صراع بريطانية حول الهوية والشعبوية المستوردة

تقرير
ﺷﺎرك

لم يعد الجدل حول الهجرة في بريطانيا متعلقاً بالتأشيرات أو القوارب الصغيرة التي تصل إليها، بل تحوّل إلى استفتاء على معنى الانتماء، وعلى قدرة الدولة في تحقيق التوازن بين التعاطف الإنساني وممارسة السيادة، والسؤال الذي يطرح اليوم: إلى أين تمضي المملكة المتحدة؟.

الهجرة كأزمة هوية وطنية

على مدار العقد الماضي، كانت المناقشات البريطانية حول الهجرة، تدور في إطار تقني بحت، مثل: تحديد سقف التأشيرات، ومواعيد معالجة طلبات اللجوء، ومكافحة قوارب التهريب الصغيرة، لكن هذا الإطار قد انهار الآن.

تعد الهجرة اليوم مسألة وجودية تُطرح على نطاق واسع، وتتمحور حول من يُعتبر بريطانياً، وما هي القيم التي تحدد الحياة العامة؟، وهل لا يزال العقد الاجتماعي يربط المجتمعات المتنوعة في كيان سياسي واحد؟، حيث تؤكد البيانات هذه الحقيقة، وتشير إلى أنه في أغسطس، بين استطلاع للرأي أن 48% من البريطانيين ينظرون إلى الهجرة على أنها القضية الوطنية الرئيسية، وهي في أعلى مستوياتها منذ حقبة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد ازداد القلق خلال سبتمبر الماضي.

تحول الهوية أصبح واضحاً في الشارع، فالأعلام التي كانت ترفع في مدرجات كرة القدم أصبحت تُستخدم الآن كشعارات للانتماء والرفض، ففي مظاهرة سبتمبر الأخيرة، حمل الآلاف صليب إنجلترا الأحمر والأبيض، مردّدين شعار: “استعيدوا بلادنا”، الذي يُعيد صياغة مفهوم الهجرة من تدفقٍ يجب إدارته إلى تهديدٍ ينبغي مكافحته، كما يُعيد تصوير السكان الآخرين كأعداءٍ للحضارة.

أما بالنسبة لجزء كبير من الجمهور وخاصةً كبار السن من الناخبين غير الحاصلين على تعليم جامعي في المناطق البعيدة، أصبحت مسألة الهجرة بمثابة مصدر استياء لهم يتراكم يوماً بعد يوم، نتيجة تراجع الصناعة، وركود الأجور، والسكن غير المستقر، وضعف الخدمات العامة المقدمة لهم، مع اقتصاد متدهور.

من قضية إدارية إلى معركة وجودية

كيف تحوّل ملف بيروقراطي بعنوان: “وزارة الداخلية – نظام اللجوء”، إلى استفتاء على الهوية الوطنية البريطانية؟، الجواب يكمن في التراكم البطيء للوعود المنقوصة لأكثر من عقد من الزمن، حيث تعهدت الحكومات المتعاقبة بالسيطرة والضبط، لكن كل واحدة منها اصطدمت بنفس العقبات التي لا يمكن تجاوزها مثل: القانون، والمحاكم، والمعاهدات الدولية، وبراعة المهربين، إذ أصبحت القوارب الصغيرة في القناة، التي عبرت 30164 مرة هذا العام وحده، أكثر من مجرد إحصائية، بل إنها عبارة عن صورة متكررة لفشل الدولة، تعرض كل ليلة على شاشات التلفزة.

تفشل كل مبادرة جديدة بالطريقة ذاتها، حيث يُمنع الترحيل الخارجي، وتُثبت سياسات الردع عدم فاعليتها، فتنهار منظومة احتجاز المهاجرين تحت الضغط الكبير منهم، وحتى الاتفاقيات الثنائية مع فرنسا لا تستطيع الصمود أمام تدقيق المحاكم الأوروبية، فمع كل أزمة يتعمق الشعور بالعجز الذي يتحول إلى تطرف، فإذا كانت الأدوات التقليدية لا تستطيع تأمين الحدود، فإن المنطق يقتضي أن يكون هناك حلولاً أخرى، مثل: تعبئة استثنائية، أو سياسة جديدة للطوارئ، وهكذا، يتحول مسار اللجوء المزدحم إلى خطاب عن الغزو، والاستبدال، والصراع الوجودي.

دور وسائل الإعلام والمنصات في تضخيم رواية “الغزو”

يعود الفضل في التصعيد الخطابي إلى حد كبير إلى وسائل الإعلام وبيئة المنصات الرقمية، فعلى سبيل المثال، تسجل أبحاث معهد الحوار الاستراتيجي ارتفاعاً كبيراً في المحتوى المعادي للمهاجرين عبر منصة “اكس”، حيث زادت المنشورات المعادية للمهاجرين أكثر من 90 %  من عام 2023 إلى 2024، وبحلول منتصف العام الحالي، كان حجم المنشورات يقترب من إجمالي العام السابق، إذ تجاوز هذا الخطاب الحدود الوطنية بشكل لافت، مدفوعاً بحسابات أمريكية وأوروبية تغذي الشبكات البريطانية.  

مفاهيم مثل “العودة الجماعية”، بمعنى الترحيل الجماعي، و”الاستبدال الكبير” اللتين أصبحتا أمراً عادياً من خلال التكرار، والتداول بشكل سريع، انتقلتا بسبب تكرارهما من قبل المؤثرين والمذيعين الصغار الذين تحفزهم المكافآت لإثارة غضب مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أرض الواقع بنفس المفردات، أي من قنوات وسائل التواصل الاجتماعي إلى لافتات الاحتجاج والمنصات العامة.

في هذا المناخ، يمكن لفيديو واحد عن شجار في فندق أو شائعة حول أن “السكن أولوية للمهاجرين” أن تتنقل بسرعة عبر هذا النظام الإعلامي، متفوقة على الإحصاءات الرسمية حول اتجاهات الهجرة الصافية، بعد ذلك، تقوم المنصات، والإذاعات، والقنوات الإعلامية بتحويل الحوادث العرضية إلى قصة متداولة وقابلة للنقاش والتحليل تحت عنوان: “البلاد تحت الحصار”.

اليمين الشعبوي وتعبئة الشارع  

بالتالي، لم تندلع مظاهرة سبتمبر المذكورة أعلاه بشكل عفوي، بل كانت تتويجاً لعام من المواجهات المحلية الأصغر حجماً مثل: تجمعات غاضبة أمام الفنادق، ولافتات أمام مراكز اللجوء، وشعارات تردد في ساحات المدن الرئيسية، حيث وفرت هذا الأحداث بيئة خصبة لهذه الحركات لتنمو بشكل أسرع، من حيث الأسماء والشبكات والعبارات التي تعكس غضب الشارع، ومع تجمع أكثر من 100 ألف شخص في وسط لندن، كان كل شيء للمظاهرة معد سلفاً، أما المتظاهرون المضادون فلم يتجاوز عددهم سوى بضعة آلاف، وكانت الشرطة منتشرة على طول شارع “وايت هول”؛ ما أسفر عن إصابة 26 ضابطاً واعتقال 25 شخصاً.

هنا لا يهم حجم الحدث نفسه لأن العنف كان غير مسبوق، لكنه أثبت أن هذه الحركات قد تجاوزت عتبة مفصلية في نشاطها، فالأمر لم يعد مجرد اندفاع عابر أو وهماً افتراضياً عبر الانترنت، بل أصبح تحالفاً واقعاً، فعلى سبيل المثال: مشجعو كرة القدم، والجماعات القومية، والمحافظون الساخطون، والمتعاطفون مع حزب “ريفرم يو كاي”، تجمعهم حالة من الغضب، وتدعمهم شبكات دولية افتراضياً، فما كان في الماضي هامشياً أصبح الآن قادراً على إثارة ضجة كبيرة، وفي سياسة الهوية، الضجة تعني القوة.

ما كان في الماضي هامشياً أصبح الآن قادراً على إثارة ضجة كبيرة وفي سياسة الهوية الضجة تعني القوة

لقد أظهرت الحركات الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا أن المظاهرات في الشوارع غالباً ما تسبق السلطة في صناديق الاقتراع، فحركة “بيغيدا” في ألمانيا، و”السترات الصفراء” في فرنسا، واليمين المتطرف في هولندا كلها تُظهر المسار نفسه، حيث تتحول التعبئة المنتشرة بين الجمهور إلى رصيد سياسي بمجرد الظهور، وتظاهرات سبتمبر الماضي، تشير إلى أن بريطانيا تسير على هذا الطريق.

تومي روبنسون يسير مع أنصاره في وسط لندن خلال مظاهرة “حرية التعبير”، في سبتمبر 2025 (أ ف ب)
   روبنسون كرمز جديد للتحريض

استغل عدد من ذوي النوايا السيئة هذه الديناميكيات، وأبرزهم ستيفن ياكسلي لينون، المعروف باسم تومي روبنسون، بعد أن كان محرضاً لفترة طويلة، عاد للظهور كلاعب رمزي يُتقن فن تسويق مشاعر فقدان الهوية، ومخاوف الانفلات الأمني، والنقمة على النخب، في خطاب شعبوي قابل للتوظيف بأي وقت.

 يدعي روبنسون أنه يتحدث باسم البريطانيين العاديين الذين تم إسكاتهم سياسياً؛ ويواري مقترحاته غير الليبرالية خلف حرية التعبير؛ ويقوض إجراءات وزارة الداخلية بسيل من الشعارات الشعبوية.

تلعب شخصية تومي روبنسون دوراً محورياً في الحركة الشعبوية الأوسع، حيث يقدم أداءً رمزياً يجعل القضايا التي كانت من المحرمات تُطرح علناً، موسعاً بذلك دائرة الخطاب المقبول سياسياً (نافذة أوفرتون)،  فهذا الدور لا يقتصر على التعبير فقط، بل يتضمن تقسيم عمل واضح؛ فكما فعلت مارين لوبان في فرنسا، يتحمل روبنسون صدمة الإعلام والهجوم الشعبي، لاستكشاف حدود الخطاب الشعبوي، بينما يظل الفاعلون الأكثر تركيزاً على الانتخابات، مثل نايجل فاراج وحزب “ريفرم يو كاي”، في موقع أكثر تحفظًاً يتيح لهم الاستفادة من هذه التعبئة الشعبية.

تجسدت هذه العلاقة بشكل واضح في مسيرة سبتمبر، حيث قدّم روبنسون العرض الجماهيري الواسع، في حين كان حزب “ريفرم” مستعداً لتحويل هذا الزخم إلى دعم سياسي عملي، وفي عصر الخوارزميات ووسائل التواصل الاجتماعي، تزداد أهمية هذا الدور، إذ يتحول كل صدام وشعار ومواجهة مع الشرطة إلى مادة إعلامية خبيثة تصل إلى جماهير دولية، من هنا، لا يمكن النظر إلى الأزمة في بريطانيا على أنها محلية فقط، بل هي ظاهرة عابرة للحدود، تعكس تحولات سياسية واجتماعية أوسع على المستوى الدولي.

  “ريفرم يو كاي”  وسياسات الغضب

يسعى نايجل فاراج وحزب “ريفرم” إلى استثمار هذه التطورات بشكل أكبر، حيث تبنّى فاراج خطاباً على نمط ترامب، معلناً عزمه ترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي، وسحب الإقامة الدائمة من الأجانب المقيمين، إذ تشير آخر استطلاعات الرأي إلى أن هذه الاستراتيجية تلقى صدى لدى الناخبين، حيث من المتوقع أن يحصل الحزب على نحو 100 مقعد إذا جرت انتخابات اليوم، ومع ذلك، ثمة تناقض واضح، فبينما يعترف الناخبون بأن “ريفرم” يحدد الأجندة ويقدم خطة لتغيير بريطانيا، إلا أن ربعهم فقط يثقون في قدرته على إدارة الحكم بكفاءة.

 يعكس الحد الأعلى من المصداقية، المأزق الكلاسيكي للحركات الشعبوية، فهي قوية كأداة للاحتجاج، لكنها ضعيفة كحزب حاكم محتمل، لكن تاريخ أوروبا يحذّر من أن هذه الحدود قد تُكسر، فقد بدأت حركة “خمس نجوم” في إيطاليا، وحزب “القانون والعدالة” في بولندا، وحزب “فيدس” في المجر، كحركات تمرد غير متوقعة حتى انقسم التيار السياسي السائد، أما حزب المحافظين البريطاني، المنهار والمنقسم، فقد يكون ضعيفاً بما يكفي ليسمح لحزب “ريفرم” بأن يسير على نفس النهج.

حركة “خمس نجوم” في إيطاليا وحزب “القانون والعدالة” في بولندا وحزب “فيدس” في المجر كحركات تمرد غير متوقعة حتى انقسم التيار السياسي السائد

تُعد هذه الثنائية مفتاحاً لفهم استراتيجية حزب “ريفرم”، الذي يتجنب الانتماء العلني إلى المتظاهرين في الشارع، بمن فيهم روبنسون، لكنه في الوقت نفسه يتبنّى شعاراتهم الأساسية، مثل: السيطرة على الحدود، وحماية الثقافة البريطانية، ووقف وصول المهاجرين عبر القوارب، وبذلك يضفي الشرعية على المطالب المتطرفة دون أن يتحمل كامل تبعاتها، وبالتالي، فإن تجمع سبتمبر عمل كأصل غير مباشر لحملة “ريفرم”، فمشهد الغضب الجماهيري يبقي قضية الهجرة في صدارة الأخبار، وكل زلّة حكومية تُصوّر كدليل إضافي على أن حزباً جديداً فقط قادر على استعادة النظام.

بشكل عام، تكشف هذه السلسلة من الأحداث عن أمر أكبر يتمثل بتآكل الثقة في المؤسسات نفسها، مثل: الشرطة، والإعلام، والمحاكم، والأحزاب التقليدية، التي كانت في السابق تضمن الشرعية، لذلك فإن هشاشة هذه المؤسسات، بقدر ما تمثله قضايا الهجرة، هي ما يجعل الموجة الشعبوية في بريطانيا قوية وذات تأثير كبير.

الموازنة بين الشرعية والسيطرة على الشارع

في خضم كل ذلك، تواجه حكومة ستارمر، المعضلة الليبرالية الكلاسيكية، عبر حماية حقّ الاحتجاج، مع التصدي للفوضى ومحاولات الترهيب، فبعد المظاهرة مباشرة، أكد كير ستارمر، رئيس وزراء المملكة المتحدة، أن التظاهر السلمي هو من الحريات الأساسية في بريطانيا، وفي نفس الوقت أدان الاعتداءات على عناصر الشرطة، وتعهد بعدم السماح بترهيب الأقليات في الأماكن العامة.

وصفت الشرطة ما حدث بأنه “عنف غير مقبول”، مشيرة إلى تعرّض الضباط للركل والرشق بالزجاجات والألعاب النارية، بعد أن خرجت الحشود عن المسار المتفق عليه، حيث يتماشى موقف الحكومة مع القيم الليبرالية، بالدفاع عن الاحتجاج السلمي وملاحقة العنف قانونياً.

لكن هذا الموقف محفوف بالمخاطر سياسياً، فالتساهل يُعرّض حزب العمال لاتهامات بالضعف، بينما يفسَّر الحزم الزائد على أنه تأكيد لرواية اليمين المتطرف عن “نظام يُسكت الوطنيين”.

يعكس المسار السياسي هذا التوازن، حيث شدد حزب العمال على بعض عناصر نظام الهجرة عبر دعمه لنظام الهوية الرقمية لمكافحة العمل غير القانوني، مع الإشارة إلى نيته لفرض معايير أكثر صرامة للحصول على حق الإقامة.

الجدل حول “المعايير المزدوجة” في عمل الشرطة

هناك ادعاء متكرر من قبل اليمين بأن الشرطة تتعامل برفق أكبر مع المظاهرات اليسارية مقارنة بالقومية، وهو ما يُعرف بازدواجية المعايير من الناحية العملية، فإن الصورة مختلطة وغالباً ما تكون روايات فردية؛ حيث تختلف تركيبة الحشود والمعلومات الاستخباراتية حول المخاطر وقدرات الشرطة المحلية من حدث لآخر، لكن المشكلة هي في الشك، فشريحة كبيرة من الناخبين الموالين لحزب “ريفرم” تعتقد بأن الدولة تُجامل خصومهم وتستهدفهم هم.

هذا الشك المشحون قابل للانفجار سياسياً، وقد غذّته منصات التواصل الاجتماعي عبر مقاطع مجتزأة ضمن سياقات مضللة، بما في ذلك منشورات واسعة الانتشار استخدمت فيها لقطات قديمة بتواريخ مزيفة لتصوير الشرطة على أنها تمارس التحيّز، ولكن رغم أن وسائل الإعلام وفرق التحقق وغرف الأخبار سعت لتصحيح تلك المزاعم، إلا أن الضرر كان قد وقع فعلاً، فقد تزعزعت ثقة قطاع كبير من الجمهور في حيادية الدولة، أما بالنسبة للحكومة، فالدَرْس واضح لكنه شائك، أي أن إنفاذ القانون بعدالة واضحة ومرئية لا يقل أهمية عن النتائج التي يحققها على الأرض.

فيديو ماسك ودعواته إلى “القتال أو الموت

كان الحدث الأبرز في المظاهرة هو المداخلة المصوّرة غير المتوقعة لإيلون ماسك، حيث قُدّم رسالته تحت عنوان: “الدفاع عن حرية التعبير والسيادة الوطنية”، لكنها في مضمونها نقلت خطاب الحركات الأمريكية إلى سياق احتجاجي بريطاني، إذ حذّر من أن “العنف قادم”، ودعا البريطانيين إلى “القتال أو الموت”، وهي لغة وصفها داونينغ ستريت وزعماء في البرلمان بأنها “خطيرة” وأدانوا استخدامها بشكل قاطع.

ظهرت دعوات لفرض عقوبات على إيلون ماسك أو استبعاد شركاته من العقود الحكومية، لكنها أُهملت في نهاية المطاف، حيث جسّدت هذه الحادثة واقعاً جديداً بوضوح، إذ أصبح بمقدور مؤثرين أجانب التدخل مباشرة في الخلافات المحلية، مستفيدين من منصات عالمية ونوع من الحصانة تجاه الأعراف المحلية.

أصبح بمقدور مؤثرين أجانب التدخل مباشرة في الخلافات المحلية مستفيدين من منصات عالمية ونوع من الحصانة تجاه الأعراف المحلية

نقل الشعبوية الأميركية للمؤسسات بريطانيا

يبدو التأثر بالخطاب الأميركي واضحاً جداً، من خلال الرموز والشعارات المستخدمة بين المتظاهرين مثل: قبعات “اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً”، و”الدولة العميقة”، و”الاستبدال الديموغرافي”، وصولاً إلى الدراما، بشخصية كاريزمية تظهر عن بُعد لتُخاطب الجمهور في وجه النخب الفاسدة.

في الولايات المتحدة، أصبح هذا الخطاب مألوفاً بعد عقد من الاستقطاب السياسي والسياسة الانتخابية؛ أما في بريطانيا، فلا يزال يصطدم بتقاليد البرلمان ومعايير العمل الشرطي.

لكن اختلال ميزان القوة كان واضحاً، فبثّ واحد من شخصية مشهورة قادر على الوصول إلى ملايين الناس، وترويج سرديات مؤامرة ضمن التغطية الإعلامية السائدة، ومنح حركة محلية، قائمة على حجج داخلية، هالة من الزخم، فمشاركة ماسك لم تكن مجرد مداخلة فردية، بل حملت أيضاً إشارة رمزية إلى تحالف أوسع، بعد أن ظهر إلى جانبه عدد من شخصيات اليمين المتطرف في أوروبا، ما يؤكد أن التعبئة اليمينية المتشددة في بريطانيا ليست ظاهرة معزولة، بل جزء من عائلة أوسع من السياسات القومية التي تشهد صعوداً من باريس إلى وارسو.

تدخّل خارجي في صراع الهوية البريطاني

يثير تضخيم الخطاب من قبل جهات أجنبية ثلاث قضايا فورية ومقلقة:

أولاً، مخاطر التصعيد: يمكن أن تؤدي الكلمات التحريضية من قبل شخصيات أجنبية بارزة إلى تقليل الموانع ضد العنف بين المشاركين المتطرفين.

ثانياً، ثغرات المساءلة: المتحدثون الأجانب قادرون على تأجيج التوترات من دون أن يتحملوا التبعات القانونية أو الأخلاقية التي يواجهها الفاعلون المحليون.

ثالثًا، تآكل المعايير: إذا تمكن الفاعلين الخارجيين من التحكم بإيقاع التعبئة الداخلية، فإن سلطة المؤسسات الوطنية، مثل: البرلمان والشرطة ووسائل الإعلام، تصبح موضع شك وتراجع.

وقد يكون تحفظ الحكومة في تجنب اتخاذ إجراءات عقابية مباشرة ضد ماسك حكيماً على المدى القريب؛ إذ كان من الممكن أن يؤدي اتخاذ إجراءات صارمة علنية إلى إثبات صحة سيناريو “الاضطهاد”، لكن الحكمة لا تعني السكون، حيث سيتعين على الهيئات التنظيمية واللجان الآن أن تأخذ في الحسبان تدفق المعلومات عبر الحدود الذي يجعل مثل هذه التدخلات ذات أهمية.

جذور الأزمة: الطبقة العاملة بعد العولمة والتقشف

وراء الأعلام والشعارات تقف مجتمعات أنهكها التحول الاقتصادي، حيث تقدر مؤسسة جوزيف راونتري لعام 2025، أن واحد من كل خمسة أشخاص بنسبة 21٪ يعيشون في فقر خلال عام 2022/2023، أي ما يُقدّر بـ14.3 مليون بريطاني، أما الفقر المدقع وهو العجز عن توفير الاحتياجات الأساسية مثل التدفئة والطعام، فقد تضاعف أكثر من مرّتين منذ عام 2017، ليطال 3.8 مليون شخص في عام 2022، بينهم مليون طفل.

كما شهد متوسط دخل الأسرة انخفاضاً على مدى سنوات عدة، أما الشريحة العشرية الأقل دخلاً، انخفض الدخل الحقيقي لها بشكل أكثر حدة، ورغم أن هذه الأرقام قد تبدو مجرد إحصاءات، إلا أنها تعكس ميدانياً واقع الجغرافيا الاجتماعية التي تتصدر مشهد الاحتجاجات المناهضة للهجرة، مثل: المدن البعيدة عن المراكز المزدهرة وعمال المصانع المغلقة والفئة التي تعاني من إيجارات مرتفعة، وقوائم انتظار طويلة في منظومة الرعاية الصحية الوطنية.

في هذا المناخ، تحظى سرديات الخيانة بصدى واسعاً، مثل: “هم” من فتحوا الحدود؛ و”هم” من منحوا امتيازات للغرباء؛ و”هم” من سمحوا بتغيّر الأحياء دون استشارة السكان، حيث تظل هذه قاعدة سياسية راسخة لا تتغير، فعلى سبيل المثال، حين تفشل السياسات المادية في الاستجابة لاحتياجات الناس، تندفع سياسات الهوية لتملأ الفراغ.

القاعدة السياسية الراسخة هي حين تفشل السياسات المادية في الاستجابة لاحتياجات الناس، تندفع سياسات الهوية لتملأ الفراغ

الآثار المحتملة والسيناريوهات المستقبلية
خطر تحوّل الحراك إلى حركة طويلة الأمد أو إلى عنف منظم

قد تمثّل مظاهرة سبتمبر نقطة تحوّل مفصلية، فأحد السيناريوهات المحتملة هو التأطير المؤسسي للحراك، عبر تنظيم تظاهرات جماهيرية دورية، واحتجاجات محلية عند مواقع إيواء طالبي اللجوء، وظهور منظومة إعلامية موازية من مؤثرين ومنصات صغيرة تُبقي قضية الهجرة حاضرة باستمرار في الخطاب العام.

أما السيناريو الآخر، فهو التطرف الهامشي، عبر خلايا صغيرة تتجمع حول أحلام الانتقام، وتتحول من الترهيب إلى العنف المنظم، حيث تبين الإحصاءات الصادرة عن الشرطة في أعقاب المظاهرة أن مثل هذه التعبئات الجماهيرية، وبهذا الحجم، غالباً ما تتضمّن فئة متطرفة عنيفة.

ومع ذلك فإن وجود المحرضين الدوليين ووجود صدى عالمي على الإنترنت يزيد من مخاطر التقلبات، كما ستحدد استجابة الدولة المتمثلة في الملاحقات القضائية العلنية لمرتكبي أعمال العنف، وتعطيل شبكات المتطرفين بشكل سري، وإدارة دقيقة وحذرة لصلاحيات حفظ النظام العام، المسار الذي سيتخذ مستقبلاً.

التأثيرات الانتخابية وصورة بريطانيا الدولية

من الناحية الانتخابية، يعيد صعود حزب “ريفرم يو كاي” صياغة المشهد السياسي، حتى وإن لم يصل إلى السلطة، إلا أن جاذبيته حقيقية، إذ بات كل من حزب العمال والمحافظين يتحركان نحو مواقف أكثر تقييداً، خشية خسارة ناخبين لصالح الخطاب الشعبوي.

أما على الصعيد الدولي، فإن صور لندن وهي غارقة في أعلام قومية، ومشهد ملياردير أميركي يشجّع حشداً بريطانياً غاضباً، لا تخدم الصورة التقليدية للمملكة المتحدة كدولة ليبرالية رصينة ومستقرة ذات “قوة ناعمة” مؤثرة.

وبالنسبة للحلفاء، فإن القلق لا ينبع فقط من اعتبارات أخلاقية، بل من حسابات عملية، فبريطانيا المنهمكة في صراعات الهوية الداخلية، هي أقل تركيزاً على أولويات السياسة الخارجية وأكثر عرضة للانكفاء والارتباك في ملفات دولية تحتاج إلى حسم واستمرارية.

 سياسات هجرة أكثر صرامة أم إصلاحات أوسع نطاقاً؟

الخياران السياسيان متناقضان تماماً، أحدهما يتجه نحو مزيد من التشدد، الأول يتمثل في تشديد إضافي لسياسات الهجرة، عبر رفع شروط الإقامة، وتوسيع مراكز الاحتجاز، وتقليص معايير قبول اللجوء، والحدّ من القنوات القانونية للدخول، فبعض هذه الخطوات قد بدأ بالفعل، مثل: اعتماد الهوية الرقمية لمكافحة العمالة غير النظامية، وهجمات رسمية على التفسيرات الموسّعة لحقوق الإنسان، وتصعيد في الخطاب المتعلق بإنفاذ القوانين.

وقد يخفف هذا المسار من الضغط السياسي على المدى القصير، لكنه ينطوي على مخاطر تآكل سمعة بريطانيا، وتوتر العلاقات داخل الدول التي تم نقل السلطات إليها، حيث تختلف الآراء والتفضيلات السياسية، بالإضافة إلى تغذية الرواية القائلة بأن القوة هي وحدها القادرة على استعادة السيطرة.

الخيار الآخر هو الإصلاح الهيكلي، عبر تسريع توفير المساكن؛ والاستثمار في قدرات الأطباء العامين والمدارس في المناطق التي تشهد معدلات هجرة عالية؛ وإنشاء مسارات قانونية موثوقة ومرنة للعمل تقلل من المخاطرة عبر عبور القناة؛ وإصلاح إجراءات طلب اللجوء لتصبح أسرع وأكثر حسماً، ومنح اللجوء بشكل أسرع وترحيل المهاجرين بشكل أسرع؛ وتنظيم حملة إعلامية صادقة تفصل بين الحقائق والشائعات؛ وتعزيز صناديق الاندماج المجتمعي التي تكون مرئية في حياة الناس اليومية، فلا شيء من هذا سهل أو سريع التنفيذ، لكن التاريخ يشير إلى أن أزمات الهوية تخفّ عندما يشعر المواطنون بأن الدولة كفؤة وعادلة، فالمهمة هي إقناع البريطانيين بأن النظام والانفتاح يمكن أن يتعايشا جنباً إلى جنب.

كير ستارمر يحظى بالتصفيق عند خروجه من “10 داونينج ستريت” (أ ف ب)

إصلاح المؤسسات

تكمن مأساة الشعبوية الحديثة ليس فقط في الأكاذيب التي تروّجها، بل في أنها تنقل أكاذيب تبدو حقيقية لأولئك الذين فقدوا الثقة في المؤسسات، حيث حملت أزمة سبتمبر في بريطانيا هذا المنطق بوضوح، فادعاء بحدوث “غزو” حقيقي هو زائف، لكن الشعور بانهيار العقد الاجتماعي هو واقع ملموس.

مأساة الشعبوية الحديثة ليس فقط في الأكاذيب التي تروّجها بل في أنها تنقل أكاذيب تبدو حقيقية لأولئك الذين فقدوا الثقة في المؤسسات

إذا اكتفت النخب باللوم أو القمع أو التعديلات التقنية الضيقة، فستفشل بلا شك، فما هو مطلوب هو سياسة قادرة على تحقيق توازن حقيقي، عبر استعادة السيطرة على الحدود وقضايا اللجوء، وفي الوقت نفسه، إعادة بناء الثقة بأن الازدهار يُوزع بشكل عادل ومشترك بين الجميع.

بالمحصلة، كشفت مظاهرات سبتمبر عن مدى السرعة التي يمكن بها للأصوات الأعلى أن تعيد رسم ملامح الهوية البريطانية، والتحدي اليوم هو تهدئة الخطاب، وإصلاح مؤسسات الدولة، ومنح المواطنين من جميع الخلفيات سبباً لرؤية مستقبلهم كمصلحة مشتركة، لا كمعادلة صفرية يخسر فيها طرف ليكسب الآخر، وكذلك فإن ضبط الحدود واستعادة التوازن في العقد الاجتماعي قد يُقلل من زخم الشارع، أما الفشل في ذلك، فسيجعل من سبتمبر لا ذروة عابرة، بل بداية لمسار أكثر قتامة في تاريخ بريطانيا.

توماس فالك

توماس فالك

توماس فالك، صحفي ومحلل مقيم في لندن، يركّز على العلاقات عبر الأطلسي، والشؤون الأمريكية، والأمن الأوروبي. وبخبرته الطويلة في التقارير السياسية والتحليل الاستراتيجي، يعتمد على أبحاث معمّقة، ورؤى تاريخية، وتطورات ميدانية لاستكشاف القوى التي تُشكّل المشهد الجيوسياسي الحالي.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.