حماس بين التحوّل القسري ومعضلة الأيديولوجيا

تقرير
ترامب وعدد من زعماء الدول بعد توقيع خطة السلام بشأن غزة في شرم الشيخ (أ ف ب)
ترامب وعدد من زعماء الدول بعد توقيع خطة السلام بشأن غزة في شرم الشيخ (أ ف ب)
ﺷﺎرك

بحسب مصادر مطّلعة على التطورات الجارية في قطاع غزة، بدأت حماس العمل على إعادة هيكلة تنظيمها في محاولة للتحول من جماعة مسلّحة إلى كيان سياسي قابل للتعاطي مع المرحلة المقبلة في القطاع، بعد أن وجدت نفسها أمام واقعٍ سياسي جديد لا يتيح لها الاستمرار بصيغتها السابقة.

الحركة التي حكمت غزة منذ عام 2007 تتعرّض اليوم لضغوط دولية وإقليمية غير مسبوقة، ورغم أن الانتقال من السلاح إلى السياسة ليس ظاهرة جديدة في تجارب الحركات المسلحة، إلا أن حالة حماس مختلفة تماماً، فالمعادلة هنا تتجاوز مجرد تعديل تنظيمي إلى صراع معقّد بين الأيديولوجيا والبنية العسكرية والضغوط الخارجية التي تُكتب على أساسها ترتيبات غزة القادمة.

منطق التحول بالنسبة لحماس واضح، فالتمسك بالمواقف السابقة يُقربها من خسارة نفوذها تماماً في الساحة الفلسطينية، فخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باتت واقعاً قائماً وتحظى بدعم عربي وإسلامي رسمي مؤثر، لا سيما من قطر وتركيا، وهو ما يجعل استمرار نموذج الحكم الحالي أمراً بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، ما يدفع الحركة إلى النظر للتحول كخيارٍ لحماية ما تبقى من سلطتها في غزة.

منطق التحول بالنسبة لحماس واضح فالتمسك بالمواقف السابقة يُقربها من خسارة نفوذها تماماً في الساحة الفلسطينية

والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل تملك حماس قرار التحول فعلاً، أم أن مستقبلها يُعاد تشكيله خارج غزة؟.

تحديات تواجه مسار التخلي عن الخيار المسلح
أولاً: معوّقات داخل الحركة

داخلياً، تواجه حماس معضلة رئيسية تبدأ من جوهر تكوينها، ففكر الإخوان المسلمين متجذر في هياكلها التنظيمية وقواعدها الشعبية، ما يجعل أي تحول سياسي جذري صداماً، وغير مقبول لدى أجيال نشأت على فكر وأيديولوجيا لا تتقبل مثل هذا الطرح.

ويزداد التعقيد مع وجود الجناح العسكري الذي شكّل تاريخياً مصدر شرعية الحركة، ومصدر نفوذها في غزة، والتخلي عن سلاحها دون أي مكاسب حقيقية سيبدو هزيمة لا يمكن قبولها في صفوف القادة والمقاتلين، وهو ما يهدد بانشقاقات وولادة تشكيلات مسلحة جديدة أكثر تشدداً وانفلاتاً من رقابة القيادة السياسية، وكسر الكثير من الخطوط الحمراء التي لم تتجاوزها حماس خلال العقود الماضية.

وتدرك قيادة حماس أن أي قرار غير محسوب في هذا السياق قد يفجّر صراعاً داخل صفوفها، بين من يرون البقاء في السلطة أولوية وبين من يعدّون المقاومة المسلحة أساس وجود الحركة.

أفراد من كتائب القسام التي تمثل الجناح العسكري لحماس (أ ف ب)
ثانياً: معوّقات مرتبطة بالساحة الوطنية

فلسطينياً، وضمن سياق الخلافات القائمة بين الحركات الفلسطينية، فإن السلطة الفلسطينية التي تعاني هشاشة مؤسساتية وفقداناً للشعبية، إضافة إلى المطالبات الإقليمية والدولية بإصلاحها، لديها قلق كبير من أن تحول حماس إلى حزب سياسي قد يمكنها من ملء الفراغ الذي أوجده تراجع حركة فتح في الشارع، مستندة إلى ضعف تأثير قيادات فتح وشرعية المقاومة التي اكتسبتها حماس.

 ومن هنا فإن السلطة لن تقبل بسهولة بفتح الباب أمام حماس للتموضع كحزب سياسي، بل ستسعى لعرقلة هذا المسار بكل ما لديها من أدوات، خشية خسارة ما تبقى من نفوذها ومكانتها.

 السلطة الفلسطينية لن تقبل بسهولة بفتح الباب أمام حماس للتموضع كحزب سياسي بل ستسعى لعرقلة هذا المسار بكل ما لديها من أدوات

ثالثاً: معوّقات إقليمية ودولية تحكم قرار التحول

عربياً، تكمن الإشكالية في هوية الحركة قبل سلاحها، فالدول العربية المناوئة للإخوان المسلمين، وعلى رأسها مصر والإمارات والسعودية والأردن ولو بدرجة أقل ترى في فكر الجماعة خطراً وجودياً، لذا لن تمنح الشرعية لتحول يبقي خلايا الحركة الأيديولوجية نشطة، خصوصاً وأن هذه الدول هي ممول الإعمار الوحيد.

بالمقابل فإن تركيا وقطر الداعمان التقليديان للإخوان المسلمين ومنهم حركة حماس، يضبطان توجهاتهما وفق مصالحهما مع واشنطن، وبالتالي هذا الأمر يقلل من قدرة حماس على المناورة، فأنقرة والدوحة رغم أنهما ستحاولان الترويج لتحول منضبط لحماس كضمانة للاستقرار في غزة، إلا أنهما لن تذهبا إلى حد تعريض علاقاتهما مع إدارة ترامب للخطر من أجل دعم بقاء الحركة.

أما إسرائيل، فهاجسها الأمني يبقى هو المحدد والمحرك الرئيسي لموقفها، فحتى لو قبلت واشنطن بتسييس حماس، فإن اليمين المتطرف في تل أبيب لن يقبل بمثل هذه الخطوة، لذا فإن حكومة بنيامين نتنياهو ليست في وارد تعريض الائتلاف الحاكم للخطر، فنتنياهو يدرك تماماً أن تخلي اليمين المتطرف عنه يعني سقوط الائتلاف، ومواجهة مرحلة الحساب التي تهدد بها الأحزاب اليسارية.

حماس وحلم ترامب بـ “إنجاز تاريخي”

قد تراهن حماس في مسار تحولها على رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تحقيق إنجاز تاريخي وإرث يسجل في تاريخه السياسي، لذا فمن الممكن أن يغض ترامب الطرف عن تاريخ الحركة، لضمان نجاح خطته في غزة، بحيث يطرح تحول حماس كخطوة “إصلاحية” تهدف إلى نزع السلاح ونشر السلام في المنطقة، وتفكيك علاقتها مع الإخوان المسلمين، وإبعادها عن محور إيران.

من المعروف عن ترامب اعتماده سياسة الضغط على الحلفاء والخصوم معاً لفرض ترتيبات تخدم أهدافه، ما يعني أن دول المنطقة قد تواجه ضغوطاً للقبول بصيغة جديدة تُبقي حماس جزءاً من الترتيبات المقبلة في غزة، طالما يضمن ذلك تقدم خطته وعدم انزلاق الأوضاع مجدداً نحو الحرب،

ووفق هذا التصوّر، فإن اندفاع ترامب نحو هذا الخيار، إذا شعر أن استبعاد الحركة بالكامل سيقود إلى فشل مشروعه، قد يمنح حماس فرصة للبقاء سياسياً، لكنها فرصة مشروطة قد لا تتمكن الحركة من الاستجابة لكل متطلباتها.

 إذا شعر ترامب أن استبعاد حماس بالكامل سيقود إلى فشل مشروعه قد يمنح الحركة فرصة للبقاء سياسياً لكنها فرصة مشروطة

في ظل كل ذلك، فإن مستقبل تحول حماس من جماعة مسلحة إلى حزب سياسي، يبدو تماماً أنه ليس بالأمر السهل، أو مجرد قرار تتخذه الحركة سواء عن قناعة أو وسيلة للعبور من نفق المرحلة، فالحركة ليست مَن سيحدد نجاح أو فشل التحول، بل المعطيات الداخلية والخارجية المحيطة بها.

وبناء على هذا الواقع يبدو أن السيناريوهات التي من الممكن حدوثها في المرحلة المقبلة، رغم تفاوت نسبها إلا أنها تتلخص في ثلاث مسارات رئيسية:

السيناريو الأول، يستند إلى فرضية تحول جذري في حماس، وحلّ الجناح العسكري كلياً، وقطع الصلة تنظيمياً مع جماعة الإخوان المسلمين، والمشاركة في إدارة القطاع ضمن منظومة فلسطينية أوسع، مقابل تمويل عربي لإعادة الإعمار واعتراف دولي بالحركة بصفة سياسية.

ورغم أن نجاح هذا السيناريو يوفّر استقراراً نسبياً ويُسرّع عملية الإعمار، إلا أن صعوبته تكمن في أنه سيصطدم مباشرة مع بنية الحركة الفكرية والتنظيمية، ما يجعله احتمالاً ضعيفاً.

السيناريو الثاني، يتمثل في التحول الشكلي، بحيث تبقي فيه حماس على بنيتها الأيديولوجية والعسكرية، مع تقديم تنازلات محسوبة تسمح لها بتكييف وجودها مع المرحلة دون تغييرات جوهرية في هويتها، وهذا السيناريو متوسط الاحتمالية.

وفي هذه الحالة ستبقى الضغوط الدولية والإقليمية قائمة، وسيستمر رفض تمويل الإعمار بشكل واسع، مع بقاء غزة في حالة “تجميد سياسي وأمني” دون تقدم حقيقي، مما يفتح المجال أمام بروز تيارات جديدة أكثر تشدداً وتنافساً للحركة.

السيناريو الثالث، وهو الأكثر ترجيحاً، يتمثل في استمرار حماس بالتمسّك بسلاحها وبقائها في السلطة دون المضي في تنفيذ شروط خطة ترامب، ما يؤدي إلى إنهاك بنيتها العسكرية وتنظيمها السياسي دون انهيار كامل.

وخطورة هذا المسار تكمن في الفراغ الأمني الذي قد يخلقه، وعودة الفوضى وظهور جماعات مسلّحة موازية أو متصارعة، وهو ما قد تستغله إسرائيل لتفجير الوضع مجدداً، وإفشال كامل خطة ترامب في غزة.

مسلحو حماس في وسط قطاع غزة (أ ف ب)

وبناء على ذلك، فإن تحليل مستقبل حماس لا يمكن فصله عن معادلة أشد تعقيداً، فلا إعمار من دون تمويل عربي، ولا تمويل من دون قطع صلات الحركة بالإخوان المسلمين، ولا نزع للسلاح دون ضمانات أمريكية بأن حماس لن تُستأصل من المشهد تماماً.

ومع غياب أي التزام واضح بمسار سياسي يحقق الأمن للإسرائيليين والفلسطينيين معاً، يبدو أن “خلطة ترامب – كوشنير” لن تنتج أكثر من عملية تخدير مؤقت للوضع في غزة، بانتظار جولة جديدة من الصراع والدماء، فنجاح تحول حماس أو فشله ليس جوهر المشكلة، لأن الحركة وُلدت قبل أربعة عقود، بينما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يقترب من إكمال قرن دون حل.

 مع غياب أي التزام واضح بمسار سياسي يحقق الأمن للإسرائيليين والفلسطينيين معاً يبدو أن “خلطة ترامب – كوشنير” لن تنتج أكثر من عملية تخدير مؤقت للوضع في غزة

وفي النهاية، الجميع يرفض الجميع، والمبادرات تولد وتتعثر، ويبقى السؤال معلّقاً كما كان دائماً: هل يمكن هندسة المستقبل السياسي لغزة بمعزل عن حلّ الصراع ذاته؟. 

عمر القاسم

عمر القاسم

المؤسس ورئيس تحرير منصة إيغل إنتيلجنس ريبورتس، المتخصصة في التحليل السياسي والاستراتيجي المعمّق. يمتلك خبرة طويلة في العمل الإعلامي، ويقدّم قراءات تحليلية تغطي قضايا الجغرافيا السياسية، الصراعات الدولية، والتحولات في موازين القوى العالمية.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.