الضمانات الأمنية غير المسبوقة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقطر، مهدت الطريق لاتفاق وقف إطلاق النار الأخير في غزة، وساهمت إلى جانب تدابير أخرى، في طمأنة القادة العرب بشأن أهمية شراكتهم مع الولايات المتحدة، ورغم أنها لا ترتبط باتفاق الدفاع السعودي-الباكستاني الذي وقع مؤخراً، إلا أن تقديم مثل هذه الضمانات الإضافية يساعد واشنطن في الحفاظ على دعم الحلفاء الذين قد يسعون إلى تحالفات بديلة.
يستعرض هذا التحليل، الأسباب وراء الضمانات الأمنية الجديدة التي قدّمتها الولايات المتحدة والإجراءات المرتبطة بها، والتي تمثّل الهدف المباشر لواشنطن في الحفاظ على السياسات القائمة من خلال استعادة مصداقيتها كفاعل أمني رئيسي من خارج المنطقة في الشرق الأوسط، ثم يقيّم الأثر الفوري والمحتمل طويل الأمد لهذه التدابير الأمريكية.
أسهمت هذه الإجراءات على المدى القصير في تحفيز الجهود الدبلوماسية الإقليمية التي أفضت إلى وقف إطلاق النار في غزة، أما على المدى البعيد، فقد تساهم في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية ضمن ميزان القوى الإقليمي من خلال ثني دول الخليج عن السعي وراء تحالفات بديلة، كما يستعرض التحليل السيناريوهات المحتملة لعلاقة الولايات المتحدة الأمنية مع شركائها في المنطقة.
على المدى البعيد قد تساهم الضمانات الأمريكية في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية ضمن ميزان القوى الإقليمي عبر ثني دول الخليج عن السعي وراء تحالفات بديلة
تغيير المعادلة الإقليمية
أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأول من أكتوبر أمر تنفيذي، وأكد أن “سياسة الولايات المتحدة هي ضمان أمن دولة قطر وسلامة أراضيها ضد أي هجوم خارجي”، بصيغة تشبه تلك المستخدمة في الضمانات الأمنية التي تقدمها واشنطن لحلفائها العسكريين الأقرب في أوروبا وآسيا، وبشكل صريح، وصفت الولايات المتحدة قطر بأنها أهم شريك عسكري لها في منطقة الخليج.
في الوقت الراهن، لا تعد خطوة ترامب تحولاً بنيوياً في استراتيجية واشنطن تجاه الخليج، إذ كان الأمر التنفيذي الجديد واحداً من عدة خطوات تعويضية اتخذتها الولايات المتحدة عقب الهجوم الإسرائيلي على قطر، حيث شكّل عجز واشنطن أو عدم رغبتها في منع الغارة الجوية التي وقعت في 9 سبتمبر، صدمة لقطر وجيرانها، الذين كانوا يعتقدون أن علاقاتهم الواسعة مع الولايات المتحدة كفيلة بمنع حدوث مثل هذا الهجوم، فدولة قطر تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، كما صنّفتها الولايات المتحدة كحليف رئيسي من خارج الناتو، ومع ذلك، لم تحمِ هذه الروابط ولا غيرها أراضيها من الاستهداف.
رداً على حالة التباعد التي ظهرت بين واشنطن وشركائها في الخليج، اتخذ ترامب خطوات جريئة للحفاظ على دعمهم، إذ يجب النظر إلى الأمر التنفيذي كجزء من حزمة تطمينات قدّمها ترامب لقطر، وبشكل غير مباشر لبقية أعضاء مجلس التعاون الخليجي، حيث كان الأمر التنفيذي صريحاً بما فيه الكفاية، على عكس الضمانات الأمنية الأمريكية الضمنية السابقة، بالإضافة إلى تأكيده التزام الولايات المتحدة بأمن الخليج، حيث يمكن لهذه الخطوة أن تعزز البنية العسكرية القائمة بين قطر والولايات المتحدة، بمجرد ترجمتها إلى مشاريع عملية ملموسة.

التحوّل في نهج ترامب
لطالما انتقد ترامب التعهدات الأمنية الأمريكية على مدى سنوات بسبب ما تحمله من مخاطر التورط في صراعات خارجية، إلا أن قطر معرضة للتهديد بشكل كبير، إذ تعرضت لهجومين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، الأول من إيران والثاني من إسرائيل، ولا تزال في موقع هش نظراً لموقعها الجغرافي وقدراتها المحدودة في مجال الدفاع الذاتي، إذ وجّه أعضاء بارزون في حركة “اجعلوا أمريكا عظيمة مجدداً” انتقادات لترامب، معتبرين أن تقديمه التزامات أمنية إضافية لقطر يُعد انحرافاً عن مبدأ “أمريكا أولاً” الذي طالما تبناه.
ومع ذلك، لا تشير الضمانات الأمنية الجديدة المقدّمة لقطر إلى تغيّر في الأهداف العسكرية الأمريكية أو في هيكلية قواتها في منطقة الخليج، حيث شكّل الأمر التنفيذي خطوة منخفضة المخاطر، على اعتبار أن البيت الأبيض حصل مسبقاً على تعهّد من نتنياهو بعدم تنفيذ هجوم مماثل، وفي الوقت ذاته، تسعى الحكومة الإيرانية، في ظل ضعف قدراتها العسكرية ومحورها الإقليمي، إلى تحسين علاقاتها مع جيرانها في الخليج بهدف تخفيف الضغوط الدولية بشأن برنامجها النووي، وبالتالي، تمكّن ترامب من تقديم هذه الضمانات لقطر وهو مطمئن إلى حدّ ما بأنه لن يُضطر إلى تفعيلها عملياً.
تُعد هذه الضمانات أحدث دليل على أن ترامب أصبح أكثر تقبّلاً للتحالفات الدفاعية، والالتزامات الأمنية، والتعددية الانتقائية في ولايته الثانية، فهو لم يعد يهدد بالانسحاب من حلف الناتو، بل أيد تقديم الحلف لضمانات أمنية كجزء من أي اتفاق سلام محتمل في أوكرانيا.
الضمانات أحدث دليل على أن ترامب أصبح أكثر تقبّلاً للتحالفات الدفاعية والالتزامات الأمنية، والتعددية الانتقائية في ولايته الثانية
وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حافظت إدارة ترامب على دعمها للتحالفات الأمريكية مع كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا والفلبين، كما واصلت العمل على مشاريع أمنية إقليمية سابقة، مثل الحوار الأمني الرباعي “كواد”، والشراكة الصناعية الدفاعية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة “أوكوس”.
يشير عدد من المراقبين إلى أن الضمانات الأمنية الجديدة المقدّمة لقطر جاءت على شكل أمر تنفيذي، وليس عبر معاهدة رسمية، إذ يمكن للرئيس الأمريكي إصدار أمر تنفيذي استناداً إلى سلطته الخاصة، بينما تتطلّب المعاهدة مصادقة مجلس الشيوخ، ونظراً لصعوبة التوصل إلى توافق داخل الكونغرس في الوقت الراهن، أصدر ترامب مئات الأوامر التنفيذية منذ عودته إلى الرئاسة.
وعلى الصعيد العملي، فإن الفروق بين الشكلين ليست جذرية؛ إذ انسحب الرؤساء من كل من الاتفاقيات التنفيذية والمعاهدات، فعلى سبيل المثال، التزم باراك أوباما بالاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 عبر اتفاقية تنفيذية، وهو ما ألغاه ترامب في عام 2018، ويفكّر ترامب حالياً في عرض روسي لتمديد معاهدة “نيو ستارت”، وهي معاهدة دولية صادق عليها مجلس الشيوخ، لعام إضافي عبر أمر تنفيذي.
الحفاظ على القيادة الدبلوماسية والأمنية الأمريكية
يمكن القول إن حزمة الضمانات التي قدمها ترامب كانت حاسمة في الحفاظ على مشاركة دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة في عملية السلام في غزة، حيث أدى الهجوم الإسرائيلي على قطر إلى زيادة مشاركة الرئيس في الأنشطة الدبلوماسية في الشرق الأوسط، رغم أن البيت الأبيض نشر الأمر التنفيذي في الأول من أكتوبر، إلا أن ترامب وقع الوثيقة في 29 سبتمبر الماضي، وهو اليوم الذي التقى فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، وأثناء وجوده هناك، حث ترامب نتنياهو على الاعتذار لرئيس وزراء قطر عن الهجوم، وكان قبل ذلك قد عقد ترامب اجتماعاً خاصاً في نيويورك مع القادة العرب على هامش الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة.
جميع هذه الخطوات أكدت التزام الولايات المتحدة بأمن شركائها وبالحفاظ على مشاركتهم في عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وكما كان متوقعاً فقد أوقفت هذه الإجراءات التراجع الفوري في العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين، فعلى الأقل برأت الولايات المتحدة أمام قادة الخليج علنياً، من التورط المباشر في الهجوم الإسرائيلي على قطر، ويبدو أنهم واثقون من عدم تكراره، كما أن القادة يقدّرون اهتمام البيت الأبيض المتجدد بمخاوفهم.
على المدى الطويل، سيكون لدى حلفاء دول مجلس التعاون الخليجي فرص إضافية للابتعاد عن اعتمادهم الحالي المفرط على الولايات المتحدة، فالعمليات الأمنية الخارجية للصين آخذة في التوسع؛ وستزداد الدبلوماسية العسكرية الروسية في أعقاب حرب أوكرانيا، في حين أن باكستان وربما دول أخرى مثل الهند قد توسع التزاماتها الأمنية في الخليج.
على المدى الطويل سيكون لدى حلفاء دول مجلس التعاون الخليجي فرص إضافية للابتعاد عن اعتمادهم الحالي المفرط على الولايات المتحدة
السيناريوهات المستقبلية
إذا استمر قادة دول مجلس التعاون الخليجي في تقدير القيادة الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة، فإن شراكتهم الأمنية قد تتوسع وتتعمق، وإذا أصبحت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي غير راضية عن واشنطن، فإنها قد تعيد توجيه تعاونها الدفاعي نحو الداخل، أو بدلاً من ذلك، قد تسعى إلى إقامة شراكات أمنية مع قوى عسكرية كبرى أخرى، على غرار اتفاق الدفاع المتبادل الذي أبرمته المملكة العربية السعودية مع باكستان مؤخراً، والذي استبعد الولايات المتحدة.

توسيع العلاقات الأمنية الأمريكية
يمكن أن يتجه تعزيز التعاون الأمني بين مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة في اتجاهين، الأول، قد تقدم الولايات المتحدة ضمانات أمنية معززة مماثلة لباقي أعضاء مجلس التعاون الخليجي، ولن يكون من المستغرب أن تسعى الحكومات الخليجية الأخرى للحصول على مثل هذه الالتزامات، والتي تتوقع معاملة بالمثل، نظراً لروابطها الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية الوثيقة مع الولايات المتحدة، ومن المرجح أن تستجيب واشنطن لهذا الطلب للحفاظ على دعمهم وتعزيز هيكل أمني إقليمي متكامل تقوده الولايات المتحدة، سواء بصفة قانونية أو فعلية.
الثاني، يمكن أن تتعمق الشراكة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث تستكمل الولايات المتحدة الضمانات الأمنية غير الرسمية أو تستبدلها بمعاهدة دفاع رسمية أو أكثر مع بعض دول المجلس، لطالما سعت الحكومتان السعودية والإماراتية إلى إبرام اتفاقية دفاع أكثر رسمية، علاوة على ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تعمل على مواءمة السياسات الأمنية لدول مجلس التعاون مع إسرائيل، بشكل غير معلن في البداية، ثم بصورة أكثر وضوحاً في حال تحسنت العلاقات بين الجانبين بعد انتهاء حرب غزة، أو استجابة لتصاعد التهديدات العسكرية الإيرانية.
رغم أن هذا التكامل الأمني الواسع والعميق سيعزز الحماية الجماعية لكل من واشنطن وشركائها في الخليج، إلا أنه سيؤدي أيضاً إلى زيادة التبعية المتبادلة، إذ ستصبح دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة أكثر عرضة للتورط في صراعات بعضهم البعض، كما أن دفاعاتهم الجماعية ستتأثر سلباً في حال أخفق أي طرف في الوفاء بالتزاماته.
التكامل الأمني الواسع والعميق سيعزز الحماية الجماعية لكل من واشنطن وشركائها في الخليج إلا أنه سيؤدي أيضاً إلى زيادة التبعية المتبادلة
مجلس تعاون خليجي أكثر استقلالية
يمكن لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي التخفيف من نقاط الضعف المتمثلة في الاعتماد بشكل أساسي على الضمانات الأمنية الأمريكية، والتي ستكون عرضة للتغيرات في السياسة الأمريكية بعد مغادرة ترامب منصبه، عبر تعزيز تحالفاتها الدفاعية داخلياً وتوجيهها نحو شركاء آخرين في مجلس التعاون الخليجي.
في الشهر الماضي، التزم مجلس الدفاع المشترك لدول مجلس التعاون الخليجي بتبادل المزيد من المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات الجوية والصاروخية، إذ يمكن للأنظمة الملكية الخليجية تعزيز قدراتها وتوفير المال عبر تجميع المزيد من الموارد، والمشاركة في تدريبات متعددة الجنسيات منتظمة، وبناء نظام قيادة وتحكم أكثر تكاملاً.
لكن يتعيّن على دول مجلس التعاون الخليجي إخراج القوات والقواعد الأمريكية من أراضيها لإنشاء هيكل عسكري مستقل تماماً، وإلا، فإن مشاكل تجنب الصراع ستكون مستعصية على الحل، حيث ستستخدم القوات الأمريكية دفاعاتها الخاصة في حالة تعرضها لهجوم، علاوة على ذلك، لن يتمكن مجلس التعاون الخليجي، حتى بشكل جماعي، من تعويض خسارة القدرات الاستخباراتية واللوجستية والتكنولوجية الأمريكية في المستقبل القريب.
التعاون مع شركاء من خارج الولايات المتحدة
إذا قلصت دول مجلس التعاون الخليجي تعاونها الدفاعي مع الولايات المتحدة، فقد تلجأ إلى شركاء أجانب آخرين للحصول على قدرات بديلة، ومن شأن إبرام اتفاقيات أمنية مع مجموعة متنوعة من الشركاء الخارجيين أن يحد من الاعتماد على أي على طرف أجنبي واحد كمصدر رئيسي للحماية.
تُعدّ الصين وروسيا والدول الأوروبية أبرز الشركاء الدفاعيين المحتملين من خارج الولايات المتحدة، إذ إن دول مجلس التعاون الخليجي تشتري بالفعل أسلحة وتقنيات تكنولوجية مزدوجة الاستخدام من هذه الدول، فرغم القيود التي تواجهها روسيا حالياً بسبب متطلباتها الداخلية المتعلقة بحرب أوكرانيا، إلا أنها كانت تاريخياً من أبرز موردي الأسلحة عالمياً، ولا سيما إلى الدول العربية.
أما الصين، فقد نجحت في احتلال مكانة متميزة في سوق الأسلحة من خلال بيع أنظمة مبنية على التصاميم الروسية ولكن بتكلفة أقل، كما توفّر بعض الشركات الأوروبية أنظمة تسليح متقدمة، ومن المحتمل أن تستضيف دول الخليج تدريبات عسكرية مع هذه الدول، وتوسّع من برامج التبادل العسكري، وتشارك في أنشطة أخرى لتعزيز الروابط الدفاعية المتبادلة.
ومع ذلك، فإن التعامل مع عدة موردين سيكون تحدياً كبيراً، نظراً لضرورة الحفاظ على سلاسل إمداد متداخلة وعمليات صيانة متنوعة، فإذا تدهورت علاقة أحد أعضاء مجلس التعاون مع شريك دفاعي رئيسي، أو وجد نفسه في موقف صراع بين شركاء متنافسين، كما حدث مع تركيا عند شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية (S-400)، فقد تتعرض مجمل الشبكة الدفاعية الجماعية لمجلس التعاون لعواقب مثل قيود التصدير، والعقوبات، وغير ذلك من الإجراءات.
بالمحصلة، إذا استمرت الجهود الدبلوماسية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي في إحراز تقدم، وأدت الضمانات الأمنية الجديدة إلى ردع أي هجمات أخرى على قطر أو جيرانها، فإن الضمانات الأمريكية لقطر قد تشكل سابقة لنوع جديد من الضمانات الدفاعية غير المرتبطة بمعاهدات، يمكن أن تقدمها واشنطن لشركاء آخرين في الشرق الأوسط وخارجه.




