سوريا: دولة جديدة أم إعادة تدوير للنظام؟

تقرير
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...


ملامح الأمن والطائفية والاستراتيجية في مرحلة ما بعد الأسد

 تقف سوريا اليوم أمام مفترق طرق معقد، يوازي في تعقيده البنية الديموغرافية والجغرافية المتداخلة للبلاد، بعد انتهاء حكم حزب البعث الذي دام لأكثر من 50 سنة.

المشهد السوري الراهن لا يمكن اختزاله بانتقال سياسي فقط، بل هو نتاج تراكمي لعقود من الاستبداد، والتفكك المجتمعي، والانهيارات المؤسساتية.

عادة ما يرافق التغيير السياسي، كما في الحالة السورية، قدرٌ من التفاؤل المفرط؛ إذ يقع العديد من الباحثين والمراقبين في فخ التوقع بأن سقوط نظام استبدادي طويل الأمد سيفتح الباب مباشرة أمام ولادة مجتمع حرّ وسليم.

ويُخيّل في لحظات الاحتفاء الأولى أن كل شيء ممكن، فالناس يعودون إلى الشوارع، وتستعيد الحياة العامة زخمها، وتُبعث الحياة السياسية من جديد.

لكن هذه اللحظات السعيدة كثيراً ما تتجاهل ما خلّفته الديكتاتورية من تشوّهات عميقة في البنية الاجتماعية والنفسية، من استشراء الفساد، وتحلل منظومة القيم العامة، إلى تراكم المظالم، والتبعية لمراكز السلطة، وتصاعد رغبات الانتقام تحت شعار العدالة.

لم يكافئ كلٌّ من حافظ الأسد وابنه بشار أي مواطن على المبادرة أو الإبداع أو الوطنية، على مدار عقود من الحكم الاستبداد، بل على العكس، رسّخ النظام ثقافة تُعاقب التميز وتكافئ الولاء الأعمى، ما أدى إلى شلل في الوعي الجمعي، وتآكل في الثقة بالعمل العام.

لقد بُني “مجتمع الخوف” في سوريا ببطء وبمنهجية دقيقة، ومع مرور الوقت، تشكّل لدى شريحة واسعة من السوريين رفض فطري للمشاركة في أي مشروع سياسي جديد.

وبالنسبة لكثير من الشعب، بدا أن ما يحدث ليس سوى تمهيد لظهور دكتاتور جديد، في ظل غياب ثقافة سياسية حقيقية، وافتقار تقاليد الحوار، وحظر الأحزاب السياسية، وترسيخ حكم الحزب الواحد، إلى جانب تقديس الشخص الفرد.

حكم حزب البعث  

ترك حزب البعث، وراءه أجيالاً لا تعرف شكلاً آخر للحكم، حيث ترعرع معظم السوريين في بيئة تعوّدوا فيها على الولاء لا الكفاءة، والاعتماد على الروابط العائلية والطائفية والعشائرية كوسيلة وحيدة للصعود الاجتماعي، حتى باتت هذه الممارسات تُعد طبيعية أو واقعية في نظرهم.

ولعل ما يثير القلق في لحظة التغيير هو أن الأنماط القديمة تعيد إنتاج نفسها، فحول النظام الجديد بدأت تتجمّع وجوه تسعى إلى تكرار أدوار الماضي، عبر حماية الزعيم، وإحاطته بهالة من التقديس، وفصله عن الناس، وإعادة تدوير الأدوات ذاتها التي أفرغت السياسة من معناها.

 فهل التغيير السياسي الأخير قادر حقاً على إنقاذ سوريا، أم أنه سيدفع البلاد نحو مزيد من الفوضى والحرب الأهلية؟.

اليوم هناك معيار عالمي يُستخدم لقياس فعالية الحُكم، يُعرف باختبار 100 يوم الأولى للحاكم وفريقه، حيث يُظهر هذا الاختبار ما تم تحقيقه من أهداف ووعود، وما لا يزال مؤجلاً أو معلقاً، وتكمن أهمية هذا المعيار في أنه يختبر مدى صلابة الأفكار والوعود التي طُرحت، عندما تصطدم بتعقيدات الواقع الوطني وتشابكاته.

وباستخدام هذا المعيار، يمكن تقييم ما وعدت به رئاسة أحمد الشرع وما أنجزته، وكذلك تحديد مواطن الإخفاق خلال أول 200 يوم من حكمه في سوريا.

200 يوم من حكومة الشرع

تعهد الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، بالعمل على ترسيخ صورة سوريا كدولة مسالمة لا تسعى إلى الحرب، ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، كما وعد بإقامة علاقات دافئة مع الدول العربية والأجنبية، بما في ذلك تلك التي دعمت نظام بشار الأسد عسكرياً مثل: روسيا وإيران.

ويُعتبر هذا الجانب من السياسة الخارجية أبرز نجاح حققته الحكومة الجديدة حتى الآن، فقد بدأ النظام الجديد في إحياء علاقاته مع دول الخليج العربي، التي كانت شبه مجمدة خلال حكم الأسد، إذ تعهدت هذه الدول، وفي مقدمتها السعودية وقطر، بتقديم مساعدات مالية لإعادة الإعمار ودفع رواتب الموظفين.

كما تم توقيع العديد من العقود التجارية لتطوير البنية التحتية في مجالات الكهرباء والمياه والإنترنت، إلى جانب تحديث أسطول الطيران السوري والمطارات.

ومن أبرز النجاحات السياسية التي حققها أحمد الشرع، كان لقاؤه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السعودية، خلال جولة الأخير في المنطقة، وضمن هذا الاجتماع، أعلنت واشنطن عن أنها ستجمّد معظم أو ربما جميع العقوبات التي فرضتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على سوريا، وهي خطوة قام ترامب بتنفيذها فعلياً فور عودته إلى واشنطن.

لقد كانت العقوبات الأمريكية، وخاصة “قانون قيصر”، حاجزاً منيعاً أمام أي دولة تسعى لإقامة علاقات اقتصادية مع سوريا، ولو لم يتم رفع هذه العقوبات، لكانت قد قضت تماماً على أي فرصة لنجاح النظام الجديد أو لتحسين مستوى معيشة السوريين.

واستمراراً لمسار نجاحه في الدبلوماسية الدولية، قام أحمد الشرع بزيارة إلى باريس حيث التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، كما زار عدد كبير من وزراء الخارجية الأوروبيين دمشق، حاملين معهم وعوداً بتقديم الدعم في مجالات عدة، أبرزها إعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب وغيرها.

وتراهن أوروبا على نجاح الحكام الجدد في دمشق، لتفادي موجة جديدة من الهجرة، أو لإقناع عدد كبير من اللاجئين السوريين المقيمين في أوروبا بالعودة إلى وطنهم.

وفي المقابل، قدمت الحكومة السورية الجديدة تعهدات بتشكيل حكومة تمثيلية تشارك فيها جميع الفئات والطوائف السورية، بالإضافة إلى إجراء انتخابات برلمانية ضمن إطار دستور جديد للبلاد.

الإعلان الدستوري للنظام الجديد منح غطاءً تشريعياً لمدة خمس سنوات بتجنب القضايا الجوهرية مثل شكل نظام الحكم وهوية الدولة

الإعلان الدستوري

واجه المؤتمر الذي نظمته الحكومة، والمعروف باسم “المؤتمر الوطني”، انتقادات واسعة بسبب تنظيمه المتسرع، إذ لم يحضر أي من مكونات المجتمع الكردي أو الدرزي أو العلوي.

وقد أصدر المؤتمر مجموعة من التوصيات العامة، التي يمكن العثور على ما هو أفضل منها على الإنترنت، إلى جانب إعلان دستوري.

وتشكل انطباع عام بأن هذا الإعلان تهرّب من معالجة القضايا الجوهرية مثل شكل نظام الحكم وهوية الدولة، ويُرجَّح أنه كان مجرد نسخة معدّلة من الدستور الذي أقره النظام السابق، ويبدو أن الهدف الوحيد من هذا الإعلان كان توفير غطاء تشريعي للنظام الجديد لمدة خمس سنوات قادمة.

ومع ذلك، استمر النظام الجديد في نهجه التشريعي عبر الإعلان عن تشكيل برلمان جديد، من دون تقديم تفسيرات واضحة أو وافية، أما الفقرة الخاصة بالبرلمان في نص الإعلان فقد مثلت تراجعاً حتى بمعايير البرلمانات الصورية في عهدي حافظ الأسد وابنه.

في الواقع، لم يُحدَّد كيف سيتم اختيار الشخصيات المشاركة أو طبيعة تمثيلها، كل ما قيل هو أن الرئيس الشرعي يختار ثلث الأعضاء، فيما تُختار الثلثان المتبقيان بواسطة لجنة يعينها هو بنفسه.

وبالمثل، شُكّلت لجنة أخرى لما سُمي بـ”العدالة الانتقالية” بطريقة مشابهة، لكنها لم تصدر أي نتائج ملموسة حتى الآن.

عبّر عدد كبير من السوريين عن غضبهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد رؤيتهم شخصيات كانت قد شاركت في دعم قوات النظام أو موّلت ميليشيات تابعة له، وهي تحظى بمعاملة خاصة وفرق حماية شخصية.

 وقد عاد هؤلاء إلى الواجهة مستفيدين من برنامج “المصالحة الوطنية”، الذي لم يضع أي معايير واضحة للمساءلة أو العفو، كما وُقِّعت بعض عقود إعادة الإعمار مع شخصيات مالية محسوبة على النظام السابق، فيما أُبرمت باقي العقود مع شركات دون طرح مناقصات علنية.

أما ممتلكات الدولة وأملاك شخصيات من النظام السابق، فقد تم الاستيلاء عليها وتسويتها ببساطة بين مسؤولين وشخصيات مقربة من النظام الجديد، دون عرضها في مزادات عامة أو تخصيص عائداتها لدعم الاقتصاد الوطني، رغم أن قيمتها تُقدَّر بمليارات الدولارات.

وجاءت عملية تشكيل الحكومة بعد الإعلان الدستوري مخيبة للآمال بنفس القدر، إذ تم تعيين امرأة واحدة فقط، لتكون في آنٍ معاً ممثلة عن النساء والمسيحيين.

 كما أعلنت الطائفتان الدرزية والعلوية أن الشخصيتين اللتين تم اختيارهما لتمثيلهما لا تعكسان تمثيلاً حقيقياً لهما، أما الأكراد، فسخروا من الشخصية الكردية التي أُعطيت منصباً وزارياً هامشياً لا وزن له.

وقد ذهبت كل المناصب السيادية الأساسية إلى قادة سابقين في هيئة تحرير الشام، بعضهم مطلوب دولياً بسبب خلفيتهم الجهادية.

الأمر يطرح تساؤلاً جوهرياً: هل تغيّرت فعلاً القوى التي تحكم سوريا اليوم، علماً أن جذورها الفكرية تعود إلى التيارات السلفية الجهادية التي تتبنى أيديولوجيا القاعدة؟.

الخطوات السياسية لحكام دمشق

بدأ النظام الجديد في دمشق مسيرته السياسية بمحاولة إعادة تعريف الزعيم، عبر التخلي عن اسمه الجهادي المعروف “أبو محمد الجولاني”.

الرجل الذي عرفه العالم كأحد القادة البارزين في تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، ثم في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وصولاً إلى جبهة النصرة التي بايعت في بداياتها أبو بكر البغدادي، قطع لاحقاً علاقته بهذا التنظيم، وبايع أيمن الظواهري زعيم القاعدة، قبل أن يُعلن انفصاله حتى عن القاعدة نفسها، ويتحوّل لاحقاً إلى قائد حركة جهادية سورية تضم مقاتلين من آسيا الوسطى، ومصر، وفرنسا، وبلجيكا.

هذه التحولات في هوية الجولاني وفصيله تعكس محاولة لتبييض الصفحة الجهادية وتقديم صورة سياسية جديدة، لكنها لا تمحو جذور المشروع القائم على فكر متشدد وتاريخ طويل من العنف العابر للحدود.

وفي خطوة رمزية ذات دلالة سياسية عميقة، استعاد الجولاني اسمه الأصلي: أحمد الشرع، من عائلة دمشقية الأصل، كانت قد استقرت في العاصمة بعد تهجيرها من منطقة الجولان إثر نكسة عام 1967 وسقوط الهضبة في قبضة الاحتلال الإسرائيلي.

يحاول الشرع من خلال هذه الخطوة أن يفصل نفسه عن ماضيه الجهادي العنيف، ويعيد تقديم نفسه بشخصية أكثر قرباً من الهوية الوطنية السورية، بل وحتى من الهوية الدمشقية التقليدية، مع التذكير بجذوره المولودة في المملكة العربية السعودية.

والرسالة التي يسعى الشرع لتوجيهها واضحة، تتمثل بنهاية مرحلة الجهاد العابر للحدود، وبداية مشروع سياسي جديد يربط بين الواقعية السورية والانتماء المحلي، في محاولة لشرعنة الدور الجديد الذي يسعى للعبه في مرحلة ما بعد الحرب.

ومع ذلك، رغم الرمزية العالية التي حملتها خطوة أحمد الشرع في التخلي عن اسمه الجهادي، إلا أنها بقيت في إطار الرمز أكثر من الفعل، إذ اقتصرت على شخصه ولم تترافق مع إعلان مؤسسي أو تحوّل فكري واضح.

ولم يُبيّن الشرع صراحة ما إذا كانت القطيعة تشمل فقط ماضيه الجهادي الشخصي، أم أنها تمتد إلى المرجعية السلفية الجهادية بأكملها؟، فهو فكّ ارتباطه بتنظيم القاعدة كتنظيم، لكنه لم يوضح ما إذا كان قد تخلّى عن القاعدة كعقيدة ومنهج.

هل تخلى الشرع عن ماضيه؟

رغم الرمزية العالية التي حملتها خطوة أحمد الشرع في التخلي عن اسمه الجهادي، إلا أنها بقيت في إطار الرمز أكثر من الفعل، إذ اقتصرت على شخصه ولم تترافق مع إعلان مؤسسي أو تحوّل فكري واضح.

 ومن مظاهر التحول الأخرى التي سعى الشرع إلى إبرازها، إعلانه نهاية الثورة وبداية عصر الدولة، إلى جانب تصريحه بفك الارتباط عن جميع الملفات الإقليمية، والتركيز فقط على الشأن السوري الداخلي.

ومع ذلك، فإن هذا التحوّل المُعلن اصطدم بتجاهل عاملين أساسيين، أولاً، البُعد الفكري، حيث أعلن الشرع عما تركه خلفه، لكنه لم يُعلن عما تبناه بدلاً منه، فإن كان قد تخلّى عن الفكر الجهادي العابر للحدود، فما هو البديل؟، وهل انتقل فعلاً إلى أيديولوجيا وطنية سورية ذات طابع مدني؟.

وقوله: “إنه أصبح سورياً فقط”، يعني ضمناً تخليه عن “الجهادية السلفية العابرة للحدود”، إلا أن الأخيرة كأيديولوجيا، بكل تجلياتها، تقوم أساساً على فكر عالمي لا يعترف بالحدود الوطنية، بل يتجاوزها.

وثانياً، البُعد العملي، فعلى المستوى العملي، استمر الشرع في ممارسة السلطة بأسلوب أقرب إلى ما عرف عنه في تجربته الجهادية.

وعلى سبيل المثال، أسند مناصب حساسة في وزارة الدفاع إلى شخصيات كانت رفاقاً له في مسارات الجهاد السابقة، ما يعطي انطباعاً بأن بنية الدولة الجديدة ما تزال أسيرة الماضي، ولو بزيّ مختلف.

مؤتمر النصر

بعد الخطوة الرمزية الأولى التي تمثلت في تغيير الشرع لاسمه أو استعادة اسمه العائلي، جاءت الخطوة الثانية التي بدت في الواقع نوعاً من التلاعب والدهاء، في وقت تخضع فيه محافظة السويداء لسيطرة فصائل متعددة، معظمها معادية للنظام في دمشق.

وعُقد مؤتمر باسم “مؤتمر النصر” بهدف توحيد أكثر من 18 فصيلاً عسكرياً ضمن جيش وطني جديد، وقد تعهدت جميع الفصائل العسكرية بالاندماج والالتحاق بالجيش السوري الجديد.

ومع ذلك، فإن تعهدات قادة الفصائل بحل ميليشياتهم والانضمام إلى الجيش الجديد لا تزال مجرد وعود لم تتحقق حتى الآن.

التحديات الداخلية وتوازنات القوى

ترفض ميليشيات الدروز في محافظة السويداء، بدعم من السلطات الدينية، حل قواتها بشكل علني، وما يزيد الأمر تعقيداً هو وجود أكثر من ميليشيا في السويداء، بعضها موالٍ للحكومة في دمشق، ما قد يؤدي إلى اشتباكات محلية.

تسيطر الفصائل العسكرية في محافظة درعا المجاورة التي تشكلت خلال الأحداث على الأرض أيضاً، وبشكل أقل صخباً، تحافظ على قواتها.

وهذا يشير إلى أن توازن القوى المحلي لا يزال هشاً، وأن الحكومة الجديدة في دمشق تواجه تحدياً فعلياً في بسط سلطتها على كامل الجغرافيا السورية، في ظل تمسك الفصائل المسلحة باستقلالها وولاءاتها المتباينة.

كما تشهد درعا وجود عدد من الفصائل المختلفة، بعضها موالٍ لدمشق، والبعض الآخر يرفض دخول قوات النظام إلى درعا.

أضيف عامل جديد إلى هذا الوضع، إذ حذرت إسرائيل الحكومة في دمشق من التوسع والانتشار في المحافظات الجنوبية الثلاث: القنيطرة، ودرعا، والسويداء، بسبب قربها من الحدود الإسرائيلية، وهذا التحذير أعاق قدرة الحكومة على فرض سيطرتها على هذه المحافظات.
على أي حال، حذرت إسرائيل النظام الجديد من أن وجوده لن يُقبل في جميع المحافظات الجنوبية التي تشترك في الحدود مع إسرائيل.

قسد والساحل

في الشرق، يبدو أن الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية غير واضح، حيث تعهدت الفصائل المتبقية بحل نفسها لكنها لم تفعل ذلك، أما الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية فلا يشمل هذا التعهد إطلاقاً.

بدلاً من ذلك، أوكل الاتفاق إلى هذه القوات مهاماً جديدة، مثل محاربة تنظيم داعش، أما في باقي المحافظات التي تسيطر عليها حكومة دمشق، فتتفاوت نسبة نجاح الحكومة في السيطرة على الأمور، ويبدو الوضع كارثياً على الساحل السوري.

تتصرف العديد من الميليشيات، بما في ذلك الجهاديون الأجانب، كما يحلو لها، في مدن مثل: اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس، حيث ارتكبت بعض هذه الميليشيات مجازر مروعة ضد العلويين، إذ تم اكتشاف المزيد من الجثث، وتسربت فيديوهات تُظهر انتهاكات مروعة ضد السكان.
وتشمل بعض هذه الانتهاكات حرق المنازل والمزارع والمحاصيل، وفي محاولة واضحة لتهجير السكان قسراً، احتمى آلاف الأشخاص في قاعدة حميميم العسكرية الروسية قرب مدينة جبلة، أو عبروا الحدود إلى لبنان.

كما هددت حكومة دمشق هؤلاء بالعودة فوراً دون تقديم ضمانات للأمان، وإذا لم يعودوا، فسيتم مصادرة ممتلكاتهم، وإذا عادوا فلا ضمان لسلامتهم.

بينما تواصل باقي الفصائل والجهاديون الأجانب إثارة الفوضى، تبدو قوات دمشق التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” الأكثر انضباطاً، رغم أن هذا لم يمنع بعض الأفراد من المشاركة في الانتهاكات.

دمشق والمدن

في حلب، أولى المدن الكبرى التي طُرد منها النظام، بدا الوضع الأمني هش جداً، كما تتم أعمال انتقامية لا ترتبط مباشرة بالاضطرابات التي شهدتها البلد خلال الأربعة عشر عاماً الماضية، وتنتشر عمليات الخطف مع طلب فدية والسرقات بشكل واسع.

والمدينة تقبع تحت سيطرة مزيج من الميليشيات المعروفة بفسادها أثناء عملها في الريف الشمالي، والتي تحولت عملياً إلى عصابات لصوص على الطرقات، حيث يبدو أن حكومة دمشق عاجزة أو غير مهتمة بما يحدث هناك.

أما في حماة، تسيطر بقايا فصيل أحرار الشام على المدينة، مع وجود رمزي لقوات هيئة تحرير الشام التي أصبح اسمها: “الأمن العام”.

في حمص، توقف الوضع الأمني السيئ والفوضى والهجمات على العلويين والمسيحيين، خلال أيام المجازر ضد العلويين في المناطق الساحلية، وحالت قوات دمشق دون محاولة اقتحام أحياء العلويين في حمص والريف العلوي والإسماعيلي والمسيحي في حمص وحماة.

والأمور تبدو أقل سيطرة مع وقوع هجمات على القرى أو كمائن ضد السكان، لكن عدد القتلى أصبح أقل الآن، مع ذلك، تسود الكراهية الطائفية ومحاولات الإذلال.

وفي الشمال، تستمر الفصائل العسكرية المرتبطة بتركيا في السيطرة على مساحات واسعة على طول الحدود السورية التركية، والتي تقدر بنحو 900 كم.

ومع ذلك، المدينة الوحيدة التي يتم فيها تحقيق مستوى معقول من السيطرة الأمنية هي العاصمة دمشق، بسبب وجود النظام الحاكم، والسفارات الأجنبية، ووسائل الإعلام، لكن رغم ذلك، لا تزال هناك حالات اختطاف، وسرقة مسلحة.

عملياً، يقتصر الوجود الفعلي لقوات دمشق على العاصمة نفسها، وحلب، وحمص، وإدلب، والساحل، مع تكرار الانتهاكات والفوضى الأمنية، بعد مؤتمر النصر.

البنية الأساسية

تعاني الدولة من شبه شلل في قطاعات الكهرباء والإنترنت والطاقة بسبب سيطرة الإدارة الذاتية الكردية على مصادر الطاقة.

كما تبدو أوضاع المستشفيات كارثية، كما هو حال معظم دوائر الخدمات التي باتت تحت إدارة أشخاص يفتقرون إلى المعرفة بطبيعة التحديات التي يواجهونها، ويبدو أن الوضع الأمني قد ازداد سوءاً.

أما حقول النفط والغاز والاتفاق الموقع في دمشق بين قائد قوات سوريا الديمقراطية والرئيس المؤقت أحمد الشرع لا تزال غير واضحة المعالم، وهناك العديد من القضايا الأساسية التي لم يتم الاتفاق عليها بعد، مثل نسبة تقاسم النفط.

المجتمع السوري ما بعد بشار الأسد، تكاد الطبقة الوسطى فيه تكون منقرضة، حيث غادر معظم أفرادها البلاد خلال فترة الاضطرابات وتمكنوا من بناء حياة جديدة في الخارج وتعليم أبنائهم في دول أخرى، لذا سيكون من الصعب عليهم العودة إلى حياتهم السابقة، ما يعني أن النظام الجديد يواجه تحدياً في إعادة بناء البلد بدون وجود الطبقة الوسطى.

الأقليات

أدت تجارب صعود الإسلاميين إلى السلطة، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحكم هيئة تحرير الشام في إدلب، ودولة الإسلام في الموصل والرقة، إلى إثارة مخاوف مشروعة لدى الأقليات العرقية والدينية.

ومع ذلك، فإن المشكلة الأساسية كانت دائماً في محاولة الإسلاميين فرض رؤية متطرفة للإسلام على المجتمعات السنية الأوسع التي تختلف مع هذه الرؤية.

في تجربة حكم هيئة تحرير الشام في إدلب، كانت كل هذه المخاوف واقعية، رغم أن إدلب وريفها منطقة محافظة دينياً بدرجة كبيرة، إلا أن النموذج الذي قدمته هيئة تحرير الشام قوبل بإدانة واسعة من القوى المدنية والدينية.

منذ الأيام الأولى لحكم إدلب، تعرضت الطائفة الدرزية لقمع عنيف، وهاجر المسيحيون إلى المناطق الساحلية الخاضعة لسيطرة النظام مثل دمشق وحلب، وصمتت الأصوات السنية المعتدلة.
وكانت العلاقة بين الطائفة الدرزية والحكام الجدد في دمشق سيئة للغاية خلال فترة الاضطرابات السورية التي بدأت منذ أربعة عشر عاماً.

 عندما احتلت “جبهة النصرة” مناطق في إدلب، وخاصة جبل السُمّاق الذي يسكنه الأقلية الدرزية، اندلعت اشتباكات بين الطرفين، وعندما سيطرت النصرة، التي سبقت هيئة تحرير الشام، أجبرت السكان الدروز على تبني الشكل السلفي من الإسلام وراقبت السكان لإجبارهم على حضور المساجد.

هذا خلق علاقة هشة بين النصرة وخلفها هيئة تحرير الشام، ومن غير المرجح أن تتغير هذه العلاقة في أي وقت قريب.

وهذا النموذج، الذي قوبل بمعارضة حتى في مدينة محافظة مثل إدلب، سيكون كارثياً في مدينة متنوعة مثل دمشق، التي تضم مدارس فكرية مختلفة في الإسلام السني.

على مدى قرون، سيطرت مدارس الصوفية والأشاعرة على دمشق وحلب، بحيث يطلق أهل دمشق على هذا النموذج “الإسلام الشامي”، وهو في الأساس إسلام يقبل الآخر المختلف مثل: اليهود والمسيحيين والشيعة، ويتعامل معهم يومياً في التجارة والمناسبات الاجتماعية، والخط الأحمر الوحيد في “الإسلام الشامي” هو علاقات الزواج والتزاوج بين الطوائف.

الدعاة السلفيون  

أكثر ما يثير القلق في دمشق هو وجود الدعاة المتجولين الملتحين، الذين يرتدون ملابس تشبه زي الدعاة في أفغانستان، وينتشرون في الشوارع وهم يستخدمون مكبرات الصوت محاولين تحويل المسيحيين في دمشق إلى الإسلام.

وشهدت شوارع دمشق اشتباكات بين السكان المحليين وهؤلاء “الدعاة”، ومعظم هؤلاء الدعاة ليسوا من أصول سورية، بل من الأيغور الصينيين، والطاجيك، والأوزبك، وبعض السعوديين والأردنيين، حيث لم تمضِ فترة طويلة قبل أن تظهر المشاكل في أحياء الأقليات والأغلبية على حد سواء.

وهؤلاء الدعاة السلفيون غير السوريين يثيرون الفوضى في كل مكان، بدءاً من جامع الأموي في دمشق، وصولاً إلى الأحياء التي تسكنها الطوائف المسيحية والعلوية والإسماعيلية، وكذلك في المساجد السنية في حماة وحلب.

مع ذلك يبدو أن حكومة الشرع في دمشق غير مهتمة بضبط هؤلاء الدعاة وغير راغبة في التعامل معهم، رغم المطالب الشعبية بضبطهم، إلا أن الحكومة ابتعدت عن ذلك.

وقد تحولت الاضطرابات التي تسبب بها هؤلاء في شوارع دمشق وحماة وحلب إلى حمام دم في المناطق العلوية.

هجمات الساحل

عقب ورود أنباء عن هجمات على قوات النظام الدمشقي الجديد من قبل أنصار النظام السابق، بدأت الدعوات للجهاد على منابر المساجد، وشارك فيها الشرع نفسه.

كما بدأت مجموعة منظمة ترتكب مجازر في قرى العلويين، ووصل عدد القتلى إلى آلاف الضحايا، تلت ذلك موجات هروب جماعي نحو الحدود اللبنانية وإلى القاعدة العسكرية الروسية في حميميم قرب مدينة جبلة.

ما حدث كان صدمة في الأوساط السورية، وبدا أن مطالبة دمشق بالسيطرة على المناطق الكردية أو الدرزية كانت غير صحيحة.

كما ظهرت مطالب بحماية دولية للمناطق العلوية والمسيحية على الساحل السوري، وكان رد فعل دمشق والشراء على ما حدث ضعيفاً للغاية، فلم يكن هناك حداد أو اعتذار.

بل إن أنصار النظام الجديد، بعد إنكارهم في البداية لوقوع هذه المجازر، عادوا وأشادوا بهذه الأعمال، معتبرين أن جميع العلويين استحقوا ما حدث لهم بسبب مشاركتهم المزعومة في انتهاكات النظام السابق.

 ووسط كل هذا، ما مصير الأقليات العرقية مثل الأكراد والسريان والآشوريين والأرمن والشيشان؟، وما مستقبل الأقليات الدينية: المسيحيون، والدروز، والعلويون، والإسماعيليون، والشيعة؟.
 لم تصل رسائل المثقفين السوريين المحايدين إلى أنصار النظام الجديد، التي كانت تشير إلى أن انتهاكات النظام السابق كانت من عمل أشخاص من جميع الطوائف.

وأضافت: “إن ليس كل قادة النظام السابق غادروا البلاد، وبعض الشخصيات، خصوصاً من غير العلويين، ما زالوا يتجولون بحرية في البلاد”، وشعر العلويون بالأمان من الذين لم يفروا لأنهم لم يشاركوا في أي انتهاكات، كما انضم بعضهم إلى النظام الجديد.

التمييز الطائفي

حالياً، تبدو معظم مؤسسات الدولة متضررة، وتفاقمت هذه المشكلة بعد أن أقال النظام الجديد عدداً كبيراً من موظفي الدولة بسبب شكوك في تعاونهم مع النظام السابق أو لأسباب طائفية.

وعلى سبيل المثال، كان العلويون يشكلون نسبة كبيرة من موظفي الدولة، خاصة في مجالي التعليم والتعليم العالي، نظراً لسيطرتهم على نظام المنح الدراسية الخارجية والدراسة في الخارج.

بالإضافة إلى ذلك، فإن خوفهم الحالي من العنف الطائفي، بعد المجازر التي وقعت على الساحل السوري، سيعيق إعادة دمجهم في مؤسسات الدولة.

الميثاق الجديد

قام رجال “الميثاق الجديد” بطرد معظم العلويين من الوظائف الحكومية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بشكل مرعب في المناطق العلوية، حيث كان عدد كبير من أبناء الطائفة يعملون في وظائف حكومية كمعلمين، وأطباء، وممرضين، أو ضمن الجيش وأجهزة الأمن التي تم حلها.

ورغم التحذيرات التي أصدرتها أجهزة أمنية غربية وأمريكية من احتمال وقوع هجمات مسلحة على الكنائس، فجر انتحاري نفسه داخل كنيسة أرثوذكسية في دمشق، ما أسفر عن مقتل العشرات.

ومع ذلك، رغم أن الحكومة السورية اتهمت تنظيم داعش بالوقوف وراء الهجوم، إلا أن جماعة تُدعى “أنصار السنة”، التي كانت حتى ثلاثة أشهر مضت تُعتبر قريبة من الحكومة تبنّت الهجوم، حيث أعلنت الجماعة عن نفسها رسمياً بسبب اعتراضها على ما وصفته بـ”تساهل الشريعة تجاه الطوائف الأخرى” و”البراغماتية المفرطة في تطبيق الشريعة الإسلامية فوراً”.

وبهذا، انضمّ المسيحيون إلى الدروز الذين تعرّضوا لمعاملة مهينة بعد اقتحام مناطقهم القريبة من دمشق، والعلويين الذين ما زالوا يعانون من تبعات المجازر في مناطقهم، والأكراد الذين لا يزال أنصار النظام الجديد يعتبرونهم “أعداء النظام” الأخطر على الإطلاق.

تشييع قتلى تفجير كنيسة مار الياس، فيما لا يزال النظام يواجه صعوبة في فرض الأمن في سوريا (أ ف ب)
القبول الإقليمي

كان للدول في المنطقة آراء متفاوتة تجاه التغيير السياسي في دمشق، حيث اعتبرت تركيا وقطر أنفسهما منتصرتين في الصراع بسبب علاقاتهما السرية مع “هيئة تحرير الشام”، الفصيل المسيطر على معظم البلاد.

وقاومت قطر بقوة جهود الإمارات العربية المتحدة لإعادة تأهيل نظام الأسد، وانضمت تركيا، التي تربطها علاقات عسكرية وأمنية مع “هيئة تحرير الشام” بسبب التنسيق معها خلال السنوات الماضية، إلى المحتلين.

ورغم التباينات السياسية، فقد بُني هذا القبول الحذر على أساس مصالح مشتركة، أبرزها تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا ومنع تصاعد موجات اللجوء نحو دول الجوار، إضافة إلى محاولة السيطرة على الفصائل المسلحة وتنظيمها داخل منظومة أمنية قابلة للتفاوض.

ومع ذلك، فإن هذا القبول لا يزال هشًّا، تغلّفه الشكوك وتحكمه حسابات استراتيجية متغيرة.

وبعد سقوط دمشق مباشرة، انضمت السعودية إلى النظام الجديد، وبدت هناك رغبة مشتركة بين دمشق والرياض لتحسين العلاقات.

ورأت الرياض ما حدث كإضعاف للمشروع الإيراني في المنطقة، خاصة بعد الهزيمة التي مني بها حزب الله في لبنان، وبدأت التواصل مع الحكومة الدمشقية الجديدة على الفور تقريباً.

كما اتبعت مصر النهج نفسه بعد تردد طويل بسبب مخاوفها من وجود جهاديين مصريين ضمن صفوف قادة دمشق الجدد، بالإضافة إلى قلقها من علاقات جماعة الإخوان المسلمين بالنظام الجديد.

لكن مصر انضمت في النهاية بعد تلقيها ضمانات باعتقال العناصر المصرية بين الجهاديين، ولم يظهر أي أثر لمنظمة الإخوان المسلمين السورية في هياكل الحكم الجديدة.

ورحّبت الدولة المصرية رسمياً بالنظام السوري الجديد، لكن الإعلام الموالي للحكومة المصرية ما زال يشن حملة شرسة عليه، متهماً إياه بالتحالف مع جماعة الإخوان، وهي الجماعة التي تخوض السلطات المصرية ضدها حرباً لا هوادة فيها منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي.

وكانت الأردن أيضاً من بين الدول المرحبة بالتغيير في دمشق، بعد معاناتها الطويلة من تهريب الكبتاغون عبر حدودها بواسطة نظام دمشق.


أما بالنسبة للعراق، فلا تزال العلاقات متوترة للغاية، على الرغم من زيارة قصيرة قام بها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إلى بغداد بعد بضعة اجتماعات أمنية، إذ حاربت الفصائل الشيعية المقربة من حكومتها إلى جانب بشار الأسد، والتي بدت مترددة جداً، وأرسلت رئيس جهاز مخابراتها، حميد الشطري، إلى دمشق، بدلاً من أي شخصية سياسية رفيعة.

لم تُبدِ العاصمتان دمشق وبغداد حماسة كبيرة نحو التقارب إذ حال حاجز عدم الثقة بين الطرفين دون تطوير العلاقة.

كما لم يستطع النظام في بغداد تجاهل أن الرئيس السوري المؤقت هو أحد الجهاديين في العراق الذين قاتلوا في صفوف تنظيم القاعدة ضد الجيش الأمريكي والفصائل الشيعية العراقية.

وكذلك، فإن معظم التشكيلة الجديدة في سوريا تنحدر من خلفية جهادية مرتبطة بالقاعدة كانت تعمل سابقاً في العراق.

ولم يُشارك الرئيس أحمد الشرع في القمة العربية التي عُقدت في بغداد، رغم أن الحكومة العراقية وجهت إليه دعوة رسمية، وقد عبّرت بغداد عن قلقها الشديد بشأن مصير الأقلية الشيعية الصغيرة في سوريا، وكذلك حول المقامات الدينية الشيعية في دمشق ومحافظات أخرى.

كما حملت الحكومة العراقية النظام الجديد في دمشق مسؤولية السيطرة المنفردة على هذه المواقع المقدسة، كما تتهمه باضطهاد الأقليات الشيعية والعلوية داخل البلاد.

على النقيض من ذلك، أكدت دمشق التزامها بـحماية الأماكن الدينية الشيعية وضمان حرية ممارسة الشعائر دون عوائق، لكن يبدو أنه مع اقتراب بعض المناسبات الدينية الشيعية سيكون الوضع حاسماً في تطور العلاقة بين الطرفين، إذ قد يُظهر مدى جدية النظام الجديد في التعامل مع هذه الحساسيات الطائفية.

وفي الوقت الراهن، الحدود بين سوريا والعراق هادئة، ولم تُسجَّل أي محاولات اختراق أو اشتباك بين الجانبين، إلا أن العلاقة تظل هشة، وقد تتدهور سريعاً بمجرد وقوع أي حادث جديد يمس الأقليات أو المقامات.

العلاقة اللبنانية-السورية مرتبطة بجميع القضايا الإقليمية من حزب الله إلى وضع المسيحيين في سوريا ودور إيران في المنطقة بعد الحرب مع إسرائيل

لبنان

مع لبنان، عُقدت اجتماعات على أعلى المستويات، إلا أن جميع القضايا الخلافية لا تزال عالقة، من بينها، ترسيم الحدود البرية بين البلدين، وعودة اللاجئين السوريين من لبنان، والأموال السورية المجمدة في المصارف اللبنانية، وكذلك ملف السجناء السوريين في سجن رومية اللبناني، والمقابل القديم له، السجناء اللبنانيون في السجون السورية.

وقد شهدت الحدود عدة اشتباكات محدودة، إلا أنها تم احتواؤها بسرعة دون تصعيد كبير.

ومع ذلك، تبقى العلاقة اللبنانية-السورية مرتبطة بتشابكات إقليمية أعقد، تتضمن، مصير حزب الله ومستقبله في لبنان والمنطقة، ووضع المسيحيين في سوريا في ظل المتغيرات السياسية، ودور إيران الإقليمي بعد الحرب التي دامت اثني عشر يوماً بين إيران وإسرائيل.

باختصار، لا يمكن فصل العلاقات السورية-اللبنانية عن البيئة الجيوسياسية المتفجرة في الإقليم، ما يجعل أي تقدم فعلي مرهوناً بتسويات أوسع تشمل ملفات إقليمية تتجاوز حدود البلدين.

قلق إسرائيلي

جاء التوتر الإقليمي الأكبر من إسرائيل، فمنذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد، دمرت سلاح الجو الإسرائيلي معظم بقايا جيش الأسد، بما في ذلك مقراته وأسلحته، خوفاً من وقوعها في الأيدي الخطأ.

لكن ذلك كان مجرد البداية، حيث طورت إسرائيل استراتيجية جديدة تنص على رفض انتشار قوات دمشق في المحافظات الجنوبية الثلاث: القنيطرة، ودرعا، والسويداء.

وتطورت هذه الاستراتيجية لاحقاً إلى تهديد دمشق بعدم المساس بالأقلية الدرزية في السويداء أو بأي من ضواحي دمشق.

ورافق التهديد الإسرائيلي تقدماً برياً على جبل الشيخ (الحرمون)، وأكملت احتلال المنطقة العازلة التي كانت تحت سيطرة قوات فصل القوات التابعة للأمم المتحدة، وتوغلت في محافظة درعا الغربية.

وتدل هذه التحركات على أن إسرائيل ترى في النظام الجديد في دمشق خطراً مماثلاً أو حتى أشد من نظام الأسد السابق، لا سيما إذا ما لمس أي صلة بالفصائل الجهادية أو بالتهديدات الطائفية التي قد تمس المكونات الأقرب إلى الحدود الإسرائيلية، كالدروز.

إسرائيل والدروز السوريين

تشير التطورات الأخيرة إلى نوع من التحالف الضمني بين إسرائيل وحركة داخل القيادة الدرزية في سوريا يقوده شيخ الطائفة الدرزية في سوريا، حكمت الهجري، تحدث عنه شيخ الطائفة الدرزية في إسرائيل، الشيخ موفق الطريف، علناً، الذي عمل لسنوات على استثمار العلاقة مع دروز السويداء.

وعلى النقيض من ذلك، قوبلت هذه التحركات برفض قاطع من حكومة دمشق، التي رأت فيها محاولة لتقسيم البلاد واستغلال الطوائف، خاصة في ظل توتر العلاقة بين دمشق ومحافظة السويداء، بعد أن رفض الزعماء الدروز دخول قوات من دمشق إلى المحافظة.

 ومع ذلك، فإن هذا الرفض ليس جديداً، إلا أن تكراره في السياق الحالي وبتزامن مع التحركات الإسرائيلية في الجنوب، يمنحه أبعاداً سياسية وأمنية أكثر خطورة.

ولكن تصرفات إسرائيل لا تسهم في تهدئة الأوضاع، بل على العكس، فهي تواصل توسيع مناطق سيطرتها في هضبة الجولان ومدينة القنيطرة، وتمتد أحياناً إلى قرى درعا، حيث أقامت نقاط تفتيش لتفتيش المدنيين ومنع وجود قوات الشرع في المحافظات الجنوبية الثلاث.

بالإضافة إلى ذلك، تحاول إسرائيل أن تُصوّر نفسها كحامية للطائفة الدرزية في محافظة السويداء، وتشجع أبرز رجل دين في السويداء، الشيخ حكمت الهجري، على رفض مطالب دمشق أو التخلي عن أسلحته.

وهذا يشير إلى أن هذا الدعم الإسرائيلي لزعيم دُرُزي محلي يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي في الجنوب السوري، ويعزز من التوترات بين دمشق والطائفة الدرزية.

طريق السلام واتفاق إبراهام

في شوارع تل أبيب، ظهرت لافتة تحمل صورة الرئيس الشرع إلى جانب صور لقادة عرب سبق لهم التوقيع، أو هم على وشك التوقيع، على اتفاقية إبراهام، وهي اتفاقية سلام بين دول عربية وإسرائيل.

وهذا يشير إلى أن احتمال انضمام الرئيس الشرع -الذي كان في العام الماضي جهادياً يعلن رغبته في تحرير القدس- إلى هذا الاتفاق أشبه بفيلم خيال علمي.

لقد استقبل الشرع وفداً من اليهود الأمريكيين من أصل سوري تحدث معهم عن رغبته في السلام، وسمح للوفد ببدء عملية ترميم معبد تاريخي في دمشق، كما تحدث المبعوث الأمريكي إلى سوريا عن اجتماعات منتظمة يعقدها أشخاص مقربون من الشرع مع مسؤولين إسرائيليين، حيث يتم مناقشة جميع نقاط الخلاف بين الجانبين.

وعلى النقيض من ذلك، فرغم تصريحات الشرع المتكررة بأنه لا ينوي الهجوم أو التحريض ضد إسرائيل، يبدو أن الطريق أمام النظام الجديد في دمشق للانضمام إلى اتفاق إبراهام لا يزال طويلاً جداً ومعقداً.

قد يرسل الشرع رسائل مطمئنة في جميع الاتجاهات، لكن إقناع زملائه المتشددين يبدو مستحيلاً، إذ يمكن أن يوافق الجهاديون الذين أصبحوا وزراء وحكاماً على هدنة طويلة الأمد أو تعهداً بعدم التحرك ضد إسرائيل، وسيجدون في كتب التراث الإسلامي ما يبرر مواقفهم تجاه الهدن التي أبرمها النبي محمد (ص) مع اليهود أو مع الأعداء الآخرين.

لكن توقيع اتفاق سلام، وتطبيع العلاقات، وإقامة سفارة إسرائيلية في دمشق تبدو أموراً تتجاوز خيالهم، حتى لو كانت هذه الهدن مؤقتة أو مشروطة.

علاوة على ذلك، سيواجه هذا السلام المفترض معارضة قوية داخل إسرائيل، سواء من السياسيين المتطرفين أو من المؤسسة العسكرية، وسيُذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمحاولته احتواء حركة حماس وتسهيل تقديم الأموال لها، والتي انتهت بهجوم 7 أكتوبر.

الشرع لا يمكن أن يتنازل عن الجولان وإلا سيبدو أن نظامي الأسد رفضا جميع العروض الأمريكية بالانسحاب الجزئي من الهضبة ليأتي إسلامي سني ذو خلفية جهادية ويتنازل عنه

الجولان

تختلف سوريا بشكل واضح عن بقية دول اتفاقيات إبراهام، فهذه الدول تقع جغرافياً بعيداً عن إسرائيل ولا تمتلك أراضٍ محتلة منها.

 أما إسرائيل، فقد احتلت هضبة الجولان السورية منذ عام 1967، وهناك العديد من قرارات الأمم المتحدة التي تطالب بانسحابها منها، وهذا يخلق معضلة يصعب حلها؛ إذ لا يستطيع الرئيس الشرع التخلي عن الجولان دون أن يبدو كأنه يتخلى عما رفضه نظام الأسد الأب والابن طوال عقود من الزمن، حيث رفضوا جميع العروض الأمريكية للانسحاب الجزئي، كما أنه من غير المتوقع أن يوافق إسلامي سني ذو خلفية جهادية على ذلك فجأة.

وعلاوة على ذلك، فإن البعد الطائفي في هذه القضية واضح تماماً؛ فالرئيس الشرع لن يسمح لنفسه بأن يُسجّل في التاريخ كزعيم سني يوافق على ما رفضه العلويون مراراً وتكراراً.

وعلى النقيض من ذلك، لا يستطيع الشرع المطالبة باستعادة هضبة الجولان، لأن أي زعيم إسرائيلي لن يوافق على تسليم هذه المنطقة الاستراتيجية التي تسيطر على شمال إسرائيل إلى “هيئة تحرير الشام”، التي كانت مدرجة على قوائم الإرهاب العالمية حتى وقت قريب، أو حتى إلى الجيش السوري الجديد الذي يضم جهاديين أجانب من أوزبكستان و طاجيكستان وأفغانستان، وهو قرار غريب للغاية اتخذه الشرع بالسماح لهم بالانضمام إلى الجيش.

وفي محاولة لإيجاد حل مثالي لهذه المشكلة، اقترح الإسرائيليون تحويل هضبة الجولان إلى “حديقة سلام”، وهو اقتراح مشابه لما قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يتسحاق رابين في عهد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.

وبعيداً عن الأحلام الوردية، لم يُتخذ أي قرار حاسم بشأن من سيملك السيادة على حديقة السلام هذه، ولا بشأن مصير المستوطنين الإسرائيليين في الجولان، ولا مستقبل أكثر من عشرين ألف مواطن سوري يعيشون في القرى المحتلة بالجولان، مثل مجدل شمس وبقعاتا.

وللعلم هؤلاء السوريون في الجولان ينتمون إلى الطائفة الدرزية، التي تعيش بدورها صراعاً مع الحكام الجدد في دمشق وترفض دخول قوات الرئيس الشرع إلى مناطقها في محافظة السويداء.

على النقيض من ذلك، ردود فعل المنطقة تجاه التغيير في دمشق بشكل عام تقدم بارقة أمل للسوريين، إذ يأمل السوريون أن تسهم دول الخليج الغنية في إعادة الإعمار أو تخفيف الأوضاع المعيشية الصعبة عبر الدعم المالي أو توفير النفط والغاز.

وهذا يشير إلى أن العديد من الدول تراهن على نجاح التجربة في دمشق، إذ تتمتع دول الخليج بمصلحة حقيقية في الحد من التوسع الإيراني، أو ما يُعرف بـ«الهلال الشيعي»، الذي يهدد أمنها، وخاصة السعودية التي تضم طائفة شيعية كبيرة في شرق البلاد.

قضية الأكراد

قبل ظهور الدولة السورية بعد الحرب العالمية الأولى، كانت الجزيرة السورية الواقعة بين نهرَي دجلة والفرات مأهولة بالسريان والأكراد وبعض القبائل العربية.

وفي زمن عدم وجود الحدود، حيث كانت المنطقة كلها جزءاً من الدولة العثمانية، لم تكن هناك فروق بين الأكراد في سوريا وتركيا في مناطق مثل القامشلي، التي أصبحت جزءاً من سوريا المستقلة ومدينة نصيبين التركية، وكانت هناك روابط قرابة، وزواج، وهجرة بين الجانبين.

وبعد قيام الدولة السورية، استمرت الجزيرة السورية في استقبال موجات هجرة كردية من تركيا، حيث تحرك الأكراد لأسباب طبيعية مثل البحث عن عمل، والرعي، والزراعة، والزواج، والاستقرار.

كما كانوا ينتقلون كلما تعقدت العلاقات بين تركيا وأكرادها، حتى وصل الأمر إلى تعداد عام 1960.

بعدها اعتبرت الحكومات السورية المتعاقبة (حكم عبد الناصر في سوريا، والحكومة الانفصالية، وحزب البعث)، أن كل من سُجل في السجلات السورية قبل هذا التعداد يحمل الجنسية السورية، بينما رفضت الاعتراف بمن جاء بعد ذلك.

لذا بقي جزء كبير من الأكراد غير مسجلين وغير معترَف بهم كسوريين، إضافةً إلى عادة السكان في رفض تسجيل المواليد وتجنب الخدمة العسكرية.

وكانت مطالب الأحزاب الكردية قبل الثورة السورية عام 2011 تقتصر على الاعتراف بجميع الأشخاص عديمي الجنسية، بالإضافة إلى مطالب ثقافية مثل الاعتراف باللغة الكردية كإحدى اللغات الرسمية في البلاد، ومطالب وطنية عامة مثل الحق في تشكيل أحزاب والمشاركة السياسية.

وخلال عهد كل من حافظ الأسد وابنه، تم رفض كل هذه المطالب، وكان النشطاء الأكراد يتعرضون للزيارة المتكررة للسجون السورية وأجهزة المخابرات.

تحالف الأسد مع تركيا

على الجانب الآخر من المعادلة، أقام النظام علاقات عمل مع جزء من الأكراد الأتراك المطالبين بالانفصال، وهم حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، وشملت هذه العلاقات توفير أسلحة وتدريبات، بالإضافة إلى أنشطة تهريب المخدرات.

بعدها أُجبر نظام حافظ الأسد على التخلي عن هذه العلاقة تحت ضغط التهديدات العسكرية التركية عام 1998.

كما أسس بشار الأسد تحالفاً مع أنقرة بعد وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا عام 2002، بعدها فُتحت الأسواق السورية للبضائع التركية، وبدأ المواطنون من البلدين يتحركون بحرية.

وترسخت هذه العلاقة بعد عزل النظام من العالم العربي بسبب اتهاماته بالوقوف وراء اغتيال رفيق الحريري، عملياً، أصبحت تركيا الحليف الوحيد لنظام بشار الأسد.

وعلى النقيض من ذلك، تدهورت العلاقة بين نظام بشار الأسد والأكراد بشكل كبير، وشهدت مناطق عدة أحداثاً دامية مثل إحراق سجن الحسكة، واشتباكات بين القبائل العربية والأكراد بعد خلاف حول مباراة كرة قدم، وامتدت هذه الاشتباكات إلى أحياء كردية في دمشق.

بعد اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 ودعم تركيا للمعارضة السورية، تم إنقاذ العلاقة بين دمشق والقامشلي، حيث استجاب النظام بسرعة لمعظم مطالب الأكراد المتعلقة بحقوق الإنسان والثقافة، وحتى سلّم المسؤوليات الأمنية والمعيشية في المناطق ذات الأغلبية الكردية إلى حزب الاتحاد الكردستاني، الذي يُعتبر وريث حزب العمال الكردستاني.

وخلال الأحداث السورية، توسع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مساحات واسعة من الجزيرة السورية وقضى تقريباً على المناطق الكردية، لولا تدخل الولايات المتحدة وحلفائها في التحالف الدولي لمحاربة داعش.

الحكم الذاتي للأكراد

استغل الأكراد هزيمة داعش وسيطروا على مناطق كبيرة تضم مدناً عربية مثل دير الزور والرقة، وأنشأوا هيئة الحكم الذاتي وجهازها العسكري، وقوات سوريا الديمقراطية، التي ضمت مجموعات من السريان، كما سيطر العرب على مناطق النفط والغاز الرئيسية في سوريا.

بعد سقوط نظام بشار الأسد، بدا المشهد مفتوحاً لمواجهة واسعة بين الحكام الجدد والأكراد، خاصة مع مشاعر الكراهية السائدة بين الطرفين.

ومع ذلك، يعتبر الأكراد أن الحكام الجدد، أو على الأقل بعضهم، كانوا جزءاً من تنظيم الدولة الإسلامية الذي ارتكب انتهاكات مروعة في الجزيرة السورية، لا سيما ضد الطائفة اليزيدية الكردية.

كما أن الحكومة الجديدة متحالفة مع ما يُسمى بالجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، والذي يضم فصائل قاتلت الأكراد واستولت على مناطقهم في عفرين شمال حلب وفي رأس العين بالجزيرة.

ويرى الحكام الجدد في دمشق أن هيئة الإدارة الذاتية مجموعة علمانية متطرفة، وريثة الأيديولوجية الماركسية لحزب العمال الكردستاني، ويعتبرونها وكيلاً للولايات المتحدة تستولي على مناطق عربية لا وجود كردي فيها، بالإضافة إلى سيطرتها على حقول النفط والغاز.

وكان المشهد كله مهيأ لمواجهة دامية بين الطرفين، وبدأت ملامحها بالفعل في المعارك التي دارت قرب سد تشرين في مدينة منبج.

 الاتفاق المفاجئ

وعلى النقيض من كل التوقعات، وبعد المجازر التي استهدفت العلويين على الساحل، فوجئ الجميع بتوقيع اتفاق بين الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية، الجنرال مظلوم عبدي.

 جاء هذا الاتفاق على شكل إعلان نوايا وحدود عامة غامضة، ويتطلب كل بند فيه المزيد من التفاوض.

على سبيل المثال، لم يُحدد الاتفاق طريقة تقاسم عائدات النفط أو السيطرة الأمنية على الحدود مع كردستان العراق وتركيا، ولم يُوضح المصير النهائي لقوات سوريا الديمقراطية، سواء بالانضمام إلى الجيش كأفراد أو ككتلة عسكرية.

بعدها بدأ الطرفان جلسات تفاوض أسفرت عن اتفاق أولي حول الأحياء الكردية في حلب.

ومع ذلك، يرى المراقبون أن احتمال حدوث مواجهة عسكرية غير وارد طالما تواصل القوات الأمريكية وجودها في المناطق الكردية لحماية السجون التي تحتجز عناصر تنظيم داعش، والجميع يترقب الخطوة التالية لإدارة ترامب.

السُنة

في الأيام الأولى لحكم النظام الجديد في دمشق، استُقبل أحد أبرز شيوخ دمشق، الشيخ أسامة الرفاعي، بعد عودته من تركيا، حيث أُجبر على مغادرة سوريا بسبب معارضته للنظام السابق.

وامتدت الاحتفالات بالشيخ الرفاعي لتشمل حضوره جميع الفعاليات الكبرى في القصر الجمهوري، مثل إعلان الدستور وتشكيل الحكومة الجديدة، قبل أن يُعين شخصياً مفتي الجمهورية.

كما أثار هذا التعيين موجة غضب في الأوساط السلفية التي تدعم الشريعة، وانتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي اتهامات له بالردة، والشرك، وتقديس القبور، وحتى التكفير الصريح.

ولم تكن المعركة على المنابر مجرد صراع افتراضي، بل اشتبك الصوفيون والسلفيون داخل المساجد، واتُهمت القيادة الجديدة بمحاولة فرض نموذج إسلامي لا يتوافق مع الواقع الديني في دمشق وحلب وحماة.

لكن المشكلة في عالم الأصولية الإسلامية وسباقها المستمر نحو التطرف، تكمن في تعدد المصادر الفكرية المستمدة من شيوخ الوهابية الجهادية في مصر والسعودية وليبيا.

وهذه الأطراف في حالة صراع دائم، وغالباً ما لا تقتصر المواجهات على الكلمات فقط، بل اندلعت عشرات الاشتباكات واتهامات بالتكفير بين الجماعات الجهادية السلفية مثل جبهة النصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام وبيت المقدس.

 وحتى اليوم، يلعب التكفيرين السلفيون، ومعظمهم من غير السوريين، دوراً بارزاً في النخبة الحاكمة الجديدة.

ومع تفاقم الأوضاع واحتمال اندلاع حرب أهلية وانهيار الدولة، تتزايد فرص أن يصبح الصراع بين التيارات السنية المختلفة نقطة خلاف جديدة ومفتوحة.

العقوبات الدولية وإعادة الإعمار

مع بداية الحرب الأهلية في سوريا، قدمت الولايات المتحدة، تحت إدارة الرئيس باراك أوباما، دعماً عسكرياً وسياسياً للمعارضة السورية.

وأنشأت واشنطن غرفة عمليات عسكرية مشتركة على الجانب التركي من الحدود السورية-التركية، بالتعاون مع تركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر.

على الصعيد السياسي، أنشأت الولايات المتحدة مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” التي تضم أكثر من سبعين دولة، لدعم الانتقال السياسي في سوريا، وبرزت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية في عهد أوباما، كأشد الداعمين لانتصار المعارضة السورية.

وخلال ولاية أوباما الثانية، تم إقصاء أو تهميش معظم فصائل الجيش السوري الحر، التي كانت الذراع العسكري الفعلي للمعارضة، من قبل الفصائل الإسلامية المتطرفة مثل أحرار الشام وجيش الإسلام، ثم استوعبتها جبهة النصرة.

كان هذا في غرب سوريا، بينما في الشرق سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) على معظم المناطق والمدن، بما في ذلك آبار النفط وحقول الغاز.

وهذا يشير إلى أن هذا كله غير من نظرة الإدارة الأمريكية للمشهد السوري، وقررت واشنطن أن ما يحدث غرب نهر الفرات هو حرب أهلية، وأن تدخلها سيكون مقتصراً على محاربة الإرهاب فقط.

موسكو تُفكك المعارضة  

بناءً على ذلك، أوكل وزير الخارجية في إدارة أوباما الثانية، جون كيري، لموسكو مهمة التعامل مع الوضع غرب نهر الفرات، بينما كرّست واشنطن جهودها لمحاربة تنظيم داعش بالتعاون مع الأكراد وقواتهم العسكرية، قوات سوريا الديمقراطية.

في تلك الفترة، قضت موسكو على المعارضة السورية تقريباً بمساعدة قوات الأسد، واستولت على معظم المناطق عسكرياً أو من خلال ما يُعرف بالمصالحات.

كما قامت موسكو بترحيل الرافضين لحكم الأسد إلى محافظة إدلب، التي بقيت مع مناطق شمال حلب فقط كآخر معاقل المعارضة السورية، وبدا أن الحل السياسي غائب في دوامة مبعوثي الأمم المتحدة.

ويقول الدكتور سيباستيان غوركا، خبير مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأمريكي: “الوضع السوري معقد، ومن يدّعي معرفة مستقبل سوريا يكذب، وكل شيء فيها متغير وهش، إنها دولة مفتوحة لكل الاحتمالات، لم يذرف أحد دموعاً على سقوط نظام الأسد، وبسقوطه، تقطع خطوط التزويد إلى وكلاء إيران في المنطقة، وهذا أمر جيد.”

البعثة السورية لدى الأمم المتحدة

يضيف الدكتور غوركا: “لكن الحقيقة هي أن من لدينا اليوم في دمشق هو الرئيس المؤقت، أحمد الشرع، الذي كان عضواً مؤسساً في جبهة النصرة، الفرع التابع لتنظيم القاعدة، والشرع يؤمن بأن الشريعة الإسلامية ستكون قانون سوريا، التي تشمل الأكراد والمسيحيين والعلويين والدروز”.

جاءت تصريحات المسؤول الأمريكي بعد قرار وزارة الخارجية الأمريكية تعديل الوضع القانوني للبعثة السورية لدى الأمم المتحدة، حيث لم تعد الولايات المتحدة تعترف بالبعثة السورية لدى الأمم المتحدة.

وقال مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية: “الولايات المتحدة لا تعترف حالياً بأي كيان كحكومة لسوريا.”

ولكن ما لم تقله وزارة الخارجية، قاله الرئيس دونالد ترامب خلال استقباله رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ففي اليوم الذي سقط فيه نظام بشار الأسد ودخلت قوات هيئة تحرير الشام إلى دمشق، صرح ترامب مادحاً الرئيس التركي أردوغان قائلاً: “تركيا كانت تسعى للسيطرة على دمشق لمدة ألفي عام، وقد حققت ذلك أخيراً”.

وأضاف: “هنأت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على استيلائه على سوريا”.

وختم ترامب كلماته قائلاً: “نحن في واشنطن راضون عن ذلك”، موضحاً أنه رغم رفض أردوغان في البداية الاعتراف بذلك، إلا أنه في النهاية فعل.

وأضاف ترامب: “أي مشاكل بين تركيا وإسرائيل في سوريا يمكنني حلها لأنني صديق للرئيس التركي.”

وهذا يشير إلى أن هذه المواقف الأمريكية ليست مفاجئة كثيراً، إذ يبدو المشهد وكأنه مجموعة معقدة من التعقيدات التي يصعب تفسيرها، فواشنطن تدعم الإدارة الذاتية الكردية في شرق سوريا، ونشرت قواتها هناك خلال الحرب ضد داعش، واحتفظت بها لحماية المنطقة بعد هزيمة التنظيم.

 ومع ذلك، رغم التصريحات المتكررة خلال فترة ترامب الأولى بشأن نيته سحب القوات الأمريكية من شرق سوريا، إلا أنه تجنب اتخاذ قرار خلال فترته الثانية، في حين أكدت أنقرة مراراً أنها لن تقبل أي وضع خاص للأكراد في شرق سوريا خشية أن ينتشر نفوذهم إلى مناطق الأكراد في تركيا.

تعيين السفير الأمريكي لدى تركيا مبعوثاً خاصاً إلى سوريا والتردد في تعيين سفير لدمشق يشير إلى حذر تجاه نظام خرج من عباءة الإرهاب ويخضع لفترة اختبار لمراقبة سلوكه

لغز المبعوث الأمريكي

على النقيض من ذلك، فرغم قرار الولايات المتحدة بتجميد العقوبات على سوريا لمدة ستة أشهر، واجتماع الرئيس ترامب مع أحمد الشرع، تجنبت الإدارة الأمريكية تعيين سفير في دمشق، وبدلاً من ذلك، اختارت تعيين سفير الولايات المتحدة لدى تركيا كمبعوث خاص إلى سوريا.

 قد يبدو هذا الإجراء مجرد وسيلة لتجنب إقامة علاقات دبلوماسية مع نظام خرج للتو من ظلال الإرهاب، أو فترة اختبار لمراقبة سلوك النظام الجديد في دمشق.

ولكن سفير الولايات المتحدة في تركيا، توماس باراك، يحاول إرضاء الجميع وسط مطالب وآمال متناقضة.

لم يكن باراك معروفاً في الأوساط السياسية في واشنطن، وهو ينتمي إلى نفس الخلفية التي يختار منها الرئيس ترامب مساعديه، أي رجل أعمال غالباً ما يكون من مجال التطوير العقاري، يرافقه في لعب الغولف، ويفتقر إلى خبرة سياسية سابقة.

ينحدر توماس باراك أيضاً من أصول لبنانية، من مدينة زحلة الواقعة بالقرب من الحدود السورية اللبنانية، كما يظهر تأثير جذوره العربية بوضوح في ميله إلى المديح، حيث يقضي وقتاً طويلاً في مدح الجميع: أردوغان، وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، والشيخ تميم بن حمد أمير قطر، والمسؤولين الإسرائيليين، وبالطبع الرئيس أحمد الشرع.

تولى المبعوث الأمريكي مهمة تقريب لبنان وسوريا من اتفاق سلام إبراهام، التي كانت تبدو مستحيلة حتى الثامن من ديسمبر من العام الماضي، لكنه يؤمن بأنها أصبحت ممكنة بعد هزيمة حزب الله في لبنان وسقوط الأسد في دمشق.

 يبدو أن المبعوث الأمريكي في موقف يشبه موقف المبعوث القديم، زلماي خليلزاد، الأمريكي من أصل أفغاني، الذي حاول إرضاء الجميع وتسوية النزاعات الطائفية والعرقية التي تعود جذورها إلى مئات السنين، مستعيناً بمعرفته بالشؤون الإقليمية، وخلفيته القومية، وقربه من الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش.

ومع ذلك، لم تكن كل هذه العوامل كافية لحل الصراعات القديمة والمظالم التاريخية، وانتهى الأمر بحرب طائفية في العراق وعودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان.

لغة نقدية

اختار باراك تبني لغة قديمة استخدمها القوميون العرب في نقدهم لاتفاق سايكس-بيكو الأنغلوسكسوني-الفرنسي، الذي قسّم ممتلكات الدولة العثمانية السابقة في الشرق الأوسط إلى دول قومية مثل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التي حصلت على وضع خاص بعد وعد بلفور.

مع ذلك، باراك لا يرغب في إعادة رسم الخرائط، ولا في إنشاء دول جديدة، ولا في إلغاء الدول القديمة، بل يؤكد أن اتفاق سايكس-بيكو كان غير عادل وجاء نتيجة غطرسة الغرب في إعادة تقسيم خرائط المنطقة.

 والأهم من ذلك، أن واشنطن لن تكرر نفس الأخطاء، ولن تحاول إعادة صياغة المنطقة من جديد، وفي الوقت نفسه لن تقدم مليارات الدولارات في برنامج يشبه برنامج جورج مارشال بعد الحرب العالمية الثانية. إذاً، كيف تريد واشنطن تحقيق أهدافها في المنطقة؟.

ولكن وفقاً لباراك، فإن المنطقة التي تمزقها اليوم الحروب والصراعات ستجد طريقها عبر قادة متميزين مثل الشرع لإقناع الشعوب بفوائد السلام والديمقراطية.

 بعد مؤتمر مدريد للسلام واتفاقيات أوسلو، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز كلمات تشبه إلى حد كبير تلك التي قالها المبعوث الأمريكي باراك، حيث تصوَّر خلالها شرق أوسط جديد مزدهر تتعاون فيه الاستخبارات اليهودية مع طاقات العرب البشرية وأموال الخليج لبناء جنة أرضية شرق أوسطية.

 وعلى النقيض من ذلك، هذه الكلمات ينظر إليها الآن المؤرخون الإسرائيليون والعرب على حد سواء على أنها ليست أكثر من أحلام يقظة.

لكن، كيف يرسم كل ما سبق مستقبل سوريا؟، وهل ترى واشنطن الآن أن الحل يكمن في تقسيم النفوذ بين أنقرة في شمال ووسط سوريا، وإسرائيل في الجنوب، مع بقاء القوات الأمريكية ضامنةً للمناطق الكردية؟، وهل هو سيناريو تقسيم؟.

أي منطقة جنوبية تشمل محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء باعتبارها معقلاً للدروز، بينما تسيطر تركيا على شمال سوريا، وتبقى شرق سوريا في يد الأكراد ككيان شبيه بالدولة.

ولكن ماذا عن الساحل السوري، حيث يشكل العلويون والمسيحيون الأرثوذكس الأغلبية؟، وماذا عن المنطقة السنية المتبقية من حلب إلى دمشق، أو ما يُعرف بالداخل السوري؟، هل ستعود موسكو لتلعب دوراً في حماية هذه المنطقة؟، من سيضمن أمن المجتمع السني ويسيطر على إيقاع حركته، خصوصاً مع وجود أكثر من 30 ألف جهادي من آسيا الوسطى؟، وهل ستُقام حكومة على نمط طالبان تطبق الشريعة الإسلامية؟.

التحليل التاريخي

من منظور تاريخي، تبدو كل هذه السيناريوهات ممكنة، عندما نشأت الدولة السورية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في 1917 وبداية الانتداب الفرنسي على سوريا، حاولت باريس تقسيم البلاد وأنشأت أربع دول: دمشق، وحلب، والعلويين، والدروز.

واختارت لكل منها علماً وحكومة، لكن التجربة انهارت بسبب التغيرات السياسية في فرنسا مع وصول حكومة الجبهة الشعبية اليسارية.

وعندما نالت سوريا استقلالها عام 1946، طالب وجهاء العلويين فرنسا بضمان قيام دولة علويّة قبل انسحابها، لكن فرنسا، التي خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية، لم تكن في وارد السماح بذلك.

كل ما استطاعت فعله هو الضغط على الحكومة الدمشقية الجديدة، برئاسة شكري القوتلي، لعدم حل “جيش الشرق”، وكان هذا الجيش يتألف من مجندين وضباط سوريين متعاونين مع الجيش الفرنسي، وشكلت الطوائف مثل العلويين والدروز والإسماعيليين غالبية صفوفه.

وكان هذا الجيش يشكل صداعاً مستمراً لجميع الحكومات السورية المتعاقبة، حيث نفذ أكثر من اثنين وعشرين انقلاباً أو محاولة انقلاب، وورّط البلاد في حروب خاسرة مع إسرائيل، وأخيراً سيطر على البلاد انقلاب حافظ الأسد في عام 1970.

ما بعد استقلال سوريا

عندما نالت سوريا استقلالها، تشكلت على الفور النخب السياسية وتأسست الأحزاب السياسية، وكان الغريب أن كل الأحزاب السياسية كانت ترغب في تدمير الكيان السوري، لم يرغب أحد في هذه الدولة الوليدة علناً.

وكل طرف كان يريد دولة أكبر، وفقاً لرؤيته الخاصة، وكان البعثيون يطالبون بوحدة عربية تمتد من اليمن إلى المغرب.

أما القوميون السوريون فكانوا يريدون دولة توحدهم مع لبنان والعراق وفلسطين (قبل إقامة دولة إسرائيل).

وكان الشيوعيون يطالبون بالاشتراكية الدولية التي توحدهم مع اليساريين في العالم الذين يدورون في فلك موسكو الشيوعية.

بينما كانت جماعة الإخوان المسلمين تطالب بالخلافة التي تمتد من إندونيسيا إلى سواحل المغرب العربي.

  سايكس-بيكو

في النهاية، كانت الطبقة السياسية بأكملها تريد دولة أكبر من ذلك الكيان الصغير الذي أنتجه البيروقراطيون الفرنسيون والإنجليز في اتفاقية سايكس-بيكو.

وكان هذا يقال بشكل علني، لكن ما كان يُخفي هو الدعوة إلى كيان أصغر للطوائف والأعراق، وكل مركز من مراكز الطائفة الدرزية كان يعرض خريطة تشمل دروز سوريا ولبنان وشمال إسرائيل ومنطقة الأزرق في الأردن.

أما العلويون فكانوا يطمحون إلى امتداد علوي في جنوب تركيا، ولم يتوقف الأكراد عن حلم كوردستان الكبرى التي تشمل مناطق في سوريا وتركيا والعراق وإيران.

الربيع العربي

بعد انطلاق ما يسمى بـ “الربيع العربي” عام 2010، أصبحت هشاشة القوميات واضحة في الدول التي اجتاحها الربيع العربي.

في ليبيا، تم تأسيس حكومتين، واحدة في الشرق والأخرى في الغرب، واليمن انقسم إلى شمال وجنوب، وغرقت السودان في حرب أهلية مع دعوات لإقامة دولة في الشرق لقبائل البجا، وفي الغرب في منطقة دارفور التي تسيطر عليها قبائل الزغاوة والتهبو.

في العراق، أصبح شمال العراق أو كردستان العراق منطقة حكم ذاتي تقترب بشكل ملحوظ من الاستقلال، وهناك مطالب بمنطقة شيعية تشمل تسع محافظات في الجنوب، وفي لبنان، أصبح المسيحيون أكثر اقتناعاً من أي وقت مضى باستحالة التعايش.

لكن لماذا لم تنجح حتى الآن أي تجربة انفصالية رغم الانقسام الحاد وغياب الاتفاق بين مكونات كل دولة على أي رمز وطني أو ذاكرة مشتركة أو تاريخ موحد؟.

النزعات الانفصالية

يبدو أن الإجابة بسيطة جداً، فالقوى الإقليمية مثل إيران وتركيا والسعودية، بدعم من دول كبرى في الغرب، ترفض التقسيم، بل وتعترض عليه بشدة.

عندما أعلن مسعود بارزاني عن استفتاء تقرير المصير، لم تتحرك الولايات المتحدة، الحليف التقليدي للأكراد، لإنقاذه، وسمحت لقوات الحشد الشعبي الشيعية بغزو مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل.

دفن حلم تقرير المصير الكردي، الذي كان من الممكن أن يمهد الطريق لدولة كردية مستقلة.

وعندما أعلن قادة جنوب اليمن عن رغبتهم في العودة إلى دولة جنوب اليمن، دعمت الرياض الرئيس علي عبد الله صالح في غزو الجنوب.

وتخشى القوى الإقليمية من أن تصل عدوى التقسيم إليهم، خاصةً وأنها أيضاً مجتمعات متنوعة عرقياً وطائفياً، والوحدة الوطنية فيها في أدنى مستوياتها.

تكرار التاريخ

التاريخ يعيد نفسه، عندما تولى حافظ الأسد السلطة، قوبل صعوده بارتياح كبير، فقد عزلت قيادة حزب البعث المتطرفة، من 1963 حتى انقلاب حافظ الأسد عام 1970، البلاد عن العالم العربي، وأدت إلى انهيار الاقتصاد الوطني، وفقدان هضبة الجولان في حرب تسبب فيها نظام البعث.

قدم حافظ الأسد نفسه كشخصية معتدلة قادرة على السيطرة على زملائه المتطرفين المتشددين، وفعل ذلك بالفعل، إذ قُتل معظمهم أو سُجنوا أو فروا من البلاد.

وانفتح على السنة والتجار في المدن، وزار جامع الأموي في كل المناسبات الدينية، وصلى على الطريقة السنية.

وفي تكرار جديد، يقدم الشرع نفسه كالشخص الوحيد القادر على السيطرة على التكفيريين والمتطرفين داخل حدوده.

وقدم تهدئة ودعا إلى طمأنة دول المنطقة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يفسر الرضا العام عنه في الأسابيع الأولى من حكمه وعروض المساعدة المختلفة.

لكن بعد المجازر التي وقعت على الساحل ضد العلويين، وتجول الوعاظ المتطرفين في شوارع العاصمة والمدن الكبرى، بدأت الشكوك العميقة تتزايد حول قدرته الحقيقية على السيطرة على هؤلاء المتطرفين.

مصير سوريا

يبدو أن مصير سوريا في المرحلة المقبلة لن يختلف كثيراً عن المسار العام في المنطقة، وأن الدعوات الصريحة للتقسيم ستواجه معارضة شرسة على المستويين الإقليمي والدولي.

ومن المرجح أن ينتهي الوضع بدولة ذات مركز مفكك وعاصمة ضعيفة لا تقدم شيئاً لبقية البلاد، سواء من حيث الفوائد أو من حيث سرد وطني مقنع.

ومع ذلك، ستظل صعود الأطراف السياسية المختلفة قائماً، لكن دون إمكانية تقسيم البلاد، التي ستظل لعقود قادمة مقيدة بالمصائر التي فرضتها اتفاقية سايكس-بيكو.

في السابق، سخر الباحثون والمفكرون الأمريكيون من فكرة التقسيم، واعتبروا أن البريطانيين والفرنسيين كانوا حمقى عندما تكفلوا بإعادة رسم خرائط المنطقة قبل مئة عام، في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

والآن، يدعو المفكرون الأمريكيون صراحةً إلى الحفاظ على خرائط المنطقة كما هي، لأن من يتورط في محوها سيُكلف برسم خريطة مختلفة، والخرائط في الشرق الأوسط لا تُرسم إلا بالدماء.

النظام الجديد يريد من الشعب أن يتخيل سوريا “سنغافورة الشرق الأوسط” لكن عند محاولة فهم السُبل والوسائل الواقعية لتحقيق هذا الهدف تستجيب القيادة بعدائية وقمع

 السياسة الداخلية الحالية

غالباً ما ينشغل النظام الجديد في سوريا بالحديث عن أحلام كبيرة ومشاريع ضخمة ستشهدها البلاد قريباً، من بناء أبراج سكنية وفندقية، تتوسطها برج ترامب، إلى مطارات حديثة وأسطول جوي جديد، إلى شركات في مجالات الطاقة والإنترنت والذكاء الاصطناعي، مع تأكيد أن سوريا ستتحول بسرعة إلى “سنغافورة الشرق الأوسط”.

وهذا ما يشير إلى أن رد فعل رجال النظام الجديد وأنصاره عادةً ما يكون عنيفاً، عندما يشكك أحد في هذه المشاريع أو يسأل من أين ستأتي الأموال لكل هذا؟، وكيف سيتم ذلك في ظل حالة الفوضى الأمنية الحالية، ووجود محافظات كاملة خارج سيطرة الحكومة، أو انتشار الفوضى حتى في المناطق التي تحت سيطرتها؟، ومن سيراقب كل هذا في غياب البرلمان والدستور والهيئات المحلية الفعالة؟.

في اختبار 200 يوم في سوريا، يبدو كل ما يحدث على الأرض في تناقض صارخ مع الأحلام التي تصل إلى السماء.

حتى اليوم، لم يفِّ النظام أحادي اللون تقريباً بأي من وعوده، إذ لم تتحسن حالة الخدمات، وأصبحت ظروف المعيشة أكثر بؤساً وتقترب من مستوى الجوع في بعض المناطق.

على الصعيد الأمني، لا تزال المناطق الساحلية التي شهدت مجازر طائفية في حالة يرثى لها من انعدام الأمن، مع انتهاكات يومية، وعمليات اختطاف ومطالبات بفدية، وانتشار الحوادث بسرعة.

واليوم هناك تقارير موثوقة عن اختطاف فتيات علويات وإجبارهن على الزواج أو التحول الديني، كما يتجول الوعاظ في مناطق الأقليات المسيحية والعلوية والإسماعيلية، مطالبين السكان بالتحول إلى الإسلام.

وتُهاجم أماكن العبادة التابعة للمجتمعات السورية غير السنية بشكل منتظم، ويتعرض الناس للمضايقة والتنمر في الشوارع بسبب ملابسهم، سواء كانوا رجالاً أو نساءً.

يبدو أن الحكومة الجديدة عاجزة عن مواجهة ما يحدث، ويقول بعض العاملين في الوزارات: “إن الحكومة لا تمتلك أي صلاحيات حقيقية، والمركز الحقيقي للنفوذ في كل وزارة هو شخصية غامضة تُدعى “الشيخ” الذي يقوم بالعمل الفعلي”.

بالإضافة إلى ذلك، هناك جهاز جديد في كل وزارة يُسمى “الإدارة السياسية”، ففي الواقع، لا يستطيع أحد تحديد ماهية هذا الجهاز بالضبط، أو ما هي صلاحياته، أو من أين يتلقى التعليمات؟.

بين سنغافورة والعراق

يميل الباحث في الشأن السوري إلى مقارنة الوضع الحالي في سوريا بما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003 آنذاك، حيث كانت الطموحات تصل إلى حدود السماء، بإقامة ديمقراطية على غرار نموذج توماس جيفرسون تُضيء الشرق الأوسط، وجهود إعادة إعمار ضخمة أسطورية، وشخصية جديدة تُرحب بها الدول الغربية باعتبارها مستقبل المنطقة واليوم، بات معروفاً كيف انتهت الأمور.

والفاعلون الذين عادوا مع القوات الأمريكية فرّوا سريعاً إلى الغرب مرة أخرى، فعمّت الفوضى، وبلغ الفساد مستويات غير مسبوقة، وأسست الأحزاب السياسية ميليشياتها الخاصة، وتحول الجيش الجديد إلى مادة للسخرية على الصعيد الوطني.

وفي نهاية المطاف، سيطرت تنظيمات القاعدة، التي تطورت لاحقاً إلى داعش، على ثلث الأراضي، واندلعت حرب طائفية مدمرة.

سوريا اليوم

الآن الصورة تبدو أكثر قتامة وتعقيداً، والطائفية ليست مجرد شعور خفي، بل أصبحت خطاباً معلناً يتردد في الإعلام الرسمي ويطفو على سطح الواقع الميداني.

ودعوات طرد المسيحيين من البلاد التي بُثت على شاشة التلفزيون الحكومي ليست إلا مقدمة لهجمات إرهابية استهدفت دور العبادة، وكانت مجرد إنذار لما هو آتٍ من موجات تحريض واستقطاب مذهبي.

 وفي خضم ذلك، يقف السنة في المدن، الذين عُرفوا بالاعتدال والانفتاح، وقد كانوا يُطلق عليهم “الإسلام الشامي” بسبب رحابة صدرهم ورفضهم للتكفير، يواجهون اليوم أعتى موجات العنف الفكري والاجتماعي.

لقد عادوا محاصرين بين هجمات قادمة من الشرق ومن إدلب، وسط حملات قمع تستهدف النساء وتفرض العودة إلى النقاب، وتضيق على الحريات الشخصية والسياسية معاً، يقولون بصوت مملوء بالحسرة: “إنهم انتقلوا من نظام يمنع الحريات السياسية فقط، إلى نظام يقمع الحريات الشخصية والسياسية على حد سواء، وأن سوريا التي يعرفونها قد تغيّرت جذرياً، والأسوأ أن هذا كله يحدث باسمهم وبتأييد ضمني منهم”.

قبل ثلاث سنوات، قدمت هوليوود فيلم “لا تنظر إلى الأعلى”، الذي يصور إدارة أمريكية تحاول إخفاء حقيقة كارثية عن شعبها بعدم السماح لهم بالنظر إلى السماء ليتفادوا رؤية النيزك القادم الذي سيُدمر الأرض.

أما في سوريا، فالسيناريو مقلوب، حيث تحاول الحكومة إقناع مواطنيها بالنظر إلى الأعلى، ليشاهدوا ناطحات السحاب والأبراج الفخمة والمنتجعات على قمة جبل قاسيون المطلة على دمشق، ومشاريع التنمية الكبرى التي تُروج لها.

 ولكن لكي يصدقوا هذا الحلم، يُطلب منهم ألا ينظروا إلى الأسفل، حيث الفقر والدمار والظلام يلفّ واقعهم.

EIR

EIR

منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.