قبرص بين الاستقلالية والانحياز

تقرير
سفينة إسبانية محملة بمساعدات غذائية لغزة تبحر من قبرص (أ ف ب)
سفينة إسبانية محملة بمساعدات غذائية لغزة تبحر من قبرص (أ ف ب)
ﺷﺎرك

لطالما عُرفت جمهورية قبرص بانقسامها وعدم انحيازها، غير أنها تُعيد اليوم بهدوء وحزم النظر في توجهها الاستراتيجي، ففي منطقة تتسم بعدم الاستقرار وتشابك التنافس الإقليمي، بدأت نيقوسيا تضطلع بدور أكثر ثقة وارتباطاً بالمعسكر الغربي، عبر تعزيز تعاونها مع الولايات المتحدة، والاستثمار في تنسيق العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، إلى جانب بروزها كمركز إنساني ودبلوماسي في أوقات الأزمات.

يعكس هذا التحوّل التدريجي معضلة مألوفة تواجه الدول الصغيرة، وهي كيف يمكن الاستفادة من التحالف مع القوى الكبرى دون التفريط في استقلالية القرار الوطني؟.

أشار الباحث الأمريكي في العلوم السياسية ستيفن والت، إلى أن التحالفات غير المتكافئة غالباً ما تصب في مصلحة الطرف الأقوى، ما لم يتمكّن الطرف الأضعف من تحويل علاقته التبعية إلى شراكة متبادلة تعود بالنفع على الطرفين، وبالنسبة لقبرص، تكمن التحديات في تحقيق هذا التوازن الدقيق، عبر تعزيز الروابط مع الغرب مع ضمان أن يبقى هذا الانخراط مصدر قوة ونفوذ، لا قيداً أو عبئاً، وفي الدول الصغيرة مثل قبرص، فإن السيادة اليوم لا تعني العزلة، بل تعني إتقان إدارة الاعتماد المتبادل.

وسلّط الضوء على هذا التحوّل الخطة التي قدّمها الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس في قمة شرم الشيخ أكتوبر 2025، والمكونة من ست نقاط لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، كما شكّل توجيه الدعوة إلى قبرص ومضمون مقترحاتها، إشارة واضحة إلى أن الأهمية الجيوسياسية للجزيرة باتت تُقاس بما يتجاوز حدود “المشكلة القبرصية”.

ومع ذلك فإن تزايد حضور قبرص الإقليمي يحمل في طيّاته تبعات استراتيجية، فتعزيز شراكاتها مع الغرب يرفع من مكانتها، لكنه في الوقت نفسه يزيد من تعرضها لضغوط من أطراف مثل: تركيا وروسيا، لذلك فإن مهمة نيقوسيا تتمثل في تحويل هذا الحضور إلى نفوذ دائم دون فقدان استقلاليتها في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​المتنازع عليها.

ورغم كل هذه المكانة الجديدة التي اكتسبتها، تظل قبرص كما كانت دائماً: جزيرة صغيرة تعيش في ظل إرادات أكبر تشكّلها القوى الغربية والتركية، والقوى الرقمية المتزايدة.

 رغم مكانة قبرص إلا أنها  تظل جزيرة صغيرة تعيش في ظل إرادات أكبر تشكّلها القوى الغربية والتركية والقوى الرقمية المتزايدة

 السياق الاستراتيجي: منطقة في حالة تغير مستمر

أصبح شرق المتوسط ساحة مجزأة تتسم بالعلاقات الانتقالية، تتقاطع فيها قضايا الطاقة والهجرة والأمن، حيث تراجعت التحالفات المستقرة لتحل محلها تحالفات متغيرة قائمة على قضايا مشتركة، تربط بين أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي ظل هذا المشهد المتغير، غالباً ما تحظى المصداقية والقدرات اللوجستية بأهمية أكبر من حجم القوة أو القدرات العسكرية.

لم تعد قبرص تسعى إلى الحماية فحسب، بل تطمح إلى أن تصبح فاعلة ومؤثرة، أي أن يُنظر إليها على أنها دولة لا غنى عنها وليس فقط آمنة، حيث تعكس السياسة المتطورة لنيقوسيا مزيجاً من السعي نحو الحماية والاستقلالية والقدرة على الفعل.

ومن خلال ترسيخ وجودها ضمن الأطر الغربية وتوسيع دائرة تواصلها مع إفريقيا وآسيا الوسطى، تتكيف قبرص مع منطقة باتت تُحدد فيها الأهمية الاستراتيجية بالمرونة والقدرة على التكيف، لا بالتحالف وحده.

الدبلوماسية الإنسانية كأصل استراتيجي

جغرافية قبرص وتماسك مؤسساتها جعلتا منها المنطلق الطبيعي للتنسيق الإنساني خلال الأزمات الأخيرة.

أقامت عملية “أمالثيا” ممراً بحرياً لإيصال المساعدات إلى غزة، محوّلة قبرص إلى نقطة انطلاق آمنة ومحايدة للشحنات في خضم الأعمال العدائية، وبدعم من الاتحاد الأوروبي والشركاء الإقليميين، برهنت العملية على قدرة قبرص في الجمع بين التسهيل والرقابة.

نسّق برنامج “إستيا” عمليات إجلاء من لبنان وغزة والسودان، حيث نُقل آلاف المواطنين من دول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى عبر البنية التحتية القبرصية، إذ كشفت هذه العمليات عن التنسيق القوي بين الوكالات المختلفة، كما عملت الجهات المدنية والدفاعية والخارجية بتناغم تام تحت ضغوط عالية، وبالنسبة لدولة عُرِّفت بانقسامها الداخلي، كان لتنسيق إجلاء الآخرين دلالات رمزية كبيرة، فقبرص، وللمرة الأولى، صار الناس يهربون إليها لا منها.

كل شراكة، من “أمالثيا” إلى “إستيا”، تحمل ذات الطموح الخفي: تحويل القرب إلى غاية واضحة وذات معنى.

إدارة قبرص المتوازنة لأسطول الحرية الدولي المؤيد لغزة، بعد منحه حقوق الرسو فقط بعد إجراء الفحوصات القانونية والأمنية، عززت بشكل أكبر صورتها كفاعل بحري كفؤ وموثوق.

من خلال هذه المبادرات، تقدم قبرص نفسها كعامل محفز للاستقرار، ودولة ذات كفاءة وتوقعات واضحة لا غنى عنها في الأزمات الإقليمية، حيث تتحول مصداقيتها التشغيلية إلى رأس مال استراتيجي؛ إذ أن ضمان استمرار الوصول الإنساني واللوجستي يعزز من نفوذ نيقوسيا في الحوارات الأمنية الأوسع ويوطد دورها ضمن أُطر إدارة الأزمات الغربية، وبالتالي، تُمثّل الدبلوماسية الإنسانية إشارةً استراتيجية، تُبرز الموثوقية والسيادة في منطقةٍ تندر فيها الثقة.

تقدم قبرص نفسها كعامل محفز للاستقرار، ودولة ذات كفاءة وتوقعات واضحة لا غنى عنها في الأزمات الإقليمية

تعميق الروابط عبر الأطلسي والبنية التحتية الأمنية

شكل رفع الحظر الأمريكي على الأسلحة عام 2022 نقطة تحوّل، حيث تحولت قبرص من شريك هامشي إلى محور ناشئ ضمن شبكة الأمن الغربية، كما أدّى إطلاق الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وقبرص بعد ذلك بوقت قصير إلى تقنين التعاون في مجالات الدفاع والاستخبارات وأمن الطاقة والمرونة السيبرانية، وهي مجالات كانت سابقاً خارج نطاق التعاون الثنائي.

يُعدّ “المركز القبرصي للأراضي والبحار وأمن المرافئ) سيكلوبس(، رمزاً محورياً لهذه الشراكة، حيث يقدم بتمويل من وزارة الخارجية الأمريكية، وبإدارة مشتركة مع السلطات القبرصية، تدريباً متقدماً في مجال الوعي البحري، ومكافحة الانتشار، والدفاع السيبراني، ويُعدّ مركزاً لبناء قدرات الشركاء الإقليميين، ودليلاً ملموساً على أهمية قبرص في منظومة الأمن عبر الأطلسي.

أجرت تحسينات في البنية التحتية، حيث تشهد قاعدة أندرياس باباندريو الجوية في بافوس وقاعدة إيفانجيلوس فلوراكس البحرية، المعروفة سابقاً باسم قاعدة ماري البحرية عمليات تحديث مرحلية تشمل تمديد مدارج الطائرات، وبناء حظائر جديدة، وتوسيع قدرات الرسو لاستقبال وحدات بحرية أكبر، وعلى الرغم من هذه التطورات، فإن هذه المنشآت تحتفظ بسيادة كاملة لقبرص، وتُعدّ اليوم جزءاً لا يتجزأ من اللوجستيات الغربية، حيث تدعم عمليات المراقبة، والتزود بالوقود، والنشر الإنساني في جميع أنحاء شرق المتوسط.

 أما على مستوى العمليات، تعمّق التعاون بشكل ملحوظ، حيث أظهرت برامج التدريب المشتركة والتحقيقات السيبرانية مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي والشركاء الأوروبيين، إلى جانب الدعم الجوي والتقني السريع من الولايات المتحدة خلال حرائق الغابات عام 2025، مدى التوافق المتزايد والثقة المتبادلة، كما عزز الانضمام غير الرسمي لقبرص في آليات التنسيق بين موظفي الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو دورها كوسيط موثوق بين الأُطراف الأوروبية والأطلسية.

تشكل الطاقة والتكنولوجيا ركيزتين أساسيتين في تعزيز الروابط عبر الأطلسي، فاهتمام القطاع الخاص الأميركي ببنية الغاز الطبيعي المسال، إلى جانب الاستثمارات الأوروبية في الأمن السيبراني والوعي بالمجال البحري، يربط المصالح الاقتصادية والأمنية لقبرص بشكل أوثق بالأولويات الاستراتيجية الغربية.

من خلال هذه المبادرات، نجحت قبرص في ترسيخ موقعها داخل الإطار الأمني الغربي، مع بقائها رسمياً خارج سياسات الاصطفاف العسكري، وهذا الترتيب الدقيق يعزّز من قدراتها على الردع، ويوسّع نطاق وصولها العملياتي، ويرفع من مكانتها الدبلوماسية؛ لكنه، في الوقت ذاته، يقلّص من هامش المناورة الاستراتيجي الذي لطالما ميّز السياسة الخارجية القبرصية.

نجحت قبرص في ترسيخ موقعها داخل الإطار الأمني الغربي مع بقائها رسمياً خارج سياسات الاصطفاف العسكري

المخاطر وأدوات الموازنة في الاصطفاف الغربي

يُعزز اندماج قبرص المتزايد ضمن الهياكل الأمنية الغربية قدراتها على الردع، والتحديث، والوصول إلى المعلومات الاستخباراتية، لكنه في المقابل يحدّ من مرونتها الاستراتيجية.

الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليديس خلال لقاء دونالد ترامب في شرم الشيخ بمصر (أ ف ب)

يكمن الخطر الذي تواجهه الدول الصغيرة في التحالفات غير المتكافئة في طبيعته الهيكلية، إذ إن الاعتماد على شريك أكبر قد يوفر الحماية، لكنه قد يُقوِّض الاستقلالية إذا لم يُدار بعناية، وبالنسبة لقبرص، يكمن التحدي في ضمان أن يظل انخراطها مع الغرب قائماً على المعاملة بالمثل، لا على أساس التبعية.

لذلك يعد الاعتماد المفرط على الدعم الأميركي أو الأوروبي مقيداً لخيارات السياسة الخارجية، خصوصاً إذا تغيرت أولويات الغرب، كما أن تصوُّر فقدان الحياد قد يُضعف مصداقية نيقوسيا كوسيط إقليمي، إضافة إلى ذلك، تظلّ أشكال الرد غير المتكافئة، مثل: الهجمات السيبرانية، والحوادث البحرية، والطعون القانونية، مخاطر دائمة من قبل أطراف معادية.

يعتمد النضج الاستراتيجي لقبرص على قدرتها في ترسيخ موقعها ضمن المنظومات الغربية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قدرٍ من المرونة يُبقي على قيمتها الإقليمية، وفي هذا السياق، ينبغي فهم تنويع شراكاتها باتجاه الخليج، وأفريقيا، وآسيا الوسطى، على أنه مكمل لهذا الانخراط الغربي، وفي الوقت ذاته وسيلة للتحوّط من التعرّض المفرط للارتباط الأحادي.

الدبلوماسية الإقليمية والانفتاح العالمي

تُضاعف قبرص نفوذها من خلال التعددية الفاعلة، حيث تطورت الآليات الثلاثية مع اليونان وإسرائيل، ومع مصر والأردن بشكل منفصل، إلى شراكات عملية تُغطي الأمن البحري، والطاقة، والهجرة، والحماية المدنية.

في الخليج، يمثّل اتفاق التعاون الجديد مع الكويت في مجالي الاستثمار والتعليم خطوة نحو انخراط أعمق مع دول مجلس التعاون الخليجي، كما أدّت قبرص دوراً في وساطة هادئة في اتفاق الهجرة بين الاتحاد الأوروبي ولبنان لعام 2024، حيث ساهمت في تقريب وجهات النظر بين بروكسل وبيروت.

بعيداً عن محيطها المباشر، توسّع نيقوسيا نفوذها ليشمل آسيا الوسطى وأفريقيا، ويتركز التعاون مع كازاخستان وأوزبكستان على دبلوماسية المناخ، والحكومة الرقمية، والربط الاقتصادي، بينما أسفرت زيارة عام 2025 إلى إثيوبيا وهي الأولى منذ عام 1973، عن اتفاقيات في مجالات التجارة، والتبادل الثقافي، والتدريب الدبلوماسي.

 وتوسع هذه المبادرات وجود قبرص في مناطق تعتبرها تركيا جزءاً من شبكة نفوذها الكبير، ومن خلال بناء هذه الشراكات الجديدة، لا تُنوّع قبرص علاقاتها الخارجية فحسب، بل تُوازن أيضاً بشكل دقيق النفوذ التركي، معززة صورتها كبديل عملي على صلة راسخة بالاتحاد الأوروبي في مناطق تروّج فيها تركيا لسردية شاملة عبر الدين والتجارة.

الضغوط وردود الفعل: أنقرة وموسكو

تُعد تركيا العامل الخارجي الأكثر تأثيراً في معادلة أمن قبرص، حيث تُجسّد عقيدة “الوطن الأزرق”، الطموح التركي في الهيمنة البحرية على كامل شرق البحر المتوسط والبحر الأيوني، ما يجعل قبرص عائقاً جغرافياً ومطالبة قانونية مضادة، وفي إطار الرؤية الاستراتيجية لأنقرة، يُعدّ السيطرة الكاملة على المناطق البحرية المحيطة، بما في ذلك موارد الطاقة وممرات الملاحة، أمراً محورياً لاستعادة تفوق تركيا الإقليمي، ولذلك، يُنظر إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص ليس فقط كمجال متنازع عليه، بل كحاجز استراتيجي يجب مواجهته.

خلال العقد الماضي، جمعت أنقرة بين أساليب الإكراه، والترهيب، والتدخل الانتقائي، حيث دخلت الدوريات البحرية التركية لمرافقة عمليات المسح الزلزالي مراراً المياه التي تطالب بها قبرص، فيما أطلق مسؤولون أتراك، بمن فيهم الرئيس رجب طيب أردوغان، تحذيرات مباشرة بأن تركيا «لن تتردد في اتخاذ الإجراءات» إذا ما انتهكت حقوق تركيا أو الأتراك القبارصة في شرق البحر المتوسط بحسب رؤيتها، حيث تُرافق هذه التصريحات، في كثير من الأحيان، مناورات حية أو بعثات استكشافية تحت حماية بحرية، ما يشكل إشارات إكراه مقصودة موجهة إلى نيقوسيا وشركائها الغربيين على حد سواء.

تعزز الأدوات الهجينة والسياسية الموقف التركي، فالطعون القانونية على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، وحملات التضليل ضد المؤسسات القبرصية، والتسلل السيبراني، والدعم العلني للسلطات القبرصية-التركية تُسهم في إبقاء مستوى الضغط منخفض بشكل مستمر.

 وتمتد نفوذ أنقرة إلى المجالات الأيديولوجية والحكومية، حيث تُجسّد إسلامية المجال العام التركي-القبرصي، كما يظهر في بناء مجمع ليفكوشا كوليه، وهو مجمع إداري وديني واسع، كيف تدمج تركيا القوة الصلبة مع التأثير الثقافي والمؤسسي، ومن خلال مديرية الشؤون الدينية (ديانات)، والبرامج التعليمية، والرعاية المالية، سعت أنقرة إلى إعادة تشكيل الهوية المدنية في شمال الجزيرة، ما أدى إلى تشديد السيطرة السياسية وتقليص الاستقلالية المحلية.

أما روسيا، فقد تحوّلت من شريك اقتصادي إلى استراتيجي متشكك، حيث أجبرتها الحرب في أوكرانيا والعقوبات الأوروبية اللاحقة على إعادة تقييم دور قبرص كنقطة مالية ولوجستية، إذ انتقلت بعض الأصول والشبكات الروسية التي كانت متمركزة في الاقتصاد القبرصي، لكن موسكو حافظت على نفوذ غير رسمي عبر شمال قبرص، ويعكس ازدياد عدد المواطنين الروس المستقرين هناك، إلى جانب الخدمات القنصلية الفعلية والتواصل الثقافي، جهداً هادئاً ومتعمداً للحفاظ على الوجود والنفوذ.

وبينما تواصل موسكو نفي أي اعتراف بالدولة التركية المدعومة “جمهورية شمال قبرص التركية”، فإن قرارها بتمديد الخدمات القنصلية شمال الخط الأخضر يشير إلى نهج محسوب، يبقى ضمن الحدود القانونية لكنه يشغل منطقة رمادية من النفوذ والإشارة.

يُضيف موقف موسكو في مجلس الأمن الدولي بعداً إضافياً من التعقيد، فروسيا، التي دعمت تاريخياً قرارات تؤكد سيادة جمهورية قبرص وإطار الفيدرالية ذات الطابع المشترك بين القبارصة اليونانيين والأتراك، يمكنها من خلال الحياد السلبي أو التعطيل الانتقائي أن تُضعف شبكة الأمان الدبلوماسية هذه.

إذا نظرنا إلى الحزم التركي والغموض الروسي معاً، فإنهما يُحددان الحدود الخارجية للمجال الاستراتيجي لقبرص، حيث تستخدم أنقرة قوة القرب، والخطاب القسري، والأدوات الهجينة، والإسقاط الأيديولوجي؛ بينما تعتمد موسكو على الفوارق الدبلوماسية والنفوذ المؤسسي، وكلا الطرفين ينظر إلى ترسيخ نيقوسيا في المحور الغربي كخسارة جيوسياسية، ومن المرجح أن يلجآ إلى وسائل غير متكافئة لمواجهتها، وسيظل التعامل مع هذين الاتجاهين المزدوجين من الضغط محوراً رئيسياً في مساعي قبرص للتموضع كفاعل ذي سيادة ومنسجم مع الغرب في نظام إقليمي يتسم بتنافسية متزايدة.

إذا نظرنا إلى الحزم التركي والغموض الروسي معاً فإنهما يُحددان الحدود الخارجية للمجال الاستراتيجي لقبرص

السيناريوهات والتوقعات الاستراتيجية

سيعتمد مسار السياسة الخارجية لقبرص على كيفية إدارتها للتوتر بين تعميق التكامل الغربي والحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي، وهنا توضح خمسة مسارات محتملة الخيارات المستقبلية.

1- حليف راسخ: تعميق الاندماج الغربي:

 تواصل قبرص ترسيخ مكانتها ضمن شبكات شركاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث يساهم توسيع نطاق تبادل البنية التحتية، والوصول إلى المعلومات الاستخباراتية، والتعاون السيبراني، في تعزيز قوة الردع، ورفع مكانة نيقوسيا كمركز غربي موثوق.

الفرص: تعزيز الضمانات الأمنية، ونقل التكنولوجيا، وتدفقات الاستثمار.

المخاطر: تضييق هامش المناورة الدبلوماسية، وتصعيد تركي محتمل، والاعتماد على الإرادة السياسية الغربية المتغيرة.

2- التعاون المرن: الحياد مع المشاركة:

تحافظ نيقوسيا على التعاون دون الالتزام بتعهدات دفاعية ملزمة، مع إعطاء الأولوية للروابط الإنسانية والدبلوماسية والاقتصادية، حيث يحافظ هذا النموذج على مصداقية الوساطة، لا سيما في العالم العربي، لكنه يحد من قيمة الردع والاستثمارات الغربية.

الفرص: الاستقلالية في الوساطة خلال الأزمات ومصداقية متعددة الأطراف.
المخاطر: ضعف الردع، وعدم وضوح الدعم الغربي في حالات الطوارئ.

3- التعرّض الاستراتيجي الزائد: توافق بلا حماية

انحراف سريع نحو الهياكل الغربية يتجاوز جاهزية المؤسسات المحلية، حيث يؤدي هذه الوضوح العالي إلى ردود فعل هجينة من تركيا أو روسيا، مثل الهجمات السيبرانية، والمضايقات البحرية، والنزاعات القانونية، وقد يؤدي الإرهاق الشعبي والتكاليف الاقتصادية إلى تآكل التوافق الداخلي حول سياسة خارجية نشطة.

الفرص: مكاسب في المكانة قصيرة الأمد، وزيادة الاعتراف الغربي.
المخاطر: ضغوط غير متكافئة، واستقطاب داخلي، وإرهاق استراتيجي.

4- محور متعدد الاتجاهات: تنويع الشراكات:  

توسّع قبرص تعاونها مع دول الخليج وأفريقيا وآسيا الوسطى، مكملة بذلك تحالفها الغربي بقنوات بديلة للنفوذ، إذ يوفر التنويع عمقاً استراتيجياً ووسيلة للتحوّط ضد الإفراط في الاعتماد، لكنه يتطلب قدرات دبلوماسية واسعة وإدارة موارد متماسكة.
الفرص: استثمارات جديدة، وتوسيع نطاق النفوذ الدبلوماسي، وزيادة الاستقلالية.
المخاطر: التمدد المفرط وتشتت الأولويات إذا لم يقترن ذلك بالقدرة المناسبة.

5- وسيط الأمن الإقليمي: مركز الشؤون الإنسانية والأزمات:

بناءً على إطاري عمل “أمالثيا” و”إستيا”، تُرسّخ قبرص دورها في الاستجابة للأزمات، حيث تعمل كمركز تنسيق للاتحاد الأوروبي في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​للخدمات اللوجستية الإنسانية، والحماية المدنية، والسلامة البحرية، حيث يدمج هذا النموذج القوة الناعمة مع الأهمية العملياتية، ما يسمح لقبرص بممارسة نفوذ لا يتناسب مع حجمها.

الفرص: رأس مال السمعة، وتمويل الاتحاد الأوروبي، ومكانة مستقرة في إدارة الأزمات العالمية.

المخاطر: الاعتماد على الأزمات الخارجية للحفاظ على الرؤية، واحتمال حدوث خلافات مع الجهات الفاعلة الإقليمية التي ترى تجاوزاً في نطاق نفوذها.

عرض عسكري للسفن الحربية والمروحيات التركية في شمال قبرص (أ ف ب)
مقارنة استراتيجية

يُقدم كل سيناريو معياراً مختلفاً للتوافق والاستقلالية، حيث يُعزز نموذجا الحليف الراسخ والوسيط الأمني، ​​التكامل الغربي والأهمية المؤسسية؛ بينما يُركز نموذجا التوازن المرن والمحور متعدد الاتجاهات على الاستقلالية والاتساع الإقليمي، بينما يبقى مسار التعرض المفرط النتيجة التحذيرية الرئيسية.

 في الوقت الحاضر، تُشبه قبرص إلى حد كبير مسارَي الحليف الراسخ والوسيط الأمني، فهي وثيقة الصلة بالغرب، لكنها في الوقت نفسه تُوظّف المصداقية الإنسانية لتحقيق امتداد دبلوماسي، حيث يتطلب الحفاظ على هذا التوازن ما يُطلق عليه ستيفن والت “المرونة الاستراتيجية”: القدرة على التعاون دون استسلام، والتوافق دون الانجراف، لكن إذا استمر هذا الوضع، فقد يُحوّل قبرص من دولة صغيرة على الهامش إلى حلقة وصل مُستقرة بين أوروبا والشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.

مستقبل قبرص

تطورت قبرص من مراقب هامشي إلى نقطة محورية للتنسيق والمصداقية والانخراط الإنساني، ومن خلال الجمع بين الموثوقية والانتشار الاستراتيجي، أصبحت تلعب دوراً يفوق حجمها في استقرار المنطقة.

 وفي ظل تزايد الانقسام وتعدد الأقطاب في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لم تعد قبرص مجبرة على التكيف مع التحولات في بيئتها؛ بل إنها تساعد في تشكيل هذه التحولات بحذر ولكن بشكل متعمد.

في ظل تزايد الانقسام في منطقة البحر الأبيض المتوسط لم تعد قبرص مجبرة على التكيف مع التحولات في بيئتها بل إنها تساعد في تشكيلها بحذر ولكن بشكل متعمد

 اختبارها التالي هو ترسيخ انحيازها الغربي دون المساس باستقلاليتها، حيث يشير اندماج الجمهورية المتزايد في الهياكل الأوروبية الأطلسية إلى خيار مدروس: ترسيخ مستقبلها في النظام الليبرالي القائم على القواعد، مع الحفاظ على المرونة التي تجعلها طرفاً إقليمياً فاعلاً.

بالمحصلة، لا تتعلق قصة قبرص باختيار طرف على حساب آخر، بل بتحديد مكانتها ووزنها السياسي، ففي عالم يُقاس فيه النفوذ بمدى الانتشار، قد تكمن قوتها في شيء نادر: “الثبات”.

نيكوليتا كوروشي

نيكوليتا كوروشي

نيكوليتا كوروشي، صحفية ومحللة سياسية قبرصية، عملت مع عدد من مراكز الأبحاث، أبرزها منتدى الشرق الأوسط، كما نشرت مقالات في وسائل إعلام دولية، وتركز على التطورات في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.