تحوّل ترامب والنظام الأطلسي الجديد

تقرير
قادة دول الناتو خلال اجتماعهم الأخير (أ ف ب)
قادة دول الناتو خلال اجتماعهم الأخير (أ ف ب)
ﺷﺎرك

لم تعيد الولاية الثانية لدونالد ترامب العلاقات عبر الأطلسي إلى نمطها التقليدي، بل دفعت التحوّل الذي بدأ في ولايته الأولى إلى الأمام، حيث باتت ملفات الأمن والدبلوماسية والاقتصاد تتحرّك بعيداً عن رؤية استراتيجية مشتركة، وتتجه أكثر نحو نهج يقوم على المساومة والالتزامات المشروطة.

وباتت أوروبا اليوم تواجه الولايات المتحدة بوصفها شريكاً يتعامل مع الدعم والضمانات وفتح الأبواب على أنها أوراق تبادل تُحدَّد وفق الحوافز السياسية والاعتبارات المالية.

تكشف المفاوضات الجارية في جنيف بشأن أوكرانيا ملامح هذا الواقع الجديد؛ فالعلاقة التي كانت تُدار سابقاً كتحالف واضح المعالم أصبحت اليوم ساحة مساومة، يطرح فيها كلٌّ من واشنطن وأوروبا رؤى متباينة حول القيادة والمسؤوليات وشكل الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب.

جنيف خط التصدع الجديد

أظهرت جولات المفاوضات الأخيرة في جنيف بوضوح التحولات الهيكلية في العلاقات عبر الأطلسي، حيث قدّمت واشنطن اقتراحها المؤلف من 28 نقطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا، الذي صاغته بشكل أحادي وقُدّم إلى أوروبا وكييف كإطار شبه نهائي، ليكون أبرز تجسيد لما يُعرف بـ«التحوّل الثاني» لترامب.

ويعتمد منطق الخطة بشكل واضح على المعاملات: فالدعم الأمني الأمريكي مشروط، وقابل للرجوع عنه، ومرتبط بتقاسم التكاليف، وتقديم تنازلات في الموارد، والالتزامات طويلة الأجل من الدول الأوروبية.

اما مقترح الاتحاد الأوروبي المضاد الذي صيغ  بعد ليلة من المشاورات المكثفة بين الدول الأعضاء، مع تغيير محور التركيز بعيداً عن التنازلات الإقليمية وآليات التنفيذ الخاضعة للسيطرة الأمريكية، فهو يُعطي الأولوية للرقابة الأوروبية على الضمانات الأمنية، ويؤكد دور أوكرانيا في التفاوض على أي خط لوقف إطلاق النار، ويقدّم آلية مراقبة بقيادة أوروبية تعمل حتى في حال خفضت واشنطن مستوى مشاركتها.

هذا الاختلاف يكشف عن توتّر بنيوي أعمق، إذ لم تعد جنيف مجرد مقر للمفاوضات حول أوكرانيا، بل أصبحت منصة يختبر من خلالها كل من واشنطن وأوروبا رؤيتهما المتنافسة للنظام بعد الحرب، حيث يصرّ مفاوضو ترامب على أنّ الولايات المتحدة ستستمر في “تقديم القيادة”، لكن فقط بشروط تصحح ما يرونه عقوداً من “تقاسم الأعباء غير المتوازن”.

لم تعد جنيف مجرد مقر للمفاوضات حول أوكرانيا بل أصبحت منصة يختبر من خلالها كل من واشنطن وأوروبا رؤيتهما المتنافسة للنظام بعد الحرب

من جانبهم، يحذّر الدبلوماسيون الأوروبيون من أنّ أي تسوية تعتمد على ضمانات أمريكية مشروطة قد تنهار بمجرد تغيّر المزاج السياسي في واشنطن، فكلا الطرفين يطالب بالمسؤولية الاستراتيجية، ولا يخفي أي منهما أنّ إعادة ضبط أساسية للعلاقات جارية حالياً.

نظام عبر الأطلسي مُعاد ضبطه

عودة ترامب إلى الرئاسة لم تُعد التوازن عبر الأطلسي الذي كان قائماً قبل عام 2021، بل أنتج تحوّلاً استراتيجياً يستبدل منطق الأمن الجماعي بنموذج تصبح فيه الضمانات الدفاعية، والقدرة على استخدام الطاقة، والوصول إلى الصناعات كأدوات للتفاوض بدل أن تكون ركائز تحالف، حيث يجعل هذا التحوّل الهيكلي العلاقة عبر الأطلسي إلى علاقة أكثر مرونةً وارتباطاً، وأكثر اعتماداً على الظروف، وأكثر وضوحاً في طابعها التبادلي، مقارنة بأي وقت منذ نهاية الحرب الباردة.

لا تزال الأسس الإيديولوجية لـ«أمريكا أولاً» مستمرة، لكن تطبيقها في الولاية الثانية أكثر مدروساً، حيث يحكم ترامب مستنداً إلى ذكريات هزيمته في 2020، وتوقع مقاومة داخل البيروقراطية الأمريكية، ووسط سياسي داخلي يتسم بالمواجهة أكثر من التوافق، فسياساته الخارجية ليست انعزالية ولا متعددة الأطراف، بل ثنائية بشكل حاد، وغالباً ما تكون شخصية وانتقامية بشكل صريح.

يلخّص روبرت سي أوبراين، رئيس مؤسسة الاستراتيجيات العالمية الأمريكية ومستشار ترامب للأمن القومي بين 2019 و2021، هذا التحوّل في عبارة واحدة، معتبراً أنّ ترامب قد “وضع نفسه في موقع الرجل الدولة العالمي الذي لا غنى عنه”.

وبالمقابل، يقدم إيفو دالدر، السفير الأمريكي السابق لدى الناتو وزميل بارز في مركز بيلفر بجامعة هارفارد، قراءة معاكسة تماماً، محذراً من أنّ “التخلي عن النظام العالمي دون النظر لما سيأخذ مكانه هو أقصى درجات الحماقة”، ويشكل هذا التوتر بين القراءتين الإطار الذي تُحاط به أوروبا في مأزقها الحالي.

الأمن كسلعة قابلة للتفاوض

يكمن التحول الأبرز في إعادة تسييس المنطق الأساسي لحلف الناتو، فقد يبدو طلب واشنطن تخصيص 5% من الإنفاق الدفاعي بمثابة صحوة استراتيجية جريئة في أوروبا، إلا أن الدافع الأساسي هو الحذر الدفاعي، وليس التصور المشترك للتهديد، لذلك فإن الخوف من احتمال تقليص الولايات المتحدة لالتزاماتها أو سحبها بالكامل يُشكل عملية صنع القرار الأوروبي بشكل أقوى من الحرب في أوكرانيا نفسها.

قد يبدو طلب واشنطن بتخصيص 5% من الإنفاق الدفاعي بمثابة صحوة استراتيجية جريئة في أوروبا إلا أن الدافع الأساسي هو الحذر الدفاعي وليس التصور المشترك للتهديد

تجسّد سياسة ترامب تجاه أوكرانيا هذا التحوّل بوضوح، فتعليق المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية، يليه إعادة تقديم الأسلحة بشكل مشروط، حول النهج الغربي إلى آلية لتقاسم التكاليف تُدار وفق شروط واشنطن، حيث أصبحت أوروبا تمول الجزء الأكبر من دعم أوكرانيا، بينما تتحكم الولايات المتحدة في الوصول إلى القدرات الحيوية وتحتفظ بحق سحب المساعدات إذا لم تُلبَّ اتفاقيات تقاسم التكاليف.

وفقاً للبيانات المتاحة علنًا من إحاطة البرلمان الأوروبي (EPRS)، ومعهد كيل، والتقارير الحكومية الرسمية، قدمت أوروبا -التي تشمل هنا دول الاتحاد الأوروبي، والمؤسسات الأوروبية، والمملكة المتحدة، والنرويج- النصيب الأكبر من الدعم الرسمي لأوكرانيا منذ بداية الغزو الروسي الشامل في فبراير 2022.

وفي الوقت نفسه، تؤكد تقارير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) وصحيفة فايننشال تايمز أن معظم الأسلحة الرئيسية الموردة إلى أوكرانيا مصدرها الولايات المتحدة أو تعتمد على تراخيص تصدير أمريكية، وتشير بيانات تحويلات الأسلحة من SIPRI إلى أن الولايات المتحدة شكّلت نحو 45 % من الأسلحة الرئيسية التي تم تسليمها لأوكرانيا خلال هذه الفترة.

محاولة الضغط على كييف للنظر في تنازلات مرتبطة بالموارد تؤكد أكثر أنّ المساعدات الأمنية لم تعد قائمة على منطق التحالفات، بل على التبادل التفاوض،

يرى دالدر السفير الأمريكي السابق لدى حلف شمال الأطلسي وزميل بارز في مركز بيلفر بجامعة هارفارد أن هذا السلوك يعكس دولة تعامل التحالفات كترتيبات للحماية وليس كتعبير عن التضامن الاستراتيجي، وبغضّ النظر عن الحكم الأخلاقي، تظل الحقيقة الهيكلية واضحة: الضمانات الأمريكية باتت تتطلب الآن تبريراً مستمراً، وشراءً مستمراً، وإعادة تفاوض مستمرة.

التحوّل الثاني لترامب يحوّل الناتو إلى منصة تصبح فيها الالتزامات غير تلقائية وغير مشروطة، فالمسؤوليات الدفاعية أصبحت تعتمد بشكل متزايد على المساهمة المالية، والتوافق السياسي، والامتثال الصناعي، أما سياسات الطاقة وأدوات التجارة فتعمل كامتداد لقوة التفاوض الأمريكية، وبقي ردّ أوروبا تفاعلياً، مجزأً، ومقيّداً بالاعتماد البنيوي على الولايات المتحدة.

الطاقة والتعريفات الجمركية والتبعية الصناعية

يعيد التحول الثاني لسياسات ترامب تشكيل آليات التفاوض عبر الأطلسي، حيث يجمع بين سياسات الطاقة، والضغوط التجارية، والعلاقات الصناعية الدفاعية ضمن استراتيجية متكاملة للضغط والتأثير، فقد أعادت أولوية الولايات المتحدة في تصدير الغاز الطبيعي المسال صياغة استراتيجيات تنويع مصادر الطاقة الأوروبية، ما دفعها للتماشي بشكل أكبر مع المصالح التجارية الأمريكية.

 كما لم تعد التعريفات الجمركية مجرد أدوات اقتصادية، بل أصبحت أدوات جيوسياسية تُستخدم لاستدراك التنازلات، والتأثير على السياسات الصناعية الأوروبية، وفرض مواءمة استراتيجياتها مع واشنطن.

تشير بيانات سوق الطاقة إلى أن الغاز الطبيعي المسال المصدر من الولايات المتحدة يشكل نحو 50٪ من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال خلال 2024–2025، بارتفاع 20٪ عن 2021، وفي قطاع الدفاع، تظهر قرارات الشراء منذ 2022 تفضيلاً واضحاً بين الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو للمنصات الأمريكية، وعلى رأسها الطائرة F-35، على الرغم من عدم توفر أي مجموعة بيانات عامة تقدم نسبة مجمعة لطلبات الطائرات القتالية الإجمالية.

في الوقت نفسه، أدت ميزانيات الدفاع المتنامية في أوروبا إلى تعميق الاعتماد على الولايات المتحدة بدلاً من تقليصه، ورغم الإنفاق القياسي، لا تزال القدرات الحيوية مرتبطة بالمنصات وسلاسل التوريد وأنظمة الاستخبارات وهياكل القيادة والتحكم الأمريكية.

أدت ميزانيات الدفاع المتنامية في أوروبا إلى تعميق الاعتماد على الولايات المتحدة بدلاً من تقليصه ورغم الإنفاق القياسي لا تزال القدرات الحيوية مرتبطة بالمنصات الأمريكية

وقد وصل الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء الأوروبية في حلف الناتو وكندا إلى أعلى مستوى له منذ نهاية الحرب الباردة، ولا تزال الولايات المتحدة تُمثل الحصة الأكبر من إجمالي الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو، حيث تُساهم بما يقارب ثلثي الميزانية العسكرية الإجمالية للحلف.

 ويتطلب تحقيق معيار الـ 5% من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يُستشهد به كثيراً، من الدول الأوروبية زيادة الإنفاق الدفاعي بمئات المليارات من الدولارات سنوياً  وهو توسع يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه غير قابل للتحقيق مالياً وسياسياً في ظل الظروف الحالية.

تحدد واشنطن تصاريح التصدير، وجداول الإنتاج، ومواعيد التسليم، ما يؤدي إلى شكل من أشكال إعادة التصنيع غير المتكافئة: إذ تدفع أوروبا المزيد من الموارد لكنها لا تحظى بالاستقلالية الاستراتيجية ولا بالنفوذ النسبي على مسار السياسة الأمريكية.

وقد تجلت هذه الديناميكية بوضوح في مفاوضات جنيف، حيث دخل المفاوضون الأوروبيون المحادثات ساعين للحصول على مزيد من السيطرة على البنية السياسية والصناعية لدعم أوكرانيا على المدى الطويل، بينما ركزت واشنطن على الالتزامات المالية وضمانات الشراء، ولا يمكن القول إن النهجين متعارضان بالضرورة، لكنه من الواضح أنهما غير متوافقين جوهرياً.

الغموض الاستراتيجي الأوروبي

تكشف الاستجابة السياسية الأوروبية عن غياب مستمر للتماسك الاستراتيجي، فخطاب السيادة والاستقلالية يتناقض بشكل واضح مع الاعتماد التشغيلي على القدرات الأمريكية، إذ لا يزال التخطيط الدفاعي مُشتتاً، ويُصبح التوحيد الصناعي شعاراً أكثر منه استراتيجية، وحتى في الحالات التي زادت فيها أوروبا من التزاماتها المالية، لم تكسب أي نفوذ يذكر على استراتيجية واشنطن التفاوضية تجاه موسكو أو كييف.

يتجلّى هذا التباين بوضوح أكبر في ملف أوكرانيا، فالقادة الأوروبيون يُعلنون دعمهم الصريح لسيادة أوكرانيا، لكنهم يقرّون في الغرف المغلقة بأن المآل السياسي للصراع ما زال في معظمه يتحدد في واشنطن، وحتى المقترح الأوروبي المضاد في جنيف -الأكثر حذراً، وتمسكاً بسيادة أوكرانيا، والأشد رفضاً لفكرة فرض التنازلات- يبقى اعتماده الأساسي على الدعم الأمريكي في مرحلة التنفيذ.

لقد تحوّل مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية إلى طموح يُرفع في الخطابات أكثر منه مبدأً موجّهاً للسياسات، والنتيجة هي حالة من عدم التكافؤ في النفوذ أعمق مما كانت عليه في أي وقت منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.

القادة الأوروبيون يُعلنون دعمهم الصريح لسيادة أوكرانيا لكنهم يقرّون في الغرف المغلقة بأن المآل السياسي للصراع ما زال في معظمه يتحدد في واشنطن

عالم محكوم بالمجالات لا بالأنظمة

يمثل عهد ترامب الثاني خروجاً واضحاً عن نهج المنافسة الصفرية الذي طبع ولايته الأولى، فبدلاً من السعي لفرض النفوذ في كل مكان، باتت واشنطن تُعطي الأولوية للنصف الغربي من الكرة الأرضية، وتمارس ضغوطاً انتقائية في أوراسيا، وتعتمد بشكل متزايد على أدوات الإكراه الاقتصادي لإدارة علاقاتها مع القوى الكبرى، ويعكس هذا التوجّه قبولاً ضمنياً بعالم تُحدده مجالات النفوذ أكثر مما تحكمه أنظمة دولية متماسكة.

لقد اكتسب تحذير دالدر من أن تفكيك نظام ما بعد الحرب دون بناء بديل له سيخلق فراغات استراتيجية أهميةً متزايدة، فلم يُفصِح ترامب عن هيكلية بديلة، بل يعتمد على صفقات قصيرة الأجل، ووقف إطلاق نار مؤقت، ومساومات تكتيكية، وهذه الإجراءات قادرة على وقف العنف -كما حدث في الشرق الأوسط وأفريقيا الوسطى وجنوب آسيا- لكنها لا تحل النزاعات الكامنة، فكثيراً ما يُساء فهم الهدوء المؤقت على أنه سلام دائم.

تعكس مفاوضات جنيف نفسها هذا المنطق؛ إذ تسعى الولايات المتحدة إلى وقفٍ لإطلاق النار يقلّل من انكشافها وتكاليف انخراطها، بينما تبحث أوروبا عن تسوية تضمن الحفاظ على سيادة أوكرانيا، في حين تسعى روسيا إلى اتفاق يرسّخ مكاسبها الإقليمية ويمنحها، ولو جزئياً، نفوذاً في هندسة المنظومة الأمنية الأوروبية، وهذه المقاربات الثلاث لا تلتقي في أي نقطة حتى الآن.

ترامب يصافح رئيسة مفوية الاتحاد الأوروبي (أ ف ب)
ثلاثة سيناريوهات للمفاوضات عبر الأطلسي

تشير عملية جنيف إلى ثلاثة مسارات متوقعة على المدى المتوسط:

التبادل المدار  (60%)

في هذا السيناريو، تقبل أوروبا إلى حدٍّ كبير بالشروط الجديدة، فتبقي على الضمانات الأميركية عبر دفع تكاليف أعلى، وتوقيع عقود طويلة الأجل للغاز الطبيعي المُسال، والدخول في اتفاقات تصنيع مشترك، ويستمر الحلف، لكنه يصبح أقرب إلى صيغة «حماية مقابل مزايا»، وهذا المسار هو الأقل مقاومة، والأرجح حدوثاً ما لم تطرأ أزمة كبرى تغير الحسابات.

 الانفصال المنضبط  (25 %)

يؤدي التوصل إلى تسوية بشأن أوكرانيا في عامي 2026–2027 إلى خفض كبير في الانخراط الأميركي المباشر، يتبعه سحبٌ للقوات الأميركية في أوروبا إلى ما دون خمسين ألف جندي، وفي المقابل، تتحرك أوروبا عبر تسريع تشكيل “تحالف الراغبين” تقوده فرنسا وبولندا ودول البلطيق والدول الإسكندنافية والمملكة المتحدة، مع بلورة ترتيبات أولية لتقاسم القدرات النووية الأوروبية، ورغم بقاء الهياكل الرسمية لحلف الناتو، إلا أن مركز الثقل الأمني ينتقل تدريجياً إلى الضفة الأوروبية من الأطلسي.

عودة الهيمنة الأميركية على النظام الأطلسي  (15 %)

يدفع خطأ كبير من جانب روسيا أو الصين -سواء كانت هجوماً يستهدف الاتحاد الأوروبي أو الناتو، أو اندلاع أزمة حول تايوان- الولايات المتحدة إلى استعادة دورها التقليدي كقوة مهيمنة بشكل سريع، ما يمنح أوروبا فرصة ضيقة لتوحيد قاعدتها الدفاعية-الصناعية تحت غطاء سياسي أميركي.

سيُحسم المسار الذي سينتصر في النهاية لا بفعل الأيديولوجيا، بل تبعاً لمسار الحرب في أوكرانيا، وحجم التحديات الصينية في المحيطين الهندي والهادئ، وقدرة أوروبا على تحويل التزاماتها المالية إلى نفوذ سياسي وعملياتي حقيقي.
وإلى أن يحدث ذلك، تظل جنيف مختبراً لعلاقة عبر الأطلسي لم تعد ترتكز إلى الثقة، بل إلى تفاوض مستمر.

مهما كان الرأي في نهج ترامب، فإن أسس التعاون عبر الأطلسي قد تغيّرت، فالأمن لم يعد مفهوماً ضمنياً، بل أصبح نتيجة تفاوض،  ولم يعد النفوذ نابعاً من مجرد الاصطفاف السياسي، بل من القدرة على الدفع، وصنع النفوذ، والتأثير في الحوافز السياسية داخل الولايات المتحدة، حيث تلعب أوروبا دوراً محورياً في تمويل النظام الناشئ، لكنها ما تزال على الهامش عندما يتعلق الأمر بصياغته وتحديد ملامحه.

أما مستقبل المساومات عبر الأطلسي فلن تحدده الالتزامات المُعلنة ولا الذاكرة المؤسسية، بل ستحدده الأسعار وأدوات الضغط والاشتراطات وهي السمات الأساسية للمحور الثاني لترامب، وللقوى التي تشكّل عملية جنيف الجارية اليوم.

ألكسندر دوبوي

ألكسندر دوبوي

الدكتور ألكسندر دوبوي، محلل مقيم في فيينا متخصص في المخاطر الجيوسياسية والأمن في أوروبا الشرقية وروسيا والمنطقة ما بعد السوفيتية، ويتمتع بخبرة تزيد عن 20 عاماً في مجال البحث والاستشارات والتحليلات السياسية، ويعمل مع معاهد بحثية ومراكز فكرية دولية رائدة. يُضفي دوبوي على تحليلاته رؤى جيوسياسية وقانونية معمقة، بخبرة إقليمية واسعة، ووجهات نظر عملية.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.