Getting your Trinity Audio player ready...
|
بعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب الشاملة التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، غيّر هذا الصراع العلاقات الدولية بشكل جذري، فما كانت موسكو تراه في البداية حملة محدودة وسريعة، تطور إلى حرب طويلة الأمد أعادت تشكيل المشهد الاستراتيجي العالمي، إذ تجاوزت المواجهة المسرح الأوروبي، وفتحت باباً لدخول دول أخرى لتأكيد وجودها في معادلات جيوسياسية جديدة، وعلى وجه الخصوص، دفع هذا الصراع روسيا إلى البحث عن تحالفات استراتيجية في آسيا، أبرزها مع كوريا الشمالية، لذا فإن ما بدأ كحل تكتيكي في مواجهة انهيار المجمع الصناعي العسكري الروسي، تطور ليصبح واحداً من أكثر المسارات الثنائية تأثيراً التي ظهرت من الحرب.
أسس الاتحاد الروسي وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية (كوريا الشمالية)، تحالفاً مفاجئاً، أصبح واحداً من أكثر التحالفات تأثيراً على الأمنين الأوروبي والآسيوي، ورغم أن العلاقات بين البلدين كانت تشهد تحسناً خلال العقد الماضي، إلا أن غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022 غيّر هذه التعاون بشكل جذري، حيث قدمت كوريا الشمالية دعماً كبيراً للجهود الحربية الروسية، إذ توسعت العلاقات خلال العام الماضي لتشمل قطاعات غير دفاعية إلى جانب التبادل العسكري، حيث يساعد ذلك في استدامة التعاون بين البلدين حتى بعد انتهاء الحرب الروسية-الأوكرانية.
الإمدادات الكورية الشمالية لموسكو
قدمت كوريا الشمالية مساهمات جوهرية في دعم موسكو بحربها ضد أوكرانيا، وقد أخطأ قادة أجهزة الأمن القومي الروسية بتقدير حجم الصعوبات التي سيواجهونها عند شن الغزو الشامل، إذ بالغوا في تقدير القوة العسكرية الروسية، وقللوا من إرادة وقدرة القوات المسلحة الأوكرانية على المقاومة، متوقعين نصراً حاسماً في غضون أيام قليلة، لكن المجمع الصناعي العسكري الروسي لم يقم بتخزين الذخائر أو اتخاذ الاستعدادات الأخرى اللازمة، لتتحول الحرب إلى صراع طويل الأمد.
الروس توقعوا انتصاراً حاسماً في غضون أيام لكن فشل المجمع الصناعي العسكري الروسي في تخزين الذخائر أو اتخاذ الاستعدادات اللازمة حول الحرب إلى صراع طويل الأمد
أغلقت كوريا الشمالية هذه الفجوة ببراعة، لأنها كانت المورد الأجنبي الوحيد القادر بشكل سريع على توفير مخزونات كبيرة من الذخائر المتوافقة مع المعدات الروسية، فالكثير من مخزونات الأسلحة ومنشآت الإنتاج في بيونغ يانغ كانت تنتج ذخائر متوافقة مع تلك التي يستخدمها الجيش الروسي، وذلك بفضل أصولها السوفيتية المشتركة.
بدأت كوريا الشمالية في شحن الذخائر إلى روسيا في خريف عام 2023، وبحلول أكتوبر 2024، قدّر محللون غربيون أن أكثر من نصف القذائف التي استخدمها الجنود الروس في أوكرانيا جاءت من بيونغ يانغ.

وفقاً لتقرير صادر عن فريق مراقبة العقوبات المتعددة الأطراف (MSMT) في مايو 2025، الذي يتتبع المعاملات المتعلقة بكوريا الشمالية التي تنتهك قرارات الأمم المتحدة، فقد أرسلت كوريا الشمالية نحو 20,000 حاوية من الإمدادات العسكرية إلى روسيا منذ سبتمبر 2023، شملت هذه الشحنات قذائف عيار 82 ملم، و122 ملم، و130 ملم، و152 ملم، و170 ملم لمدافع هاوتزر وأخرى روسية مختلفة، وكذلك صواريخ مضادة للدبابات من طراز بولساي-4، وصواريخ باليستية قصيرة المدى من نوع هواسونغ- 11وB11 و(KN-23,24) ، بالإضافة إلى أنواع عدة من المدافع ذاتية الحركة، وراجمات الصواريخ المتعددة، ومركبات قتالية وأخرى داعمة، حيث تتولى شبكة من الكيانات، بما في ذلك سفن شحن ترفع العلم الروسي، تنظيم هذه الشحنات السرية باستخدام وسائل نقل متعددة.
لقد أثبتت هذه الإمدادات الكورية الشمالية أنها جوهرية للجهود الحربية الروسية، وذلك بسبب حجمها الكبير وتوقيتها المناسب، حيث تلقت موسكو هذه التعزيزات في وقت كانت تستعد فيه للهجوم المرتقب من أوكرانيا منذ فترة طويلة، وبفضل الذخائر الجديدة، تفوقت القوات الروسية على مدفعية كييف ومنعت قواتها البرية من تحقيق مكاسب كبيرة، ومنذ ذلك الحين، استغلت القوات الروسية تفوقها في المدفعية لتحقيق انتصارات في معارك عدة واحتلال المزيد من الأراضي الأوكرانية.
الصراع بين روسيا وأوكرانيا أصبح حرب استنزاف وإضافة الأفراد الكوريين الشماليين إلى جانب شحنات الذخائر ساعد بشكل كبير في تعزيز الجهود الحربية لموسكو
ساهم آلاف الجنود وغيرهم من المواطنين الكوريين الشماليين في روسيا بتخفيف أزمة التجنيد العسكري ونقص اليد العاملة فيها، رغم أن دورهم كان أقل جوهرياً من الناحية العسكرية، إذ أرسلت بيونغ بانغ، حتى الآن، نحو 15 ألف جندي إلى غرب روسيا، ساعدوا في طرد القوات الأوكرانية من منطقة كورسك، حيث تشير تقديرات مختلفة إلى أن عدد جنودها الذين قُتلوا أو جُرحوا في روسيا يتراوح بين 1200 و4000 جندي، وربما عمل نحو 10 آلاف كوري شمالي أخر في روسيا العام الماضي، ما أتاح توفير عمالة للجيش الروسي أو لأغراض أخرى، ولكن بما أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا أصبح حرب استنزاف، فإن انضمام عناصر من كوريا الشمالية إلى جانب تسليم الذخائر ساعد بشكل كبير في دعم الجهود الحربية الروسية.
ترسيخ النفوذ الروسي في شمال شرق آسيا
إلى جانب الحصول على دعم عسكري في المدى القريب، فإن مساندة كوريا الشمالية تساعد أيضاً في تعزيز أهداف موسكو على المدى الطويل، التي تظهرها أنها لا تزال لاعباً رئيسياً في شمال شرق آسيا، وتهديد الغرب بسبب دعمه لأوكرانيا، وبناء عالم متعدد الأقطاب تقل فيه هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها، ولطالما أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اهتماماً بتحسين العلاقات مع بيونغ يانغ، فقد وفّر فشل المفاوضات النووية بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، إلى جانب حرب روسيا وأوكرانيا، فرصة له لتحقيق هذه الخطط.
رغم أن الكرملين امتنع عن مواجهة الناتو عسكرياً بسبب دعمه الدفاعي القوي لأوكرانيا، إلا أن تقديم المساعدة العسكرية التقنية لكوريا الشمالية يوضح كيف يمكن لموسكو أن تردّ بالمثل، وعلى المدى الطويل، فإن وجود بيونغ يانغ القوية والآمنة والمتحالفة مع موسكو ضد الغرب يساهم في تشتيت تركيز الجهات الأمنية في كوريا الجنوبية واليابان، ويعزز من جهود تقويض النفوذ الأميركي.
وجود كوريا شمالية على المدى الطويل قوية وآمنة ومتحالفة مع موسكو ضد الغرب يُساهم بتشتيت تركيز الجهات الأمنية في كوريا الجنوبية واليابان ويُشكل تحدياً لهيمنة أمريكا
كوريا الشمالية تكتسب خبرة قتالية
استفادت كوريا الشمالية من تعزيز علاقاتها مع روسيا، فبعد أن كانت ضعيفة ومعزولة نسبياً قبل خمس سنوات، باتت اليوم تتمتع بآفاق عسكرية ودبلوماسية واقتصادية أفضل بكثير.
حتى وقتٍ قريب، لم يخض الجيش في كوريا الشمالية حرباً كبرى منذ عام 1953، لكنّ عمليات الانتشار الأخيرة في مقاطعة كورسك أنهت تلك الفترة الطويلة من عدم القتال، رغم أن قواته تكبدت في البداية خسائر فادحة بسبب افتقارها إلى الممارسات القتالية، إلا أنها تلقت تدريبات روسية في عمليات الحرب الحديثة، ويقال إن أدائها تحسّن مع مرور الوقت، كما مكّنت هذه التجربة الجيش من تحسين تكتيكاته وتسليحه من خلال الاختبارات الميدانية، كما تُشارك قيادة الجيش هذه التحسينات مع القوات الأخرى العاملة في أوكرانيا، فعلى سبيل المثال، قام الجنود العائدون من روسيا بنقل تجاربهم ومعارفهم إلى زملائهم خلال المؤتمر السابع لضباط التدريب في الجيش الشعبي الكوري، الذي عُقد في مايو الماضي.
التحديث العسكري
أتاحت مشاركة كوريا الشمالية في حرب روسيا، تحديث مخزونها من الذخيرة وصناعاتها العسكرية، فلم تكتفِ بيونغ يانغ بالتخلص من مخزوناتها القديمة من الذخيرة بطريقة مربحة واستبدالها بأخرى جديدة وبجودة أعلى، بل إن الطلبات الروسية مكّنتها أيضاً من توسيع وتحسين قدراتها في التصنيع الدفاعي، وعلى سبيل المثال، صرّح زعيم جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية كيم جونغ أون، أن الشمال ينتج الآن أربعة أضعاف عدد القذائف سنوياً مقارنة بالسنوات السابقة، كما ساعدت روسيا بيونغ يانغ على تحسين نظام توجيه صواريخها الباليستية، والمشاركة في تصنيع عدة نماذج من الطائرات المسيّرة، بما في ذلك طائرات الهجوم بعيدة المدى من طراز “شاهد-136/غيران-2” التي تُستخدم على نطاق واسع ضد أوكرانيا.
نقلت روسيا أنظمة أسلحة أخرى إلى الجيش الكوري، بما في ذلك نظام الدفاع الجوي المتنقل من فئة “بانتسير” ومعدات التشويش الإلكترونية لطائرات الشحن، وتشير تقديرات الاستخبارات الكورية الجنوبية إلى أن روسيا زودت كوريا الشمالية بصواريخ جو-جو متطورة تتفوق على تلك التي يتم تصنيعها في كوريا الجنوبية، وتشير التقارير من مصادر مختلفة إلى أن موسكو وافقت أيضاً على تزويد بيونغ يانغ بطائرات حربية أكثر تقدماً، من المحتمل أن تكون من طراز Su-27 وMiG-29 ويمكن لكوريا الشمالية الاستفادة من الدعم الصناعي الدفاعي الروسي، سواء في إعادة تسليح قواتها أو في بيع أسلحة أكثر تطوراً لعملاء آخرين غير روسيا.
كوريا الشمالية في المجال الدبلوماسي الروسي
لقد استفادت كوريا الشمالية أيضاً من دعم دبلوماسي روسي متزايد، إذ إن مساعدتها لها في حربها في أوكرانيا رفعت من مكانة بيونغ يانغ في هرم الشركاء العالميين لموسكو، كما يجتمع قادة كوريا الشمالية الآن مع نظرائهم الروس أكثر من أي شركاء آخرين، بما في ذلك الصين، ففي مارس 2024، استخدمت الحكومة الروسية حق النقض (الفيتو) ضد تجديد ولاية فريق الخبراء الذي أنشأه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 2009 لتقديم تقارير عن تنفيذ العقوبات المتعلقة بكوريا، حيث اضطرت كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة وثمانية أعضاء آخرين في الأمم المتحدة إلى إنشاء فريق خبراء مستقل.
وقعت روسيا وكوريا الشمالية وصدقتا على معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة في عام 2024، وفي وقت لاحق، استشهد مسؤولو كوريا الشمالية بالمادة 4 من المعاهدة، التي تلتزم الأطراف بموجبها بـ”تقديم المساعدة العسكرية وغيرها” إذا “وُضِعَت أيٌّ من الأطراف في حالة حرب نتيجة غزو مسلح”، لتبرير إرسال القوات إلى روسيا، وفي عرض عيد النصر العسكري في موسكو مايو الماضي، الذي يحتفل بهزيمة ألمانيا النازية، صافح بوتين الجنرالات من الجيش الشعبي الكوري، تقديراً لمساهماتهم في جهود روسيا الحربية الأخيرة.
دولة تمتلك الأسلحة النووية
قد تساعد الحكومة الروسية كوريا الشمالية في تحقيق هدفها النهائي، المتمثل في الاعتراف بها كدولة تمتلك أسلحة نووية، رغم عدم اعتراف المجتمع الدولي بذلك، وفي سبتمبر 2024، صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأن تهديدات الولايات المتحدة النووية تجاه كوريا الشمالية والتوسع في البُعد النووي لتحالفات الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية جعلت السعي نحو “نزع النووية” من كوريا الشمالية “لا معنى له بعد الآن”، وقال: “بالنسبة لنا، هذا الموضوع أصبح خارج الطاولة”، كما استخدم لافروف لغة مشابهة للدفاع عن برنامج الأسلحة النووية لكوريا الشمالية بعد القصف الأمريكي والإسرائيلي لإيران في يوليو 2025.
الحكومة الروسية قد تساعد كوريا الشمالية في تحقيق هدفها النهائي بالحصول على الاعتراف بها كدولة نووية
التجارة بين روسيا وكوريا الشمالية
رغم أن الصين تظل الشريك الاقتصادي الرئيسي لكوريا الشمالية، إلا أن التجارة بين روسيا وبيونغ يانغ شهدت نمواً كبيراً، ما عزز اقتصادها بشكل عام، حيث استوردت كميات ضخمة من النفط الروسي، بالإضافة إلى المساعدات الغذائية والزراعية، والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، ونظراً للحجم الكبير للقطاع العسكري في كوريا الشمالية، فمن المحتمل أن يكون اندماجها في سلسلة إمداد الدفاع الروسية قد عزز قدراتها الصناعية بشكل عام، إذ تستخدم الدولتان بنكاً روسياً في أوسيتيا الجنوبية، وهي منطقة انفصالية تابعة لجورجيا ولكن تحت السيطرة الفعلية لموسكو، لتنفيذ المعاملات المحظورة من قبل مجلس الأمن.
كما رفضت موسكو فرض عقوبات جديدة أو محدثة على كوريا الشمالية، في حين تراجع تنفيذ روسيا للعقوبات القائمة، حيث تتجاهل روسيا بشكل مستمر الحدود القصوى التي فرضتها الأمم المتحدة والتي تحد من كمية المنتجات النفطية المكررة التي يمكن لكوريا شراؤها وعدد مواطنيها الذين يمكنهم العمل في روسيا، إذ يُسلّم الجنود والعمال وغيرهم من الكوريين جزءاً كبيراً من رواتبهم للنظام، ما يزيد من إيرادات كوريا الشمالية من روسيا، كما تُطلق الحكومتان مشاريع بنية تحتية جديدة، مثل بناء أول جسر بري لهما فوق نهر تومن.

السيناريوهات المستقبلية
تستفيد موسكو وبيونغ يانغ بشكل كبير من شراكتهما، في حين أن الغرب لم يضغط كثيراً على الأطراف لوقف هذه العلاقة، ولذلك، من الممكن أن تتطور العلاقات بينهما بشكل أكبر في المستقبل، وبدلاً من التحايل سراً على عقوبات الأمم المتحدة، قد تطالب موسكو علناً برفعها، وقد يقوم الجيش الكوري الشمالي بنقل قواته إلى مناطق إضافية في أوكرانيا.
وقد تتمكن السفن الحربية والطائرات الحربية الروسية من الوصول بانتظام إلى الموانئ والمطارات الكورية الشمالية، كما أن المزيد من الاستثمارات الروسية في البنية التحتية لبيونغ يانغ يدعم تعزيز التبادلات الاقتصادية الثنائية بين البلدين.
مع ذلك، فإن انتهاء الحرب الروسية-الأوكرانية، من شأنه أن يُزيل ركيزةً أساسيةً في الشراكة بين روسيا وكوريا الشمالية، وسيُوضح توازن القوى النسبي بين موسكو وبيونغ يانغ ضمن تحالفهما، وقد تُعيد قيادة ما بعد بوتين السير على نفس النهج الذي اتبعته موسكو في أوائل التسعينيات، حين تخلت عن بيونغ يانغ سعياً وراء شراكات أكثر ربحية مع الدول الغربية، وحتى لو لم تنته الحرب قريباً، فإن أهمية المساعدة العسكرية التي تقدمها كوريا الشمالية لموسكو ستتراجع مع زيادة الصناعات الدفاعية الروسية لإنتاجها المحلي.
علاوة على ذلك، إذا تحدت الصين تحالف روسيا-كوريا الشمالية، فمن المحتمل أن تضحي موسكو بعلاقاتها مع الشمال بدلاً من المخاطرة بالتخلي عن بكين، الشريك الأكثر أهمية لروسيا، فمن المرجح أن تفسر هذه الاعتبارات، السرعة غير المعتادة التي اغتنمت بها كوريا الشمالية الفرص لتعزيز العلاقات مع روسيا حتى على حساب العلاقات مع شركاء آخرين؛ إذ يدرك كيم ومستشاروه أن نفوذ بيونغ يانغ بلغ ذروته الآن، ولكنه قد يتراجع بسهولة في السنوات المقبلة.