في الشهر الماضي، جرى نشر مجموعة حاملة الطائرات الأمريكية “يو اس اس جيرالد آر فورد” القتالية في البحر الكاريبي، في أول انتشار من نوعه هناك منذ عام 1994، في خطوة تعكس تصعيداً في مستوى الانخراط العسكري الأمريكي داخل نصف الكرة الغربي، وقد جاء الإعلان الرسمي لمهمتها بأنها تهدف إلى تفكيك الشبكات الإجرامية العابرة للحدود ومكافحة الإرهاب المرتبط بالمخدرات دفاعاً عن الوطن، غير أن هذه المهمة وفّرت مبرراً لحشد واسع للقوة البحرية والجوية الأمريكية بالقرب من فنزويلا وعلى امتداد المسارات الرئيسية لتهريب المخدرات.
يأتي هذا الانتشار البحري الواسع في سياق حملة مستمرة تنفّذها الولايات المتحدة ضد سفن يُشتبه في تورطها بعمليات تهريب المخدرات في كلٍّ من البحر الكاريبي وشرق المحيط الهادئ، حيث بدأت هذه الحملة مطلع سبتمبر، وكان أول هجوم أُعلن عنه رسمياً يستهدف، بحسب الرواية الأمريكية، سفينة مرتبطة بشبكات إجرامية فنزويلية، وحتى منتصف نوفمبر، نفّذت القوات الأمريكية ما لا يقل عن 21 ضربة، أسفرت عن مقتل أكثر من 80 شخصاً يُشتبه في أنهم مهربو مخدرات في المياه الدولية.
لا يمكن فصل هذا التصعيد العسكري الواسع عن حالة التوتر العميق والمتفاقم بين الولايات المتحدة وفنزويلا بقيادة نيكولاس مادورو، فواشنطن ترى أن فنزويلا متورطة في شبكات تهريب المخدرات، ولا سيما ما يرتبط بما يُعرف بـكارتيل دي لوس سوليس، الذي أُدرج ضمن المنظمات الإرهابية الأجنبية أواخر عام 2025، الأمر الذي وفّر غطاءً سياسياً وقانونياً للنهج العسكري الأمريكي وللضربات المميتة تحت شعار “الحرب على الإرهاب” والجريمة العابرة للحدود التي يُنظر إليها كتهديد مباشر للأمن القومي الأمريكي، كما أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعا عبر منصاته على وسائل التواصل الاجتماعي إلى إغلاق المجال الجوي فوق فنزويلا، ما زاد من التكهنات بشأن احتمال اللجوء إلى القوة ضد البلاد.
نشر حاملة الطائرات يو إس إس فورد والضربات العسكرية المصاحبة لها لا تمثّلان مجرد استراتيجية ضغط قصوى عالية المخاطر ضد نظام مادورو، تقوم على تغليب الردع والأهداف الأمنية على حساب الدبلوماسية التقليدية فقط، بل تشكّلان إشارة واضحة إلى التزام واشنطن بتوظيف أحد أهم أصولها العسكرية في نصف الكرة الغربي، ويعكس ذلك تحوّلاً جوهرياً في ملامح الاستراتيجية الوطنية للدفاع (NDS) المقترحة، باتجاه التركيز على الدفاع عن الوطن، وهو تحوّل قد تكون له تداعيات مباشرة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ومن خلال تخصيص قدرات بحرية متقدّمة لمهام مكافحة المخدرات في منطقة الكاريبي، تخلق الولايات المتحدة فجوة في الموارد وفراغاً استراتيجياً في غرب المحيط الهادئ، الأمر الذي يثير مخاوف لدى حلفائها من أن تكون واشنطن بصدد تقليص حضورها الدفاعي المتقدّم في مواجهة الصين.
أمريكا عبر تخصيص قدرات بحرية متقدّمة في منطقة الكاريبي تخلق فجوة في الموارد وفراغاً استراتيجياً في غرب المحيط الهادئ يثير مخاوف حلفائها
الاستراتيجية الوطنية الدفاعية الجديدة
تسعى إدارة ترامب إلى إجراء إصلاح شامل للاستراتيجية الوطنية للدفاع (NDS)، مع تحول متوقع في فرضية الأمن الأمريكية من التركيز على الإسقاط القوي للنفوذ خارج الحدود إلى إعطاء الأولوية للدفاع عن الوطن ونصف الكرة الغربي تحت شعار “أمريكا أولاً”.
وكانت الاستراتيجية الوطنية للدفاع لعام 2022، التي اعتمدتها إدارة جو بايدن السابقة، قد صيغت بشكل صريح حول مفهوم التنافس بين القوى العظمى، محددة الصين باعتبارها “التحدي الرئيسي” ومركّزة على استراتيجية الردع المتكامل، المبنية على شبكة قوية من التحالفات، بهدف ردع الهجمات والاعتداءات الاستراتيجية ضد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها -خاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ- مع الحفاظ على الانتشار الأمامي للقوات الأمريكية المؤهلة للقتال.
مع ذلك، من المرجح أن تعيد الاستراتيجية الوطنية للدفاع المقترحة من إدارة ترامب تعريف الدفاع عن الوطن الأمريكي بمعناه الجغرافي الحرفي، كما يتضح من مبادرات مثل مشروع “القبة الذهبية”وهو نظام دفاع صاروخي قاري متعدد الطبقات يغطّي كامل الأراضي الأمريكية على غرار القبة الحديدية الإسرائيلية ومن خلال تصعيد مهام أمن الحدود ومكافحة المخدرات ومكافحة الهجرة غير الشرعية لتصبح وظائف عسكرية أساسية.
ويستلزم ذلك إعادة تخصيص هائلة للموارد والانتباه الاستراتيجي نحو أمريكا الشمالية والجنوبية، حيث يُعد نشر مجموعة حاملة الطائرات “يو إس إسجيرالد آر. فورد” في البحر الكاريبي لأول مرة منذ أكثر من 30 عاماً واحداً من أبرز الأمثلة العملية على هذا التحوّل الاستراتيجي.
وبالنظر إلى أن استراتيجية الأمن القومي (NSS) التي صدرت في وقت سابق من هذا الشهر قد صنّفت أيضاً نصف الكرة الغربي وأمن الوطن باعتبارهما أبرز الأولويات، فمن المرجّح أن تؤكد الاستراتيجية الوطنية للدفاع الجديدة (NDS) على هذه الأجندة، وقد دعت الـNSS الجديدة واشنطن إلى “إعادة تأكيد وتطبيق مبدأ مونرو” كجزء من استعادة الهيمنة الأمريكية في المنطقة ولحماية الأمن الداخلي، مع منع أي “منافسين من خارج نصف الكرة” من القدرة على نشر قوات أو قدرات مُهدِّدة أخرى، أو امتلاك أو السيطرة على أصول استراتيجية حيوية في نصف الكرة الغربي.
كما تقلّص الاستراتيجية الجديدة دور واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع التركيز على الدفاع عن مضيق تايوان ضد الغزو المحتمل من بكين كجزء من ضمان الدفاع الجماعي ضمن سلسلة الجزر الأولى، في حين جرى استبعاد أي قضايا إقليمية أخرى كانت تظهر في نسخ سابقة من استراتيجية الأمن القومي، مثل نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية، والتي حُذفت تماماً.
وتشير هذه السياسات إلى أن إدارة ترامب تخفّض من حدة المنافسة الاستراتيجية مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في خطوة تُرى على نطاق واسع كاعتراف ضمني بمجالات النفوذ المتبادلة بين البلدين، مع استبعاد اللاعبين الخارجيين من التدخل في المجال القريب للولايات المتحدة في الأمريكيتين.

يُؤدي تحويل التركيز الاستراتيجي المقترح للجيش الأمريكي إلى تكلفة باهظة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فنظراً لمحدودية حجم القوات العسكرية الأمريكية عالمياً، فإن كل مورد ذي قيمة عالية مُخصص لمهام مكافحة المخدرات وأمن الحدود في نصف الكرة الغربي يعني تقليص الموارد المتاحة للانتشار الأمامي أو التعزيز السريع في آسيا، كما يُقوّض هذا التحويل بشكل مباشر استراتيجية الردع المتكاملة، التي لا تعتمد فقط على الحفاظ على قوات كفؤة، بل أيضاً على وجودها المادي الموثوق بالقرب من بؤر التوتر الرئيسية.
ويُشير الفراغ الاستراتيجي الناتج إلى حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية بأن الالتزام الأمريكي قد يكون مُجزأً جغرافياً وغير موثوق، بينما يُشير في الوقت نفسه إلى الخصوم، وخاصة الصين، إلى فرصة سانحة لتسريع العدوان، لاعتقادهم بأن رداً أمريكياً حاسماً وفي الوقت المناسب أقل احتمالاً.
يترجم هذا التحوّل الجغرافي في التركيز مباشرة إلى تآكل المصداقية فيما يخص الضمانات الدفاعية الأمريكية، ما يزعزع بشكل أساسي التوازن الدقيق للقوى في آسيا، فآلية الردع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تقوم على عنصرين حاسمين: الردع عبر المنع والردع الموسع، فالأول يسعى إلى القدرة على إيقاف عدوان الخصم بالقوة فعلياً، مثل احتمال غزو الصين لتايوان، بينما يوفر الثاني مظلة نووية وتقليدية لحلفاء مثل كوريا الجنوبية.
ومن خلال تخصيص قدرات بحرية وجوية كبيرة للبحر الكاريبي، تقلّ قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ الردع بالمنع في غرب المحيط الهادئ، ما يزيد من مخاطر الهجوم الصيني، ويؤدي في الوقت نفسه إلى تآكل الثقة بين الحلفاء، الذين يخشون أن أولويات واشنطن في الدفاع عن الوطن قد تدفعها إلى التخلي عن التزامات الردع الموسع.
تؤدي هذه الحيرة الاستراتيجية إلى منح الصين ميزة غير متكافئة، إذ يمكن لبكين استغلال انشغال الولايات المتحدة لتسريع سياساتها في منطقة الرمادية في بحري الصين الشرقي والجنوبي، وزيادة الضغط السياسي على تايوان، وهي تعلم أن أهم عناصر القوة العسكرية الأمريكية متباعدة آلاف الكيلومترات، ومكرَّسة لمهام لا تمس مباشرة الطموحات العسكرية الصينية.
وتؤكد هذه الديناميكية الفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة تبادل مكاسب سياسية داخلية قصيرة الاجل في نصف الكرة الغربي مقابل هشاشة نظامية طويلة الأجل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
الولايات المتحدة تبادل مكاسب سياسية داخلية قصيرة الأجل في نصف الكرة الغربي مقابل هشاشة نظامية طويلة الأجل في المحيطين الهندي والهادئ
الأثر الإقليمي في منطقة الهندي والهادئ
يتجلى أثر الاستراتيجية الوطنية للدفاع المجددة بشكل خاص على شبه الجزيرة الكورية وكوريا الجنوبية، حيث تشير تقارير إعلامية إلى احتمال استبعاد الالتزامات الدفاعية الصريحة تجاه سيؤول من أعلى أولويات الاستراتيجية، ما يضع الجيش الكوري الجنوبي في المقدمة للدفاع عن نفسه ضد العدوان الشمالي.
ورغم أن معاهدة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية تظل ملزمة قانونياً، إلا أن استراتيجية تُعطي الأولوية للاهتمامات الداخلية قد تُفسَّر على أنها تجعل الالتزام الأمريكي مشروطاً أو قابلاً للتفاوض، وقد يؤدي ذلك إلى إعادة تموضع أو حتى تقليص القوات الأمريكية في كوريا (USFK)، ما يخلق حالة من عدم اليقين بشأن التزام واشنطن بنشر قوات تعزيزية في حالات الطوارئ.
تشير التحليلات التاريخية إلى أن استبعاد شبه الجزيرة الكورية من خط آتشيسون كان أحد أسباب اندلاع الحرب الكورية، وبالتالي فإن الاستراتيجية الوطنية للدفاع تثير جرس إنذار في سيؤول، إذ تتعامل مع احتمال تراجع المشاركة الأمريكية في حالات الطوارئ المحتملة مع بيونغ يانغ.
مثل هذا الغموض في الاستراتيجية يقلل بشكل كبير من قدرة الردع ضد كوريا الشمالية، ما قد يشجع بيونغ يانغ على تصعيد استفزازاتها، وفي الوقت نفسه يدفع سيؤول إلى السعي الجاد لتطوير ترسانة نووية مستقلة كاستراتيجية تحوطية ضرورية لتعويض ما يُنظر إليه على أنه انسحاب محتمل للضمانات الأمنية الأمريكية.
بالنسبة لمضيق تايوان، فإن إعادة صياغة الاستراتيجية الوطنية للدفاع تنطوي على أخطر مخاطر سوء التقدير، فالردع الأمريكي ضد أي محاولة صينية للغزو أو الضغط يعتمد بشكل كبير على القدرة والإرادة الظاهرة للتدخل.
وبالتالي إن أي تحول يوجّه القوات بعيداً عن غرب المحيط الهادئ ويشكك صراحة في الالتزام بالدفاع عن تايوان، سيقوض بشكل بالغ استراتيجية الردع بالمنع الأمريكية، وستفسّر بكين هذا التحوّل على أنه إشارة واضحة لتراجع واستنزاف الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي، ما قد يدفعها إلى حساب أن هناك نافذة متاحة للتحرك القسري، وسيؤدي هذا إلى انحياز ميزان القوى العسكرية عبر مضيق تايوان لصالح بكين، ما يزيد من احتمال نشوب صراع كبير عبر المضيق.
في نطاق النزاعات الإقليمية البحرية الأوسع في بحر الصين الشرقي وجنوب الصين البحري، قد يؤدي هذا التحوّل الاستراتيجي إلى تقليل انتظام عمليات حرية الملاحة الأمريكية (FONOPs) ومناورات التحالف، التي كانت آليات رئيسية لمواجهة المطالبات الإقليمية الصينية والحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد.
وإذا كانت القوات البحرية والجوية الأمريكية مشغولة بالبحر الكاريبي، وأمن الوطن والحدود، فإن الفراغ الأمني الناتج سيتيح لبكين تكثيف تكتيكات المنطقة الرمادية ضد حلفاء مثل الفلبين واليابان، وتثبيت سيطرتها الفعلية على الجزر المتنازع عليها، وتعزيز استراتيجيتها “منع الدخول والوصول” (A2/AD) على طول السلسلة الأولى للجزر، ما يرسّخ في النهاية الهيمنة البحرية الإقليمية الصينية دون مواجهة جدية وموثوقة.
التأثير طويل الأمد للاستراتيجية الوطنية للدفاع
بينما تظل محاولات إدارة ترامب لمواجهة تهديدات مثل تهريب المخدرات وعدم الاستقرار السياسي في نصف الكرة الغربي ذات أهمية، إلا أن التساؤل يبقى حول ما إذا كانت هذه التهديدات ذات أولوية استراتيجية مماثلة أو تفوق في الإلحاح التحدي الوجودي طويل الأمد الذي تفرضه الطموحات الجيوسياسية للصين، وبالتالي ما إذا كانت تستدعي أقصى درجات الأولوية في التخطيط الاستراتيجي الأمريكي، مقارنة بالتحدي الوجودي طويل المدى الذي تفرضه الطموحات الجيوسياسية للصين.
لا تقتصر العمليات العسكرية في منطقة الكاريبي على مكافحة المخدرات فحسب، بل هي دليل على إعادة ترتيب أولويات واشنطن في تخصيص مواردها العسكرية بشكل عام، ما يُشير إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء بأن القوة العسكرية الأمريكية تُعاد توجيهها نحو محيطها الجغرافي.
العمليات العسكرية في الكاريبي لا تقتصر على مكافحة المخدرات فحسب بل تعيد ترتيب أولويات واشنطن في تخصيص مواردها العسكرية بشكل عام
يكمن الخطر الجوهري في هذه الاستراتيجية في خلطها بين النجاح التكتيكي، كاعتراض سفن تهريب المخدرات، والأمن الاستراتيجي، فمن خلال تخصيص أصول متطورة ومحدودة، مثل مجموعة حاملات الطائرات فورد، لمهام كانت تاريخياً أقرب إلى مهام خفر السواحل ودوريات الحدود، تنسحب الولايات المتحدة استراتيجياً من أهم مسارح تنافسها، بينما تزيد في الوقت نفسه من خطر نشوب حرب غير مقصودة مع كاراكاس، وسط تكهنات متزايدة باحتمالية غزو واشنطن المسلح لفنزويلا.
ينطوي إعادة تخصيص الموارد هذه على مخاطر كبيرة لتصعيد الموقف، حيث قد يؤدي الإحساس بتراجع الالتزام الأمريكي إلى تشجيع الخصوم في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على المخاطرة بشكل أكبر، حيث يمثل فقدان مصداقية الردع ضد الصين في مضيق تايوان أو ضد كوريا الشمالية في شبه الجزيرة الكورية مقايضة استراتيجية كارثية.
رغم أن هناك احتمالًا كبيراً أن الاستراتيجية الوطنية للدفاع القادمة لإدارة ترامب ستظل تحتفظ بالهدف الأساسي المتمثل في احتواء الصين، نظراً لأن بكين هي الدولة الوحيدة على الأرض التي تمتلك القوة العسكرية والاقتصادية الكافية لتحدّي الهيمنة الأمريكية، فإن هذا الهدف الاستراتيجي سيتم السعي لتحقيقه من خلال إطار معاد تصميمه بشكل جذري، يضع الأولوية لمبدأ “أمريكا أولاً”، الذي ينظر إلى التحالفات على أنها علاقات قائمة على المصالح المتبادلة ويسعى إلى تقليص الإنفاق العسكري الأمريكي المباشر في الخارج.
وبناءً على ذلك، تتحوّل الاستراتيجية نحو مفهوم “الردع عبر التحالف”، حيث توفر الولايات المتحدة قدرات حاسمة ومتقدمة من بعيد، في حين تُلزم شركاءها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بتحمّل المسؤولية الأساسية عن الدفاع الأمامي والتكاليف المباشرة لردع العدوان الصيني.
تُعد هذه الاستراتيجية المزدوجة في تحديد الأولويات، الدفاع عن الوطن إلى جانب احتواء الصين، متناقضة بطبيعتها من حيث تخصيص الموارد، إذ تصبح مطالب زيادة الإنفاق الدفاعي للحلفاء أمراً بالغ الأهمية، كما كرر ترامب منذ ولايته الأولى.

ولتعويض هذا الاستنزاف العسكري الناتج عن التركيز على الدفاع عن الوطن، ولتلبية المطالب السياسية الداخلية بتقليل الإنفاق العسكري في الخارج، من المرجح أن تفرض الاستراتيجية الوطنية للدفاع متطلبات مالية وتشغيلية صريحة وكبيرة على الحلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين.
وستضغط الولايات المتحدة على هذه الدول لزيادة ميزانياتها الدفاعية بسرعة، مع تقارير تشير إلى أهداف تصل إلى 3.5% أو 5% من ناتجها المحلي الإجمالي، ما يستلزم إعادة ترتيب جوهرية للأدوار والمهام، مع إمكانية الاستثمار في قدرات غير متماثلة، مثل الصواريخ المضادة للسفن بعيدة المدى، والدفاع الجوي القوي، والغواصات النووية، التي يمكن أن تعيق قدرة الصين على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وبالتالي رفع تكلفة العدوان إلى مستويات غير مقبولة لبكين.
إن نتيجة إعادة صياغة الاستراتيجية الوطنية للدفاع بالنسبة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ ستكون فترة من التوتر الاستراتيجي الحاد والمفاوضات عالية المخاطر، فالحلفاء الأمريكيون، المدركون لاعتمادهم على الضمان الأمني الأمريكي لموازنة القوة العسكرية الصينية، سيشعرون بأنه من الضروري الامتثال لمطالب زيادة الإنفاق الدفاعي لتجنب ما قد يُعتبر انسحاباً استراتيجياً أمريكياً كاملاً، حيث سيسرّع هذا الضغط من الحركات الداخلية القائمة بالفعل نحو تحديث القوات المسلحة وزيادة ميزانيات الدفاع في تلك الدول.
إعادة صياغة الاستراتيجية الوطنية للدفاع الأمريكية بالنسبة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ ستكون فترة من التوتر الاستراتيجي الحاد والمفاوضات عالية المخاطر
ومع ذلك، فإن الطبيعة الصريحة القائمة على المعاملات في الالتزام الأمريكي تُدخل حالة من عدم اليقين إلى منظومة التحالفات، فهذه المقاربة تُعرِّض الثقة والتماسك الدبلوماسي، الذي يشكل الأساس لردعٍ متكامل، للتآكل، وتُعزّز الرواية الصينية التي تقول إن الولايات المتحدة تتعامل مع حلفائها باعتبارهم مجرد توابع لها.
ورغم أن الهدف الاستراتيجي المتمثل في احتواء الصين سيظل قائماً، فإن الوسائل المستخدمة والمتمثلة في تقاسم أعباء إلزامي وبدرجة قصوى، ستولد احتكاكات سياسية داخلية لقادة الدول الحليفة، وتُدخل قدراً كبيراً من عدم القدرة على التنبؤ العملياتي في الحسابات الأمنية الإقليمية.
السيناريو الأول: تسارع إعادة تسليح الحلفاء وفجوة “الردع”
سيؤدي التحول في الاستراتيجية الوطنية للدفاع الأمريكية، إلى جانب أهداف الإنفاق الدفاعي الإلزامي، إلى تسريع إعادة التسلح غير المتكافئ بين حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، وخوفاً من التخلي عنهم، ستعطي هذه الدول الأولوية لقدرات منع العدو لرفع التكلفة الفورية لأي عدوان صيني، وبينما يحقق هذا الهدف العملي المتمثل في تقاسم الأعباء ويزيد من القوة النارية الإقليمية، فإن عمليات الشراء المتسرعة والأحادية الجانب تُنذر بمشاكل في قابلية التشغيل البيني وثغرات استراتيجية، ما ينتج عنه ردع تقليدي أقوى ولكنه أقل تماسكاً سياسياً.
السيناريو الثاني: التحوط النووي وانهيار الردع الموسع
ينذر تقليص الالتزام الأمريكي طويل الأمد بخطر انتشار الأسلحة النووية كإجراء احترازي استراتيجي، فكوريا الجنوبية، التي لا تثق في برنامج الردع الأمريكي المشروط وتواجه تهديداً نووياً من كوريا الشمالية، وستسعى على الأرجح إلى امتلاك قدرات نووية خاصة بها، وقد تحذو اليابان حذوها سريعاً، ما يُزعزع نظام عدم الانتشار النووي، وهذا من شأنه أن يُجبر الصين وروسيا على الرد على جوار نووي، ما يزيد بشكل كبير من خطر نشوب حرب نووية نتيجة خطأ في التقدير.
السيناريو الثالث: الإكراه الصيني وفراغ القوة البحرية
التحوّل في الاستراتيجية الوطنية للدفاع (NDS) نحو الدفاع عن الوطن سيقلل من الوجود العملياتي للولايات المتحدة في المناطق البحرية مثل بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، إذ ستتركّز الأصول عالية القيمة على نصف الكرة الغربي، وستستغل الصين هذا الفراغ من خلال تكثيف تكتيكات المنطقة الرمادية باستخدام خفر السواحل وميليشيات الصيد ضد حلفاء مثل الفلبين واليابان، وبدون وجود أمريكي موثوق لتحدي مطالبها، ستعزز بكين قدراتها في منطقة منع الدخول والوصول (A2/AD)، ما يرسّخ هيمنتها البحرية الإقليمية ويغيّر التوازن الاستراتيجي في غرب المحيط الهادئ.




