ضربة إسرائيل للدوحة: تحالفات هشّة ونظام إقليمي متآكل

تقرير
لقطة تظهر جزءاً من عملية الاستهداف في العاصمة القطرية، الدوحة. (أ ف ب)
لقطة تظهر جزءاً من عملية الاستهداف في العاصمة القطرية، الدوحة. (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

عندما شنّت القوات الإسرائيلية هجوماً على قادة حماس في الدوحة، لم تكتفِ بقتل بعض العناصر، بل انتهكت أرض حليفة للولايات المتحدة، وقلبت دور قطر الحساس كوسيط، مرسلة إشارات مفادها أن حتى أكثر المساحات الدبلوماسية التي تم الحفاظ عليها بعناية في الخليج أصبحت الآن ساحات قتال.

ما الذي حدث؟ ولماذا لا يمكن اعتباره هامشياً؟

لقد كانت ردود الفعل على الضربة الجوية الإسرائيلية كبيرة، ولا سيما أنها لم تأتِ من دون سبب وجيه، فلم تكن العملية مجرد هجوم تكتيكي، بل شكلت تحدياً عميقاً للأعراف الراسخة في الدبلوماسية الدولية، وبدرجة أقل، للسيادة، فقد حافظت قطر على توازن دقيق بين تحالفاتها ودورها كوسيط على مر السنين، فهي تعد الوسيط المثير للجدل والمحوري في صراعات الشرق الأوسط، والحليف للولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية.

الضربة، التي أسفرت عن سقوط ضحايا من بينهم ضابط أمن قطري وابن قائد حماس خالد الحيّة، تسلط الضوء على تحول كبير في الديناميكيات الإقليمية، استدعى إدانات قوية من قادة العالم.

ووصف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الهجوم بأنه انتهاك لسيادة قطر، بينما اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه “غير مقبول بغض النظر عن الدوافع”، أما الدول العربية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فقد عبرتا عن رفضهما، حيث وصفت أبوظبي الضربة بأنها “تصعيد غير مسؤول يهدد الأمن الإقليمي والدولي”.

قطر الوسيط والشريك وهشاشة الحياد

على مدى عامين تقريباً، جسدت قطر مفارقة كبيرة، إذ تعرضت لانتقادات من بعض الدول العربية والغربية لاستضافتها الحركات الإسلامية مثل: الإخوان المسلمين وحماس بشكل خاص، لكنها في الوقت نفسه تحظى بالتقدير على هذا الأساس.

ارتكز نفوذ الدوحة على معطيات بسيطة، تشمل توفير ملاذ آمن للمتحاورين السياسيين، والسيطرة على جهات فاعلة لا يستطيع الآخرون الوصول إليها، فمنذ أحداث السابع من أكتوبر، سعت قطر إلى الاستفادة من هذا الدور لتسهيل المفاوضات حول الرهائن، والاتصالات عبر القنوات الخلفية، وفرض الهدن المؤقتة، إلا أن النتائج جاءت متباينة، إذ تم التوصل إلى بعض الترتيبات الإنسانية المحدودة وتبادل الأسرى، لكن لا يزال العديد منهم محتجزين، وغزة أيضاً تحت القصف المتواصل.

كان دور قطر خياراً تكتيكياً قُبِل على مضض من قبل إسرائيل؛ أما بالنسبة للولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين، فكانت أداة براغماتية لكنها غير مثالية، أتاحت المجال للدبلوماسية حينما كانت القنوات المباشرة مغلقة، لكن هذا الخيار قد انهار الآن وربما بشكل غير قابل للإصلاح، حيث حوّلت إسرائيل المساحة الهشة والمحدودة للتفاوض إلى ساحة صراع، بشكل أدى إلى تشتت قادة حماس وتعقيد فرص الوساطة الضعيفة أصلاً.

إسرائيل حولت مساحة هشة ومحدودة للتفاوض إلى ساحة صراع ما أدى إلى تشتت قادة حماس وتعقيد فرص الوساطة الضعيفة أصلاً

العواقب المباشرة لهذا التحوّل جاءت حادة ومقلقة، فتفكك شبكات قيادة حماس من شأنه أن يضعف عوامل التفاوض، إذ لا يزال الوصول إلى الرهائن شبه مستحيل، والاتصالات معدومة، والهدن المؤقتة تنتهك قبل أن تبدأ، أما إعلان قطر أن الضربة تشكل “انتهاكاً صارخاً” للأعراف الدولية، فسيلقى صداه في جميع أنحاء المنطقة، لكن قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث باتت اليوم موضع شك، فما كان في السابق وسيطاً غير مثالي، أصبح اليوم في قلب أزمة إقليمية، وتراجعت مصداقيته ونفوذه بشكل حاد، وفي هذا السياق، حتى المكاسب المحدودة التي حققتها الدوحة منذ السابع من أكتوبر باتت مهددة بالزوال، وقد ينهار هيكل إدارة الصراع المؤقت تماماً.

واشنطن: التواطؤ والضمير والمصداقية

قطر ليست وحدها من تضررت سمعتها، بل إن أمريكا ستقيّم أيضياً من قِبل الأصدقاء والأعداء على حد سواء، خاصة أن البيت الأبيض أقر بأن المبعوث الخاص لترامب، ستيف ويتكوف، حذّر الدوحة من عملية إسرائيلية وشيكة، حيث أصبح دورها في ظل قيادة دونالد ترامب محل شك أكثر من أي وقت مضى.

  ويُعد هذا الأمر مهماً لسببين، أولاً: يعني أن الولايات المتحدة لم تُفاجأ بالضربة، فقد كانت لديها معرفة جزئية مسبقة على الأقل، وثانياً: يعني أن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل تُقيّم الآن ليس فقط بما تفعله أمريكا، بل بما تسمح به كذلك، فإذا كان أحد الحلفاء مستعداً لضرب حليف آخر، ورضخت القوة العظمى لأحد الطرفين، فإن الدولة الأصغر ستعيد تقييم تحالفاتها وفقاً لذلك.

حاول فريق الرئيس ترامب التوفيق بين هذه المعطيات بشكل علني، دون أن يظهر بإطار المتواطئ أو الجاهل أو الضعيف، وصرّح متحدثون باسم البيت الأبيض بأن الولايات المتحدة حذّرت قطر، وأن الرئيس وصف الضربة بأنها “مؤسفة”، ممتنعاً عن معاقبة إسرائيل أو التهديد بسحب التعاون العسكري، ونشر ترامب عبر حسابه في منصة “تروث سوشال”، أن “قرار شن الهجوم كان قرار نتنياهو وحده”.

 لكن التصريحات العلنية والحسابات الخاصة غالباً ما تتباين، فالقرار السياسي الرئيسي الذي ستتخذه عواصم الخليج بهدوء قادتها وجديتهم بعد معرفة ما إذا كانت واشنطن ستتسامح مع تآكل سيادة دولهم عندما تقتضي الحاجة الإسرائيلية لذلك.

الجواب المبدئي مثلما صرحت الدوحة وأبو ظبي هذه المرة بخطابٍ حادّ على غير العادة، تضمن “الشك بأن الحماية الأمريكية ظرفية وليست مطلقة”، وهذا الإحساس، حالما يستقر، يصعب التخلص منه، وكذلك، فإن الوضع ليس مجرد مشكلة دبلوماسية فقط، بل قطر تشتري الأسلحة من أمريكا، وفي مايو الماضي، أعلن البيت الأبيض عن صفقات واستثمارات ضخمة بقيمة مليار دولار معها، تضم أسلحة دفاعية أمريكية وتعهدات بتحديث قاعدة العديد الجوية، لكن بعد الضربة أصبحت تلك العلاقات الاقتصادية والعسكرية ليست بذات الأهمية الكبيرة.

القرار السياسي الرئيسي الذي ستتخذه عواصم الخليج بهدوء قادتها وجديتهم بعد معرفة ما إذا كانت واشنطن ستتسامح مع تآكل سيادة دولهم عندما تقتضي الحاجة الإسرائيلية لذلك

المحللون أشاروا إلى أن الضربة كشفت عن حدود الردع القائم، فعلى الرغم من أن قطر تمتلك أنظمة دفاع صاروخي أمريكية، إلا أنها لم تستطع منع الهجوم، وهذا الأمر يزيل الافتراضات المتعلقة بالأمن الإقليمي ويدل على وجود ثغرات في التنسيق أو تزويد إسرائيل بقدرات حديثة.

 وهذا يشير إلى أن كل واحدة من هذه الاعتبارات تحمل في طيّاتها إشارة سياسية خاصة، مثل التوسّع في القدرات الإسرائيلية، والهشاشة في تكامل أنظمة الدفاع الجوي لدى الحلفاء، أو هو القبول الواقعي ضمنياً بالمكاسب التكتيكية على حساب التداعيات الاستراتيجية.

في جميع الأحوال، فإن مجرد تعرّض دولة مدعومة بمنظومات دفاع جوي أميركية لهجوم، يثير القلق حول حسابات الردع في الخليج إذ لم يعد بإمكان الحلفاء، الافتراض بأن الأنظمة الأميركية توفّر حماية مطلقة ضد تصرفات شريك آخر للولايات المتحدة، إذ أنه في عالم تحكمه التحالفات المتداخلة والسياسات القائمة على المصالح، تصبح معادلة الردع غامضة؛ وهذا يدفع الدول إلى التحوّط، و تنويع علاقاتها الأمنية بطرق يصعب التنبؤ بها.

تصاعد الدخان بعد الانفجارات في العاصمة القطرية الدوحة أمس (أ ف ب)

اتفاقيات أبراهام وهشاشة التطبيع

القدرة على التنبؤ كانت أحد بنود اتفاقيات أبراهام لعام 2020، التي اعتبرت أنها تحول جيوسياسي جذري، فالدول التي ستُطبِّع علاقاتها مع إسرائيل ليس لأجل القضية الفلسطينية، بل لأن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأوسع نطاقاً تجعل هذه العلاقات مرغوبة لدى الطرفين، حيث أوجدت التجارة، والتعاون في مجال الطاقة، ونقل التكنولوجيا، وترتيبات تبادل المعلومات الاستخباراتية، والقلق المشترك من النفوذ الإيراني، أساساً عملياً للتعاون، ولم تكن هذه الاتفاقيات تهدف أبداً إلى حل الصراع الأساسي، بل إلى بناء علاقات تعاقدية مستقرة قادرة، نظرياً، على الصمود في وجه اضطرابات الشرق الأوسط.

 هذه المصالح لا تزال قائمة وواقعية، لكن الضربة الإسرائيلية في الدوحة كشفت عن سيناريو جديد: “أن التطبيع يمكن أن ينهار بفعل عمل واحد فقط عندما تتقاطع حسابات الأمن الإسرائيلي مباشرة مع سيادة شركائها الجدد وحساباتهم السياسية”.

الضربة الإسرائيلية في الدوحة كشفت عن سيناريو جديد: “أن التطبيع يمكن أن ينهار بفعل عمل واحد فقط عندما تتقاطع حسابات الأمن الإسرائيلي مباشرة مع سيادة شركائها الجدد وحساباتهم السياسية”

 لقد كشفت إسرائيل هشاشة الفرضية الأساسية لاتفاقيات أبراهام، وهي أن الحوافز الاقتصادية والاستراتيجية كافية لتجاوز الحساسيات السياسية والوطنية، والجانب الاجتماعي، الذي كان يفترض تسامح الجمهور العربي والانخراط مع إسرائيل طالما أنها تحترم عواصمهم، لكن ذلك أصبح غير مجدياً الآن.

بعد ساعات من الهجوم، أصدرت البحرين، وهي من الدول الرئيسية الموقعة على الاتفاقيات، بياناً تضامنياً مع قطر، مُدينةً الهجوم باعتباره تصعيداً خطيراً، واتصلت المملكة العربية السعودية، التي غالباً ما تُعتبر الجائزة الكبرى لجهود التطبيع، بأمير الدوحة للتعبير عن دعمها وإدانة العملية.

في السياسة الخليجية، تعبر التصريحات العلنية عن التضامن والتي أشارت إلى أن قادة الدول يرون تهديداً حقيقياُ لسيادتهم وشرعيتهم وصبرهم الاستراتيجي، وكذلك الرأي العام حيث يرفض المواطنون والنخب على حد سواء التسامح مع انتهاكات الأراضي الوطنية بهدوء.

تُقوّض ضربة الدوحة مبدأ القدرة على التنبؤ الذي سعت اتفاقيات أبراهام إلى ترسيخه، فالتعاون الدبلوماسي والأمني يعتمد ​​على درجة من الثقة، بأن انتهاكات السيادة أمرٌ استثنائي، لا روتيني، لكن عندما تتآكل هذه الثقة، من المرجح أن تُقيّد دول الخليج رهاناتها، وتُبطئ وتيرة تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتُعيد ضبط تعاونها العسكري، وتُعيد تقييم مشاركتها في المبادرات المشتركة مع إسرائيل، كما تضيف الضربة غموضاً على حسابات مخاطر التطبيع نفسه، وإذا تجاوزت أولويات إسرائيل السلامة الإقليمية للدول الحليفة، فإن القادة في الرياض وأبوظبي والمنامة سيضعون في اعتبارهم اعتبارات السياسية الداخلية بشكل أكبر، ما قد يُؤخّر التعاون أو يُقيّده حتي تكون الضمانات الأمنية ملموسة.

الاتفاقيات لم تكن مجرد صفقات فحسب؛ بل كانت طموحة، إذ أشارت إلى أن إسرائيل يمكن أن تكون شريكاً شرعياً في العالم العربي رغم الصراع الفلسطيني، إلا أن تحركاتها الأخيرة قد تُحدث تحوّلاً في هذا الشق، ما يثير تساؤلات بين الجمهور والنخب العربية حول ما إذا كان التطبيع يعود بالنفع على دولهم أكثر مما يعرضها للمخاطر.

حرب غزة: واقع متغير على الأرض

بالتزامن مع ذلك، لم ترتبك عمليات حماس فحسب، بل كشفت إسرائيل مرة أخرى عن هشاشة حركة كانت تعتمد دائماً على ملاذات خارجية، فهي ليست دولةً بل حركة مسلحة، رسخت وجودها في غزة من خلال إخضاع القطاع لحالة صراع مستمر، ومكتبها السياسي في الدوحة ليس برلماناً في المنفى، بل ملاذاً آمناً لأشخاص يديرون الإرهاب عن بُعد.

 اليوم بعد استهداف المكتب، تجبر إسرائيل “حماس” على العودة إلى أنقاض غزة، فالقادة الذين كانوا يضعون الاستراتيجيات من مكاتب مريحة في الخارج، أصبحوا الآن مضطرين لترك اتخاذ القرارات للقادة الميدانيين تحت القصف، بمعزل عن التنسيق الخارجي، لذا قد تتصرف الخلايا المحلية باستقلالية أكبر، مع انضباط أقل، واهتمام أدنى بحياة المدنيين، وقد يؤدي ذلك إلى حرب أكثر فوضى وتوقعاً وحشية، وذلك بسبب انكشاف طبيعة الحركة الإرهابية بشكل واضح.

استهداف مكتب حماس يجبرها على العودة إلى أنقاض غزة والقادة الذين كانوا يضعون الاستراتيجيات من مكاتب مريحة في الخارج أصبحوا مضطرين الآن لترك اتخاذ القرارات للقادة الميدانيين تحت القصف

العواقب على غزة نفسها لا تقل خطورة، فهي تعيش أصلاً كارثة إنسانية، لكن الوضع قد يتدهور أكثر فأكثر، ولسنوات طويلة كانت الأموال القطرية بمثابة صمام الأمان، من خلال دفع الرواتب ودعم الوقود، بينما كانت حماس تستغل جزءاً من تلك الموارد لصالح الصواريخ والأنفاق، لكن في حال توقف تلك الأموال فإن السكان المدنيين سيتعرضون لحرمان فوري، فحماس ستتخذ نفس القرار الذي اعتادت عليه دائماً: “السلاح أولاً، والناس ثانياً”، والنتيجة ستكون انهياراً إنسانياً متسارعاً، مع تزايد التجنيد لأولئك الذين لا يزالون يؤمنون بأن “المقاومة” التي لا نهاية لها تستحق هذا الثمن.

من المستفيد ومن الخاسر؟  

هذه ليست منافسةً بين فائزين عاديين، حيث تعتقد إسرائيل أنها بعثت برسالةٍ صارمة بأن الملاذ السياسي لا يعني الحصانة، لكن هذه الرسالة لها ثمنها، أي أن تراجعٍ قصير المدى في تنسيق حماس الخارجي قد يُعوّض بخسارةٍ طويلة الأمد للشركاء الدبلوماسيين، وفرصٍ أقلّ للتفاوض على حلٍّ، وعداءٍ متزايدٍ بين الدول التي سعت تل أبيب إلى تعاونها معها، ما يضع شرعيتها الداخلية تحت الاختبار، حيث سيطالب المواطنون والنخب على حدٍّ سواء بالتفسير والمحاسبة.

 تفقد الولايات المتحدة مصداقيتها لدى شركائها الإقليميين بظهورها وكأنها تسمح أو على الأقل لا تعارض، ضربةً على حليف وثيق، كما تواجه دول الخليج خطر فقدان اليقين العملي الذي سمح لعقود من التعاون الأمني ​​الهادئ؛ وبدلاً من ذلك، قد تُسرّع من وتيرة تنويع اقتصادها من خلال المشتريات العسكرية من موردين غير أمريكيين، وشراكات أمنية سرية، وحتى توثيق العلاقات مع طهران في إطار المصلحة الضيقة المتمثلة في السيادة المشتركة.

لقطات أمنية توثق لحظة استهداف إسرائيل لقيادات حماس في الدوحة (أ ف ب)
لقطات أمنية توثق لحظة استهداف إسرائيل لقيادات حماس في الدوحة (أ ف ب)

الحجة القانونية والمعيارية: ما المعايير التي خُرقت؟

يقوم القانون الدولي على مبدأ هش، يقول إن احترام الدول لسيادة بعضها لا ينبع من مبدأ أخلاقي، بل من إدراك بأن البديل هو الفوضى، لكن الاستثناءات المعترف بها في هذا القانون لا تنطبق على الضربة الإسرائيلية في الدوحة، كما ان الادعاء بعكس ذلك يعني ضمناً أن استضافة جماعة مصنفة إرهابية تُقوّض مبدأ السيادة ذاته، حيث يبدو هذا الطرح مقنعاً لمن يرون في حماس كياناً فاقداً لأي شرعية، لكن بمجرد قبولها، تصبح قابلة للتعامل معها وهذا ما ينطوي على خطر كبير.

إذا كان بإمكان إسرائيل إعادة تعريف السيادة على أساس وجود فاعلين غير حكوميين، فلمَ لا تفعل تركيا الشيء نفسه ضد المنفيين الأكراد في أوروبا، أو الصين ضد النشطاء الإيغور في أميركا الشمالية؟، فكلما ازدادت مرونة هذا المفهوم، اتسعت مساحة الاستخدام التعسفي له من قبل أطراف بنوايا سيئة، فالسابقة هنا ليست مبدأً قانونيًاً، بل ترسيخاً لمنطق القوة؛ إذ يمكن تحريف المعايير كلما استدعت الضرورة الاستراتيجية ذلك.

وهنا تبرز المقارنات بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث أُدينت عمليات الاغتيال الروسية خارج حدودها الإقليمية من لندن إلى برلين باعتبارها أفعالاً لدولة مارقة، وسيؤكد المحللون الآن بأن إسرائيل أيضاً متورطة في عمليات قتل في الخارج متحديةً بذلك القانون الدولي.

هذا التشبيه غير دقيق، فبوتين استهدف منشقين وصحفيين ومدنيين كانت “جريمتهم” معارضة نظامه، أما المكتب الخارجي لحماس، فليس نادياً للنقاش، بل هو هيكل قيادة لجماعة إرهابية ارتكبت أعمال قتل بحق مدنيين، واحتجزت رهائن، ونفذت هجمات عبر الحدود، فالخلط بين الحالتين هو خلط بين القمع ومكافحة الإرهاب.

ومع ذلك، فإن الخطر لا يكمن في الحجة القانونية بقدر ما يكمن في التصورات، فالعلاقات الدولية تُدار بقدر كبير من خلال الصور والانطباعات، لا الحقائق وحدها، وإذا واصلت إسرائيل تنفيذ ضربات في أراضي دول حليفة أو محايدة دون محاسبة واضحة، فقد يتلاشى الفرق في أذهان الرأي العام بينها وبين روسيا، ولن يكون تصنيف حماس كجماعة إرهابية هو ما يهم في هذه اللحظة، بل المشهد المتمثل بدولة تتجاوز الحدود، وتطالب لنفسها بحقوق استثنائية، في تحدٍ ظاهر لقواعد النظام الدولي.

إسرائيل، التي كانت يوماً ما متحالفة مع الديمقراطيات الليبرالية التي تدافع عن القواعد ضد الانتهاكات، قد تجد نفسها في شراكة مع نفس الأنظمة التي طالما عارضتها، وربما يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الضرورات تبيح المحظورات، لكن النتيجة الأوسع هي تآكل الأعراف ذاتها التي تميز الديمقراطيات عن الديكتاتوريات، فعندما ينهار خطاب القانون أمام منطق القوة، تصبح كل دولة أكثر عرضة للخطر بما في ذلك إسرائيل نفسها.

ماذا بعد؟ إصلاح دبلوماسي أم إعادة ترتيب أم احتواء؟

الأيام القادمة ستختبر قدرة دول الخليج على تحويل الغضب إلى نفوذ فعال، فقد تقلص تعاونها، أو تسعى للحصول على ضمانات أمنية جديدة من واشنطن أو غيرها، وقد تعيد أبوظبي والرياض ضبط موقفهما العلني تجاه إسرائيل، ما يُبطئ أو يُقيد أي تكامل إضافي، وعلى واشنطن أن تقرر ما إذا كانت ستقبل بتغيير قواعد الاشتباك الإقليمية أو تعيد تأكيد دورها كحَكَمٍ يدافع عن حرمة العواصم الحليفة كمصلحة جوهرية.

السيناريو المحتمل والمقلق هو أن تسارع دول الخليج في اتخاذ مواقف تحفظية، مثل: زيادة مشترياتها من أنظمة الدفاع الصاروخي، وتوطيد علاقاتها الاستخباراتية مع شركاء غير أمريكيين، بمن فيهم الصين -وهو السيناريو الأسوأ- واتباع موقف حذر تجاه التعاون العسكري مع إسرائيل.

السيناريو المقلق يتمثل في تسارع دول الخليج نحو استراتيجية التحوّط، عبر توسيع منظومات الدفاع الصاروخي، وتعميق الشراكات الاستخباراتية مع أطراف غير أميركية، بما في ذلك الصين بأسوأ الحالات، واعتماد نهج أكثر تحفظاً في التعاون العسكري مع إسرائيل.

أما السيناريو الآخر، تغليب العقلانية والهدوء خلف الأبواب المغلقة، عبر تقديم الولايات المتحدة ضمانات ملموسة، أو تعويضات، أو إطاراً دبلوماسياً واضحاً يمنع تكرار ذلك، لكن يجب أن تكون هذه التطمينات أو الضمانات ذات مصداقية، لأن مجرد التعبير عن الأسف لن يكفي بالنسبة لهذه الدول.

توماس فالك

توماس فالك

توماس فالك، صحفي ومحلل مقيم في لندن، يركّز على العلاقات عبر الأطلسي، والشؤون الأمريكية، والأمن الأوروبي. وبخبرته الطويلة في التقارير السياسية والتحليل الاستراتيجي، يعتمد على أبحاث معمّقة، ورؤى تاريخية، وتطورات ميدانية لاستكشاف القوى التي تُشكّل المشهد الجيوسياسي الحالي.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.