تراجع الصوت الأميركي وصعود المنافسين

تقرير
إذاعة صوت أمريكا التي أغلقت عقب تخفيض ترامب تمويل وسائل الإعلام (أ ف ب)
إذاعة صوت أمريكا التي أغلقت عقب تخفيض ترامب تمويل وسائل الإعلام (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

بدأت الهيمنة الأميركية غير المسبوقة على الفضاء المعلوماتي العالمي، التي استمرت لعقود، تتلاشى تدريجياً، حيث يأتي هذا التحوّل في وقتٍ يشهد فيه القطاع توسعاً غير مسبوق، مدفوعاً بصعود الذكاء الاصطناعي وتطوّر أساليب حرب المعلومات، والأهم من ذلك، حرص القوى الناشئة على الاستفادة من نمو هذا المجال.

سلسلة من الأخطاء المتكررة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في عالم يعاد تشكيله بفعل المعلومات المضللة، والمصالح الجديدة أو المتجددة، والتحالفات الاستراتيجية المتغيرة، بدأت تكشف عن نقاط ضعفها، وفي ظل تصاعد متنام لأصوات خصومها، (الصين وروسيا)، تبدو واشنطن عاجزة عن إيصال صوتها بقوة كما في السابق.

في ظل تصاعد أصوات خصوم أمريكا تبدو واشنطن عاجزة عن إيصال صوتها بقوة كما في السابق

بعد أن أوقف الكونغرس 9 مليارات دولار من تمويل وسائل الإعلام العامة، والمساعدات الخارجية عبر حزمة التخفيضات التي أقرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشهر الماضي، تسجل أمريكا تراجعها في حرب معلوماتية عالمية، وتتهيأ للخسارة أمام خصوم مستعدين وممولين جيداً.

تعود بعض أسباب تراجع الولايات المتحدة في ساحة المعركة المعلوماتية إلى براعة خصومها في استخدام التكنولوجيا الحديثة، وامتلاكهم ميزانيات ضخمة للمساعدات الخارجية، إلى جانب استثماراتهم الكبيرة في حملات الاتصال المتطورة، فضلاً عن الفوضى التي تعصف بأسواق الإعلام العالمية والمحلية.

كما أن فشل الولايات المتحدة في التعبير بوضوح عن أهمية قيمها الديمقراطية يلعب دوراً كبيراً أيضاً، فحتى وقت قريب، كانت دول عديدة تُعجب بأمريكا كمنارة لحرية التعبير والديمقراطية والصحافة الحرة، لكن لم يعد الأمر كذلك اليوم، ففي نظر الكثيرين، باتت صورة الولايات المتحدة تُشبه ذلك النموذج المتغطرس والمنغلق على نفسه، كما صوّرته الرواية السياسية الشهيرة الأميركي القبيح ” الصادرة عام 1958.

في نظر الكثيرين باتت صورة الولايات المتحدة تُشبه ذلك النموذج المتغطرس والمنغلق على نفسه

انهيار هيمنة المعلومات الأمريكية

رغم أن إدارة ترامب تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن ضعف الخطوط الدفاعية الأميركية في معركة كسب قلوب وعقول العالم، إلا أنها لم تكن وحدها المسؤولة عن تصدع هذه الخطوط في حرب المعلومات، حيث ساهم كلٌّ من الديمقراطيين والجمهوريين، منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، في تفكيك الهجوم الإعلامي الأميركي الذي حظي بإعجاب واسع، ولعب دوراً محورياً في هزيمة النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، ثم في التغلب على الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة، إذ أدّت سلسلة من الأخطاء السياسية إلى تراجع الولايات المتحدة.

يُرجع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس، بداية التراجع إلى عام 1998، عندما ألغى الكونغرس وكالة المعلومات الأمريكية (USIA) التي أُنشئت للترويج لأمريكا كدولة تتمتع بحريات مضمونة دستورياً، وهي حريات يطمح إليها بقية العالم، مضيفاً، أنه للأسف، لم يتم تعويض الوكالة بسياسات اتصال استراتيجية منسقة تُنافس أعداء واشنطن الرئيسيين.

دوافع التراجع

“من الأمثلة على الخلل الحالي وجود 14 وزارة و48 وكالة تُجري اتصالات استراتيجية دولية، ولا أحد يُنسقها”، يقول روبرت غيتس في مقابلة مع الصحفية كاتي كورك الشهر الماضي: “لا توجد رسالة موحّدة.. لا يوجد من يقود السفينة.”

ويضيف أن الولايات المتحدة، بدلاً من أن تنهض لمواجهة التحديات، تقوم بتفكيك أدوات الاتصال التي أتقنتها لتعزيز سمعتها.

الولايات المتحدة بدلاً من أن تنهض لمواجهة التحديات، تقوم بتفكيك أدوات الاتصال التي أتقنتها لتعزيز سمعتها

يقول رايان كروكر، الدبلوماسي المخضرم، رئيس شبكات بث الشرق الأوسط (MBN) ، وهي مؤسسة إخبارية ممولة حكومياً تخدم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: “من الصعب تحقيق النصر إذا تم نزع السلاح من جانب واحد”.

 ويضيف كروكر أنه لا يرى كيف ستستفيد أمريكا من تخفيضات الميزانية التي فرضها ترامب، والتي أغلقت إذاعة صوت أمريكا وساهمت في إنهاء بث إذاعة أوروبا الحرة، وإذاعة آسيا الحرة، وشبكات بث الشرق الأوسط.

ويتابع كروكر، الذي شغل منصب سفير لدى ست دول، غالباً في أوقات الحرب: “إنه أغرب شيء رأيته في حياتي”.

صعود المنافسين (الصين وروسيا)

أنشأت الولايات المتحدة إذاعة صوت أمريكا (VOA) في عام 1942 لمواجهة حملة تضليل فعالة كانت تؤثر على تغطية أخبار الحرب في أوروبا، حيث أوضح كروكر كيف أن VOA لم تكن “دعايتنا مقابل دعايتهم”، وقال: “ما زلت أذكر ذلك البث الأول: “هنا صوت أمريكا”، مضيفاً: “في مثل هذا الوقت، سننقل لكم أخبار الحرب.. أحياناً تكون الأخبار سارة لنا، وأحياناً أخرى سيئة.. لكننا سنخبركم الحقيقة”.

“تلك الحقيقة كانت سلاحنا الناجح في نهاية المطاف في تلك الحرب، وفي مواجهة الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة”، يقول كروكر بصفته رئيساً لشبكة الإذاعة العربية، ويضيف: إن “الشبكة لا تهدف إلى ترويج الدعاية الأمريكية؛ بل إلى تزويد العالم العربي بأخبار موضوعية عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأمريكا”.

ويتابع: “لا أفهم كيف يخدم إيقاف بثنا مصلحة الولايات المتحدة، فهو يخدم مصالح خصومنا، سواءً على الصعيد العالمي، روسيا والصين، أو على الصعيد الإقليمي، إيران”.

محررو تلفزيون (CCTV) في أفريقيا خلال عملهم في مقر القناة بنيروبي (أرشيفية)

تنتشر على الساحة الإعلامية حملات تضليل أقوى وأكثر عدائية تجاه الولايات المتحدة،
ففي سلسلة فيديو حديثة بعنوان أميركا المنقسمة”، بثّتها وسائل الإعلام الرسمية الصينية وانتشرت عالمياً عبر مواقع إخبارية شهيرة مثل الجزيرة – التي تُسيطر عليها قطر، حليفة واشنطن- ورد فيها: “الصين تصعد وتنتصر، بينما تنهار الولايات المتحدة وتخسر حلفاءها.”

سلسلة الفيديوهات هذه جزء من حملة تضليل إعلامي صينية واسعة النطاق، ورغم أن الأرقام المحددة لميزانيتها محاطة بالسرية، يقول وزير الخارجية السابق غيتس، الذي ترأس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA): إن “الصين استثمرت نحو 7 مليارات دولار في الاتصالات الاستراتيجية”.

يقول غيتس: “لا توجد دولة في العالم لا يمكنك فيها الحصول على تلفزيون صيني، أو إذاعة صينية، أو وسائل تواصل اجتماعي صينية، أو صحافة صينية مطبوعة، وما إلى ذلك، وبينما ينشرون رسالتهم في جميع أنحاء العالم، فإننا نخفض كل شيء.. لن يُسمع صوتنا”.

 على سبيل المثال، في الإمارات العربية المتحدة، أنفقت الصين في عام 2004 أربعة مليارات دولار لإطلاق شبكة CGTN، التي تبث الأخبار والمسلسلات والبرامج الأخرى ذات المنظور الصيني والمعادي لأميركا.

الصين أصبحت الآن أكثر شعبية في تسع دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تضم نحو 450 مليون نسمة

“أثمر هذا الاستثمار نتائج واضحة”، تقول ميريسا خورما، المديرة السابقة لمركز الشرق الأوسط في مركز وودرو ويلسون، وتضيف: إن “الصين أصبحت الآن أكثر شعبية في تسع دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تضم نحو 450 مليون نسمة”، كما أنفقت جهات فاعلة أخرى في الحرب أكثر من الولايات المتحدة على حملات مماثلة، وتشير أحدث ميزانية روسية إلى أنها ستستثمر 1.4 مليار دولار في الإعلام والدعاية الحكومية، بشكل رئيسي من خلال قناة روسيا اليوم (RT)، التي تنتشر لافتاتها في أماكن مثل المغرب.

على النقيض من ذلك، تسعى إدارة ترامب إلى إغلاق الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي (USAGM)، التي كانت ميزانيتها أصغر نسبياً، إذ بلغت 950 مليون دولار، ونشرت الوكالة إجمالي ميزانيتها قبل أن تُغلق وزارة كفاءة الحكومة معظم عملياتها.

مستقبل الوكالة أصبح في مهب الريح، ولم يتبنَّ أحد استراتيجية واضحة لاستبدال عملها، رغم حاجتها للإصلاح والتطوير، وفي الوقت الذي تخفض فيه أمريكا ميزانيات المساعدات الخارجية، تتدخل الصين لملء الفراغ في مناطق مثل أفريقيا، حيث تراها فرصاً لتعزيز نفوذها ومكانتها، وبالفعل، تشير استطلاعات رأي موثوقة إلى أن شعبية أمريكا تتراجع وتتسع خارج منطقة الشرق الأوسط، حيث يكرهها العديد من السكان بسبب دعمها لإسرائيل في حرب غزة.

 تشير نتائج استطلاع مركز بيو للأبحاث لعام 2025 إلى أن صورة الولايات المتحدة تدهورت في 24 دولة، حيث أظهرت غالبية هذه الدول نظرة سلبية تجاه أميركا، حيث شهدت نسبة الأشخاص الذين يحملون آراء سلبية ارتفاعاً ملحوظاً في الدول الحليفة الرئيسية في أوروبا وأمريكا الشمالية.

ويرجع هذا الأداء الضعيف بلا شك إلى الاستياء من سياسات إدارة ترامب، بما في ذلك فرض الرسوم الجمركية، والتغير في موقف الولايات المتحدة من الحرب في أوكرانيا، وتجاهلها لحلف الناتو، وكذلك خلافاتها العدائية مع كندا.

الأداء الضعيف يعود إلى سياسات إدارة ترامب من فرض الرسوم الجمركية وتغير الموقف الأمريكي من حرب أوكرانيا وتجاهل حلف الناتو والخلافات العدائية مع كندا

التحديات المحلية الأمريكية في عصر الإعلام المفتوح

تُعدّ الفوضى التي تُسيطر على الإعلام المحلي الأمريكي عاملاً مؤثراً أيضاً، فقد ميّزت المعايير والممارسات التحريرية الشائعة في السابق، تنوع العمليات الإخبارية في الولايات المتحدة، لكن بفضل الثورة التكنولوجية التي دمّرت نموذج الأعمال التقليدي للإعلام، أصبح لدى مشغلين مستقلين مثل تاكر كارلسون، المذيع السابق في فوكس نيوز الذي يسعى إلى توسيع جمهوره ونفوذه عبر الإنترنت، منصة مفتوحة لإعطاء صوت للمعارضين المثيرين للجدل تجاه أمريكا.

قبل بضعة أسابيع، بثّ كارلسون مقابلة حصرية مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وذكرت منظمة “ريالتي تشيك”، وهي هيئة رقابة إعلامية مستقلة، أن كارلسون سمح لبزشكيان، بتقديم روايات زائفة بشكل واضح حول البرنامج النووي الإيراني، ودعمها للإرهاب، والادعاء الكاذب بأن إيران المارقة لم تصدر أي أمر بقتل الرئيس دونالد ترامب، لمدة 28 دقيقة، دون أي مقاطعة منه.

 استغلت وسائل الإعلام الإيرانية مزاعم بيزيشكيان، الإصلاحي الذي حاولت إسرائيل اغتياله قبل أسبوع، وحظيت المقابلة بتغطية واسعة في العديد من وسائل الإعلام الإيرانية الخاضعة لسيطرة الدولة، وأفادت منظمة “ريالتي تشيك”، التابعة لـ”نيوز غارد”، وهي خدمة تقييم مصداقية وسائل الإعلام، أن مقابلة كارلسون حققت 1.1 مليون مشاهدة على يوتيوب و2.2 مليون مشاهدة على تيك توك، الموقع الإلكتروني المدعوم من الصين، والذي يحظى بشعبية كبيرة بين الشباب حول العالم.

تقول الخبيرة في الشؤون الإيرانية، فريما أبو الأستار، لموقع “ريالتي تشيك”: “ظهور بيزيشكيان في الإعلام الأمريكي دليل على شرعية النظام”، مضيفةً أن ذلك منح طهران نصراً دعائياً لم يكن بإمكانها تحقيقه من خلال الإعلام الرسمي وحده، وهو إقرار غربي بنواياها السلمية”، كما نقلت وسائل الإعلام الرسمية الصينية مقابلة كارلسون ونشرتها حول العالم.

مستقبل أمريكا على المحك

يقول غيتس: “لتجنب صراع عسكري مع الصين، ستكون أدوات الاتصال هذه بنفس أهمية الصراع المستمر مع الصين كما كانت في الصراع مع الاتحاد السوفيتي”.

 يُحذّر توماس ب. م. بارنيت، الخبير الجيوستراتيجي العسكري الأمريكي وخبير الأمن الدولي، ومؤلف كتاب “خريطة أمريكا الجديدة”، الذي يُبيّن كيف يُمكن للولايات المتحدة استعادة زعامتها العالمية في عالمٍ يُعاني من تغيّر المناخ والانهيار الديموغرافي، قائلاً: “مستقبل أمريكا الاقتصادي على المحك هنا”.

قد تكون تداعيات تراجع أمريكا عميقة، إذ يمكن أن تُسرّع من صعود الصين كقوة عالمية وقد تقلل من نفوذ الولايات المتحدة، لا سيما في دول الجنوب العالمي، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث تتنافس الصين وروسيا بشدة مع أمريكا على النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي.

يتركز معظم نمو المستهلكين بالعالم في الدول الواقعة بين 30 درجة شمالاً وجنوباً من خط الاستواء، وسيحدد استغلال الولاء السياسي لهذه الطبقة المتوسطة الصاعدة مفهوم القوة العظمى للاستقرار العالمي في العقود المقبلة.

في المحصلة، إن السماح لمؤثر إعلامي بحرية إجراء مقابلات معادية للمصالح الأمريكية هو جوهر التعديل الأول للدستور الأمريكي، الذي يضمن حرية الصحافة، ولكن، ألا يُمهد عدم السماح ببثّ مثل هذا الحوار دون أي اعتراض طريقاً أكيداً للهزيمة في حرب المعلومات؟.

جيمس أوشيا

جيمس أوشيا

جيمس أوشيا، صحفي ومؤلف أمريكي حائز على عدة جوائز، وشغل سابقاً منصب رئيس التحرير لصحيفة لوس أنجلوس تايمز، ومدير التحرير لصحيفة شيكاغو تريبيون، كما شغل منصب رئيس مجلس إدارة شبكات البث في الشرق الأوسط (MBN). وهو مؤلف لثلاثة كتب، من بينها "الصفقة من الجحيم". يحمل درجة الماجستير في الصحافة من جامعة ميسوري.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.