها الحيوية، بل تخلٍ عن دور الضامن للنظام الدولي، والتاريخ يقول إن الفراغ محفز للأخرين لملئه، ومع تشكيك الحلفاء في موثوقية واشنطن، يجد الخصوم فرصة للتمدد، فالصين وروسيا وتكتل “بريكس” يتحركون لإعادة تشكيل النظام المالي والجيوسياسي، في اختبار حقيقي لقدرة النفوذ الأمريكي على الصمود أمام تآكل الثقة داخلياً وخارجياً، خاصة إذا ما استمرت أمريكا في هذا النهج التدميري لعقود من هيمنتها الدولية.

أسلوب ترامب في السياسة الخارجية شخصي للغاية، غالباً ما يختزل التحالفات المعقدة إلى مفاوضات تجارية، حيث تتقدم المكاسب السريعة على حساب الالتزامات طويلة الأجل، فهو يقود السياسة بعقلية شخصية أشبه بجلسة تعارف، حيث تُقال كل الأشياء ما عدا الحقيقة.

وقد أدرك الصينيون، مثلما فعل بوتين، كيف يستغلون شخصيته، وهذا ما يفسره حديث ترامب للصحفيين بأن الرئيس الصيني شي جين بينغ، أبلغه أن الصين لن تغزو تايوان أثناء وجوده في منصبه، كما قال ترامب للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال محادثة أثناء لقاء القادة الأوربيين في البيت الأبيض: “أعتقد أنه يريد (بوتين) عقد صفقة من أجلي.. هل تفهم؟ قد يبدو الأمر جنونياً”.

أوروبا قد تكون الأكثر صراحة في التعبير عن قلقها، لكن الشعور لا يقتصر عليها، فمن من آسيا إلى أفريقيا والشرق الأوسط، يتشارك الحلفاء والخصوم هاجساً واحداً هو: أن السياسة الأمريكية باتت متقلبة وقائمة على الصفقات، وتبتعد أكثر فأكثر عن القواعد التي منحتها شرعية القيادة لعقود.

من آسيا إلى أفريقيا والشرق الأوسط يتشارك الحلفاء والخصوم هاجساً واحداً هو: أن السياسة الأمريكية باتت متقلبة

كل ذلك يقود إلى احتمالين رئيسيين، الأول: إما أن يتعامل العالم بنوع من ضبط النفس مع السياسة الأمريكية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، على أمل أن يأتي رئيس جديد يعيدها إلى سكتها التاريخية المعروفة، فتعود هيبة المؤسسات التقليدية التي توجه هذه السياسة، وقد يكون هذا الخيار هو الأقرب للتحقق على المدى القصير.

أما الاحتمال الثاني: هو استغلال الصين وروسيا وتكتلات دولية مثل “بريكس”، لحالة التململ العالمي، وزعزعة الثقة بالهيمنة الأمريكية السياسية والاقتصادية، لوضع أسس جديدة للنظام الدولي قائمة على تعددية الأقطاب، بحيث تصبح أمريكا لاعباً عادياً ضمن مجموعة من اللاعبين، ويخرج العالم من أحادية القطب إلى فضاء أوسع، وهذا الخيار على المدى المتوسط والبعيد هو المرجح للتحقق، لكون أمريكا فعلياً هي من هدمت أول مداميك قوتها وهيمنتها على العالم.

بالمحصلة، فإن العقود الثمانية التي تفصل بين ترومان وترامب، عميقة جداً إلى الدرجة التي تحولت فيها القيادة من المسؤولية إلى الصفقة، وكأن أمريكا تخلت طوعاً عن دورها، فبدلاً من هندسة النظام الدولي الذي بنته، تقوم حالياً بهدمه من أجل الحصول على مكاسب تكتيكية آنية، بحجة “اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى”، ولكن الواقع يقول إن واشنطن تتحول رويداً رويداً، من صانعة القواعد إلى مجرد متفرج على المداميك الجديدة التي قد تُبنى مستقبلاً.

ويبقى السؤال: ماذا تريد واشنطن؟، وهل نحن أمام استراحة عابرة أم نهاية الإمبراطورية؟.

عمر القاسم

عمر القاسم

المؤسس ورئيس تحرير منصة إيغل إنتيلجنس ريبورتس، المتخصصة في التحليل السياسي والاستراتيجي المعمّق. يمتلك خبرة طويلة في العمل الإعلامي، ويقدّم قراءات تحليلية تغطي قضايا الجغرافيا السياسية، الصراعات الدولية، والتحولات في موازين القوى العالمية.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.