سباق ترسيخ التوازن البحري في آسيا و”الهادئ”

تقرير
أسطول الجيش الصيني يضم نحو 370 قطعة بحرية (أ ف ب)
أسطول الجيش الصيني يضم نحو 370 قطعة بحرية (أ ف ب)
ﺷﺎرك

يُعَدّ أسطول جيش التحرير الشعبي الصيني الذي يضم نحو 370 قطعة بحرية الأكبر في العالم، وهو تفوّق ارتكز على برنامج تحديث واسع وسريع، حيث يشكّل تطوير قدراتها من الغواصات النووية جزءاً محورياً من هذا التوسع، باعتباره ركناً أساسياً في بناء ردع نووي موثوق يعتمد عليه في القوة البحرية.

وفقاً لتقرير صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” في ديسمبر حول تطوّر القدرات العسكرية الصينية، بنت البحرية نحو 12 غواصة نووية خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، ويشمل هذا العدد 6 غواصات من طراز 094  الحديثة، وهي غواصات باليستية نووية (SSBN) مصممة لحمل وإطلاق صواريخ باليستية بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، حيث تمنح هذه المنظومة بكين قدرة موثوقة على تنفيذ ضربة نووية ثانية تمتاز بقدرة عالية على البقاء وتعزيز فعالية الردع.

تصاعد القدرات البحرية الصينية أثار نقاشات استراتيجية واسعة بين حلفاء واشنطن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان، حول ضرورة تطويرهم غواصات نووية محلية، الذين يرون أن امتلاك هذه الغواصات يشكّل أداة ردع مباشرة في مواجهة تنامي نفوذ الصين إقليمياً، كما يعد الحصول عليها خطوة ضرورية لاستعادة توازن القوى وتحدي التفوق الاستراتيجي لجيش التحرير الشعبي الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحيوية، حيث يمثل هذا التوجّه تحولاً كبيراً نحو مزيد من الاعتماد العسكري الذاتي وتعزيز قابلية العمل المشترك بين الحلفاء في مواجهة التهديدات الأمنية المشتركة.

تصاعد القدرات البحرية الصينية أثار نقاشات استراتيجية واسعة بين حلفاء واشنطن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ حول ضرورة تطويرهم غواصات نووية محلية

في حين أن نية مواجهة القوة البحرية الصينية واضحة، إلا أن الطريق أمام حلفاء الولايات المتحدة محفوف بتحديات جسيمة. فهو يتطلب استثمارات ضخمة، ونقلًا للتكنولوجيا، وقدرات صناعية متخصصة، وهو ما يستغرق بناؤه غالبًا عقودًا. ومع ذلك، فإن الالتزام بتطوير هذه القدرة يمثل تحديًا جوهريًا وطويل الأمد للحسابات العسكرية الإقليمية للصين. فالحلفاء على أهبة الاستعداد لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية جذريًا، وتوجيه ضربة موجعة لديناميكيات الصين الاستراتيجية الإقليمية من خلال إضعاف فعالية قدراتها البحرية الحالية، وقدراتها في استراتيجية منع الدخول والوصول (A2/AD).

رغم وضوح الهدف المتمثل في مواجهة القوة البحرية الصينية، إلا أن حلفاء الولايات المتحدة يواجهون تحديات كبيرة في هذا المسار، فذلك يتطلب استثمارات هائلة، ونقل التكنولوجيا، وبنية صناعية متخصصة تستغرق عقوداً لبنائها، ومع ذلك، فإن الالتزام بتطوير هذه القدرات يمثل تحدياً طويل الأمد وجوهرياً لحسابات الصين العسكرية الإقليمية، حيث يستعد الحلفاء لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية بشكل جذري وتوجيه ضربة قوية للديناميكيات الاستراتيجية الإقليمية الصينية من خلال تقليل فعالية قدراتها البحرية الحالية وإستراتيجية (A2/AD) التي تعرف بـ “منع الدخول والوصول”.

لماذا تُعدّ الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية مهمة؟

تعمل الغواصات النووية (SSNs) بمحركات تعتمد على مفاعلات نووية، ما يمنحها قدرات تتفوق بشكل كبير على الغواصات التقليدية العاملة بالديزل والكهرباء، ورغم كونها تعمل بالطاقة النووية، فإنها قد لا تكون بالضرورة مزوّدة بأسلحة نووية، وتكمن ميزتها التشغيلية الأساسية في مداها شبه غير المحدود وقدرتها بالحفاظ على سرعات عالية لفترات طويلة، إذ لا تحتاج إلى عمليات التزوّد المتكررة بالوقود كما هو الحال مع الغواصات التقليدية.

وهذا التفوّق في التخفي والسرعة والقدرة على التحمل يجعل الغواصات النووية أصولاً استراتيجية لا غنى عنها لفرض الردع البحري، خصوصاً في العمليات بعيدة المدى في المياه العميقة.

 تُدرك بكين جيداً القيمة الاستراتيجية للغواصات النووية الهجومية، ولا سيما بعد أن شدّد الرئيس شي جين بينغ على ضرورة تطوير قدرات الصين تحت سطح البحر خلال تفقده لأسطول بحرية جيش التحرير الشعبي في بحر الجنوب عام 2013، ثم لأسطول بحر الشمال عام 2018، وبناءً على ذلك، يُرجَّح أن بكين توظّف أسطول غواصاتها النووية بوصفه ركيزة أساسية في استراتيجيتها العسكرية الرامية إلى ردع الولايات المتحدة وحلفائها، ومنعهم من الوصول إلى الممرات البحرية الحيوية القريبة من سواحلها وفي غرب المحيط الهادئ.

على الرغم من مزاياها الكبيرة، فإن المفاعلات النووية التي تُشغّل الغواصات الهجومية النووية تتطلّب تقنيات متقدمة وأُسس قانونية لتخصيب اليورانيوم، وهو ما ينطوي على مخاطر كامنة بإمكانية تحويل هذه التقنيات أو استخدامها لتطوير أسلحة نووية، الأمر الذي يزيد الضغط على نظام منع الانتشار النووي، ولهذا السبب، يظل تشغيل هذا النوع من الغواصات محصوراً حتى الآن في ست دول تمتلك أسلحة نووية: الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والهند.

ومع ذلك، يواجه هذا التحالف للغواصات النووية تحولاً كبيراً، مدفوعاً بالتهديدات البحرية الحقيقية الناجمة عن توسع الصين، ورداً على ذلك، برز اتجاه جديد يتمثل في انخراط حلفاء الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ الذين لا يمتلكون أسلحة نووية وتحديداً أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، بشكل متزايد في مناقشات وخطط جادة لبناء غواصات مزودة بصواريخ دفاع جوي خاصة بهم، ويؤكد هذا التطور تحولاً جوهرياً في ديناميكيات الأمن الإقليمي والحفاظ على ردع موثوق ضد قوة صاعدة.

أستراليا واتفاقية الأمن الثلاثية

يشهد تحالف الأمن الثلاثي (أوكوس)، المصمّم لمساعدة أستراليا في الحصول على غواصات نووية تقليدية (SSN)، حالة من عدم اليقين والمراجعة المكثفة، ففي أعقاب تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لفترة رئاسته الثانية، أطلقت إدارته مراجعة للاتفاقية الموقعة عام 2021 من قبل سلفه جو بايدن، والتي اعتبرتها بكين على نطاق واسع تهديداً لاستقرار المنطقة واستراتيجية مباشرة لاحتواء القوة البحرية المتنامية للصين.

تحالف (أوكوس) المصمّم لمساعدة أستراليا في الحصول على غواصات نووية تقليديةيشهد حالة من عدم اليقين والمراجعة المكثفة

تنص الخطة على أن تشتري أستراليا في البداية 3 غواصات أمريكية الصنع على الأقل من طراز فرجينيا، بهدف تطوير غواصة ثلاثية جديدة من طراز (أوكوس) لكل من البحرية البريطانية والأسترالية، على أن تدخل الخدمة في أواخر ثلاثينيات وأوائل أربعينيات القرن الحالي على التوالي.

 وبينما أكد الرئيس ترامب علناً خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي أن المبادرة ستمضي قدماً بكامل طاقتها وأن المراجعة لن تُنهي المشروع، ولا تزال هناك تساؤلات جوهرية حول الجدول الزمني الفعلي للتسليم والقدرة الصناعية دون إجابة.

أبرز التحديات التي تواجه برنامج غواصات (أوكوس) هو الضغط الشديد على قاعدة الصناعة البحرية في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث أدّى اتفاق الولايات المتحدة لبيع غواصات من طراز فيرجينيا لأستراليا إلى تفاقم المخاوف القائمة من أن أحواض بناء السفن الأمريكية تُكافح بالفعل لتلبية طلب البحرية الأمريكية على الغواصات النووية، ما يزيد من احتمال إجراء إصلاحات أو تعديلات جوهرية على الاتفاقية الثلاثية في ظل إدارة ترامب.

فجوة القدرات والتأخيرات

تتفاقم مشكلة القدرة الإنتاجية بسبب افتقار أستراليا حالياً لأي قدرة محلية تقريباً لبناء أو صيانة الغواصات النووية، ما يجعلها تعتمد كلياً على خطوط الإنتاج في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في المستقبل المنظور، وقد يؤدي هذا النقص في الطاقة الإنتاجية لدى كلٍّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى تأخيرات حتمية في برنامج الغواصات الثلاثي، ما قد يترك أستراليا تعاني من فجوة في القدرات.

واستعداداً لهذه التحديات، تستثمر كانبيرا في البنية التحتية اللازمة، ففي سبتمبر، أعلنت أستراليا تخصيص 12 مليار دولار أسترالي لتحديث حوض سفن هيندرسون في غرب أستراليا، وتحويله إلى مركز صيانة ودعم حيوي لأسطول الغواصات النووية المستقبلي ضمن برنامج  (AUKUS SSN) على مدى 20 عاماً، ويُعد هذا الاستثمار الاستباقي ضرورياً لضمان استدامة البرنامج على المدى الطويل، لكنه لا يعالج مشكلة نقص الإنتاج الحالية للغواصات نفسها.

ورغم أن الضوء الأخضر الذي أعطته إدارة ترامب يضمن بقاء المشروع، فإن الأسئلة غير المكتملة بشأن الجدول الزمني الفعلي والقدرة الجماعية للدول الثلاث على زيادة إنتاجها الصناعي بشكل كافٍ تشير إلى أن تسليم غواصات الأمن النووي الأسترالية لا يزال مهمة صعبة وربما متأخرة.

كوريا الجنوبية وجهودها في اقتناء الغواصات النووية

بعد يوم واحد فقط من لقاءه بالرئيس الكوري الجنوبي لي جاي ميونغ على هامش قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) في غيونغجو، في كوريا الجنوبية، الشهر الماضي، أعلن ترامب موافقته على خطة سيؤول لاقتناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، حيث أصدر البيت الأبيض بياناً رسمياً بعد أسبوعين من القمة يُؤكد هذه الموافقة، إذ يشكل هذا التحول خطوة غير تقليدية إلى حد كبير وذات أثر استراتيجي مهم في السياسة الأمريكية تجاه حليف غير نووي.

أشار ترامب بشكل محدد إلى أن بناء الغواصات النووية الكورية الجنوبية (SSN) سيتم في حوض سفن فيلادلفيا في الولايات المتحدة، الذي تملكه شركة بناء السفن الكورية الجنوبية “هانوا أوشن”، وتأتي هذه الشروط في سياق محاولة إدارة ترامب إعادة إحياء قدرات بناء السفن الأمريكية، مع لعب كوريا الجنوبية دور مهم ضمن مبادرة “اجعل صناعة السفن الأمريكية عظيمة مرة أخرى” (MASGA)، ومن المتوقع أن يستثمر صانعو السفن الكوريون الجنوبيون نحو 150 مليار دولار في قطاع بناء السفن الأمريكي.

 ووفقاً لتقرير وكالة بلومبرغ، فقد طلب ترامب أيضاً بناء غواصات نووية ليس فقط للبحرية الكورية الجنوبية، بل وللولايات المتحدة، ما يشير إلى أن الموافقة قد تهدف إلى إعادة تنشيط قدرات بناء السفن الأمريكية من خلال الاستفادة من خبرات صناع السفن الأجانب، وهو تحول كبير في عملية التوريد البحري الأمريكية التي غالباً ما تكون مصنفة سرية.

جاء قرار الولايات المتحدة بعد طلب قدمه الرئيس الكوري الجنوبي  لي جاي ميونغ إلى ترامب خلال القمة، حيث أوضح لي أهمية الغواصات النووية (SSN) من الناحية التشغيلية، خصوصاً في مهام التتبع الطويلة وعمليات منع النشاط البحري لغواصات كوريا الشمالية والصين، كما شدد على أن ذلك سيسهم في نهاية المطاف بتخفيف العبء العملياتي على القوات الأمريكية في المنطقة، حيث ركز طلب لي على تأمين إمدادات الوقود للغواصات النووية المسلحة تقليدياً، وبدء مفاوضات حول القضايا الحساسة المتعلقة بتخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود المستهلك.

 اتفاقية 123 ومستقبلها

لطالما واجهت جهود سيؤول للحصول على غواصات نووية (SSN) قيوداً بسبب ميثاق الطاقة الذرية لعام 1974، الذي جرى تعديله في 2015، والمعروف عموماً باسم “اتفاقية 123” بين سيؤول وواشنطن، إلا أن هذا الميثاق ينص على وجوب الحصول على موافقة أمريكية مسبقة في حال رغبت كوريا الجنوبية في تخصيب اليورانيوم بنسبة تقل عن 20% أو إعادة معالجة الوقود النووي المستهلك، وهو بند صُمم لمنع انتشار المواد الانشطارية التي قد تُستخدم لأغراض عسكرية.

 وقد أعاقت هذه القيود جهود كوريا الجنوبية الممتدة لعقدين لتطوير قدرات محلية لغواصات نووية، وأبرزها المشروع السري المعروف باسم “المشروع 362″، الذي أُطلق في 2003 وأُلغي بعد عام واحد عقب كشف وسائل الإعلام ومراقبة المجتمع الدولي لمجال منع الانتشار النووي.

يعكس قرار الولايات المتحدة المحتمل بنقل المعرفة التكنولوجية الحساسة للغاية إلى سيؤول حسابات جيوسياسية جديدة، فمن الواضح أن واشنطن رأت أن امتلاك كوريا الجنوبية للغواصات النووية يصب في مصالحها الاستراتيجية، حيث يحقق هذا القرار هدفين في وقت واحد، أولاً: تنشيط القدرة الصناعية الأمريكية لبناء السفن، وثانياً: احتواء أسطول الغواصات الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كما يتماشى مع النهج المعتمد على المصالح المباشرة الذي اتبعه ترامب في تقاسم أعباء الدفاع.

قرار الولايات المتحدة المحتمل بنقل المعرفة التكنولوجية يعكس الحساسة للغاية إلى سيؤول حسابات جيوسياسية جديدة

مخاوف الانتشار النووي

وقد تتمكن الولايات المتحدة من إعادة تنشيط صناعة السفن لديها عبر حوض سفن فيلادلفيا المملوك لشركة هانوا، مقابل تزويد كوريا الجنوبية بالغواصات النووية ومراجعة اتفاقية 123، بما يسمح لها بالحصول على تكنولوجيا الدفع النووي، ومن شأن هذا التحديث الاستراتيجي لسيؤول أن يسهم في مواجهة التهديدات المتصاعدة من الصين وكوريا الشمالية، دون أن يترتب على واشنطن تكاليف كبيرة.

 مع ذلك، أثار هذا القرار الذي يسمح لدولة غير نووية بالحصول على تكنولوجيا الدفع النووي، حتى لغواصات مسلحة تقليدياً، مخاوف بشأن نظام منع الانتشار النووي، فبينما لا تُعد الغواصات النووية أسلحة نووية، إلا أن مفاعلاتها النووية تتطلب تقنيات تخصيب اليورانيوم، وهي عملية يمكن استخدامها لإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب لبناء أسلحة نووية.

 ويشكّل نقل هذه القدرة سابقة قد تطغى على الخط الفاصل بين استخدام الطاقة النووية السلمي والتطبيقات العسكرية، ما قد يضعف الإطار العالمي لمنع الانتشار النووي، فعلى سبيل المثال، لا تزال هناك مخاوف دولية من أن منح سيؤول القدرة على تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود المستهلك قد يمهد الطريق لتطوير برنامج نووي خاص بها، مستشهدين بالحاجة للردع في مواجهة الصين وتطور الترسانات النووية السريعة لكوريا الشمالية.

الاعتبارات الملحة

رغم المخاوف المرتبطة بمسائل منع الانتشار النووي، استمرت الدعوات المطالبة بتطوير الغواصات النووية (SSN) في كوريا الجنوبية، لا سيما منذ إعلان الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون عن خطته الخاصة بالغواصات النووية عام 2021، وقد ظهر مؤخراً وهو يقوم بتفقد حوض سفن يُقال إنه يبني “غواصة تحمل صواريخ موجهة استراتيجية تعمل بالطاقة النووية”، ما زاد من إصرار سيؤول على تعزيز قدراتها تحت البحر.

إذا تحقق مشروع الغواصات النووية الكورية الجنوبية، فسيُحدِث ذلك تحولاً في الديناميكيات الاستراتيجية لشبه الجزيرة الكورية، من خلال تعزيز قدرة سيؤول على تشغيل غواصاتها بتخفي كبير وقدرة تحمل لا مثيل لهما في المياه المحيطة، إذ تعزز هذه القدرة بشكل كبير قوة الردع ضد كوريا الشمالية والصين، حيث ستجد بكين صعوبة في مواجهة حليف يتمتع بقدرات متزايدة على فرض منع الوصول البحري بالقرب من سواحلها.

أدانت كوريا الشمالية الاتفاق الأخير الذي يسمح لكوريا الجنوبية بتطوير الغواصات النووية (SSN)، معتبرة إياه تهديداً أمنياً شديداً وعاملاً مزعزعاً للاستقرار الإقليمي، ودانت وكالة الأنباء الكورية المركزية، الإعلام الرسمي للدولة، هذا الاتفاق واصفةً إياه بأنه كشف عن ” النهج العدواني” للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، محذرة من أن تطوير الغواصات النووية سيؤدي إلى “تأثير الدومينو النووي” في المنطقة.

المشهد السياسي الجديد في اليابان ومبدأ السلمية

أدى تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة برئاسة رئيسة الوزراء ساناي تاكايتشي، والتي تضم الحزب الديمقراطي الليبرالي (LDP)  وحزب الابتكار الياباني الأكثر محافظة، والمعروف باسم إيشين، نقطة تحول مهمة في السياسة الدفاعية اليابانية.

إلى جانب التعهد بزيادة الإنفاق الدفاعي ليصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي لليابان بحلول عام 2027، ينص الاتفاق الائتلافي الجديد صراحةً على إدخال غواصات تعمل بـ”أنظمة دفع من الجيل التالي”، ويُفهم على نطاق واسع أن المقصود بذلك الغواصات النووية، وهي المرة الأولى التي يُذكر فيها هذا النوع في اتفاقية ائتلافية، وهي سياسة دفع بها حزب إيشين وحظيت بدعم تقرير حديث لوزارة الدفاع اليابانية.

ويشير هذا التحول إلى القلق الاستراتيجي المتزايد في اليابان أمام تطور قدرات الصين وكوريا الشمالية في الغواصات، ويعكس استعداداً سياسياً جديداً لتحدي المعايير التقليدية التي استمرت عقوداً سعياً لتحقيق رادع بحري قوي تحت الماء.

يتعارض هذا التحول الاستراتيجي بشكل مباشر مع العقيدة النووية اليابانية المتأصلة منذ ما بعد الحرب، وخصوصاً مع المبادئ الثلاثة لعدم التسلح النووي، التي تنص على أن اليابان لن تمتلك أسلحة نووية، ولن تنتجها، ولن تسمح بوجودها على أراضيها.

ورغم أن الغواصات النووية المسلحة تقليدياً ليست نووية، إلا أن استخدامها للمفاعلات النووية يستلزم التعامل مع اليورانيوم المخصب، وهو ما يتعارض تقنياً مع روح الالتزام بمنع الانتشار، وفي الواقع، فإن هذا التحرك يتناقض مع قانون الطاقة الذرية الأساسي لعام 1955، الذي يحدد استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط.

الميزة الصناعية اليابانية

تتمتع اليابان بميزة صناعية كبيرة، إذ لديها خطوط إنتاج قائمة بالفعل للغواصات التقليدية المتطورة، إلى جانب صناعة نووية مدنية مستقلة قادرة على تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود النووي المستهلك، وهذا يعني أنه إذا تمكن الائتلاف الحاكم من تأمين الأصوات اللازمة وتجاوز الرأي العام المعارض للنووي والقيود الدستورية، فلدى اليابان القدرة على بناء غواصات نووية محلية (SSNs) بسرعة تفوق مثيلاتها الإقليمية.

رغم القدرة الصناعية اليابانية، فإن تطوير غواصة هجومية نووية (SSN) سيستغرق وقتاً كبيراً، حيث تشمل العملية خطوات متتابعة ومعقدة، بما في ذلك تصميم مفاعل نووي صغير، وتدريب كوادر مؤهلة للعمل مع المواد النووية، ودمج نظام الدفع في تصميم غواصة جديد، علاوة على ذلك، باعتبارها الدولة الوحيدة التي تعرّضت لهجمات نووية، يجب على اليابان تجاوز عقبات سياسية كبيرة، ومعالجة المواقف المعادية للنووي لدى الجمهور، وإعادة تعريف قانونها النووي الخاص بالاستخدام السلمي، وبناءً على ذلك، حتى مع وجود إلحاح سياسي، فإن الانتقال من القرار إلى تسليم أول غواصة نووية محلية قد يستغرق عقداً من الزمن أو أكثر.

التأثير على الصين

من المتوقع أن يثير سعي الحلفاء الرئيسيون للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى الحصول على الغواصات النووية (SSNs)  توترات كبيرة أمام الطموحات البحرية التوسعية للصين، حيث تتمحور العقيدة العسكرية الأساسية لبكين في غرب المحيط الهادئ حول استراتيجية “منع الدخول والوصول” (A2/AD)، المصممة لردع وتأخير التدخل العسكري الأجنبي، خصوصاً في مناطق البحار القريبة منها، ويُعدّ الهدف الرئيسي لهذه الاستراتيجية تعزيز الردع على طول سلسلة الجزر الأولى، مع تأمين مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي بطريقة استراتيجية.

سعي الحلفاء الرئيسيون للولايات المتحدة في آسيا و”الهادئ” إلى الحصول على الغواصات النووية يثير توترات كبيرة أمام الطموحات التوسعية للصين

الردع الموزع

 يُشكّل الانتشار الاستراتيجي للغواصات النوويةبين حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين تحدياً مباشراً للمنافسة الاستراتيجية الحالية بين الولايات المتحدة والصين، حيث تهدف هذه الخطوة إلى إعادة تعريف توازن القوى الإقليمي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتعزيز قدرات الحلفاء على مواجهة استراتيجية “منع الدخول والوصول” (A2/AD) من خلال وجود فعال ومستمر للغاية في المياه العميقة لغرب المحيط الهادئ.

وعبر تمكين حلفاء الولايات المتحدة من نشر هذه القدرة العسكرية المتطورة، تُنفّذ واشنطن استراتيجية ردع موزعة، تهدف إلى مضاعفة الوجود العملياتي لشبكات الغواصات النووية التشغيلية التابعة للحلفاء في غرب المحيط الهادئ، ونقل عبء الاحتواء إلى شركائها.

يغيّر انتشار الغواصات النووية (SSNs) بين حلفاء الولايات المتحدة بشكل جوهري ميزان الردع الإقليمي، إذ يحوّل المجال تحت الماء من منطقة يهيمن عليها بشكل رئيسي كل من الولايات المتحدة والصين إلى بيئة تهديد متعددة الأقطاب ومتعددة الطبقات بالنسبة لبكين.

وتعتمد جوهر استراتيجية (A2/AD) الصينية، التي تهدف إلى منع التدخل الأجنبي، على تقييد حرية حركة الخصوم في بحارها القريبة، ومع ذلك، يمكن للغواصات النووية تجاوز هذه الدفاعات والحفاظ على وجود مستمر وغير متوقع قرب المصالح الحيوية الصينية وخطوط الاتصال التابعة لها، حيث تعقد هذه القدرة المعززة للغواصات لدى الحلفاء بشكل كبير التخطيط العملياتي الصيني لأي غزو محتمل لتايوان، إذ تفرض مستوى غير مقبول من المخاطر وعدم اليقين بشأن مواقع وعدد الغواصات الهجومية المعادية.

غواصة كورية جنوبية في حوض بناء السفن (أ ف ب)
عقبة في الاستراتيجية الصينية

وبناءً عليه، ستحتاج الصين إلى إعادة حساب افتراضاتها المتعلقة باستراتيجية (A2/AD)  مقارنة بتخطيطها الدفاعي الحالي، الذي يفترض عدداً محدوداً من أصول الغواصات الحليفة، وأي زيادة في عدد الخصوم القادرين على تشغيل الغواصات النووية (SSN) بخلاف الولايات المتحدة ستستدعي تحولاً كاملاً في استراتيجية الصين وتشكيلة قواتها، كما ستجبر بكين على إعادة تخصيص الموارد من الأصول الهجومية نحو منصات دفاعية أكثر وأنظمة الحرب المضادة للغواصات (ASW)، ومن المحتمل أن تؤدي هذه التطورات إلى تعديل عقيدة الردع الصينية من خلال إعادة توزيع الموارد بشكل كبير، بدل الانخراط في سباق تسلح للغواصات النووية، نظراً لعدم امتلاكها الأفضلية في سباق الأعداد أمام القوة الصناعية والتكنولوجية المشتركة للولايات المتحدة وحلفائها.

في الوقت نفسه، تتيح الجداول الزمنية الطويلة والمعقدة لتسليم الغواصات النووية (SSN)  لدى الحلفاء فرصة للصين لاستغلال فجوة القدرات، سيما في أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، وسيصبح ذلك ممكناً مع تأخر استلام أستراليا لغواصاتها الأولى من فئة فيرجينيا، بينما لا تزال اليابان وكوريا الجنوبية في طور تطوير برامج الغواصات النووية المحلية، ما يجعل قوة الردع تحت الماء لدى الحلفاء محدودة مؤقتاً.

 وقد يؤدي هذا إلى حسابات خاطئة، حيث ترى الصين فرصة كبيرة لنجاح ضربة أولى في مضيق تايوان، مع تقدير أن أسطول الغواصات النووية الموحد للحلفاء صغير نسبياً وموزع، بما لا يمكنه من إحباط هجومها الأولي بفعالية، ولسد فجوة القدرات الاستراتيجية قبل وصول الغواصات الجديدة، يحتاج الحلفاء الأمريكيون إلى تعزيز التواجد الدوري، واقتناء غواصات نووية قديمة، ودمج تقنيات متقدمة غير الغواصات في منظوماتهم العسكرية.

الصين ترى فرصة كبيرة لنجاح ضربة أولى في مضيق تايوان مع تقدير أن أسطول الغواصات النووية الموحد للحلفاء صغير نسبياً وموزع

السيناريو الأول: ضعف الردع واحتمالات التصعيد

تواجه الولايات المتحدة فجوة حرجة في قدرات الردع لغواصاتها النووية (SSN) بسبب تأخيرات في صناعة السفن، ما يؤثر على التزاماتها ضمن تحالفات مثل AUKUS  وكوريا الجنوبية واليابان، فالتأخير في تسليم غواصات من فئة فيرجينيا إلى أستراليا، إلى جانب العقبات الأولية التي تواجه كوريا الجنوبية واليابان، يخلق نقاط ضعف، وقد يشجع ذلك الصين على استغلال هذه الفجوة قبل أن تصبح أساطيل الحلفاء جاهزة للعمل، خاصة في ظل التحديث البحري العدواني للصين حتى الآن.

 كما أن الاعتماد على القوات الدورية المنتشرة مسبقاً يزيد من المخاطر الجيوسياسية، ويرفع احتمال وقوع حسابات خاطئة في مضيق تايوان أو بحر الصين الجنوبي، بينما يختبر الطرفان قدرة الردع البحري غير المكتملة للحلفاء.

السيناريو الثاني: إقامة توازن بحري جديد

بافتراض نجاح برامج الإنتاج للولايات المتحدة وحلفائها، ستشهد منطقة المحيطين الهندي والهادئ توازناً جديداً تحت سطح البحر، ومع نشر أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان لغواصات نووية متقدمة، ستظهر شبكة ردع حليفة متعددة الطبقات، هذا التوازن الجديد يغير الديناميكية بين الولايات المتحدة والصين، ويجعل العمليات البحرية الصينية واسعة النطاق، مثل غزو تايوان، أكثر خطورة.

وستحتاج الصين إلى إعطاء الأولوية للدفاع وحرب مضادة للغواصات (ASW)، ما يحدّ فعلياً من قوتها البحرية العدوانية، ما يعني تنافساً مستقراً ولكنه شديد، مع ضمان الردع عبر وجود الغواصات النووية الحليفة.

 السيناريو الثالث: تحديات منع الانتشار النووي والانقسامات الإقليمية

تُثير سابقة نقل الغواصات النووية (SSN) مطالب دول أخرى غير نووية بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) للحصول على معاملة مماثلة، ما يؤدي إلى تصعيد سباق تسلح أوسع ويعقّد ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

 وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يتحول الحذر الأولي لدول الآسيان إلى خوف، ما يجبرها على الانحياز إما إلى كتلة الغواصات النووية بقيادة الولايات المتحدة أو إلى بكين، ويؤدي هذا إلى تآكل مركزية الآسيان، واستبدالها بهيكل أمني صارم ومعادي.

سونغ هيون تشوي

سونغ هيون تشوي

باحث في المعهد المركزي الأوروبي للدراسات الآسيوية (CEIAS)، ومتخصص في الشؤون العسكرية الصينية، والسياسة الخارجية والنووية لكوريا الشمالية، والتعاون الدفاعي بين كوريا الجنوبية وأوروبا.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.