سيؤول وإعادة التوازن الاستراتيجي بين واشنطن وبكين

تقرير
جنود من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة خلال تدريب مشترك (أ ف ب)
جنود من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة خلال تدريب مشترك (أ ف ب)
ﺷﺎرك

وضع صعود الصين ومنافستها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة كوريا الجنوبية أمام مفترق طرق في تحول سياستها الخارجية، التي تجمع بين عناصر قديمة وأخرى جديدة.

الصيغة الدبلوماسية التقليدية التي اتبعتها سيؤول خلال العقود الماضية، المعروفة باسم: “الأمن مع واشنطن والاقتصاد مع بكين”، كانت في يوم من الأيام عنواناً بارزاً وعملياً لتقاسم الأدوار، حيث كانت الولايات المتحدة تضمن أمنها والصين تدعم نموها الاقتصادي القائم على الصادرات، لكنها الآن مضطرة أكثر من أي وقت مضى، لإعادة النظر في تموضعها الجيوسياسي، بالتزامن مع حالة الغموض الناجمة عن التوترات بين القوتين العظميين.

ستُؤثر خيارات سيؤول بشكل كبير على علاقاتها الاقتصادية، وقدرتها على الردع في شبه الجزيرة الكورية، وقد تمتد تداعيات ذلك إلى أنحاء شرق آسيا، ما يؤكد ضرورة الترابط بين الأمن الإقليمي والازدهار الاقتصادي، لذلك، فإن التوازن الدبلوماسي لكوريا الجنوبية يُعدّ أمراً بالغ الأهمية لمصالحها الوطنية وللحفاظ على الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

سيؤول مضطرة الآن لإعادة النظر في تموضعها الجيوسياسي، بالتزامن مع حالة الغموض الناجمة عن التوترات بين واشنطن وبكين

يفرض هذا المسار المعقّد والمحفوف بالمخاطر انتهاج سياسة خارجية دقيقة وقابلة للتكيّف، كما أن تصاعد القدرات العسكرية والتكنولوجية للصين يُحتّم على كوريا الجنوبية التخلّي عن اعتمادها غير المحدود على نهجها التقليدي في السياسة الخارجية، لما ينطوي عليه من مخاطر تفاقم هشاشتها أمام أي عدوان صيني محتمل.

يمثّل هذا التحوّل اختباراً لقدرة سيؤول على الانتقال من الدبلوماسية التفاعلية إلى استراتيجية إقليمية استباقية، لا تقوم على موازنة أولوياتها الاقتصادية والأمنية فحسب، بل تهدف إلى إعادة تعريف دورها الاستراتيجي ضمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

  الاعتماد الاقتصادي على الصين

لطالما كانت الصين الشريك الاقتصادي الأبرز لكوريا الجنوبية من حيث حجم التجارة وسلاسل التوريد، ما يجعل بكين جزءاً لا غنى عنه لمصدّري ومصنّعي سيؤول، فمن حيث السلع، تُعدّ الصين السوق التصديرية الأولى للعديد من المنتجات الكورية الجنوبية عالية القيمة، مثل أشباه الموصلات والشاشات، حيث تستحوذ على نحو 20% من صادراتها، كما أن شركاتها الكبرى مثل: سامسونغ وإس كيه هاينكس، أقامت مصانع إنتاج لها في الصين، مستفيدة من القرب الجغرافي وتشابك الاستثمارات المعقد فيها.

ومع ذلك، دفعت التحولات الجيوسياسية الأخيرة ونقاط الضعف في سلاسل التوريد سيؤول إلى التفكير في تنويع شراكاتها الاقتصادية، خاصة مع تزايد استخدام الصين لنفوذها الاقتصادي لتعزيز مصالحها السياسية في كوريا الجنوبية، ما يُبرز الحاجة الملحّة إلى تقليل الاعتماد الكبير على شريك اقتصادي واحد، فعلى سبيل المثال، أظهرت إجراءات بكين الانتقامية ضد سيؤول عقب نشر نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي المضاد للصواريخ الباليستية (THAAD) في عام 2016، مدى سرعة تأثير التدابير المتخذة، سواء من فرض القيود على السياحة الجماعية، أو الرقابة التنظيمية أو المقاطعات غير الرسمية، على الشركات الكورية وقطاع الخدمات، في إشارة واضحة إلى أن إمكانية توظيف الضغوط الاقتصادية كأداة فعّالة في السياسة الخارجية.

في الآونة الأخيرة، زادت متطلبات الترخيص التي فرضتها الصين على تجارة المعادن الأساسية والمنتجات النادرة، من المخاوف بشأن احتمال اندلاع نزاع صناعي واسع أو فرض قيود على الصادرات، ما قد يؤدي إلى تعطيل سلاسل الإمداد الحيوية في كوريا الجنوبية، ونظراً للاستخدامات الواسعة لهذه المعادن في الصناعات الأساسية الكورية، بدءاً من صناعة أشباه الموصلات ووصولاً إلى الصناعات الدفاعية، والتي ترتبط بشكل مباشر بالأمن القومي، بات من الضروري أن تعيد سيؤول النظر في سياساتها الاقتصادية والتجارية مع الصين لتقليل هذا النوع من الضعف.

ومع ذلك، فإن إعادة التقييم الاستراتيجية هذه ليست ضرورية فقط للتقليل من المخاطر، بل لتعزيز المرونة الاقتصادية لكوريا الجنوبية في ظل مشهد عالمي سريع التغير، ولأول مرة منذ أكثر من عقدين، تعاني كوريا الجنوبية من عجز تجاري مع الصين، بلغ 18 مليار دولار في عام 2023، والذي يمثل انعكاساً كبيراً للفائض التجاري طويل الأمد الذي كانت تتمتع به سيؤول مع أكبر شريك تجاري لها منذ تطبيع العلاقات الدبلوماسية في عام 1992.

يعكس هذا التحول التراجع المستمر في القدرة التنافسية التصديرية لكوريا الجنوبية على المستويين البنيوي والاقتصادي، كما يشير إلى انكماش دور الصين كصمام أمان اقتصادي لسيؤول، وهو ما يدل على أن كوريا الجنوبية تفقد تدريجياً ميزتها النسبية لصالح الصين، الأمر الذي قد يُفضي إلى تآكل تنافسيتها التجارية على المستوى العالمي.

كوريا الجنوبية تفقد تدريجياً ميزتها النسبية لصالح الصين الأمر الذي قد يُفضي إلى تآكل تنافسيتها التجارية على المستوى العالمي

في ظل إعادة التشكيل الجيوسياسي الراهنة، اضطرت سيؤول إلى إعادة التفكير في مواقفها الأمنية، بدلاً من أن تكون هذه السياسة هي المحرك لهذا التغيير، حيثكشف اعتمادها على الصين عن حدود سياسة المسارين التي كانت تتبعها، إذ كانت الهيمنة الاقتصادية لبكين تقابلها هيمنة عسكرية لواشنطن،ومع تحوّل العلاقة الاقتصادية مع الصين من رصيد استراتيجي إلى عبء جيوسياسي، بدأت سيؤول في البحث عن شراكات استراتيجية بديلة لتعويض ما فقدته من ثقة بسبب هشاشة العلاقة الاقتصادية مع بكين، وسعياً منها لإعادة بناء تموضع أكثر توازناً واستقلالية في بيئة إقليمية تتسم بعدم الاستقرار.

كما عززت الصين قدراتها التكنولوجية المتقدمة، التي بدأت تلحق بالمزايا النسبية لكوريا الجنوبية في صناعات، مثل: السيارات وبناء السفن، إلا أن الاعتماد على بكين لتحقيق النمو الاقتصادي على الرغم من انخفاض القدرة التنافسية لسيؤول في الأسواق الصينية والعالمية، يتعارض إلى حد ما مع سياستها طويلة الأمد المتمثلة في الاستفادة من الصين لتحقيق النمو الاقتصادي، ما يستلزم الحاجة إلى تنويع شركائها الاقتصاديين والاستثمار في محركات نمو جديدة للحفاظ على قدرتها التنافسية في بيئة دولية متقلبة.

مظلة الأمن الأمريكية

من جانب أخر، يعتمد الإطار الأمني الوطني لكوريا الجنوبية بشكل أساسي على تحالفها القوي مع الولايات المتحدة، إذ لا تزال هذه الشراكة، التي تعود إلى الحرب الكورية، تشكل أساس الموقف الدفاعي لسيؤول، حيث ينتشر على شبه الجزيرة الكورية نحو 28,500 جندي من قوات الولايات المتحدة، يعملون في إطار قيادة مشتركة.

يوفر التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية مجموعة شاملة من الضمانات الأمنية، وأهمها الردع الموسع، وهو عنصر حاسم يضمن لسيؤول التزام واشنطن باستخدام كامل قدراتها العسكرية، بما في ذلك المظلة النووية فوق كوريا الجنوبية، للدفاع عنها ضد أي عدوان خارجي، مما يقلل بشكل كبير من ضعفها أمام تهديدات جارتها الشمالية، وقد تجلى هذا الالتزام في إنشاء المجموعة الاستشارية النووية في عام 2023، وهي هيئة ثنائية تهدف إلى تعزيز الردع الموسع ومناقشة التخطيط النووي والاستراتيجي وإدارة التهديدات التي تواجه نظام منع الانتشار النووي.

كما نجح التحالف في دمج عناصر متطورة للدفاع الصاروخي، مثل نظام الدفاع المضاد للصواريخ الباليستية (THAAD)، في إطار التعاون الثنائي، والذي تم رغم اعتراضات بكين، ما يؤكد عزم الحلفاء على تعزيز قدراتهم الدفاعية في مواجهة التهديدات المتطورة.

هذه القدرات، سواء التقليدية أو الاستراتيجية منها، إلى جانب الضمان السياسي الصريح من الولايات المتحدة، تعد عوامل أساسية في تقييم سيؤول المستمر لمدى تعرضها لاستفزازات كوريا الشمالية، وبالتالي، فإن التحالف لا يخدم فقط كرادع، بل كعامل أساسي في الحسابات الاستراتيجية لكوريا الجنوبية فيما يتعلق بأمنها القومي واستقرارها الإقليمي.

تحالف سيؤول مع واشنطن ليس للردع فقط بل عامل أساسي في حساباتها الاستراتيجية فيما يتعلق بأمنها القومي واستقرارها الإقليمي

الضغط الأمريكي لـ “تحديث” التحالف

منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه، مارست إدارته ضغوطاً على كوريا الجنوبية لدفعها نحو “تحديث” تحالفها مع الولايات المتحدة، حيث طالبت إدارة ترامب حلفاءها في آسيا، بما في ذلك كوريا الجنوبية، بزيادة إنفاقهم الدفاعي ليصل إلى ما لا يقل عن 3.5 %  من الناتج المحلي الإجمالي، كما كان إلبرج كولبي، الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع الأمريكي، من أبرز المؤيدين لاستراتيجية احتواء الصين، فالرغبة في التحديث لا تنبع من إيثار واشنطن بقدر ما تنبع من حاجتها الاستراتيجية إلى إعادة توزيع وتخفيف بعض التزاماتها العالمية من أوروبا الشرقية ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وعبر إعادة صياغة مفهوم تقاسم الأعباء على أنه تحديث، فإن واشنطن تشير فعلياً إلى مرحلة جديدة من الضمانات الأمنية الانتقائية، حيث تتوقع هذه المرحلة من الشركاء أن يضمنوا ردعهم الخاص ويتحملوا مسؤولية أكبر عن الدفاع الجماعي.

تتضمن الاستراتيجية نقل دور قوات الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية من الردع ضد كوريا الشمالية إلى كبح نفوذ الصين، مع ترك تهديدات بيونغ يانغ للجيش الكوري الجنوبي.

 وفي هذا الصدد، صرح كولبي في مقابلات إعلامية بأنه منفتح على إدراج القدرات النووية لكوريا الجنوبية على طاولة المفاوضات في إطار إعادة هيكلة قوات الولايات المتحدة في سيؤول.

لذلك، فإن احتمال حدوث تغيير في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن كوريا الجنوبية يشكل مصدر قلق كبير للأمن القومي للبلاد، ورغم أن هذا لا يعني نهاية التحالف بين البلدين، حيث دعا كولبي إلى ضرورة استمرار التحالف نظراً لقرب شبه الجزيرة الكورية من الصين، إلا أن هذا التغيير المحتمل قد يستلزم إعادة تقييم استراتيجيات سيؤول الدفاعية وتحالفاتها، حيث يتعين عليها الآن تحمل النصيب الأكبر من عبء إعالة القوات الأمريكية المتمركزة في شبه الجزيرة.

احتمال حدوث تغيير في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن كوريا الجنوبية يشكل مصدر قلق كبير للأمن القومي للبلاد

 وبالتالي، قد تحتاج سيؤول إلى التوصل لاتفاق جديد مع واشنطن لتحديث التحالف، ما قد يؤدي إلى نقل الولايات المتحدة لقيادة العمليات في أوقات الحرب إلى كوريا الجنوبية أو توسيع دور الجيش الكوري ليس فقط داخل شبه الجزيرة الكورية بل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وحتى النظر في تطوير أسلحة نووية، واستكشاف سبل جديدة لضمان سيادتها واستقرار المنطقة، بما في ذلك الاستثمار في صناعة الدفاع والتكنولوجيا.

التحولات الأخيرة في سياسات سيؤول

كانت سياسة كوريا الجنوبية الخارجية نموذجاً بارزاً للتحوط، حيث حافظت على تحالفها مع واشنطن مع تقليل الاحتكاك السياسي مع بكين إلى الحد الأدنى، وهذا يعني عملياً، التعاون في القضايا الأمنية، مثل التدريبات المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والدفاع الصاروخي، مع تجنب الخطاب الصريح المعادي للصين أو الانضمام إلى تحالفات رسمية ضدها.

وقد انعكس هذا الموقف الدبلوماسي في مشاركة كوريا الجنوبية في الأطر الإقليمية، حيث حافظت سيؤول على مسافة حذرة من المجموعات المعادية للصين بشكل واضح، كما تبين من ابتعادها عن الحوار الأمني الرباعي (كواد).

 ولكن مع اشتداد المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، وضغط إدارة ترامب على سيؤول لزيادة جهودها في دعم استراتيجية احتواء الصين، تواجه كوريا الجنوبية الآن معضلة في مجال الأمن والدبلوماسية، كما أن استمرار تعرضها لقيود التجارة الصينية يثير الشكوك حول احتمال قيام الصين برد انتقامي، ما يحد من خياراتها الدبلوماسية.

لذلك، من الضروري لكوريا الجنوبية أن تقلل بشكل فعّال من اعتمادها المفرط على الصين وأن تستكشف سبل التعاون مع دول تشاركها نفس الرؤى، ما يعكس تقارباً تدريجياً مع واشنطن، ويتضح هذا الاتجاه من خلال سعيها للانخراط في إطار تحالف “أوكوس” الأمني لتبادل التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة، الذي يركز بشكل خاص على مشاركة القدرات المتقدمة في تكنولوجيا الدفاع.

ويساهم هذا التعاون المحتمل، الذي يركز على تبادل التكنولوجيا الاستراتيجية والشراكات الصناعية القوية والبحث والتطوير المشترك، في تحقيق توافق استراتيجي أوسع بين الحلفاء والشركاء في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ويؤكد التكييف الدقيق لهذه العلاقات مع القدرات التكنولوجية لكوريا الجنوبية والاعتبارات الجيوسياسية هذا التحول المتعمد.

يعكس هذا التحول الحذر والمتعمد إدراك سيؤول بأن التحوط قد وصل إلى حدوده؛ فالحياد الآن ينطوي على تكاليف أعلى من الانحياز.

التحول الحذر والمتعمد يعكس إدراك سيؤول بأن التحوط قد وصل إلى حدوده؛ فالحياد الآن ينطوي على تكاليف أعلى من الانحياز

ابتعاد سيؤول عن النهج التقليدي القائم على الموازنة بين الولايات المتحدة والصين يتجلى أيضاً في تزايد انحياز الإدارات الأخيرة لواشنطن، ففي عهد إدارة يون سوك يول السابقة، شددت كوريا الجنوبية على أهمية التحالف مع الولايات المتحدة وعلى ما سمّته بـ”اليقين الاستراتيجي”، مشيرة إلى أن الاستقرار في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي يمثلان دوراً محورياً ينبغي لكوريا الجنوبية أن تضطلع به ضمن استراتيجيتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

 وقد شهدت هذه الفترة انخراط كوريا الجنوبية بشكل فعّال في التعاون الأمني الثلاثي مع الولايات المتحدة واليابان، لمعالجة التهديدات النووية والصاروخية من كوريا الشمالية، وأيضاً لمواجهة احتمالات نشوب صراعات مع الصين، حيث تشير سلسلة التدريبات الثلاثية “حافة الحرية” والتنسيق المتكرر على مستوى عالٍ إلى تعزيز الروابط العملياتية بين الديمقراطيات الثلاث، في مؤشر واضح على تحرك متواصل نحو واشنطن.

كما يشير عمق التعاون الثلاثي بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان إلى تحوّلٍ جذري في العقلية الاستراتيجية لسيؤول، من موازنة قائمة على المصالح المتبادلة إلى اصطفاف قائم على القيم.

ورغم أن سيؤول شهدت تحولاً في السلطة من حكومة محافظة إلى أخرى ليبرالية، إلا أن الاتجاه العام المتمثل في الحد من نقاط الضعف أمام الصين وتعزيز العلاقات مع واشنطن لا يزال ثابتاً، وقد صرح الرئيس المنتخب حديثاً لي جاي ميونغ أن كوريا الجنوبية لم يعد بإمكانها الاستمرار في تبنّي سياسة “الأمن لواشنطن، والاقتصاد لبكين”، متعهّداً بمواصلة تعزيز التحالف مع الولايات المتحدة من خلال التعاون الثلاثي، إلى جانب توسيع التعاون الاقتصادي مع واشنطن.

وتعكس هذه المقاربة استمرار التحوّل الاستراتيجي لسيؤول، بما ينسجم مع توجه إقليمي أوسع يتمثّل في إعادة تقييم الدول لاعتمادها الاقتصادي على قوى بعينها، وتنويع شراكاتها في مشهد جيوسياسي يزداد تعقيداً، وهو ما يشير إلى تقارب مستمر وتدريجي مع الولايات المتحدة.

ما بعد المعادلة القديمة

تشهد كوريا الجنوبية تحولاً كبيراً في سياستها الخارجية، مبتعدة عن استراتيجيتها التقليدية القائمة على “الأمن مع واشنطن، والاقتصاد مع بكين”، حيث يرجع هذا التغيير إلى اشتداد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، ما يجعل من الصعب على كوريا الجنوبية أن تظل على الحياد، بالإضافة إلى ذلك، فقد كشف اعتماد كوريا الجنوبية الاقتصادي على الصين عن مواطن ضعف جعلت من الضروري تنويع شراكاتها.

 وفي ضوء ذلك، تعيد سيؤول تقييم اعتمادها الاقتصادي والأمني الوطني، مركّزة على تعزيز تحالفاتها مع الدول الديمقراطية، وبناء قدرات ذاتية في الصناعات الحيوية، وتطوير سياسة خارجية أكثر مرونة وصلابة.

يعني هذا التحول الاستراتيجي أن سيؤول تعزز تحالفها مع الولايات المتحدة وتعمل على تنمية التعاون الثلاثي من أجل تعزيز أمنها، كما أنها تسعى إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية العالمية لتقليل الاعتماد على أي قوة منفردة، وبشكل خاص الصين، إذ يعكس هذا التوجه إعادة تموضع أوسع على مستوى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تعطي الدول الأولوية للمرونة والاستقرار من خلال تحالفات وعلاقات اقتصادية متنوعة للتعامل مع بيئة جيوسياسية معقدة.

الذي يتشكّل اليوم ليس مجرد زلزال سياسي، بل إعادة ترتيب للقوى الإقليمية، حيث يمكن أن تتحوّل فيها كوريا الجنوبية من لاعب ثانوي تحت مظلة الحماية الأمريكية إلى دولة محورية تسهم في صياغة توازن القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وفي نهاية المطاف، يسلط التحول الاستراتيجي لسيؤول الضوء على معضلة أساسية حول كيفية تأمين مستقبلها في نظام عالمي سريع التغير دون إبعاد شركائها الاقتصاديين الرئيسيين، وهو توازن سيحدد مسارها الجيوسياسي لعقود قادمة.

لذلك، فإن إعادة تشكيل السياسة الخارجية لسيؤول لن تحدد مسارها فقط، بل قد تعيد أيضاً رسم ملامح النظام الاستراتيجي الأوسع في شرق آسيا.

إعادة تشكيل السياسة الخارجية لسيؤول لن تحدد مسارها فقط، بل قد تعيد أيضاً رسم ملامح النظام الاستراتيجي الأوسع في شرق آسيا

السيناريوهات المستقبلية لكوريا الجنوبية

يعتمد المسار الذي ستسلكه سيؤول على ما إذا كانت تعتبر الغموض الاستراتيجي موقفاً قابلاً للتطبيق، أم ترفاً عفا عليه الزمن في عالم ثنائي القطب، وتالياً عدداً من السيناريوهات المحتملة التي قد تسلكها كوريا الجنوبية أثناء تعاملها مع النظام الاستراتيجي المتغير.

مواطن كوري يمشي أمام شعار شركة إس كيه هاينكس في سيؤول (أ ف ب)
 الأول: الغموض المُدار

على الرغم من الضغوط المتزايدة من كل من الولايات المتحدة والصين، تحاول كوريا الجنوبية الحفاظ على نهجها التقليدي المتمثل في “الأمن مع واشنطن، والاقتصاد مع بكين”، وإن بات ذلك أكثر صعوبة من ذي قبل، حيث تواصل سيؤول التعاون الأمني مع الولايات المتحدة من خلال التدريبات المشتركة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، لكنها تمتنع عن استخدام خطاب معادٍ للصين بشكل صريح أو الانضمام إلى تحالفات رسمية مثل: الحوار الأمني الرباعي “كواد”.

في هذا السيناريو، تحاول سيؤول التعامل مع المنافسة الاستراتيجية عبر تأكيد دورها كجسر بين القوتين، والدعوة إلى الحوار وتخفيف حدة التوتر، ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تصبح أكثر هشاشة مع مطالبة الولايات المتحدة بمزيد من التوافق ضد الصين واستخدام بكين للإكراه الاقتصادي بشكل متكرر، ما يجعل كوريا الجنوبية عرضة لأهواء القوتين العظميين.

ومن شأن هذا التردد أن يقوض مصداقية سيؤول ويحد من قدرتها على تشكيل الديناميات الإقليمية.

الثاني: التوافق الاستراتيجي مع واشنطن

 مدفوعة بمخاوف أمنية متزايدة، لا سيما فيما يتعلق بالتقدم العسكري والتكنولوجي للصين وإمكانية شنها هجوماً اقتصادياً، تعزز كوريا الجنوبية بشكل حاسم تحالفها مع الولايات المتحدة، ويشمل ذلك توسيع دورها في التعاون الأمني الثلاثي مع الولايات المتحدة واليابان، والمشاركة بنشاط في أطر عمل مثل: تحالف “أوكوس” الأمني لتبادل التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة، واتخاذ موقف أكثر صراحة بشأن قضايا الأمن الإقليمي مثل مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي.

 قد يشهد هذا السيناريو تقارب سياسات التجارة في كوريا الجنوبية مع المبادرات الأمريكية، مع احتمال انضمامها إلى تحالفات اقتصادية تستثني الصين أو تقيّد تعاملها معها، بل وقد تواجه أيضاً ردود فعل انتقامية مباشرة من بكين، ورغم أن هذا يوفر ضمانات أمنية معززة من واشنطن، إلا أنه ينطوي أيضاً على إعادة توجيه كبيرة ومكلفة محتملة لهياكلها الاقتصادية.

يبدو أن هذا السيناريو أكثر واقعية في الوقت الراهن، بالنظر إلى الضغوط التي تمارسها واشنطن على حلفائها لزيادة التعاون في احتواء الصين اقتصادياً وعسكرياً، ومن شأن ذلك أن يدفع سيؤول إلى تبني مساراً أكثر أماناً في تعزيز التعاون التحالفي، نظراً لتصاعد التوترات في منطقة الهندي-الهادئ.

 قد يعزز هذا المسار سياسة الاحتواء التي تقودها الولايات المتحدة في آسيا، ولكن على حساب المرونة الاستراتيجية لسيؤول.

  الثالث: التنويع المستقل

إدراكاً منها للقيود والضعف الناجمين عن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة أو الصين، تسلك كوريا الجنوبية مسار الاستقلال الاستراتيجي، وفي الوقت الذي تحافظ فيه على تحالفها الأساسي مع الولايات المتحدة في مجال الدفاع، تسعى سيؤول بنشاط إلى توسيع شراكاتها الدبلوماسية والاقتصادية إلى ما وراء نطاق المنافسة المباشرة بين الولايات المتحدة والصين، ويشمل ذلك تعميق العلاقات مع الدول الأوروبية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والقدرات الدفاعية وتنويع الأسواق التجارية، وفي الوقت نفسه، تعزز كوريا الجنوبية علاقاتها مع شركاء آسيويين آخرين متشابهين في التفكير، مثل دول جنوب شرق آسيا والهند وأستراليا، لبناء مرونة إقليمية وإنشاء سلاسل إمداد بديلة.

يُبرز هذا السيناريو سياسة كوريا الجنوبية الخارجية المستقلة، التي تُمكّنها من التعامل مع مصالحها الوطنية دون أن تكون خاضعة بالكامل للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، وسيتطلب ذلك استثماراً كبيراً في صناعتها الدفاعية وقدراتها التكنولوجية، وتعزيز التعاون متعدد الأطراف في مختلف المجالات، ودعم نظام دولي قائم على القواعد، لا تهيمن عليه واشنطن أو بكين حصرياً، ويهدف هذا النهج إلى تقليل ضعف كوريا الجنوبية من خلال إنشاء شبكة أوسع من الشركاء وتعزيز قدرتها بالاعتماد على الذات.

الهدف الأساسي من هذا النهج هو تقليص قابلية كوريا الجنوبية للتعرض للضغوط والإكراه عبر توسيع شبكة شركائها، وتعزيز قدراتها بالاعتماد على الذات.

 ورغم أن الاستقلالية توفر المرونة، إلا أنها تنطوي على خطر عزل سيؤول في أوقات الأزمات، حيث سيتوقف مسارها المستقبلي على ما إذا كانت تعتبر الغموض الاستراتيجي موقفاً مستداماً أم مجرد أداة مؤقتة، تستفيد منها ما دام النظام العالمي قائماً على الثنائية القطبية.

سونغ هيون تشوي

سونغ هيون تشوي

باحث في المعهد المركزي الأوروبي للدراسات الآسيوية (CEIAS)، ومتخصص في الشؤون العسكرية الصينية، والسياسة الخارجية والنووية لكوريا الشمالية، والتعاون الدفاعي بين كوريا الجنوبية وأوروبا.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.