ما بعد غزة: التداعيات ومفترق الطرق الإقليمي

تقرير
فلسطينيون من مدينة خان يونس يتفقدون مباني مدمرة نتيجة القصف الاسرائيلي
فلسطينيون من مدينة خان يونس يتفقدون مباني مدمرة نتيجة القصف الاسرائيلي
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

بعد مرور واحدٍ وعشرين شهراً على اندلاع الحرب التي اجتاحت غزة، شهد الشرق الأوسط تحوّلاً جذرياً، إذ تغيّر المشهد السياسي بشكل واضح، في وقت يروّج فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرؤيته المثيرة للجدل بتحويل القطاع إلى مشروع عقاري رائد، بينما تسارع الدول العربية إلى البحث عن بدائل أكثر واقعية وقابلية للتنفيذ.

اليوم، أطاحت الحرب بمصداقية فرضيات راسخة، وأعادت صياغة الأسئلة الجوهرية التي تواجه إسرائيل والفلسطينيين، أما اللاعبون الإقليميون، فيعيدون تموضعهم وكأن المنطقة تقف على أعتاب حقبة جديدة، تُفتَح فيها صفحة بيضاء لبداية مغايرة.

والسؤال الأهم الآن: ما الخطوة التالية؟، الجواب قد يكون مدفوناً تحت الركام وفي قلب الخراب، حيث تلوح في الأفق مؤشرات على بداية شرق أوسط لم يعرفه العالم من قبل، والقوى المتصارعة تنبش بين الأنقاض باحثة عن هدف تصبو إليه.

 وفيما لا تزال ملامح المستقبل غامضة، تبرز حقيقة لا شك فيها: “التغيير قادم لا محالة”.

يقول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: “إن إسرائيل وافقت على شروط هدنة مدتها 60 يوماً في غزة”، وإن بدا هذا مألوفاً، فذلك لأن العديد من الهدن سبق أن أُعلنت ثم انهارت.

في الوقت ذاته، تتزايد الآمال بأن إسرائيل وحماس قد تقتربان من اتفاق لوقف إطلاق النار في الحرب المستمرة منذ 21 شهراً، بينما يواصل الرئيس الأمريكي الضغط لتحقيق تقدم.

ومع ذلك، فإن حقيقة أن هذه ليست أول هدنة بين الطرفين، وربما لن تكون الأخيرة، تُثير تساؤلات مؤلمة، فعندما يكون التاريخ مثقلاً بالخلاف، والهدن مؤقتة بطبيعتها، هل يمكن للأمل أن يكون مبرَّراً؟.

الهدنة

طُرحت فكرة هدنة قصيرة منذ انهيار وقف إطلاق النار الأخير في مارس، والذي لم يصمد طويلاً، وعادت المبادرة إلى الواجهة في مايو، إلا أن حركة حماس اعتبرتها محاولة إسرائيلية للتمويه وذريعة لتصعيد الهجمات، تحت ستار “هدنة” بدلاً من السعي إلى تسوية سلمية دائمة.

ومع تفاقم الكارثة الإنسانية والدمار اليومي في غزة، يبقى السؤال: هل سيكون هذا المسار مختلفاً هذه المرة؟، إذ خلفت 21 شهراً من الحرب دماراً واسعاً وغير مسبوق في القطاع.

من الناحية المثلى، يتطلب أي اتفاق لوقف إطلاق النار شروطاً واضحة ومفصلة، تضمن فهم كل طرف لالتزاماته وجدول تنفيذها، كما تسمح هذه الشروط للمجتمع الدولي والأطراف الثالثة برصد الانتهاكات ومحاسبة من يتجاوز الاتفاق.

ما يحدث في غزة يظهر وسط ركام يشير إلى بداية شرق أوسط لم يشهده العالم من قبل فالقوى الفاعلة تعبث بين الأنقاض ورغم أن ملامح المستقبل لا تزال غامضة، تبقى حقيقة واحدة: التغيير حتمي

لكن في نهاية المطاف، ستبقى الهدنة -إن تحققت- مكسباً مؤقتاً، وحتى في هذا الإطار المحدود، من شأنها أن تخفف من وتيرة العنف ولو جزئياً، وتتيح وصول مزيد من المساعدات إلى غزة، إلى جانب فتح باب محتمل لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين.

يُعد الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني من أطول النزاعات وأكثرها دموية في العالم، حيث تعود جذوره إلى أكثر من قرن، ولا تزال تداعيات هذا الخلاف التاريخي حول قضايا مثل الأرض والحدود والحقوق تُلقي بظلالها حتى اليوم، من الحرب المستمرة بين إسرائيل وحماس في غزة، إلى التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران.

وغزة ليست استثناءً، ففي صراع تجاوز السبعين عاماً، باتت لغة التفاهم والتسوية أشبه بلعبة مطاردة لا تنتهي، فبما تملكه إسرائيل من تفوق سياسي وعسكري هائل، تؤدي دور الصياد أو “القط”، في حين تبدو حماس كـ”الفأر” الذي يحاول المراوغة والهرب من المصير المحتوم، لكن، كما في اللعبة، يسقط الفأر في نهاية المطاف بين مخالب القط.

وفي ذلك، تجد حماس نفسها مضطرة للقبول بشروط وقف إطلاق النار إن أرادت وضع حد للعنف الذي يتعرض له الفلسطينيون اليوم، فلا ينقص هذا الصراع أسباباً لإنهائه، فالدوافع الإنسانية والسياسية والاقتصادية حاضرة بقوة، إنما السؤال الحقيقي هو: هل لدى إسرائيل وحماس الإرادة لفعل ذلك؟.

ماذا تبقّى من غزة؟

خلال العام الماضي، شنّت إسرائيل هجمات متكررة على مدن جنين ونابلس وطولكرم في شمال الضفة الغربية، وكذلك على مخيمات الخليل في جنوبها.

الوحيدون الذين لم تطلهم هذه الهجمات كانوا المستوطنين اليهود ومؤيديهم، وفي الوقت نفسه، قامت القوات الإسرائيلية بتجريف المخيمات المحاذية للمدن الفلسطينية.

الهجمات اليومية المتفرقة التي كانت تقع قبل السابع من أكتوبر تحوّلت إلى عمليات عسكرية منسقة ومنظمة.

كما دمّرت القوات الإسرائيلية البنية التحتية في معظم مخيمات نابلس وجنين وطولكرم، وتسببت في تهجير أكثر من ستين ألف فلسطيني من هذه المخيمات إلى مدن الضفة الغربية.

واليوم بعد 21 شهراً من الحرب، ورغم تحقيقها بعض المكاسب ضد حماس، لا تزال إسرائيل بعيدة كل البعد عن القضاء على الجناح العسكري للحركة.

 وبدلاً من تحقيق نصر حاسم، تجد نفسها اليوم أمام خيارات قاسية، بعدما ردّت برد غير متناسب أدى إلى تحويل معظم غزة إلى ركام، ودفع الملايين من سكانها إلى حافة المجاعة.

في الوقت الراهن، تصعّد إسرائيل عملياتها العسكرية يومياً في رفح، مع تغيير تكتيكي محدود يتمثل في محاولة تقليل أعداد الضحايا المدنيين، ومع ذلك، تبدو إسرائيل، في نظر كثيرين، العقبة الأبرز أمام سلام دائم.

الحصار الإسرائيلي

فرضت إسرائيل حصاراً مشدداً جديداً على القطاع البالغة مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، ما عمّق أزمة الجوع المتفاقمة، وهدد -كما حذّرت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان- قدرة الفلسطينيين على البقاء في غزة أصلاً.

ومع ذلك، وفي إطار التصعيد، قررت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، وشنّت هجوماً برياً واسع النطاق يهدف إلى السيطرة على أراضٍ داخل القطاع والتحكم المباشر في إيصال المساعدات الإنسانية.

وقد دُمّر معظم شمال غزة بالكامل، وهُجّر أكثر من مليون فلسطيني من سكانه منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023.

واليوم، يعلن نتنياهو أن الهجوم الجديد سيشمل ترحيلاً جديداً لسكان المخيمات والملاجئ المؤقتة، في خطوة يرى فيها كثيرون امتداداً لسياسة العقاب الجماعي.

تدّعي الحكومة الإسرائيلية أن “الضغط العسكري” هو السبيل الوحيد لإجبار حماس على إطلاق سراح من تبقّى من الرهائن، غير أن نتنياهو، تحت شعار القضاء على الحركة، يشنّ حرباً لا هوادة فيها على مجمل سكان قطاع غزة، بينما يقف العالم متفرجاً، بصمت يكاد يكون تواطؤاً.

جحيم غزة

وعلى النقيض من ذلك، فإن غزة، كما وصفتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أصبحت بالفعل “جحيماً على الأرض”. فخلال 21 شهراً من الحرب، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 57,000 فلسطيني داخل القطاع، معظمهم من النساء والأطفال.

 كما تعرّض نحو 1.9 مليون من سكان غزة للنزوح القسري مرّات عديدة، في حين أُصيب عشرات الآلاف بجروح في منطقة تفتقر إلى أبسط مقومات الرعاية الصحية.

وعلى الجانب الفلسطيني، لا تخلو الساحة من تيارات متشددة وفصائل مسلحة معارضة مستعدة لإفساد أي مسار نحو التهدئة، إلى جانب ذلك، هناك من لا يسعى إلا للثأر، مدفوعاً بما لحق به وبعائلته من مآس، وإذا اندلعت أعمال عنف من هذا النوع، فمن المرجح أن يكون الرد الإسرائيلي قاسياً وغير بنّاء.

بل وحتى في حال غياب مثل هذه الهجمات، قد تزعم إسرائيل امتلاكها أدلة على أن حماس تعيد تنظيم صفوفها بطرق تنتهك شروط وقف إطلاق النار، ما يمنحها مبرراً لاستئناف القصف مجدداً.

خطة أرييل شارون

في استعادة لخطة الأصابع الخمسة التي اقترحها أرييل شارون في سبعينيات القرن الماضي، تقوم القوات الإسرائيلية بتقسيم القطاع إلى خمس مناطق. كما تحتفظ بمنطقة عازلة على طول الحدود مع القطاع بعرض كيلومتر واحد، ما يعزل أكثر من 18 % من مساحة القطاع.

بالإضافة إلى ذلك، فإن المناطق المحظورة حول ممرات فيلادلفي، ونتساريم، وموراغ، تجعل من المساحات الصالحة للسكن في غزة أكثر ضيقاً.

تقسيمات الضفة الغربية

قسّمت اتفاقيات أوسلو الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: المنطقة (أ) وتشمل مدن الضفة الغربية الرئيسية ومخيماتها، ووفقاً للاتفاق، فإن المسؤولية المدنية والعسكرية في هذه المنطقة تقع على عاتق السلطة الفلسطينية.

والمنطقة (ب) تخضع للإدارة المدنية الفلسطينية، لكن إسرائيل أو الإدارة المدنية الإسرائيلية هي التي تتولى الشؤون الأمنية فيها، أما (ج) تقع المسؤولية المدنية والعسكرية فيها على عاتق الإدارة المدنية الإسرائيلية والقيادة العسكرية المركزية في الجيش الإسرائيلي.

إسرائيل تتجاوز التقسيمات

منذ السابع من أكتوبر، ألغت إسرائيل فعلياً أي سلطة مدنية للسلطة الفلسطينية في المنطقة (ب)، كما ألغت تقريباً مسؤولية السلطة الأمنية في المنطقة (أ).

ومع ذلك، تُعد المنطقتان (ب) و(ج) جوهر مشروع الدولة الفلسطينية، وبدون تواصل جغرافي بين المدن الفلسطينية، يصبح هذا المشروع مجرد وهم. وهذا سيحوّل المدن الفلسطينية إلى مجموعة من الكانتونات المعزولة غير المتصلة. وهكذا يصبح حلم اليمين الإسرائيلي في دفن مشروع الدولة الفلسطينية واتفاقيات أوسلو أمراً واقعاً.

وكما هو الحال في غزة، فإن مصير مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية يثير القلق. فخطط التهجير لا تحظى بقبول دولي، كما أن مصر والأردن ترفضان استقبال أي لاجئين فلسطينيين. وهذان البلدان يعانيان أصلاً من معدلات نمو سكاني مرتفعة وظروف اقتصادية صعبة للغاية، ما يعني أن الخطط الإسرائيلية تمثل مشاريع لأزمات كبرى قادمة.

إعلان حل الدولتين

في 28 سبتمبر 2000، اقتحم زعيم المعارضة الإسرائيلية أرييل شارون باحات المسجد الأقصى، تبع ذلك اندلاع مواجهات دموية.

وقد شكّل هذا التاريخ بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي كانت أكثر دموية من سابقتها. بعدها لجأت حركتا حماس والجهاد الإسلامي إلى تنفيذ عمليات تفجير في مراكز التسوق والمدارس داخل المدن الإسرائيلية.

 وردّت القوات الإسرائيلية باغتيال القيادات السياسية لحماس، بمن فيهم مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين، والقائد البارز عبد العزيز الرنتيسي، وآخرون. إذ أسفرت معظم هذه العمليات، بما في ذلك الاغتيالات، عن سقوط ضحايا مدنيين أبرياء.

وفي محاولة لإيجاد حلول، دعا الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، في خطاب بتاريخ 14 نوفمبر 2003، إلى إقامة دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. وقد عُرفت هذه الدعوة لاحقاً باسم “حل الدولتين” الأسطوري.

لكن إدارة بوش آنذاك، المنشغلة بالحربين في أفغانستان والعراق ومكافحة الإرهاب، لم تكن تملك القدرة على تنفيذ رؤيتها. وكانت أولوية كبار المسؤولين فيها آنذاك تتركز على احتواء نزيف الدم في الأراضي الفلسطينية.

اليمين الإسرائيلي

تمثّل النتيجة الرئيسية للانتفاضة في انهيار معسكر السلام الإسرائيلي وسقوط زعيم حزب العمل إيهود باراك، الذي خلفه أرييل شارون. إذ أصبح حزب العمل، ومعه اليسار الإسرائيلي بأكمله، على هامش المشهد السياسي في إسرائيل وهو واقع لا يزال قائماً حتى اليوم.

وعلى النقيض من ذلك، أدى صعود اليمين الإسرائيلي، الرافض تماماً لحل الدولتين، إلى تعقيد مهمة إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، التي كانت أصلاً منشغلة بتعقيدات الحرب في العراق.

وصول إدارة أوباما

لاحقاً، ومع وصول إدارة باراك أوباما إلى البيت الأبيض في عام 2008، تم إحياء فكرة حل الدولتين من جديد.

 ومع ذلك، لم تتمكن إدارة أوباما من تحسين الوضع أيضاً. حيث واجه رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد بنيامين نتنياهو إدارة أوباما في مناسبات عديدة وتحدّاها بشكل مباشر.

وعلى الرغم من أن الانتفاضة كانت قد توقفت، إلا أن نتنياهو واصل ملاحقة حماس خلف الكواليس.

وعلى النقيض من ذلك، كانت الضفة الغربية هادئة نسبياً؛ فالفلسطينيون أنهكهم الصراع وأرادوا فترة من الهدوء.

ومع ذلك، استمر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في القيام بجولات مكوكية في المنطقة، سعياً للتوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

الربيع العربي

اندلع الربيع العربي في تونس أواخر عام 2010، وانتقل بعدها إلى مصر، ثم إلى ليبيا، واليمن، وأخيراً إلى سوريا في مارس 2011.

ثم تسارعت أحداث المنطقة، وكان أبرزها سقوط الرئيس المصري حسني مبارك وتسلّم مجلس عسكري للسلطة، ثم صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم.

أما الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، فقد عاش في المنفى في السعودية. وتحولت موجة الربيع العربي إلى حروب أهلية دامية في كل من ليبيا واليمن وسوريا.

وفي خضم هذا التدهور الإقليمي، علّق أحد الوزراء الإسرائيليين قائلاً: “لماذا يختار جون كيري المكان الوحيد الهادئ في الشرق الأوسط -أي إسرائيل والأراضي الفلسطينية- ليأتي ويتوسط؟”، فقد كانت المنطقة بأكملها مشتعلة.

ورغم أن كيري قام بجولات مكوكية أكثر من تلك التي قام بها وزيرا الخارجية الأمريكيان السابقان هنري كيسنجر ووارن كريستوفر، إلا أنه فشل في تحقيق أي نتائج ملموسة.

وخلال الولاية الثانية للرئيس أوباما، تدهورت فرص حل الدولتين أكثر فأكثر. وفي نهاية المطاف، غادرت إدارة أوباما البيت الأبيض، ليتولى الرئيس دونالد ترامب السلطة.

إدارة ترامب الأولى

بعد سلسلة من الإدارات الأمريكية التي انخرطت بعمق في عملية السلام في الشرق الأوسط -بدءاً من جيمي كارتر، مروراً بجورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وجورج بوش الابن، وصولاً إلى باراك أوباما- جاءت إدارة ترامب الأولى بسياسة مختلفة تماماً عن سابقاتها.

ومع ذلك، منذ الأيام الأولى، بدا دونالد ترامب غير مكترث بحل الدولتين أو بالمأساة الفلسطينية بشكل عام. ففي مقابلة صحفية، قال: “لماذا علي أن أهتم؟ فليُقيموا دولتين، ثلاث دول، أو دولة واحدة، لا يهمني الأمر.”

لم تُبدِ الإدارة الأمريكية الجديدة أي نية لتبنّي سياسة متوازنة أو للعب دور الوسيط في عملية السلام.
وكان أول قرار اتخذه ترامب في هذا السياق هو ترشيح ديفيد فريدمان لمنصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، وهو ترشيح قوبل بمعارضة شديدة من منظمات يهودية ليبرالية وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين.

 وقد عكس تصويت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ هذا الانقسام، إذ أيد 12 عضواً التعيين، فيما عارضه 9 أخرين.

أسباب المعارضة  

لكن ما الأسباب التي دفعت إلى معارضة ترشيح ديفيد فريدمان؟، ببساطة فريدمان هو يهودي أرثوذكسي معروف بين الأوساط المسيحية الإنجيلية، ويعمل كمحامٍ متخصص في قضايا الإفلاس التجاري في نيويورك.

تعرّف على رجل الأعمال دونالد ترامب في عام 1994، وساعده آنذاك في تجنّب خسارة ملايين الدولارات خلال أزمة الكازينوهات في أتلانتيك سيتي. وفريدمان، نجل حاخام يهودي محافظ، يشترك مع والده في إعجابه الشديد بالصهيونية.

لكن ولاءه للصهيونية وصل إلى حدّ جعله يعتبر اليهود الأمريكيين، خاصة التقدميين منهم، أعداء له. فقد وصف منظمة “جي ستريت” اليهودية اليسارية بأنها أسوأ من “كابو”، وهو مصطلح يُطلق على السجناء اليهود الذين تعاونوا مع النازيين في معسكرات الاعتقال خلال الهولوكوست.

هذا التصريح وغيره من مواقفه المتطرفة جعلته شخصية مثيرة للجدل، وأدى إلى اعتراض واسع داخل الأوساط اليهودية الليبرالية وفي صفوف عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي.

نقل السفارة الأمريكية إلى القدس

بعد تعيينه، بدأ فريدمان فوراً في العمل متجاهلاً تماماً خبراء الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية. بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وأغلقت الإدارة القنصلية الأمريكية في القدس، التي كانت تُعد القناة الدبلوماسية الرئيسية لواشنطن مع الفلسطينيين لعقود. كما أغلقت إدارة ترامب مكتب الممثلية الفلسطينية في واشنطن.

ومن بين أعمال فريدمان الأخرى إقناع الإدارة بالاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، التي احتلتها إسرائيل عام 1967، والدفع باتجاه سياسة مختلفة بشأن المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، حيث كانت المستوطنات قد توسعت، وتحولت بعض منها إلى مدن حقيقية، إذ بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية أكثر من 800 ألف مستوطن.

وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في عام 2019: “إن تلك المستوطنات لا تنتهك القانون الدولي”.

صفقة القرن لترامب

خلال الولاية الأولى لترامب، قدم هو وصهره جاريد كوشنر، الذي كان مبعوث الشرق الأوسط آنذاك، ما عُرف بـ”صفقة القرن”. وبالتعاون مع كوشنر، عمل فريدمان على صياغة الصفقة التي تنص على ضم إسرائيل لجميع تجمعات المستوطنات في الضفة الغربية، بالإضافة إلى كامل منطقة وادي الأردن.

رؤية الصفقة للدولة الفلسطينية

وعلى النقيض من ذلك، يمكن للفلسطينيين إعلان دولة في المناطق المتبقية غير المضمومة إلى إسرائيل. وستكون الدولة الفلسطينية مجموعة من الرقع المعزولة جغرافياً، تفتقر إلى الاتصال الجغرافي المستمر، ويرجع ذلك في الغالب إلى الطرق الالتفافية التي يستخدمها المستوطنون.

ولمعالجة هذه المشكلة، تم تقديم رؤى غير واقعية حول إنشاء شبكة من الأنفاق والجسور لضمان التواصل الإقليمي بين المدن والبلدات الفلسطينية. وشملت الصفقة حلولاً عقارية لمشكلة الدولة الفلسطينية، بحيث تكون المدن والبلدات متصلة بسلسلة من الجسور والأنفاق التي تمر تحت أو فوق المستوطنات الإسرائيلية.

ولكن على الرغم من رفض الفلسطينيين لـ”صفقة القرن” التي قدمها ترامب، تم في النهاية إلغاء الخطة بسبب إعداد أخرى لم تشمل الفلسطينيين إطلاقاً.

مشروع أبراهام

بينما كان فريدمان يعمل على الحصول على أكبر مساحة أرض لإسرائيل، بدأ صهر الرئيس ترامب العمل على مسار آخر يستثني الفلسطينيين من أي تسوية سياسية. حيث ركز على إقامة السلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية مثل: السودان والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب.

بدأ كوشنر بالتعاون مع سفير الإمارات لدى واشنطن، يوسف العتيبة، لتطبيع العلاقات بين العرب والإسرائيليين. ونجحت هذه الجهود بعد تقديم وعود معينة في اجتماع بين نتنياهو ورئيس المجلس الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان.

أسفر ذلك عن توقيع اتفاقات أبراهام بين المغرب والإمارات والبحرين مع إسرائيل. وفي 15 سبتمبر، وقعت إسرائيل مع الإمارات، والبحرين اتفاقات إبراهام في حديقة البيت الأبيض، وانضم المغرب إلى الاتفاقات بعد ذلك بوقت قصير.

وقد أوضح مستشارو ترامب أن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية سيجبر الفلسطينيين في النهاية على قبول السلام في الواقع الفعلي، وفقاً لتوازن القوى الحالي، وبعيداً عن الدبلوماسية التقليدية.

قبعتا فريدمان

أغرب ما فعله فريدمان هو أنه محى تماماً الفاصل بين واجباته الدبلوماسية ونشاطه الشخصي. إذ لم يعد من الممكن التمييز بين ما إذا كان هو السفير الأمريكي لدى إسرائيل أم السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة.

في إحدى الحوادث، قبل زيارة ترامب إلى إسرائيل، نقل الرئيس الفلسطيني محمود عباس رسالة إلى الرئيس الأمريكي عبر رون لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي. وكانت الرسالة تفيد بأن السلطة الفلسطينية مستعدة لتقديم تنازلات غير مسبوقة من أجل تحقيق السلام مع إسرائيل.

عرف فريدمان عن الرسالة من خلال عمله كسفير، وأبلغ نتنياهو على الفور، مقترحاً أن يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بتشويه سمعة عباس وتقويض مصداقيته. حيث جهز الجانب الإسرائيلي فيديوًّ ضمّ مقاطع مختارة من تصريحات عباس التي يُزعم فيها أنه حرض على العنف ضد إسرائيل.

عندما شاهد ترامب الفيديو أثناء زيارته لبيت لحم، غضب بشدة ووبخ عباس قائلاً: “لقد خدعتني، تحدثت عن التزامك بالسلام، لكن الإسرائيليين أظهروا لي أنك منخرط في التحريض.”

محاولات عباس لشرح أن الفيديوهات أُخرجت من سياقها أو ملفقة لم تُجدِ نفعاً؛ فالضرر كان قد وقع بالفعل.

وكتب الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد في كتابه “سلام ترامب” أن السفير فريدمان كان يسير في أجندته الخاصة بالتعاون مع نتنياهو.

ولاية ترامب الأولى

حققت إدارة ترامب الأولى اختراقاً تاريخياً في مسار تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي.

 وفي الوقت نفسه، شملت قرارات ترامب المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي: الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.

  إدارة بايدن

عندما وصلت إدارة الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، قامت بعكس جميع السياسات التي تبناها ترامب في مجالات الطاقة، والمناخ، وروسيا، وأوكرانيا، باستثناء السياسة المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

ومع ذلك، حافظت إدارة بايدن على الإجراءات كافة المتخذة بشأن نقل السفارة إلى القدس، وتحدثت بشكل غامض عن شرعية المستوطنات، وظلت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن مغلقاً.

كما استمرت في إبداء تأييد شكلي لحل الدولتين، غالباً من خلال تصريحات مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن. حيث بدت تصريحاتهم متكررة ومنمقة في المحافل الدولية، رغم أن الإدارة الأمريكية كانت ترى يومياً تراجع صلاحية حل الدولتين وصعوبة تنفيذه. إلا أن هجوم 7 أكتوبر 2023 جعل السياسات الأمريكية أكثر تشدداً لصالح إسرائيل.

سمات القادة

عندما وصل بلينكن ليعبر عن التضامن مع إسرائيل عقب هجمات 7 أكتوبر، قال: “أنا هنا كيهودي أولاً”، تذكر المؤرخون فوراً كلمات وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الآخر، هنري كيسنجر، عندما حاولت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مئير التركيز على البُعد اليهودي في شخصيته للتأثير على موقفه، فرد قائلاً: “يجب أن تتذكري أنني أولاً أمريكي، ثانياً وزير خارجية، وبعد ذلك فقط أنا يهودي”.

 لكن يبدو أن تلك الحقبة التي كان فيها الحفاظ على الحياد الدبلوماسي قد انتهت نهائياً. إذ بدأ كبار المسؤولين في إدارة بايدن مثل بلينكن وسوليفان وبريت مكغورك يتصرفون بشكل علني وكأنهم يهتمون فقط بالأجندة والسرد الإسرائيلي. وتخلوا عن أدوارهم كوسطاء أمناء ورعاة لعملية السلام. وفي كل مناسبة ممكنة، أعلن الرئيس بايدن أنه صهيوني وهو إعلان لم يصدر عن أي رئيس أمريكي من قبل.

رؤية اليمين الأمريكي

تماشياً مع إدارة بايدن، ذهب حكام الولايات أبعد من ذلك، حيث قال حاكم فلوريدا الجمهوري رون دي سانتيس: “تماماً كما نرفض اللاجئين هنا في فلوريدا، يجب على إسرائيل رفض استمرار وجود الفلسطينيين في غزة”.

لاحقاً، نافس دي سانتيس ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، لكنه انسحب لصالح الأخير.

أما المرشحة الجمهورية الأخرى نيكي هايلي، التي انسحبت أيضاً لصالح ترامب، فقد زارت إسرائيل وكتبت رسالة على الصواريخ المخصصة للقصف فوق غزة، وقالت في تلك المناسبة: “إنه لا يوجد أشخاص أبرياء في غزة ودعت إلى القضاء على الجميع”.

توريد السلاح لإسرائيل

في الكونغرس، كانت الأمور أكثر حدة، ومن اللافت أن مجلسي النواب والشيوخ، رغم عجزهما المزمن عن التوافق على سياسات موحدة تخص مصالح الولايات المتحدة أو سياستها الخارجية أو حتى الموازنة، إلا أن الديمقراطيين والجمهوريين كانوا يصوتون بانتظام لصالح إرسال المزيد من شحنات الأسلحة إلى إسرائيل.

وعندما تسرّبت معلومات تفيد بأن إدارة بايدن وقّعت اتفاقيات مع إسرائيل لتزويدها بقنابل شديدة التدمير، سارعت الإدارة إلى التراجع وأجّلت بعض تلك الصفقات. كما ظهرت محاولات للحدّ من التوغلات الإسرائيلية العدائية في الضفة الغربية.

وعقب تسريب خبر مفاده أن كتيبة متطرفة في الجيش الإسرائيلي تُدعى “كتيبة نيتساح يهودا” قتلت مسناً فلسطينياًَ أمريكياً، وتم التلويح بإدراجها على القائمة السوداء، ردّ الجيش الإسرائيلي بالقول إنه سيقوم بنقل الكتيبة إلى شمال إسرائيل، بعيداً عن الضفة الغربية.

 ومع ذلك، لم يتم التحقق بعد من تنفيذ هذا النقل فعلياً.

  وزراء اليمين المتطرف

أدانت إدارة بايدن وزيريْن من اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، هما بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. وعندما زار سموتريتش، وزير المالية في حكومة نتنياهو، الولايات المتحدة، لم يستقبله أي مسؤول من الإدارة الأمريكية.

ومع ذلك، تم لاحقاً التغاضي عن سلوك الوزيرين ولم تُتخذ ضدهما إجراءات حقيقية.

كما مارست إدارة بايدن ضغوطاً على الجامعات الأمريكية لوقف التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين. إذ تم استهداف رؤساء الجامعات الذين رفضوا وقف الاعتصامات أو طرد الطلاب المشاركين فيها. وتم توجيه لوائح لوم من الكونغرس بحق بعضهم، واتُّهِموا بعدم اتخاذ خطوات كافية لمنع محاولات “تخويف” الطلاب اليهود.

ومن اللافت أن أكثر التظاهرات نشاطاً ضد الحرب على غزة كانت تلك التي نظّمها طلاب يهود أمريكيون في مدينة نيويورك.

  اتفاقات أبراهام  

شهدت فترة إدارة بايدن مشاورات مكثفة من أجل إقناع المملكة العربية السعودية بالانضمام إلى اتفاقات أبراهام. لكن الرياض فضّلت الانتظار حتى عودة ترامب إلى البيت الأبيض، لا سيما بعد عملية 7 أكتوبر التي أجهضت كل الجهود المبذولة في هذا الاتجاه.

تحوّل التركيز بعد ذلك نحو وقف الحرب والتوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى، يتم بموجبها الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح أسرى من حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى من السجون الإسرائيلية.

الإرث السياسي لإدارة بايدن

لم تنجح إدارة بايدن في توسيع اتفاقات أبراهام، فعلى الرغم من اقترابها من تحقيق “الجائزة الكبرى” المتمثلة في تطبيع محتمل للعلاقات بين السعودية وإسرائيل، إلا أن تطورات الأوضاع في المنطقة أجهضت هذا المسار.

ومع هزيمتها أمام ترامب في انتخابات 2024، غادرت إدارة بايدن البيت الأبيض دون أن تحقق إنجازاً يُذكر في مسار السلام بالشرق الأوسط.

ومع ذلك فإن الإرث السياسي الذي خلّفته الإدارة كان مساهمتها في تقويض فرص السلام، بدلاً من تعزيزها. والمفارقة اللافتة أن المحتجين كانوا ينظمون وقفات يومية أمام منزل وزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال فترة وداع الإدارة، حيث كانوا يسكبون سوائل حمراء تعبيراً عن استمرار نزيف الدم في غزة.

أما على صعيد إنجاز صفقة الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، فقد فضّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نسب الفضل إلى الإدارة القادمة بقيادة ترامب، بدلاً من مسؤولي إدارة بايدن. وقد تم لاحقاً التوصل إلى الاتفاق من خلال ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط.

إدارة بايدن غادرت البيت الأبيض تاركة وراءها إرثاً سياسياً في ملف عملية السلام بالشرق الأوسط يتمثل في مساهمتها بتقويض فرص السلام بدلاً من تعزيزها

الولاية الثانية لترامب

تبدو الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مختلفة نوعاً ما عن فترته الأولى (2017–2021). فخلال ستة أشهر فقط، اتخذ ترامب خطوات على الساحة الدولية تمثل قطيعة جذرية مع نهج السياسة الخارجية التقليدية للولايات المتحدة.

وبعد فوزه في انتخابات 2024، تبنّت إدارته معظم سياسات إدارة بايدن، لكنها نفذتها بأسلوب أكثر حدة. فقد تم قطع التمويل الفيدرالي عن الجامعات المتهمة بالترويج للأفكار اليسارية ودعم الفلسطينيين.

كما قامت إدارة الهجرة والجمارك باعتقال متظاهرين وأصدرت أوامر بترحيلهم، رغم أن بعضهم يحملون بطاقات إقامة دائمة أو متزوجون من مواطنين أمريكيين. وتم تجاهل قرارات محاكم في بوسطن ونيويورك، ونُقل المعتقلون إلى مراكز احتجاز في ولاية أريزونا استعداداً لترحيلهم.

وخلال الأشهر الستة الأولى من رئاسته الثانية، قدّم ترامب سلسلة من السياسات الخارجية المثيرة للجدل، شملت، تصريحات علنية عن رغبته في الاستحواذ على جزيرة غرينلاند وشراء قناة بنما، واعتبار غزة مشروعاً عقارياً قابلاً للتطوير.

كما شملت تصريحاته إعلانه عن أنه سينهي الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة، وزعمه أنه جلب السلام بين الهند وباكستان، وكذلك دعمه الصريح للحرب في غزة مع تلميحات خضراء لشن ضربات جوية ضد المنشآت النووية الإيرانية.

كل هذه المواقف تشير إلى نهج متقلب ومتحول باستمرار، لكن يبقى السؤال الأهم: ما هي بالضبط سياسة دونالد ترامب تجاه غزة؟.

وقف إطلاق النار في مارس

دخل ترامب ولايته الثانية عبر المساهمة في تثبيت وقف إطلاق نار كانت قد توصلت إليه إدارة سلفه، واستمر لأكثر من شهر، من منتصف يناير حتى أوائل مارس. وفي الوقت نفسه، صرّح ترامب علناً برغبة الولايات المتحدة في “الاستيلاء على غزة” وإجبار جميع الفلسطينيين على مغادرتها.

 كما قدّم لإسرائيل دعماً عسكرياً إضافياً، في الوقت الذي كثّفت فيه حملتها العسكرية ضد حركة حماس، وهي حملة ما زالت تخلف آثاراً مدمرة على الشعب الفلسطيني.

تبدو “صيغة ترامب” في هذا السياق وكأنها تقوم على منح إسرائيل شيكاً على بياض لتفعل ما تشاء. ومع وجود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، تضم أصواتاً تدعو إلى ضم الضفة الغربية وترحيل الفلسطينيين، يمكن أن تتطور الأمور سريعاً نحو سيناريو خطير وغير متوقع.

على الصعيد السياسي، يعتمد ترامب على رجل الأعمال ومطور العقارات ستيف ويتكوف، الذي يتمتع بمرونة في الطرح، ويبدو مستعداً للاستماع ولا يحمل توجهات أيديولوجية متطرفة.

 وعلى النقيض من ذلك، فإن وزير الخارجية الجديد ماركو روبيو يتبنى خطاباً أكثر حدة. فعندما واجهه نشطاء مؤيدون لوقف إطلاق النار في غزة، ردّ بلغة حاسمة مؤيدة لإسرائيل، وأعرب عن دعمه لخطة ترامب التي تقضي بترحيل الفلسطينيين من غزة وتحويل القطاع إلى وجهة سياحية فاخرة تضم منتجعات استجمام.

سياسات ترامب في الشرق الأوسط ارتجالية وتفتقر إلى تخطيط استراتيجي منسجم يتبنى مع فريقه للسياسة الخارجية خطاباً عدائياً لبناء تحالفات دولية بشكل يهدد بعزل الولايات المتحدة على الساحة العالمية

تعيين هوكابي

الخطوة الحاسمة التي اتخذها الرئيس دونالد ترامب للتخلي الكامل عن حل الدولتين تجسّدت في تعيين مايك هوكابي سفيراً للولايات المتحدة لدى إسرائيل. ومع هذا التعيين، تصاعدت الأمور إلى مستوى جديد كلياً.

هوكابي، الحاكم السابق لولاية أركنساس (التي تتولى ابنتُه سارة هوكابي ساندرز حكمها حالياً)، لا يؤمن بالتسويات أو بالحلول الوسط، ولا يتحدث عن السلام من الأساس. فهو قسّ إنجيلي من الطائفة المعمدانية، يؤمن بـ”أرض الميعاد” وبـ”أرض إسرائيل الكاملة”، ويرفض إقامة دولة فلسطينية بل ويُنكر الهوية الفلسطينية نفسها.

وفي تصريحات تعكس موقفه الطويل من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، قال هوكابي: “لم أكن يوماً مستعداً لاستخدام مصطلح “الضفة الغربية”، فهذا لا وجود له، بل أُطلق عليها يهوذا والسامرة، وأقول للناس: لا توجد احتلالات، هذه أرض يحتلها من يملكون حقاً تاريخياً فيها منذ 3500 عام، منذ زمن النبي إبراهيم.”

وأضاف: “لا وجود لما يُسمّى بالمستوطنات، إنها مجتمعات وأحياء ومدن.”

هوكابي، المعروف بمعارضته الصريحة لحل الدولتين، لطالما رفض فكرة إقامة دولة فلسطينية. ففي عام 2015، أثار جدلاً بتشبيهه التاريخ الفلسطيني بقوله: “لدينا في أمريكا علاقة عمرها نحو 400 عام مع مانهاتن، سيكون الأمر كما لو جاء أحدهم وقال لنا: يجب أن نُنهي احتلالنا لمانهاتن، أعتقد أن معظم الأمريكيين سيجدون ذلك مثيراً للسخرية.”

وبعد تصديق الكونغرس على تعيينه سفيراً في تل أبيب، صرّح ترامب -رغم الانتقادات الواسعة- بأن هوكابي سيكون له دور محوري في دفع جهود السلام في الشرق الأوسط.

وعلى النقيض من هذا الادعاء، لم يُسهم هوكابي منذ توليه المنصب في تقريب وجهات النظر أو تهدئة التوترات، بل وجد ترامب نفسه يُشرف على منطقة تقف على حافة صراعات غير محسومة قد تتفاقم إلى حروب أعنف وأكثر تعقيداً في المستقبل.

تورّط ترامب في ملف غزة
دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو خلال اجتماعهما في الغرفة الزرقاء في البيت الأبيض (أ ف ب)

يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الظهور كصانع صفقات على الساحة الدولية، ويشارك في التطورات الحالية بثلاث طرق رئيسية:

أولاً، منذ بداية ولايته، كرّر ترامب خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن “لا مستقبل لحماس”، وهو ما تجلّى في رؤيته لما بعد الحرب في غزة، والتي تُعرف بـ”ريفييرا الشرق الأوسط”، مشروع لتحويل غزة إلى جنة للأثرياء مملوكة أمريكياً، بعد تهجير سكانها المدنيين.

وقد منحت هذه الرؤية نتنياهو غطاءً سياسياً لتجاهل مفاوضات المرحلة الثانية جزئياً.

وثانياً، انخرط ترامب عبر مبعوثَيه الخاصَّين: ستيف ويتكوف، مبعوثه إلى الشرق الأوسط، وآدم بوهلر، مبعوث الولايات المتحدة لشؤون الرهائن.

في البداية، حاول ويتكوف إحياء مفاوضات المرحلة الثانية، ولكن بعد فشلها، اتجه لمحاولة إنعاش مفاوضات المرحلة الأولى بصيغ وتعديلات جديدة، إلا أن هذه المحاولات لم تُحرز أي تقدّم يُذكر.

الرئيس ترامب متورط إلى حد أن إسرائيل باتت تمتلك حليفاً أكثر تعاطفاً معها فيما يتعلق بالعمل العسكري في غزة. إذ يجب الثناء على اهتمام ترامب الصادق بإنهاء حرب غزة، لكن أحياناً النوايا الحسنة قد لا تكون كافية.

بشكل عام، بدت سياسات ترامب في الشرق الأوسط رد فعلية وتفتقر إلى تخطيط استراتيجي متماسك. حيث انخرط ترامب وفريق سياسته الخارجية في خطابات عدائية، لكن غاب الجهد الدبلوماسي المستمر لبناء تحالفات دولية.

وهذا النهج يعرض الولايات المتحدة لعزلتها ويشجع خصومها مثل: إيران والصين وروسيا على توسيع نفوذهم في المنطقة.

خطة ترامب

كالعادة، جاءت أغرب المفاجآت من الرئيس ترامب، خلال استقباله نتنياهو في البيت الأبيض في 4 فبراير 2025، حيث أعلن عن خطة لنقل جزء كبير من سكان غزة إلى مصر والأردن، مع حصول الولايات المتحدة على ملكية طويلة الأمد لغزة.

وأضاف ترامب: “إن واشنطن تنظر إلى الأمر كصفقة عقارية، وأنه لا يتحدث عن قوات على الأرض، بل عن امتلاك غزة لإعادة بنائها لتصبح “ريفيرا الشرق الأوسط”.

 وأشار إلى أن الفلسطينيين لن يكون لهم حق العودة لأنهم سيملكون منازل أفضل بكثير.

بدا نتنياهو نفسه متفاجئاً من الاقتراح ولم يعلق عليه، لكن هل سيجبر كل هذا الفلسطينيين على المغادرة؟، وإذا قرروا فعلاً المغادرة، أين سيذهبون؟، ومن سيستقبلهم في ظل محاولات الغرب طرد اللاجئين باستثناء إشارة عابرة من الرئيس الإندونيسي حول احتمال استقبال بعض الفلسطينيين لعدة سنوات؟، يبدو أن الجميع في المنطقة وخارجها لا يوافقون على خطة ترامب بإخلاء الفلسطينيين.

الصفقة العقارية

في الواقع، لم تكن هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها ترامب عن غزة كصفقة عقارية. قبل عام من هذا الإعلان، صرّح في مقابلة إذاعية أن غزة يمكن أن تكون أجمل من موناكو إذا أُعيد إعمارها بالشكل المناسب.

 وقبل ترامب، قال صهره جاريد كوشنر، في ندوة بجامعة هارفارد في فبراير 2024: “إن العقارات على الواجهة البحرية لغزة قد تكون مربحة للغاية”.

لكن كوشنر، مثل ترامب وعدد من الوزراء في إدارة ترامب، بمن فيهم مبعوث الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، يشتركون في خلفياتهم كمطوري عقارات قبل دخولهم عالم السياسة.

وقبل ترامب وكوشنر وويتكوف ومن على شاكلتهم، كان ياسر عرفات، الذي عاد إلى غزة في يوليو 1994 مع الآلاف من عناصره العسكرية والأمنية، قد قال: “إن السلطة، الدولة الفلسطينية الجديدة، ستحوّل غزة إلى “سنغافورة الشرق الأوسط”.

كان يرى فيها معابر مفتوحة، ومطاراً دولياً، وميناء، ومشاريع زراعية، وفرص عمل في قطاع الإلكترونيات.

غزة، التي تراوحت أحلام أهلها يوماً بين سنغافورة وموناكو والريفيرا، أصبحت اليوم أرضاً محروقة لا تصلح للعيش، وسكانها يبحثون عن الأمان في خيمة مهترئة، بانتظار وجبة مغطاة بالدماء تأتيهم من منظمة خيرية.

الأردن وطن بديل   

يُعدّ الحديث المتجدد في إسرائيل عن الأردن كـ”وطن بديل للفلسطينيين” من أكثر المواضيع حساسية وصعوبة بالنسبة للحكومة الأردنية.

هذا الطرح ليس جديداً، فقد سبق أن طرحه الجنرال أرييل شارون في أكثر من مناسبة، لكنه في السنوات الأخيرة أصبح أكثر شيوعاً في الأوساط السياسية الإسرائيلية، خاصة مع حقيقة أن عدداً كبيراً من سكان الضفة الغربية يحملون وثائق أردنية، نظراً لأن الضفة كانت خاضعة للحكم الهاشمي من حرب 1948 وحتى عام 1967، حين وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي.

الملك حسين، والد الملك عبد الله الثاني، لم يتخلّ في بداية الأمر عن حلم إعادة توحيد ضفتي المملكة، لكنه اضطر لاحقاً للتراجع، خاصة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، ووافق على أن يكون أحد الوسطاء بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

الأردن، الذي لا يزال رسمياً صاحب الوصاية على المقدسات الإسلامية في القدس الشرقية، كان يهدف إلى تقليل تداعيات نكبة عام 1948. وبعد حرب عام 1967 واحتلال الضفة الغربية، لم يكن ينوي استقبال سكان الضفة داخل أراضيه، التي تعاني من ازدحام سكاني وشح في الموارد.

أما اليوم، فالوضع بات أكثر خطورة، فالتطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية أصبحت تمثل التهديد الأكبر لبقاء العرش الهاشمي، وسط ضغوط إقليمية ودولية متزايدة، وتحولات إسرائيلية قد تدفع نحو فرض سيناريو “الوطن البديل” كأمر واقع.

قبول إسرائيل لخطة ترامب

في الواقع، تبنّت إسرائيل خطة ترامب بالكامل -رغم الصدمة الأولى- بعد استئناف عملياتها العسكرية في قطاع غزة، وذلك بعد فشل المرحلة الثانية من المفاوضات للإفراج عن المختطفين.

كما شهدت المنطقة تطورات إقليمية مفاجئة، مثل معاناة حزب الله بفقدان معظم قياداته وسقوط نظام الأسد في دمشق. ففي اليوم التالي لسقوط الأسد، دمرت إسرائيل تماماً ما كان يعرف بالجيش العربي السوري.

 وباستثناء تراجع الحوثيين في اليمن، يبدو أن إسرائيل تخلصت من جميع خصومها وتركز الآن على تحقيق أثر نهائي في القضية الفلسطينية.

ارتفعت التطلعات داخل إسرائيل، وأصبح أي حديث أقل من دفن نهائي للقضية الفلسطينية غير ذي صلة.

في السباق مع الزمن بين خطة ترامب والخطة العربية، لا يبدو أن هناك أي قرار حاسم بعد. وعودة القوات الإسرائيلية إلى قطاع غزة بأسلوب أكثر عنفاً ستتسبب في دمار أكثر رعباً، وستقضي على أي فكرة مستقبلية لاستئناف الحياة في غزة.

حرب نتنياهو

شهدت العلاقة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تقلبات كثيرة، بين صعود وهبوط. إذ يبدو أن العلاقات تسير في منحى تصاعدي، حيث يهدف كل من ترامب ونتنياهو إلى المضي قدماً بسرعة نحو إبرام ترتيبات سلام جديدة مع الدول العربية، في إطار توسيع اتفاقيات أبراهام.

قد لا يعترف خصوم بنيامين نتنياهو بذلك أبداً، لكن رئيس الوزراء الأكثر إثارة للجدل والذي يُكن له الكثيرون الكراهية، تمكن من تغيير التوازن الاستراتيجي في المنطقة بسرعة مذهلة. ففي غضون عشرين شهراً فقط، نجح في إضعاف حزب الله في لبنان، والتسبب في سقوط بشار الأسد في سوريا، وتدمير طموحات النظام الإيراني النووية.

واحدة تلو الأخرى، سقطت الافتراضات السطحية التي كان يُنظر إليها على أنها مسلّمات: حزب الله لا يُقهر، والأسد في مأمن لا يُمس، وترامب لن يرسل قوات أمريكية إلى الشرق الأوسط، وبرنامج إيران النووي لا يمكن المساس به، كلها تهاوت بشكل مخزٍ أمام الواقع الجديد.

إسرائيل تغتال قادة حماس

اغتالت إسرائيل شخصيات بارزة في القيادة العليا لحركة حماس، مثل يحيى السنوار، ومحمد الضيف، وإسماعيل هنية، ومؤخراً قتلت محمد عيسى العيسى، العقل المدبر للوجستيات هجوم 7 أكتوبر.

وعلى الرغم من هذه “الضربات الكبرى”، لا يستطيع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الادعاء بتحقيق نصر نهائي وفق هدفه الأقصى المتمثل في القضاء التام على حماس. فهذا الإخفاق يدفع شركاءه في الائتلاف اليميني المتطرف إلى الضغط من أجل استمرار الحرب في غزة.

والآن، وبسبب هذه النجاحات تحديداً، حان الوقت لنتنياهو أن يضع حداً للحرب. وعليه أن يقبل بمقترح وقف إطلاق النار الأمريكي في غزة ويوقف سفك الدماء. فبعدما نجح في جبهات متعددة، فإن أقل ما يمكنه فعله في ظلّ دمار غزة وبؤسها هو إنهاء الحملة “القرطاجية” التي تخوضها إسرائيل هناك.

وعلى النقيض من ذلك، صحيح أن كبار خبراء السياسة الخارجية بدأوا بالفعل يشككون في الإنجازات العسكرية لإسرائيل. إلا أن كثيرون منهم يتمسكون بقناعة راسخة أن العمل العسكري لا يمكنه إلا تحقيق أهداف قصيرة الأمد في غزة، التي أصبحت أطول وأعنف حرب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

 وبالرغم من نبرة التحدي التي يتبناها ترامب، يبدو أن السلام الدائم لا يزال بعيد المنال في المدى القريب، فبعد سنوات من المفاوضات، وخسائر بشرية جسيمة، وإنفاق هائل، لم يتمكن أحد من الوصول إلى حل نهائي لهذا النزاع التاريخي.

علاوة على ذلك، فإن نجاح إسرائيل المتكرر في الحروب منذ عام 1948 أدى إلى تقاعس الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن بناء تسوية سياسية مستدامة مع العالم العربي.

كبار الخبراء في مجال السياسة الخارجية بدأوا بالفعل بالتشكيك في الإنجازات العسكرية لإسرائيل وكثيرون لديهم قناعة راسخة بأن العمل العسكري لا يمكنه سوى تحقيق أهداف قصيرة الأمد في غزة

العمق الاستراتيجي

عبّر السفير الفرنسي السابق في واشنطن، جيرار أرو، عن المعضلة بوضوح قائلاً:
“اقتراح ترامب بشأن غزة قوبل بالذهول، والرفض، والسخرية، لكنه كما يفعل غالباً يطرح، بطريقته الفظة والمرتبكة، سؤالاً حقيقياً: ماذا نفعل عندما يجد مليونا مدني أنفسهم في ساحة من الخراب، مليئة بالمتفجرات والجثث؟”.

هذا سؤال طالما تهرب منه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فقد رفض الخوض في مسألة من سيحكم غزة بعد انتهاء الصراع، إلى حد كبير لأنه يعلم أن ذلك سيقوّض تماسك ائتلافه الحاكم من الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تطالب بإعادة توطين الإسرائيليين في غزة.

عند النظر إلى الصورة الكاملة، فإن عقيدة العمق الاستراتيجي ورغبة إسرائيل في النأي بنفسها عن إدارة شؤون المدنيين، توحيان بأن الجيش الإسرائيلي  سيعمل على احتلال أجزاء من غزة بشكل دائم لكن ليس القطاع بأكمله.

وهذا النهج ليس مفاجئاً، إذ أن إسرائيل اتبعت نفس الاستراتيجية في جميع احتلالاتها السابقة، على اختلاف سياقاتها. وتوفر تلك التجارب تصوراً عاماً لما قد تبدو عليه “اليوم التالي لحماس” وفق الرؤية الإسرائيلية في غزة.

تحد حقيقي

ومع تصاعد الحرب في الشرق الأوسط، تعتقد الحكومة الإسرائيلية أنها تمتلك اليد العليا. وربما يكون هذا صحيحاً، لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل التفوق العسكري إلى مكاسب استراتيجية دائمة، وفي نهاية المطاف إلى سلام. وبدون ذلك، سيستمر نزيف الدم لسنوات قادمة.

أولاً، من غير المرجح أن تتمكن إسرائيل من السيطرة على المناطق الحضرية في غزة لفترة طويلة. فهي تتردد في إدارة شؤون الحياة اليومية في أراضٍ محتلة، ولن تتولى مسؤولية وزارات مثل الصحة، والتعليم، والرعاية الاجتماعية في غزة، على سبيل المثال.

كما يدرك مخططو الجيش الإسرائيلي أن التواجد العسكري المطوّل في منطقة حضرية مكتظة بالسكان سيكون كابوساً عملياتياً.

ثانياً، قد تعود إسرائيل إلى التمسك بمفهوم “العمق الاستراتيجي”، وهي عقيدة تسعى إلى السيطرة والاحتفاظ إلى أجل غير مسمى بأراضٍ أجنبية قليلة الكثافة السكانية. والهدف من ذلك هو إبقاء المعارك خارج حدود إسرائيل ذاتها. فإسرائيل دولة صغيرة، خاضت حروباً مع جميع جيرانها، وبالتالي شعرت بمزيد من الأمان كلما امتدت سيطرتها على أراضٍ خارج حدودها المعترف بها.

وهذا يشير إلى أن المشكلة في هذه الاستراتيجية المزدوجة يمكن رؤيتها بوضوح في التجارب السابقة لإسرائيل في غزة، والتي أظهرت أنها نادراً ما حققت أهدافها الأمنية المرجوّة.

ومع ذلك، أظهر استطلاع رأي حديث أجرته مجموعة أغام لابز، وهي جهة بحثية تابعة للجامعة العبرية، أن 70 %  من السكان في إسرائيل (من اليهود والعرب معاً) أيدوا الهجوم الإسرائيلي على أهداف إيرانية في 13 يونيو الماضي.

ومع ذلك، أشار 75 %  منهم إلى تفضيلهم إنهاء الحرب في غزة مقابل الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس.

إذاً ما هو الوقت المناسب، لرئيس الوزراء الإسرائيلي، الملقب بـ”سيد إيران”، ليعلن إنهاء الحرب في غزة، ويعيد الخمسين رهينة المتبقين إلى ديارهم؟، ليستثمر بعدها “الزخم السياسي” المعروف باسم  (Bibi bounce)، ويسعى إلى تجديد تفويضه من خلال انتخابات جديدة؟.

 دول الجوار  

تُعد مصر والأردن، الدولتين اللتين رشّحهما الرئيس ترامب كموطنين بديلين للفلسطينيين، من أكثر الدول تضرراً من آثار الحرب.

قبل اندلاع الحرب، كانت مصر تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، حيث تأثرت البلاد بسنوات من الاضطرابات السياسية، بدءاً من سقوط نظام حسني مبارك، ثم صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، ما ساهم في تراجع عائدات السياحة، التي تُعد أحد أهم مصادر الدخل القومي.

وتتجاوز عائدات السياحة السنوية 14 مليار دولار، وتوفّر فرص عمل دائمة ومؤقتة لعشرات الآلاف من الشباب المصري، بالإضافة إلى أن التدخل الحوثي في الحرب اليمنية واستهداف السفن التجارية في البحر الأحمر، أدّيا إلى تراجع حاد في عائدات قناة السويس، مصدر الدخل الاستراتيجي الآخر لمصر.

وتزامن كل ذلك مع ارتفاع كبير في حجم الدين الخارجي، نتيجة برنامج تحديث طموح أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسي، شمل بناء مدن حديثة ومشاريع كبرى لم تظهر عائداتها بعد.

وهذا يشير إلى أن الرفض المصري لخطة ترامب جاء منطقياً، إذ تمثل هذه الخطة تهديداً مباشراً للاستقرار الاقتصادي والأمني في البلاد.

اللاجئون الغزيون

وصل إلى مصر أكثر من 100,000 فلسطيني من قطاع غزة، عبر برنامج خاص أطلقته شركة “هلا”، التي يرأسها إبراهيم العرجاني، وهو شخصية مقرّبة من الرئيس عبد الفتاح السيسي وعضو في إحدى قبائل سيناء المتاخمة لغزة.

وبموجب هذا البرنامج، يمكن لأي فلسطيني من غزة دخول الأراضي المصرية مقابل مبلغ مالي قدره 8,000 دولار أمريكي، حيث استغل العديد منهم هذا البرنامج للهروب من أهوال الحرب، غير أن عدد المستفيدين منه ظل محدوداً بسبب الكلفة المرتفعة للفرد، خصوصاً أن العائلات في غزة غالباً ما تكون كبيرة، بمتوسط يصل إلى ستة أطفال أو أكثر.

ومع ذلك، دخل عدد كبير من الجرحى إلى مصر لتلقي العلاج، في حين استخدم آخرون مصر كدولة عبور في طريقهم إلى دول مثل: تركيا وقطر وماليزيا، التي طلبت من القاهرة استقبال أعداداً محدودة من لاجئي غزة.

وهذا يشير إلى أن مصر تأثرت اقتصادياً بهذا التدفق، لكنها عوّضت جزئياً من خلال تلقي استثمارات منتظمة من دول الخليج، وتحديداً السعودية، وقطر، والإمارات.

الإجراءات الأمنية  

من الناحية الأمنية، أرسلت مصر قوات كبيرة إلى شبه جزيرة سيناء للسيطرة على الأوضاع هناك، ولمواجهة احتمال تدفق موجة هجرة كبيرة من قطاع غزة.

وقد مثّل هذا الانتشار العسكري المصري خرقاً لشروط اتفاقية كامب ديفيد، التي تقيّد الوجود العسكري في مناطق محددة من سيناء.

 ومع ذلك، ظلت هذه التحركات تحت السيطرة، ولم تخرج الأمور عن الإطار الأمني المتوقع.

الأردن المُثقل باللاجئين  

أما الأردن، فكان يعاني من أزمات اقتصادية كبيرة قبل اندلاع حرب غزة، نتيجة مجموعة من العوامل، أبرزها: توقّف نشاط التجارة العابرة (الترانزيت) بين تركيا ودول الخليج بسبب الحرب في سوريا، وكذلك استضافة نحو مليوني لاجئ سوري، ما شكّل ضغطاً هائلاً على موارده المحدودة أصلاً.

وقد تلقى الأردن دعماً كبيراً من الاتحاد الأوروبي لدعم اقتصاده، بلغ أكثر من 1.5 مليار دولار سنوياً، إلى جانب مساهمات مالية من بعض دول الخليج.

وهذا يشير إلى أن التأثير الأمني لحرب غزة على الأردن كان أكبر بكثير مقارنة بمصر وباقي دول المنطقة، نظراً لقربه الجغرافي، وتشابك تركيبته السكانية والسياسية مع القضية الفلسطينية.

التغيير الديمغرافي

وفقاً لبعض التقديرات، فإن أكثر من نصف سكان الأردن هم من أصول فلسطينية، حيث خرج عشرات الآلاف منهم في تظاهرات شبه يومية مطالبين الملك عبد الله بقطع العلاقات مع إسرائيل، ومحاصرة السفارة الإسرائيلية في عمّان، وإعادة موظفيها إلى تل أبيب بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة.

كل هذه الأمور وضعت الحكومة الأردنية في موقف بالغ الصعوبة مع استمرار الحرب وتزايد كلفتها البشرية والدموية.

لكن المشكلة الأكثر تعقيداً تتمثل في احتمال حدوث موجة هجرة كبيرة من الضفة الغربية إلى الأردن، وهو ما قد يؤدي إلى خلل بالتوازن الديمغرافي القائم بين المواطنين من أصول فلسطينية والشرقيين الأردنيين (أبناء العشائر في شرق الأردن).

وهذا يشير إلى أن الأردن بالشكل الذي نعرفه اليوم قد لا يبقى على حاله.

الرد العربي  

في 12 فبراير 2025، عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجدداً رؤيته لحل أزمة غزة على العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، حيث بدا الأخير في حالة من القلق والانزعاج، إذ إن الخطة الأمريكية كانت تفترض ضمنياً استقبال الأردن لأعداد كبيرة من سكان غزة.

وعلى مدار التاريخ، شهدت المملكة في عام 1970 حرباً أهلية بين المواطنين من أصول بدوية في شرق الأردن، وأخرين من أصول فلسطينية، والذين كانوا بمعظمهم من لاجئي نكبة عام 1948.

ومنذ تلك الأحداث، التي عُرفت باسم “أيلول الأسود”، باتت المملكة تتعامل بمنتهى الحذر مع الملف الفلسطيني.

ومع مرور الوقت، لم تخف التوترات بين مكونات المجتمع الأردني، بل تصاعدت، ما جعل أي خطة لإعادة توطين فلسطينيين في الأردن تمثل تهديداً مباشراً لاستقرار الدولة ونسيجها الاجتماعي.

ورغم أن الخلافات بين الجانبين تقتصر حالياً على ملاعب كرة القدم أو بعض المقالات الصحفية المسيئة، فإن الفجوة بين الأردنيين من أصول فلسطينية وشرق أردنيين تبقى واسعة وعميقة.
وهذا يشير إلى أن هذا الانقسام يرتبط بظروف المعيشة، وفرص الحياة، والتقدم الوظيفي، واحتكار بعض القطاعات الحساسة، مثل: الأمن والإعلام، لصالح الأردنيين من أصول شرق المملكة.

ولكن مع تكرار الحروب بين حماس وإسرائيل، يتآكل التماسك الداخلي في الأردن تدريجياً، فالمواطنون من أصول فلسطينية يدعمون حركة حماس ويميلون في الانتخابات إلى التصويت للحركات الإسلامية الأردنية.

أما المواطنون من أصول شرق أردنية، فيقفون بقوة خلف العرش الهاشمي، ويعتبرون جهود الملك في إبقاء الأردن بعيداً عن حرائق الشرق الأوسط خطوة بالغة الحكمة.

الخطة المصرية

الملك عبد الله بالكاد نجح في تجاوز اختبار ترامب، وأبلغه بأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يُعد خطة بديلة عن الخطة الأمريكية.

وبعد مشاورات مع السعودية، والإمارات، وقطر، والكويت، والأردن، أعلنت القاهرة أخيراً عن تفاصيل خطتها.

وتتألف الخطة العربية من ثلاث مراحل، وتُقدّر تكلفتها الإجمالية بنحو 53 مليار دولار، وتشمل الأولى، مرحلة التعافي: إزالة الأنقاض وبناء مساكن مؤقتة، بتكلفة تُقدّر بنحو 20 مليار دولار.

لكن ما يميز الخطة العربية هو تركيزها على إعادة الإعمار دون تهجير الفلسطينيين،  وتتضمن إصلاحات في مؤسسات السلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى نشر قوات حفظ سلام -لم يُحدد بعد من سيشارك فيها- على أن تضمن هذه القوات منع تكرار أي عملية مشابهة لـ  7 أكتوبر.

مع ذلك قوبلت الخطة العربية ببرود شديد في واشنطن، ورفض صريح في إسرائيل، إذ يعارض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبعض وزرائه عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، معتبرين أن لا فرق جوهرياً بين حماس ومحمود عباس في نهاية المطاف.

واقعية خطة ترامب

هل يعني كل ما سبق أن الخيار الوحيد المتبقي هو خطة ترامب؟. في الواقع، تبدو هذه الخطة محكومة بالفشل لأسباب عدة، ترتبط بشخص الرئيس ترامب نفسه، فهو معروف بتبني خطط تبدو مذهلة على الورق، لكنها تصطدم لاحقاً بوقائع الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد، ثم لا يلبث أن يتوقف عن الاهتمام بها.

كما حدث حين أطلق حملة ترويج واسعة لـ”صفقة القرن”، تبناها لفترة طويلة، وانشغل بجولات واتصالات، ثم لم يأتِ على ذكرها مجدداً.

اليوم، مع الخطة التي تقضي بتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، تبدو الأمور أكثر تعقيداً، وتطرح عدة تساؤلات، أولاً: من هو الجيش الذي سيُجبر سكان غزة على ركوب السفن أو عبور صحراء سيناء لمغادرة القطاع؟، هذه، في أفضل الأحوال، عملية تطهير عرقي لن يقبل بها العالم.

وثانياً: أية دولة لم توافق حتى الآن على استقبال أي لاجئ فلسطيني، كيف يمكنها أن تستقبل مليونين منهم، وتوفر لهم السكن وفرص العمل، كما تفترض خطة ترامب؟، وثالثاً: من سيموّل كل ذلك؟.

يرى معظم المراقبين في واشنطن أن خطة “ريفييرا غزة” لا تختلف عن خطط ترامب الأخرى، كالتعريفات الجمركية وغيرها، وتنبع من المنطق ذاته المتمثل بتقديم عرض صادم ومخيف ومفاجئ، ثم انتظار الآخرين ليقدموا صفقة بديلة تُرضي ترامب وتدفعه للتراجع عن خطته، ليشعر الجميع بالارتياح وكأنهم تخلصوا من كابوس ثقيل.

لذلك، فإن نجاح الخطة العربية يبدو أكثر واقعية، ليس بالضرورة لمنطقيتها الكاملة، بل لأن فشل خطة ترامب يبدو شبه مؤكد.

نجاح الخطة العربية يبدو أكثر قابلية للتحقق ليس بسبب منطقها بالضرورة بل نتيجة لاحتمالية فشل خطة ترامب بدرجة أكبر

كيف نفهم 7 أكتوبر؟

قبل الوصول إلى استنتاجات حول محاولة رسم ما قد يحدث بعد انتهاء الحرب، لا يمكن تجاهل الأسئلة التي لا تزال بلا إجابات حتى اليوم.

 كيف يمكن فهم أحداث 7 أكتوبر؟، وما هي الحسابات العسكرية والسياسية وراءها؟، ومن اتخذ القرار وماذا كان يريد أن يحقق؟ ومن كان على علم بها؟.

نتائج لجنة تحقيق مستقلة قد تُجيب على هذه الأسئلة، التي ما زال نتنياهو يعارضها، أما بالنسبة للأطراف الأخرى، فالكثير منها سيظل غامضاً وغير معروف، حيث قُتل معظم قادة حماس داخل إسرائيل، والأطراف الإقليمية المشاركة ليست معروفة بشفافيتها.

استراتيجية حماس

نفذ قادة حماس محمد الضيف، ويحيى السنوار، ومروان عيسى، عملية خداع واسعة النطاق لإقناع إسرائيل بأن قيادة الحركة منشغلة بتحسين حياة سكان غزة وتطوير الأوضاع المعيشية في القطاع، وأنهم أصبحوا في حالة احتواء ولم يعودوا يرغبون في القتال ضد إسرائيل، لكن، كيف نفذت حماس عملية الخداع؟.

نقلت حماس -في إطار تهدئة الأوضاع في غزة بعد عملية “سيف القدس”، التي جاءت رداً على أحداث حي الشيخ جراح في القدس الشرقية- عبر وسطاء رغبتها في السماح لعمال من غزة بالعمل داخل إسرائيل.

بالفعل، أصدرت إسرائيل تصاريح لأكثر من ثلاثين ألف عامل من غزة، كانوا يعبرون الحدود يومياً للعمل في الداخل الإسرائيلي.

بعدها طلبت حماس من بعض رجال الأعمال الفلسطينيين في الخارج المجيء إلى غزة وإنشاء مشاريع خدمية، وقد استجاب عدد منهم وبدأوا في دراسة إقامة مشاريع حيوية في قطاع غزة، ما عزّز الصورة التي أرادت حماس تصديرها عن “انشغالها بالبناء لا بالحرب”.

الاستخبارات الإسرائيلية  

في إسرائيل، يقول المراقبون: “إن حماس نجحت في خداع المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين من خلال استراتيجيتها في التضليل، ونتيجة لذلك، قدّم المسؤولون الأمنيون تقارير على المستوى السياسي تفيد بأن حماس قد تم ردعها”، لكن القصة ليست بهذه البساطة.

فمعظم القادة السابقين لجهاز الاستخبارات الداخلية (الشاباك)، أكدوا أن استراتيجية الردع تجاه حماس لم تكن فعّالة.

واعتبروا أن الحركة كانت تُعد لعملية كبيرة ضد البلدات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة، حيث أصدروا تحذيرات بهذا الشأن إلى الحكومة الإسرائيلية.

وأضافوا: “إن استراتيجية نتنياهو منذ البداية، والتي اعتمدت على غض الطرف عن سيطرة حماس على القطاع لضمان فصله عن الضفة الغربية، ليست سوى نوع من “السحر السياسي”، محذرين من أن هذه السياسة ستؤدي إلى عواقب خطيرة.

وعلى النقيض من ذلك، نفى نتنياهو كل ما سبق، مؤكداً أنه لم يتلقَّ أي تحذيرات بشأن هجوم محتمل من قبل حماس، وقام بطرد قائد الجيش الإسرائيلي هيرتسي هليفي، ورئيس الشاباك رونين بار، والمستشار القضائي للدولة، كما رفض جميع المطالب بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، على غرار ما جرى بعد حرب أكتوبر عام 1973 وحرب لبنان عام 1982.

 اللاعبون الإقليميون

في اليوم نفسه الذي نُفّذت فيه عملية 7 أكتوبر، نفت إيران علمها المسبق بقرار الهجوم، وكذلك فعل حسن نصر الله، زعيم حزب الله، كما أكدت قطر أن قيادة حماس المقيمة في الدوحة لم تكن على علم بالعملية.

فإذا كان الأمر كذلك، من كان يعلم؟، وهل صحيح أن كل ما حدث في الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر كان نتيجة قرار اتخذه شخصان فقط: محمد الضيف ويحيى السنوار؟.

بالنظر إلى الضيف، فقد كان قد أُصيب بجروح خطيرة في محاولة اغتيال سابقة، فهل كان من الممكن له، رغم وضعه الصحي، أن يتولى التخطيط والتنفيذ لعملية بهذه الضخامة والتعقيد؟ إذاً، لا يتبقى سوى السنوار.

وهل كان هو وحده من تحمّل المسؤولية وخطّط ونفّذ عملية غيّرت وجه الشرق الأوسط؟، وهل كان يُدرك أن عملية بهذا الحجم ستؤدي إلى تدمير قطاع غزة وتهجير مليوني فلسطيني؟، وهل أصبح ضحية لنجاحه المفرط؟، وهل تجاوز ما كان يخطط له؟، وهل من الممكن أن فيلق القدس، الذي يشرف على عمليات ما يُسمى بمحور المقاومة كافة، لم يُستشر؟.

هل لم تُبلغ قطر، التي تستضيف قيادة حماس، أو قيادة حزب الله، أو حتى حركة الجهاد الإسلامي في غزة؟.

إن صحّ كل ذلك، فهذا يعني أن رجلاً واحداً قضى نصف عمره في سجون الاحتلال الإسرائيلي هو من أشعل شرارة هذا التحول الإقليمي الهائل.

نظريات المؤامرة

يفترض عدد من الباحثين المهتمين بفهم أحداث 7 أكتوبر أن طهران، وخصوصاً الجناح المتشدد فيها -أي الحرس الثوري وجهاز الاستخبارات- كانت في أمسّ الحاجة لإيقاف مسار التطبيع العربي مع إسرائيل، لا سيما اتفاقيات أبراهام.

مع ذلك، عندما بدت إدارة بايدن جادة في مسعاها لضمّ السعودية إلى الاتفاق، واقتربت اللحظة الحاسمة، يُقال: “إن طهران أعطت الأمر بتنفيذ عملية 7 أكتوبر من أجل تقويض اتفاقيات أبراهام وتدميرها”.

لا تبدو هذه الفرضية مقنعة كثيراً، إذ إن طهران كانت تعمل بصبر “صانع السجاد” لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، وهي التي خضعت لحصار دام ربع قرن، وكانت خطواتها بطيئة ومدروسة وحذرة، فهل كانت لتغامر بكل شيء دفعة واحدة في خطوة تُشبه تصرفات المقامرين اليائسين؟.

 لكن، بعيداً عن طهران، والحرس الثوري، وفيلق القدس، من يمتلك القدرة فعلياً على إقناع حماس بتنفيذ عملية من هذا النوع؟.

حماس لها علاقات متبادلة المنفعة مع كل من تركيا وقطر؛ فالأولى تسعى لأن يكون لها موطئ قدم في أهم قضايا الشرق الأوسط، والثانية تحاول لعب دور في معظم قضايا المنطقة، لكن تركيا عضو في حلف الناتو، فهل كانت لتجرؤ على اتخاذ قرار بهذا الحجم والمجازفة بكل علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا؟.

أما قطر، فهي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية وأمنية أمريكية في الشرق الأوسط، فهل كان بوسعها أن تنسّق عملية بهذا الحجم بعيداً عن أعين الأمريكيين وأجهزتهم الأمنية؟، وهل لها أصلاً مصلحة في تنفيذ عملية بهذا الحجم؟.

بعيداً عن نظريات المؤامرة، قد يمر وقت طويل قبل أن نفهم حقاً ما حدث في السابع من أكتوبر.

الغزيون يحمّلون حماس المسؤولية

رغم الخوف من عناصر حركة حماس وقدرتهم المستمرة على الانتقام من أي تحدٍّ يواجه الحركة، بدأت تظهر حشود غاضبة تنتقد حماس بأقسى العبارات، وتحمّلها المسؤولية الكاملة عن دمار القطاع وخراب حياة الناس.

ورغم أن مستوى المعيشة في غزة لم يكن مرتفعاً قبل الحرب الأخيرة، إلا أن المشاهد التي يعرضها أهالي غزة لمدينتهم قبل السابع من أكتوبر تُظهر مدينة كانت جيدة مقارنة بالمعايير الإقليمية في الشرق الأوسط.

المشاهد كانت تظهر منازل جميلة، وشوارع منظمة، ورحلات بحرية، وأسواق مزدهرة، ومزارع فراولة، وبساتين حمضيات، لكن كل ذلك اختفى الآن، لذا يحمّل سكان غزة حركة حماس مسؤولية ضياعه، وقد لا يقبلون بعودتها إلى الحكم مرة أخرى.

بالمحصلة، لا معنى لعملية إعادة الإعمار إذا كان هناك من قادة حماس من يفكر في المغامرة القادمة التي ستجلب دماراً جديداً، والأسوأ من ذلك أن مفهوم الحكم نفسه فقد معناه، فالمهمة الرئيسية المقبلة، أي إعادة الحياة، قد تستغرق سنوات طويلة.

قبضة حماس

اليوم، أكبر عقبة أمام السلام هي استمرار تأثير حماس في قطاع غزة. فهي في موقف صعب للغاية. لقد تم تدميرها تنظيمياً ومؤسسياً، وفقدت رعايتها الدولية، والكثير من سكان غزة يشعرون بالغضب منها.

لكن هذا لا يمحو الحقيقة الواقعية على الأرض، وهي أن حماس لا تزال المنظمة السياسية الوحيدة التي تملك القدرة الفعلية على السيطرة على الأمور في غزة.

وعلى النقيض من ذلك، وعلى مدار سنوات، كانت حماس تجمع بين ثلاثة أدوار في آن واحد، إذ كانت جماعة مسلحة تقدر قواتها بنحو 30,000 مقاتل ولديها ترسانة من الصواريخ، وكانت الحكومة الفعلية لغزة، المسؤولة عن 2.3 مليون نسمة.

وكانت قوة سياسية فلسطينية، المعارضة الرئيسية لحركة فتح، الحزب الوطني الذي يدير السلطة الفلسطينية.

والآن، بعد حرب مدمرة، لم يعد بإمكان حماس أن تلعب هذه الأدوار الثلاثة جميعها؛
بل يجب على قيادتها أن تختار واحداً منها.

والخيار الأول لديها هو التركيز على الجناح العسكري. إذ يمكن لحماس أن تتراجع عن إدارة قطاع غزة وتعيّن مجموعة من التقنيين لإدارة الشؤون المدنية. حيث ستظل تمارس نفوذها خلف الكواليس وتعمل على إعادة بناء قواتها.

ومع ذلك، يسمي بعض المراقبين هذا الخيار بـ”نموذج حزب الله”، نسبة إلى الميليشيا الشيعية التي كانت منذ فترة طويلة أقوى قوة في لبنان.

وإذا فشل وقف إطلاق النار في تحسين حياة الفلسطينيين بسرعة، وإذا لم يظهر بديل حكومي شرعي، فقد تستعيد الحركة زخمها.

الفراغ السياسي

لقد عانت المنطقة من العداوة في الماضي أيضاً، لكن هذه الحرب مع استخدام التقنيات الحديثة قد غيرت المشهدين المادي والسياسي معاً.

يميل الباحثون في كثير من الأحيان إلى تكرار معارفهم السابقة، ويفترضون أن نتائج المعارك الحالية ستكون تكراراً لما حدث في الماضي، بمعنى أن حماس ستلملم جراحها، ثم تبدأ محاولات إعادة التسلّح والإبقاء على سيطرتها على قطاع غزة.

لكن، كم مرة سمعنا المقولة المكررة بأن “الأيديولوجية لا تُهزم”؟. كما حدث معهما، تمرّ حماس وجماعات الجهاد في غزة الآن بهزيمة عسكرية وشيكة، وعندما تكتمل هذه الهزيمة، ستفقد أيديولوجيتها القدرة المباشرة على إيذاء أعدائها.

ومع ذلك، ستظل الأيديولوجية قائمة، وسيبذل ما تبقى من قيادتها كل جهد لإعادة تسليح قواتها وإعادة بناء ما فقدته، وينطبق هذا السيناريو أيضاً على الضفة الغربية.

وبالتالي أي محاولة من قبل السلطة الفلسطينية لإرسال قوات إلى القطاع ستقود إلى مواجهة مع حركة حماس، وتكرار لما حدث في عام 2007، لكن جميع هذه السيناريوهات لم تعد تملك أي شرعية فكرية أو واقعية، على الأقل في السنوات القليلة القادمة.

على النقيض من ذلك، فإن قطاع غزة أصبح غير قابل للحكم، فلا توجد فيه مقومات لأي شكل من أشكال الدولة، لا مقار حكومية، ولا مراكز شرطة، ولا موارد مالية، والأهم من ذلك، فقدان الشرعية من قِبل المحكومين أنفسهم.

الخطة العربية

تبدو الخطة العربية وكأنها كُتبت على عجل، لذا فهي تفتقر إلى كثير من التفاصيل الجوهرية، فما زال من غير الواضح: من سيموّل إعادة الإعمار؟، ومن سيشرف فعلياً على التنفيذ؟، ومن أين ستأتي قوات حفظ السلام الدولية؟.

ومع ذلك، إذا لم تسلّم حركة حماس سلاحها، ولم يغادر عدد كبير من قادتها ومقاتليها قطاع غزة، فمن سيضمن أن لا تتحوّل قوات حفظ السلام نفسها إلى رهائن داخل أنفاق غزة؟.

ومع ذلك، هل ستتغير الصورة إذا غادر قادة حماس ومعظم المقاتلين قطاع غزة، على غرار ما فعلته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1982، عندما غادرت مع المقاتلين إلى تونس ودمشق واليمن؟.

حتى في هذا السيناريو، سيبقى قطاع غزة بلا حدود حقيقية، وستمرّ المساعدات، وكذلك مواد إعادة الإعمار، عبر إسرائيل، ما يعني التسويف والتأخير، إلى أن يتحول القطاع إلى مخيم لاجئين ضخم.

وعلى النقيض من ذلك، هناك صفقة مطروحة على الطاولة منذ شهور. بعد أن أعادت حماس تشكيل المنطقة وخلطت أوراق منتقديها، إذ عليها الآن أن تفعل ما هو صحيح وحكيم. حيث يجب أن تقبل العرض المقدم في غزة، وتفرج عن الرهائن، وتنهي الحرب.

كما يجب أن تطلق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين مقابل هدنة دائمة وانسحاب القوات. وتشمل الخطوات التالية تأمين الغذاء والدواء للسكان، واستقبال المساعدات وحمايتها وتوزيعها، ومحاولة توفير مساكن جاهزة أو خيام للإيواء.

هل ستتغير الصورة إذا غادر قادة حماس وغالبية المقاتلين قطاع غزة؟ حتى في هذه الحالة سيظل قطاع غزة بلا حدود واضحة وستمر عمليات إيصال المساعدات والمواد المستخدمة في إعادة الإعمار عبر إسرائيل وهذا يعني المماطلة والتأخير حتى يتحول قطاع غزة إلى مخيم لاجئين ضخم

مستقبل غزة والسيناريوهات المحتملة
الخطة الإسرائيلية

بعيداً عن الحرب، لا تملك إسرائيل تصوراً واضحاً عن كيفية التعامل مع غزة، سوى أنها لن تتخلى بسهولة عن دورها الأمني هناك. فهي تحتل مرة أخرى بعد أن انسحبت من قطاع غزة في عام 2005.

لكن لماذا تقوم إسرائيل بكل هذا؟، وما هي خطتها لغزة؟، وهل تسعى إسرائيل للعودة إلى الحكم العسكري في القطاع كما كان الحال قبل انسحابها في عام 1993 وقبل تفكيك المستوطنات في 2004؟، وهل ستعيد بناء المستوطنات في غوش قطيف ونتساريم؟.

يرفض صانعو القرار الرئيسيون في إسرائيل، مثل: الجيش وأجهزة الأمن، بالإضافة إلى وسائل الإعلام، هذا الخيار بشكل قاطع.

أما عبارة “اليوم التالي” كانت الأكثر تكراراً منذ الهجوم الإسرائيلي على حركة حماس عقب أحداث 7 أكتوبر، حيث قاومت الحكومة الإسرائيلية بشدة كل الضغوط الداخلية، سواء من المؤسسة العسكرية، أو جهاز الأمن، أو المعارضة الإسرائيلية، لعرض أي خطة لما بعد الحرب.

 وحتى مع إصرار بعض أعضاء الحكومة مثل: بني غانتس، وغادي إيزنكوت، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي، وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، تواصل حكومة نتنياهو المماطلة في تقديم رؤية واضحة لحل في غزة بعد انتهاء القتال.

الشيء الوحيد الذي أعلنته الحكومة الإسرائيلية بوضوح هو أنه لا دور لحركة حماس في حكم قطاع غزة، من الآن فصاعداً، وأنه لن يكون هناك عودة للسلطة الفلسطينية لتولي إدارة القطاع، فماذا بعد ذلك؟.

اقترح جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) خطة لغزة ما بعد الحرب، تقضي بالتعاون مع بعض القبائل الفلسطينية المحلية الموثوقة التي تعاونت مع إسرائيل خلال فترة الاحتلال، والتي كانت مكلفة باستلام المساعدات الدولية المتدفقة إلى القطاع وتوزيعها على السكان، ما يقضي عملياً على دور وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

لكن هذه الخطة لم يكتب لها الاستمرار، فقد أفادت تقارير من غزة بأن مسلحي حماس قتلوا أو عذبوا أعضاء هذه القبائل وعائلاتهم الداعمة للخطة، فسرعان ما انهار مشروع الشاباك وتم إزالته من جدول الأعمال.

اندلاع حريق بعد هجوم بطائرة إسرائيلية مسيرة على مدرسة في مخيم البريج، قطاع غزة. (أ ف ب)
الحكم الإسرائيلي لغزة؟

هل يُعقل أن يوافق صناع القرار في إسرائيل، الذين رفضوا العودة لحكم غزة عندما كانت الأوضاع أقل سوءاً، على حكم مليوني فلسطيني منهكين، يحتاجون إلى كل شيء تقريباً، من صحة وتعليم ومعيشة؟.

وما الذي يمكن توقعه من سكان غزة الذين تعرضوا لدمار واسع النطاق؟، هل سيتوقفون عن التفكير في الانتقام؟، وهل كُتب على الزمن أن يكرر نفسه بلا نهاية؟.

يبدو أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، على الرغم من كل الضجيج الذي يصدر عن المتطرفين الإسرائيليين، لن توافق على حكم غزة مجدداً، وهذا ما يفسر رغبتها أو بحثها عن بدائل أخرى، مثل الحكم العشائري أو العائلي، أو تدخل قوات عربية، أو حتى أي جهة يمكن أن تقبل بحكم مكان لم يعد قابلاً للحكم.

في الواقع، كان الهدف الأساسي من اتفاقات أوسلو هو التخلص من عبء حكم التجمعات الفلسطينية الكبرى في غزة والضفة الغربية، رغم المطالب المحمومة لبعض الأحزاب الإسرائيلية، مثل حزب “الصهيونية الدينية”.

خطة الجيش الإسرائيلي

جاءت الفكرة الثانية من الجيش الإسرائيلي بشكل غير رسمي، عبر جنرالات احتياط، وهذه الطريقة متبعة في إسرائيل لطرح أفكار دون تحميل الجنرالات العاملين المسؤولية الرسمية عنها أمام الحكومة.

وتتمحور الفكرة حول نشر قوات عربية في قطاع غزة، لكن فرص تنفيذها ضئيلة مثل الفكرة السابقة، فلم تتطوع أي دولة عربية، وخاصة دول اتفاقيات أبراهام مثل: المغرب والإمارات والبحرين، لتبني هذا المشروع.

 أما الدول العربية الأخرى مثل مصر والسعودية، فتشترط أن يكون هناك أفق سياسي واضح مرتبط بالخطة، ينتهي بإعلان دولة فلسطينية.

خطط الكنيست

 تجنبت إسرائيل تقديم حلول واضحة، بشكل رسمي، لكن بعض الوزراء والنواب في الكنيست ابتكروا نوعاً مختلفاً من الحلول، حيث نظموا مؤتمراً من أجل إعادة المستوطنات إلى قطاع غزة، وحتى أنهم عرضوا خدمات عقارية وأراضٍ للبيع.

ومع ذلك، لم يأخذ أحد هذا المؤتمر على محمل الجد، فلم يفكر أحد في شراء أراضٍ في منطقة لا تزال تشهد معارك دامية، ويحتجز فيها عدد كبير من الإسرائيليين المختطفين في غزة.

وعلى النقيض من ذلك، لم يكن للمستوطنات في غزة سمعة طيبة في إسرائيل أصلاً، وكان يوم تفكيك مشروع الاستيطان في غزة يوماً شهد فيه الكثيرون شعوراً بالارتياح.

حل الدولتين

بعد مضي نحو عامين على القتل المتواصل في غزة، ومشاهد الرعب التي شهدها العالم في السابع من أكتوبر، والتدمير المنهجي للمخيمات في الضفة الغربية، يبدو أن حل الدولتين بات أبعد من أي وقت مضى.

هذا الحل، الذي طالما تم تداوله نظرياً، ربما لم يكن يوماً خياراً واقعياً، خصوصاً في ظل الرفض القاطع الذي يبديه اليمين الإسرائيلي.

وقد حظي هذا التيار اليميني بدعم كبير من الأحزاب الدينية، مثل حزب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وحزب “الصهيونية الدينية” بقيادة بتسلئيل سموتريتش، وكلاهما شريكان أساسيان في حكومة بنيامين نتنياهو، وأعداء واضحون لفكرة الدولة الفلسطينية منذ توقيع اتفاقية أوسلو.

وعلى النقيض من ذلك، ورغم هذا الواقع المتشائم، يطرح التساؤل: لماذا لا تزال الإدارات الأمريكية المتعاقبة تواصل اقتراح حل الدولتين، وهي تدرك تماماً أنه بات مستحيلاً؟.

يجيب محللون في الشؤون الأمريكية من واشنطن، بالقول: “إن الحديث عن حل الدولتين من قبل المسؤولين الأمريكيين ليس سوى مجاملة لفظية، هدفها إرضاء الحلفاء الأوروبيين والعرب، دون أن تكون هناك نية حقيقية لتطبيقه”.

البديل

التفسير المنطقي لذلك في واشنطن، والذي يحظى بالانتشار الواسع، أنه لا يوجد خيار آخر أمام الإدارات الأمريكية سوى فكرة حل الدولتين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بمعنى آخر، لا توجد بدائل عملية أو سياسة أخرى يمكن طرحها في الوقت الراهن.

وهذا يشير إلى أن انهيار حل الدولتين يخلق مشكلات أكثر مما يحل، أما البديل القائم على حل الدولة الواحدة فلا يمكن قبوله أو تطبيقه، خاصة في ظل موجة الكراهية والرغبة في الانتقام التي أعقبت أحداث 7 أكتوبر، حتى أنه لا يمكن تخيل، أو من المستحيل أن يكون هناك تعايش بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي داخل دولة واحدة.

الفصل العنصري

لكن، ما الذي يمكن فعله إذا قامت إسرائيل بضم الضفة الغربية دون منح الفلسطينيين حقوق المواطنة؟.

هذا يعني إقامة دولة فصل عنصري، وقد رفض العالم هذه الفكرة منذ سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

ولن تجد فكرة ترحيل الفلسطينيين، التي تقودها الأحزاب الصهيونية الدينية، قبولاً في أي مكان بالعالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، وإن المطالبة بالإطاحة بالسلطة الفلسطينية أو انهيارها التلقائي سيؤدي إلى عودة الاحتلال المباشر لأكثر من مليونين ونصف مليون نسمة في الضفة الغربية، وهو خيار يرفضه الجيش الإسرائيلي وكثير من الإسرائيليين.

جمعيات القرى  

يقترح بعض الباحثين الإسرائيليين العودة إلى فكرة جمعيات القرى، التي تم تجربتها في السبعينيات، والتي تعتمد على أن يتولى وجهاء القرى، والمخاتير، والعائلات إدارة الحكم المحلي في كل مدينة فلسطينية.

لكن هذه الفكرة فشلت في السبعينيات بسبب عدم شعبيتها بين الفلسطينيين، لأن نشطاء حركة فتح قاموا بتحييد من اختاروا التعاون مع إسرائيل في هذا المشروع، ومع ذلك، كانت هذه الأحداث قبل خمسين عاماً، واليوم تبدو الصورة مختلفة تماماً.

الفساد في السلطة الفلسطينية

تشعر الغالبية العظمى من الشارع الفلسطيني باليأس جراء الفساد وعدم الكفاءة المنتشرة في السلطة الفلسطينية، حيث يشهد الشرق الأوسط انهيارات كبيرة في عدة دول مثل: سوريا ولبنان وليبيا، وهناك مخاوف من أن تكون مصير هذه الدول مشابهاً لمصير غزة.

أما الجانب الأهم في الموضوع فهو حجم الدعم الذي تقدمه الإدارة الأمريكية، والكونغرس، وحكام الولايات، وقادة الأعمال، وأصحاب الشركات الكبرى مثل: تسلا، وأمازون، وفيسبوك، ومايكروسوفت لإسرائيل.

الدعم الأوروبي

مع ذلك ووسط كل هذه التطورات، تسارع بعض الدول الأوروبية مثل: أيرلندا وإسبانيا، ومؤخراً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الإعلان عن نواياها الاعتراف بدولة فلسطينية في إطار حل الدولتين.

وهذا يشير إلى أن الأشهر القادمة ستكون حاسمة في الإجابة عن السؤال: هل سيشهد  العالم الاحتفالات بنجاح حل الدولتين واعترافاً رسمياً بالدولة الفلسطينية، أم ستتحول هذه الاعترافات إلى مراسم تأبين للمبادرة؟.

اتفاقات أبراهام

لا يزال السؤال المهم بلا إجابة: ما الذي سينهي الصراع بشكل دائم؟، والإجابة عليه تبدو مستحيلة في ظل تداعيات الحرب الأخيرة. فعلى الرغم من وقف إطلاق النار، تبقى القضايا الجوهرية التي امتدت لعقود بين إسرائيل والفلسطينيين بلا حلول.

 وأبرز هذه القضايا وأكثرها حساسية هي قيام الدولة الفلسطينية، والخلاف حول القدس، التي يطالب بها الطرفان كعاصمة لدولتهما. وهذا النزاع محوري للغاية، لأنه متجذر بعمق في العقائد الدينية لكل من الطرفين.

كما أن مسألة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، والتي وصفتها محكمة العدل الدولية بأنها “غير قانونية”، ستبقى تطفو على السطح مراراً وتكراراً.

ومع ذلك، فإن دوامة العنف التي لا تنتهي، والمستمرة منذ إعلان بلفور عام 1917، يجب أن تُدفن إلى الأبد، وذلك إن أُريد فعلاً إعطاء فرصة للسلام في هذه المنطقة المنهكة.

التوترات الإقليمية

بالإضافة إلى ذلك، فإن التوترات الإقليمية مثل الخلافات بين إيران وإسرائيل واليمن وإسرائيل لن تتوقف عن تأجيج الصراع. وفي ظل هذا الوضع، قد يستغل أي طرف هذه الاحتكاكات لمصالحه الخاصة، ما يقوض مبادرات السلام. فماذا يجب أن يُفعل إذاً؟.

لا يوجد سوى طريق واحد واقعي لكسر هذه الدائرة المفرغة من العنف. أي يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء أن يدركوا أن المضي في طريق “قتل الآخر” لن يؤدي إلا إلى مزيد من القتلى والدمار والتهجير. فلا يمكن أن تثمر مثل هذه السياسة إلا عن الخراب.

كما يجب أن يُدرك الطرفان أن التعايش هو الحل الوحيد لتحقيق السلام الدائم، وأن إقامة دولة فلسطينية يعيش فيها الناس حياة كريمة ستجلب الانسجام. لذلك، يبدو أن هذا هو الضمان الدائم الوحيد لأمن واستقرار إسرائيل.

المضي في طريق “قتل الآخر” لن يؤدي إلا إلى مزيد من القتلى والدمار والتهجير فعلى الفلسطينيين والإسرائيليين أن يفهموا أن التعايش الحل الوحيد لتحقيق السلام الدائم

 اتفاقيات أبراهام التي برزت في المنطقة تُظهر أنه بإمكان الطرفين العيش في وئام وسلام. ولا يعني ذلك أن توسيع الاتفاقيات بين مزيد من الدول سيؤدي حتماً إلى السلام، بل يجب التعامل مع الأسباب الجذرية التي كانت لفترة طويلة المصدر الرئيسي للتوتر والصراع في الشرق الأوسط.

ومعالجة هذه القضايا ستضمن نهاية دائمة للقتال، ووضع حد لحالات عدم الثقة، وتمهيد الطريق أمام خطوات أولى نحو إعادة الإعمار، والتأهيل، والازدهار. كما ستُحوّل تركيز الإدارة الأمريكية إلى قضايا أخرى أكثر إلحاحاً على جدول سياستها الخارجية.

باختصار، الدروس المستفادة من غزة عديدة، ولكن الأعمق منها هو أن النظام العالمي القديم لم يعد قابلاً للاستمرار، والتغيير أصبح ضرورة حتمية.

EIR

EIR

منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.