تدور النقاشات الأوروبية حول قضايا الدفاع اليوم على أهداف الميزانيات، وتنسيق المشتريات، والسعي إلى تحقيق “الاستقلال الاستراتيجي”، غير أن هذه الجهود تتجنب مواجهة مسألة جوهرية، تتمثل بضعف القاعدة الصناعية والطاقوية اللازمة لدعم قوة عسكرية حقيقية وفاعلة، فالحروب لا تُحسم بالتكنولوجيا والموارد البشرية وحدهما، بل بخطوط الإنتاج وإمدادات الوقود، لذا فإن الردع والدفاع لا يعتمدان فقط على امتلاك أسلحة متطورة، بل على القدرة المستمرة على إنتاجها وصيانتها واستبدالها عند الحاجة وعلى نطاق واسع.
يتطلّب كل ذلك وجود صناعة ثقيلة، تعتمد بدورها على مصادر طاقة آمنة وقليلة التكلفة ومتواصلة، ومن دون هذا الأساس، سيبقى الأمن الأوروبي مجرد قوة شكلية بلا مضمون، ومع ذلك، تُظهر المبادرات الأخيرة خطوات واعدة إلى الأمام، حيث تلقّى صندوق الدفاع الأوروبي في عام 2025 أكثر من 400 مقترح لمشروعات بقيمة تتجاوز مليار يورو، ما يعكس تنامي التعاون والابتكار في مجالات القدرات الدفاعية.
غير أن نظرة أعمق إلى هيكل الطاقة في أوروبا تكشف عن القيود الهيكلية التي ما زالت تُقوِّض مثل هذه الجهود، إذ يستورد الاتحاد الأوروبي حالياً نحو 60 % من إجمالي احتياجاته من الطاقة، أما إنتاجه المحلي من النفط والغاز فظل هامشياً على المستوى العالمي، في حين تبقى الأسعار مرتفعة هيكلياً مقارنة بالاقتصادات المنافسة.
ورغم الزخم السياسي الداعم لجهود إزالة الكربون، إلا أن البصمة الصناعية للاتحاد الأوروبي تواصل الانكماش، لا سيما في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة والتي تُعد حيوية لإنتاج المعدات الدفاعية.
ولكن رغم ارتفاع ميزانيات الدفاع، تفتقر القارّة إلى القدرة الإنتاجية المتكاملة والاحتياطيات الاستراتيجية اللازمة لتحويل هذه الميزانيات إلى قدرات عسكرية قابلة للتوسع، إلا أن الإنفاق الدفاعي على مستوى الاتحاد الأوروبي ارتفع إلى 2 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، بعد أن كان 1.5 % سابقاً، ما يعكس التزاماً ملموساً بتعزيز الموارد في ظل الضغوط الجيوسياسية المتصاعدة.
رغم ارتفاع ميزانيات الدفاع تفتقر القارّة إلى القدرة الإنتاجية المتكاملة والاحتياطيات الاستراتيجية اللازمة لتحويلها إلى قدرات عسكرية قابلة للتوسع
كما ساهمت خطة الاتحاد الأوروبي للطاقة REPowerEU في تسريع جهود التنويع، من خلال إبرام اتفاقات لوقف واردات الغاز الروسي اعتباراً من 1 يناير 2026 لمعظم العقود، وفرض حظر كامل على الواردات طويلة الأمد بحلول 1 يناير 2028، وذلك عبر تقليص الاعتماد على روسيا من خلال زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال وتوسيع استخدام مصادر الطاقة المتجددة، إذ تزداد هشاشة البنية الصناعية الأوروبية وضوحاً عند تقييم واقع قاعدة الإنتاج الدفاعي المجزأة في القارّة.

القاعدة الصناعية المفقودة
تتمتع الصناعة الدفاعية الأوروبية بمواطن قوة ملحوظة في مجال الابتكار، إلا أن قاعدتها الصناعية ما تزال مجزأة وبطيئة الحركة، فالإنتاج الدفاعي محدود بسبب ضعف القدرة على توسيع خطوط الإنتاج، والاعتماد المفرط على موردين متخصصين في مجالات ضيقة، إضافة إلى غياب الجاهزية للتوسع السريع في حالات الطوارئ.
وتواجه مصانع الذخيرة صعوبة في تلبية الطلب الأوكراني المتزايد، بينما لا يزال إنتاج المركبات المدرعة يتوسع بوتيرة بطيئة أيضاً، وغالباً ما تتعثر مشروعات المشتريات الدفاعية المشتركة في أوروبا نتيجة اختلاف الأولويات الوطنية، وضعف معايير التوحيد، والنزعة إلى حماية الصناعات المحلية، إذ تمنع هذه الاختلالات الهيكلية أوروبا من تحويل ثقلها الاقتصادي إلى قوة استراتيجية حقيقية.
وعلى الجانب الإيجابي، تقود شركات كبرى مثل: إيرباص للدفاع والفضاء وليوناردو وراينميتال جهود التطوير في هذا المجال، إذ يُتوقع أن يرتفع الإنفاق الدفاعي من نحو 220 مليار يورو في عام 2021 إلى نحو 400 مليار يورو في عام 2025، مع مؤشرات على استمرار نمو سنوي بمعدل يتراوح بين 10 و11 % حتى عام 2030، ما يعزز المرونة والتعاون داخل القطاع.
كما حقق برنامج التعاون الدفاعي الأوروبي المشترك (PESCO) إنجازات ملموسة، إذ يضم أكثر من 70 مشروعاً جارياً، من بينها 66 مشروعاً قيد التطوير و7 مشاريع اكتملت بحلول عام 2025، بالإضافة إلى إطلاق الموجة السادسة التي تشمل 11 مبادرة جديدة في مجالات مثل الدفاع الجوي والصاروخي والتقنيات الكمية،
ومع ذلك، لا يمكن لهذه الإنجازات أن تُخفي الخلل الجوهري القائم بين التخطيط العسكري والواقع الصناعي.
برزت محدودية الإنتاج الدفاعي الأوروبي بشكل أوضح في سياق الحرب في أوكرانيا، فقد كشفت عجز القارة عن توفير إمدادات مستمرة وفي الوقت المناسب من المواد الحيوية، من قذائف المدفعية إلى قطع الغيار، كما كشفت عن الفجوة بين الالتزام السياسي والقدرة الصناعية الفعلية.
لقد شكّلت الحرب في أوكرانيا بمثابة اختباراً غير مقصود لجاهزية أوروبا الصناعية والعسكرية، إذ غالباً ما تتأخر جداول التسليم عن تلبية متطلبات ساحة المعركة، وتجاوزت الوعودُ حجمَ الإنتاج الحقيقي، وتُبرز هذه الثغرات التشغيلية دروساً واضحة بشأن هشاشة منظومة الإمداد الدفاعي الأوروبي، والاعتماد المفرط على المخزونات الأمريكية، وتفكك سلاسل التوريد الوطنية، وما لم تُعالج هذه الاختلالات، فإنها ستتكرر في أي أزمة مستقبلية، ما يقوّض الردع والمصداقية معاً.
علاوة على ذلك، لا تزال السياسات الصناعية والاستراتيجيات الدفاعية في أوروبا غير منسجمة، فبينما تعمل بعض الدول الأعضاء على زيادة ميزانيات الدفاع، فإنها تعجز عن ضمان استثمارات كافية في المنظومات الصناعية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، والنتيجة نظام غير مؤهل لخوض حروب طويلة أو عالية الكثافة، فالمعدات قد تكون متوفرة على الورق، لكن الجاهزية التشغيلية تتقوّض بسبب اختناقات لوجستية، وثغرات في الصيانة، ونقص في الكوادر البشرية، ومن دون قاعدة صناعية فاعلة تدعم المجهود العسكري، تصبح الحرب الحديثة غير قابلة للاستمرار، وهكذا، تواجه أوروبا خطر التحول من منتِج عسكري إلى مستهلِك عسكري.
ومن المشجع أن ميزانية صندوق الدفاع الأوروبي (EDF) التي تقارب 8 مليارات يورو للفترة 2021–2027 قد موّلت مشاريع تعاونية عبر 34 فئة، ما عزّز التكامل بين القوات ووفّر الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة عبر المنح، وهو ما ساهم في تعزيز القدرة الصناعية في المجالات الحيوية، ومع ذلك، فإن أفضل المصانع تجهيزاً لن تستطيع العمل من دون طاقة آمنة وميسورة التكلفة، والتي تمثل الحاجز الاستراتيجي الحقيقي.
الطاقة: مفتاح التنافس الاستراتيجي
حتى لو كانت القدرة الإنتاجية الدفاعية الأوروبية أكثر كفاءة، فإنها ستظل محدودة بتوافر وموثوقية مصادر الطاقة، فالأسعار المرتفعة نسبياً للكهرباء والغاز تقلل القدرة التنافسية، وتزيد تكلفة صناعة الدفاع، وتضاعف خطر تعطل الإمدادات.
حتى لو كانت القدرة الإنتاجية الدفاعية الأوروبية أكثر كفاءة، فإنها ستظل محدودة بتوافر وموثوقية مصادر الطاقة
ورغم أن الاتحاد الأوروبي أحرز تقدماً في تنويع واردات الطاقة، إلا أن النظام يظل عرضة للصدمات الجيوسياسية، وتقلبات الأسعار، والقيود على البنية التحتية، حيث تعتمد القطاعات الدفاعية الحيوية، من صناعة المعادن إلى أنظمة الدفع، على توفر الطاقة بشكل مستمر، فلا يمكن لمصنع بدون طاقة مستقرة إنتاج دبابات أو صواريخ أو طائرات.
يشمل هذا التطور تقرير حالة اتحاد الطاقة لعام 2025، الذي يُسلط الضوء على الإنجازات المحققة نحو أهداف المناخ والطاقة لعام 2030، بما في ذلك تقليل الاعتماد على الواردات ومعالجة ارتفاع الأسعار من خلال تنويع المصادر.
وقد عزز الدور المحوري للطاقة الشمسية في خطة REPowerEU من استقلالية الطاقة، ومن المقرر وضع خطط وطنية للتنويع بحلول عام 2026، إذ يُضيف السعي نحو إزالة الكربون، على الرغم من ضرورته لتحقيق الأهداف المناخية، قيوداً إضافية، إذ لا يزال توليد الطاقة المتجددة متقطعاً، كما أن تخزين البطاريات غير كافٍ لاستقرار الإنتاج الصناعي.
وتُواصل بعض الدول التخلص التدريجي من الطاقة النووية، على الرغم من إمكاناتها كمصدر طاقة مستقر، حيث لا تزال خطط توسيع استخدام الهيدروجين أو الوقود الاصطناعي طويلة الأجل.
هذا يخلق تناقضاً استراتيجياً في صميم التخطيط الدفاعي الأوروبي، فطموحات إعادة التسليح تتقدم دون معالجة المتطلبات المادية الأساسية اللازمة لذلك، والنتيجة هي مفارقة استراتيجية؛ قارة تحاول إعادة التسليح في الوقت الذي تهدم فيه القاعدة الصناعية الطاقوية اللازمة لهذا التسليح.
ومع ذلك، فقد ساهم تركيز اتحاد الطاقة على الأمن والتضامن في تحقيق بعض النجاحات، مثل تعزيز الريادة في الطاقة المتجددة ووضع خارطة طريق السوق الموحدة لأسواق الطاقة المتكاملة، ما يمكن أن يعزز المرونة لتلبية الاحتياجات الدفاعية.
ورغم تفاوت السياسات الوطنية، مثل تركيز فرنسا على الطاقة النووية مقابل التخلص التدريجي منها في ألمانيا، إلا أن الإطار على مستوى الاتحاد الأوروبي يعطي الأولوية للمرونة الجماعية على حساب الفروقات الفردية، وهذا يقودنا إلى المفارقة الجوهرية لمفهوم “الاستقلالية الاستراتيجية”، حيث يتجاوز خطابه الأسس المادية المطلوبة للحفاظ عليها.
الاستقلالية الاستراتيجية بلا مدخلات استراتيجية
تفترض فكرة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية القدرة على التصرف سياسياً وعسكرياً وصناعياً بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، لكن ذلك يتطلب أكثر من مجرد تصريحات، فهو يفترض وجود سلاسل إنتاج فعّالة، ووصول آمن إلى الطاقة والمواد الخام، وبنية تحتية لوجستية، واحتياطيات قابلة للتوسع، وهذه العناصر غائبة إلى حد كبير أو غير متطورة بما يكفي.
وبينما يركز التخطيط الدفاعي على المنصات والقدرات، فإنه غالباً ما يغفل عن الشروط الضرورية للحفاظ عليها في أوقات الأزمات أو النزاع، ومن التطورات الإيجابية في هذا السياق استراتيجية الصناعة الدفاعية الأوروبية (EDIS)، التي تهدف إلى تعزيز التعاون في مجالات البحث والتطوير والإنتاج والمشتريات، وتقليل الاعتماد على أنظمة خارج الاتحاد الأوروبي.

وفي الوقت نفسه، لم يعد الأساس العابر للأطلسي للأمن الأوروبي مضموناً، فالتغيرات السياسية في الولايات المتحدة خلال ولاية دونالد ترامب، إلى جانب تزايد الشكوك في الكونغرس، قد تؤدي إلى تأخيرات أو عرقلة أو فرض شروط على تسليم الأسلحة الحيوية، أو تبادل المعلومات الاستخبارية، أو الدعم اللوجستي، إذ لم تعد الضمانات الأمنية الأمريكية مفترَضة على أنها مستقرة أو سريعة أو غير مشروطة.
لذا، يجب على أوروبا الاستعداد لسيناريوهات يكون فيها الدعم العسكري الأمريكي جزئياً أو متأخراً أو مقيداً استراتيجياً، ففي مثل هذه الحالات، تصبح الفجوة بين الطموح السياسي والقدرة العملياتية وجودية، حيث لا يتطلب الاستقلال الاستراتيجي السيادة فحسب، بل يتطلب مرونةً شاملة في غياب الدعم الخارجي المضمون، إذ تُمثل القيود التي كشف عنها تأخر الدعم الأوروبي وتشتته لأوكرانيا اختباراً حقيقياً للاستقلال الاستراتيجي.
يجب على أوروبا الاستعداد لسيناريوهات يكون فيها الدعم العسكري الأمريكي جزئياً أو متأخراً أو مقيداً استراتيجياً ففي مثل هذه الحالات تصبح الفجوة بين الطموح السياسي والقدرة العملياتية وجودية
إذا لم تتمكن أوروبا من خوض حرب على حدودها دون الاعتماد على الدعم اللوجستي والصناعي والسياسي الأمريكي، فلن تتمكن من ادعاء الاستقلالية في أي أزمة مستقبلية، حيث تشكل مبادرات مثل مشروع التنقل العسكري ضمن برنامج التعاون الدائم المنظم “بيسكو”، الذي يشارك فيه شركاء غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل كندا والنرويج، مثالاً على التقدم الأولي نحو تحسين البنية التحتية للتنسيق عبر الحدود، لكنها ما تزال بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي التشغيلي.
الواقع التشغيلي
لا تُقاس القدرات العسكرية بالتصريحات السياسية، بل بالواقع العملي، حيث يمتلك أعضاء الناتو الأوروبيون مجتمعين ترسانة هائلة من المعدات العسكرية، إلا أن الجاهزية العملياتية تتفاوت بشكل كبير، فالعديد من الأنظمة قديمة، أو معطلة، أو غير متوافقة.
تفتقر القوات البرية الأوروبية إلى وحدات هندسية كافية، وقدرات الحرب الإلكترونية، والذخائر الدقيقة طويلة المدى. كما أن تغطية الدفاع الجوي محدودة، لا سيما في أوروبا الشرقية، وتظل عمليات النقل الجوي الاستراتيجي معتمدة على القدرات الأمريكية أو المدنية.
ولا يزال النقل الجوي الاستراتيجي يعتمد على القدرات الأمريكية أو المدنية، وتتفاوت القدرات السيبرانية، وأمن سلسلة التوريد للإنتاج الدفاعي غير كاف، ومع ذلك، فإن خارطة طريق الاتحاد الأوروبي للجاهزية الدفاعية لعام 2030 تُحدد طموحات لمعالجة هذه التحديات، مع تحقيق تقدم ملموس في القدرات المشتركة.
وتزداد خطورة الفجوة بين القدرات المعلنة والأداء الواقعي في مواجهة خصوم يتعلمون ويتكيفون تحت وطأة النيران، فالتدريبات لا تزال محدودة من حيث الحجم والواقعية، وغالباً ما تعتمد المناورات المشتركة واسعة النطاق على المحاكاة بدلاً من نشر القوات الفعلية.
ولا تزال القدرة على تنسيق العمليات على مستوى الفيلق بين وحدات وطنية متعددة هدفاً طموحاً لم يتحقق بعد، أما العناصر الحيوية المساندة، مثل اللوجستيات، والاستطلاع، والقيادة والسيطرة، فإما غائبة أو تعتمد على الأصول الأمريكية، وفي سيناريو حرب كبرى، ستتحول هذه النواقص إلى نقاط ضعف واضحة خلال أيام معدودة.
في الوقت نفسه، أظهرت روسيا قدرتها على حشد قوات كبيرة، واستمرار الإنتاج رغم العقوبات، واستغلال التردد الغربي، ويعمل اقتصادها الحربي من خلال مزيج من الآليات المالية والعسكرية، مثل تمويل سندات القروض الفيدرالية، وهي الأوراق المالية الحكومية الرئيسية لروسيا، ودورات الميزانية الممولة من عائدات النفط، وشبكات الرعاية الصناعية التي تضمن تخصيص الأولوية للمؤسسات الدفاعية.
رغم الخسائر الفادحة، حافظ الكرملين على القدرات الإنتاجية الأساسية وقام بتكييف سلاسل التوريد لتجاوز العقوبات، معتمداً بشكل متزايد على الواردات غير الرسمية والتجارة الموازية مع الصين وتركيا وآسيا الوسطى.
وقد سعت الصين إلى استثمارات طويلة الأمد في توسيع الصناعة العسكرية، وهيمنة التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام، والابتكار بقيادة الدولة، بهدف تحقيق تكافؤ استراتيجي على مدى عقود.
وفي المقابل، تواجه أوروبا مثلثاً حرجاً من الهشاشة اللوجستية والصناعية والمؤسسية، ما يقوّض قدرتها على الاستجابة بشكل مستقل في حال نشوب صراع طويل أو شديد.

إعادة بناء الأسس
في السنوات القادمة، يتعين على أوروبا معالجة ثغراتها الهيكلية، فهي بحاجة إلى سياسة دفاعية صناعية متماسكة تُركز على الحجم والجاهزية والمرونة، وهذا يعني الحفاظ على خطوط الإنتاج الاستراتيجية، وتأمين سلاسل التوريد الحيوية، والاستثمار في التكرار الصناعي، كما يجب إصلاح سياسة الطاقة لديها لدمج الضرورات الأمنية، مثل توليد الطاقة الأساسية المستقرة، ودعم القطاعات الدفاعية الحيوية، واعتماد نهج واقعي لجدول التحوّل الطاقي.
في السنوات القادمة يتعين على أوروبا معالجة ثغراتها الهيكلية فهي بحاجة إلى سياسة دفاعية صناعية متماسكة تُركز على الحجم والجاهزية والمرونة
وأخيراً، يجب على أوروبا الاستثمار في البنية التحتية للتنسيق اللازمة لإدارة العمليات المشتركة المعقدة: مراكز القيادة، ومراكز اللوجستيات، وأنظمة الاتصالات المترابطة.
من الأمثلة الناجحة تقرير التطور لعام 2025 الصادر عن برنامج (PESCO)، والذي يُسلِّط الضوء على مخرجات المرحلة الأولى (2017-2025) ويُمهِّد الطريق للتقدم المُستقبلي.
لا يُمكن تحقيق أيٍّ من هذا بين عشية وضحاها، لكنّ فرصة التعديل تتضاءل، إذا لم تتحرّك أوروبا، فستظلّ تابعةً استراتيجياً ومُعرَّضةً للخطر عسكرياً، ولن يردع الخطاب العدوان، بل ستفعل ذلك القوة الصناعية، المُدمجة في أنظمة مستقرة ومحكومة باستراتيجية مُتماسكة.
عجز أوروبا عن تحقيق الأمن لا يعكس مجرد فشل في الإرادة السياسية، بل يعكس تآكلاً عميق في النظم الصناعية والطاقية التي تشكل أساس الدفاع الموثوق، ومن دون معالجة هذه النقائص الهيكلية، ستظل الاستقلالية الاستراتيجية رمزية، بل ومضللة من الناحية الاستراتيجية.
والدروس المستخلصة من الحروب واضحة لا لبس فيها: فالانتصارات لا تتحقق فقط على ساحات المعارك، بل في المصانع، وشبكات الطاقة، وسلسلة الإمداد، وعلى أوروبا أن تعيد تعلم هذا الدرس، وإلا فستظل طرفاً معرضاً في مواجهة متعددة الأقطاب.
في حين أن التدابير الأخيرة، بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي، والتقدم في برنامج (PESCO)، وتنويع مصادر الطاقة، تُعدّ خطوات في الاتجاه الصحيح، إلا أنها لا تزال غير كافية، فبدون إعادة ضبط هيكلية للقاعدة الصناعية والطاقة في أوروبا، ستظل رؤية الاستقلال الاستراتيجي مجرد أداء، وستكشف الأزمة القادمة ما إذا كانت أوروبا قادرة على إعادة تسليح نفسها حقاً أم مجرد تجميل صورتها الدفاعية.




