المعادن النادرة في صراع النفوذ بين أمريكا والصين

تقرير
ﺷﺎرك

في إطار تعزيز سيطرتها على التقنيات الحيوية، عمّقت الصين هيمنتها على قطاع العناصر الأرضية النادرة، عبر توسيع القيود لتشمل تقنيات المعالجة والتصنيع الحيوية، بالإضافة إلى المواد الخام، وفرضت نظاماً صارماً لتراخيص تصدير التقنيات المتعلقة بسلسلة قيمة المعادن النادرة بأكملها، بما في ذلك المعرفة الفنية المتعلقة بعمليات الاستخراج، والصهر، والفصل، وتصنيع المواد المغناطيسية، بحجة حماية مصالح الأمن القومي.

تستهدف القيود بشكل صريح استخدام العناصر الأرضية النادرة الصينية والتقنيات المرتبطة بها في سلاسل التوريد العسكرية الأجنبية، حيث تنص على أن الطلبات المخصصة للاستخدامات العسكرية خارج البلاد ستُقابَل بالرفض في الغالب، وتشمل هذه القيود حتى المغانط المصنّعة في الخارج إذا احتوت على كميات ضئيلة من عناصر أرضية نادرة منشأها الصين، أو إذا استُخدمت تقنيات معالجة صينية في إنتاجها، ما يجعلها خاضعة لمتطلبات التراخيص الجديدة.

وبهذه الخطوة، تكون الصين قد حولت احتكارها شبه الكامل لتقنيات الفصل والمعالجة المتقدمة، الضرورية لإنتاج العناصر الأرضية النادرة عالية الأداء، إلى أداة ضغط استراتيجية.

ردّت واشنطن على الإجراءات الصينية بشأن العناصر الأرضية النادرة، حيث صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بيان له: أن “أموراً غريبة جداً” تحدث في الصين، التي أصبحت “عدائية للغاية” عبر فرضها قيود على تصدير العناصر الأرضية النادرة.

 وأكد أن هذه الخطوة ستؤدي إلى “شلل” في الأسواق وستجعل الأمور أكثر صعوبة لجميع دول العالم، بما في ذلك الصين نفسها.

وأضاف ترامب: إنه “لا يرى سبباً للقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال القمة الثنائية المتوقعة على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، والمقرّر عقدها في كوريا الجنوبية في وقت لاحق من هذا الشهر”.

 كما هدّد بأن الولايات المتحدة ستفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على الصين كردٍّ على هذه الإجراءات.

بعد تصريحاته الأولية، غيّر ترامب موقفه مراراً بشأن الاجتماع مع شي جين بينغ في الأيام التي تلت ذلك، فبعد أن قال أولاً إنه “لا يوجد سبب للاجتماع”، عبّر لاحقاً عن رغبته في “محادثة مثمرة وبنّاءة”، ما أضاف مزيداً من الغموض إلى موقف واشنطن، ثم أصدر تحذيراً جديداً مفاده أنه إذا فشلت مفاوضات التجارة في التوصل إلى اتفاق بحلول الأول من نوفمبر، فسيصدر إعلاناً يرفع بموجبه التعريفات الجمركية على الواردات الصينية إلى 155%، حيث عكس هذا أحد أساليب ترامب المعهودة في استخدام عدم التوقّع كورقة ضغط، محوّلاً تهديدات الرسوم الجمركية إلى أداة تفاوض قبيل محادثاته المحتملة مع شي خلال قمة أبيك في كوريا الجنوبية.

لكن توسيع الصين لضوابط تصدير التكنولوجيا والخبرات، وليس فقط المعادن، سيُسرّع من انقسام سلاسل التوريد العالمية ويزيد من حدة التوترات الجيوسياسية، وهذا يهدد بشكل مباشر قدرة الشركات الأجنبية، وخاصة الأمريكية والأوروبية، على إنشاء سلاسل توريد مستقلة “من المنجم إلى المغناطيس”، وفي ظل هذه القيود، ستخضع طلبات الترخيص المرتبطة بهذه السلاسل لمراجعة حكومية دقيقة على أساس كل حالة على حدة، ما سيؤثر بشكل خاص على الصناعات الدفاعية، التي تُعد عنصراً مهماً في التعاون العسكري والأمني بين الولايات المتحدة وحلفائها في مواجهة الصين.

توسيع الصين لقيود التصدير لتشمل التكنولوجيا والمعرفة الفنية سيُسرّع من انقسام سلاسل التوريد العالمية ويزيد من حدّة التوترات الجيوسياسية

الحسابات السياسية والتوقيت

تُلزم القواعد الجديدة لضوابط التصدير أي كيانات أجنبية بالحصول على ترخيص من بكين لتصدير أي منتجات تحتوي على أكثر من 0.1% من العناصر الأرضية النادرة ذات المنشأ الصيني، أو التي تم تصنيعها باستخدام تقنيات صينية في الاستخراج، أو التكرير أو إنتاج المغانط أو إعادة التدوير.

وقد أُعلن عن هذه الخطوة في 9 أكتوبر 2025، ما أثار ردود فعل دبلوماسية سريعة بين 12 و16 من الشهر نفسه، حيث تبادل المسؤولون الأمريكيون والصينيون تصريحات حادّة قبيل انعقاد قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في كوريا الجنوبية.

دونالد ترامب ورئيس وزراء أستراليا خلال توقيع اتفاقية المعادن الأرضية النادرة (أ ف ب)

وبحسب وزارة التجارة الصينية، فإنه لمنع “إساءة استخدام” المعادن الأرضية النادرة في القطاع العسكري وغيره من القطاعات الحساسة، سيتم رفض منح التصاريح للشركات المرتبطة بالجيوش الأجنبية أو المدرجة على قوائم الرقابة أو قيود التصدير، إضافةً إلى أي طلبات تتعلق بمنتجات يمكن استخدامها في تصنيع الأسلحة أو في أنشطة إرهابية أو لأغراض عسكرية أخرى.

صُممت هذه الضوابط خصيصاً لتكون أداةً للرفض الاستراتيجي، حيث توسّع القواعد الجديدة نطاق الرقابة إلى درجة تتجاوز الحدود الإقليمية، ما يمنحها تأثيراً يتجاوز الأراضي الصينية، بطريقة تُشبه من حيث الوظيفة “قاعدة المنتج الأجنبي المباشر” التي تعتمدها الولايات المتحدة.

يُجبر هذا الشركات الأجنبية، بما في ذلك موردو الدفاع الأمريكيون الرئيسيون العاملون في الخارج، على طلب الموافقة الصينية على أي مغناطيس أو مكون من معادن الأرض النادرة يحتوي، ولو على كميةٍ ضئيلةٍ من مواد صينية المنشأ، أو تم إنتاجه باستخدام تكنولوجيا معالجة صينية، ومن خلال التحكم في المدخلات والتكنولوجيا الأساسية لتكريرها، تستهدف بكين الحلقة الأكثر ضعفاً في سلسلة التوريد العسكرية الأمريكية.

من المتوقع أن تُحدث الإجراءات الجديدة اضطراباً كبيراً في إنتاج الأسلحة الأمريكية، الذي يعتمد بشكل كبير على العناصر الأرضية النادرة والمغانط المعالجة في الصين، حيث تأتي هذه القيود الجديدة بعد الإجراءات التي اتُخذت في أبريل، والتي أدرجت سبع فئات من العناصر الأرضية النادرة متوسطة وثقيلة الوزن، وهي: الساماريوم، والجادولينيوم، والتربيوم، والديسبروسيوم، واللوتيتيوم، والإسكنديوم، والمواد المرتبطة بالإتريوم، ضمن قائمة ضوابط التصدير، وذلك رداً على “التعريفات الانتقامية” التي فرضتها إدارة ترامب على الصين.

وفي أكتوبر 2025، وسّعت بكين القائمة لتشمل الهولميوم، والإربيوم، والثوليوم، واليوروبيوم، والإيتربيوم، إلى جانب تشديد القيود على تقنيات تصنيع المغانط وإعادة تدويرها.

العناصر الأرضية النادرة هي مجموعة مكوّنة من 17 عنصراً تتميز بخصائص فريدة، وقد أصبحت ضرورية للعديد من الصناعات، بما في ذلك الدفاع، والسيارات الكهربائية، والطاقة، والإلكترونيات، وعلى عكس ما يوحي به اسمها، فإن هذه المعادن متوفرة نسبياً بكميات كبيرة، غير أن استخراجها وتكريرها تعدان عمليتين معقدتين وتنطويان على تحديات بيئية كبيرة.

تشكل هذه المواد أساساً لمكونات عسكرية حيوية لا غنى عنها، بما في ذلك المغانط عالية الأداء مثل ساماريوم-كوبالت، التي تُعد ضرورية لأنظمة توجيه الصواريخ والتطبيقات التي تتطلب تحمل درجات حرارة عالية، مثل مقدمة الصواريخ والسبائك المتخصصة، وتعتمد منصات الدفاع الأمريكية الرئيسية بشكل كبير على هذه العناصر، ومنها طائرة إف-35 المقاتلة، وصواريخ توماهوك، والسفن البحرية مثل مدمرات فئة أرلي بورك والغواصات من فئة فيرجينيا.

ومن خلال تقييد تدفق المغانط والتكنولوجيا اللازمة لتصنيعها، تخلق الصين مخاطر فورية لتأخير الإنتاج، وارتفاع التكاليف، وفجوات محتملة في القدرات لشركات المقاولات الدفاعية مثل لوكهيد مارتن ونورثروب جرومان، وتقييد قدرة الولايات المتحدة بشدة على توسيع نطاق تصنيع المعدات العسكرية المتقدمة بسرعة أو حتى الحفاظ عليه.

مع تقييد تدفق المغانط والتكنولوجيا اللازمة لتصنيعها تخلق الصين مخاطر فورية لتأخير الإنتاج وارتفاع التكاليف وفجوات محتملة في القدرات للشركات الدفاعية

على المدى الطويل، تهدد قيود التصدير هذه بتوسيع الفجوة في التفوق التكنولوجي والعسكري، إذ إن هيمنة الصين على عمليات المعالجة، بحكم امتلاكها لأكثر من 90% من القدرة العالمية، تعني أن استخراج العناصر الأرضية النادرة في أماكن أخرى وحده لا يكفي، حيث لا بد من تكرير هذه المواد وتحويلها إلى منتجات نهائية باستخدام التقنيات الصينية التي تخضع للرقابة والتحكم.

رغم أن وزارة الدفاع الأمريكية بدأت في استثمارات بملايين الدولارات تهدف إلى تطوير سلسلة توريد وطنية متكاملة ومستقلة “من المنجم إلى المغناطيس” بحلول عام 2027، إلا أن هذه العمليات ستستغرق سنوات لتحقيق القدرة التشغيلية الكاملة، ما سيُقيّد قدرة واشنطن على تعزيز ميزاتها العسكرية النسبية بسرعة في مواجهة الصين.

ومع ذلك، فقد حرصت وسائل الإعلام الرسمية الصينية على تصوير قيود تصدير العناصر الأرضية النادرة، التي أُعلنت في أكتوبر 2025، ليس كتصعيد أو ممارسة للضغط الاقتصادي، بل كإجراء دفاعي سيادي قائم على “أنظمة قانونية لضبط التصدير”.

 وقد أكدت منابر رسمية مثل صحيفة غلوبال تايمز ووكالة أنباء شينخوا أن هذه الإجراءات تُعتبر “ضوابط تصدير” وليست “حظر تصدير”، مشيرة إلى أنها ستمنح التراخيص للطلبات المتوافقة والمخصصة للاستخدام المدني، بهدف طمأنة الأسواق العالمية.

مقصد استراتيجي مزدوج: النفوذ والردع

تكمن الحسابات السياسية وراء إعلان الصين توسيع قيود تصدير العناصر الأرضية النادرة في أكتوبر 2025، قبل أسابيع قليلة من الاجتماع المقرر بين الرئيسين شي جين بينغ ودونالد ترامب في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهاد في كوريا الجنوبية، في تحقيق أقصى قدر من النفوذ التفاوضي، إذ أدركت القيادة الصينية أن احتكارها شبه الكامل لمعالجة العناصر الأرضية النادرة يمثل أقوى أداة ضغط اقتصادي ضد واشنطن، التي كانت قد صعّدت مؤخراً القيود على الشركات التكنولوجية الصينية، لا سيما في قطاعات أشباه الموصلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي.

لكن بإعلانها عن القواعد الجديدة، التي تستهدف صناعة الدفاع الأمريكية وفرض رقابة تتجاوز الحدود الإقليمية على المنتجات المصنعة في الخارج، تعمدت بكين تهيئة ورقة تفاوضها الاستراتيجية قبل المحادثات التي تتسم بالمخاطر العالية.

ومع ذلك، وعبر تركيز القيود الجديدة على التكنولوجيا والمستخدمين العسكريين النهائيين، استطاعت بكين تقديم هذه الخطوة على أنها إجراء يتعلق بالأمن القومي أمام الجمهور المحلي، مُحاكيةً بذلك مبررات واشنطن نفسها لفرض قيود على الرقائق الإلكترونية وفرض رسوم جمركية، مع ممارسة ضغوط شديدة على القطاعات الصناعية الأمريكية الرئيسية.

يُشير التأجيل في تطبيق القواعد الجديدة الخاصة بتصدير المواد الأرضية النادرة حتى الأول من ديسمبر المقبل إلى أن هذه القيود تُعد بشكل أساسي أداة ضغط دبلوماسي، حيث توفر فرصة لإمكانية التفاوض على تراجع محتمل خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ.

يهدف هذا التصعيد المدروس إلى ترسيخ هيمنة الصين على سلاسل الإمداد العالمية للعناصر الأرضية النادرة، وفي الوقت نفسه إرسال رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة مفادها أن أي محاولات مستقبلية لاحتواء صعود الصين التكنولوجي ستقابل برد مماثل وفعّال يتمثل في تعطيل قواعد الصناعة الحيوية الأكثر أهمية في أمريكا.

التأثير المقارن على قطاعات الدفاع الأمريكية والصينية

يعد توسيع الصين لقيودها على تقنيات العناصر الأرضية النادرة رداً مباشراً واستراتيجياً بالمثل على تصاعد قيود الولايات المتحدة على صناعة أشباه الموصلات، فمنذ أكتوبر 2022، نفّذت الولايات المتحدة بشكل منهجي ووسّعت ضوابط التصدير، بما في ذلك قاعدة المنتج الأجنبي المباشر، لمنع وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة وتقنيات تصنيع الرقائق، حيث تعتمد هذه القيود الأمريكية على نقطة ضغط رئيسية في سلسلة التوريد العالمية، وهي الهيمنة الأمريكية على أدوات تصميم الشرائح، ومعدات التصنيع، والملكية الفكرية.

كما تعد خطوة الصين الانتقامية استراتيجية مماثلة تعكس الأخرى الأمريكية، حيث تستخدم هيمنتها شبه الاحتكارية، من خلال سيطرتها على معالجة العناصر الأرضية النادرة وتقنيات تصنيع المغانط، لاستهداف الصناعات الأمريكية الحيوية، لا سيما قطاعات الدفاع والتصنيع المتقدم، وقد سبق أن أنذرت ردود بكين على المعادن الحيوية مثل الجاليوم والجرمانيوم بهذه الخطوة، لكن إجراءات العناصر الأرضية النادرة الجديدة تمثل أقوى تدبير مضاد على مستوى المصادر الأولية حتى الآن، حيث تستهدف المواد الخام والمعرفة الفنية التي تشكل أساس التفوق التكنولوجي الأمريكي.

 وهذا يخلق عدم تناسق زمني في التأثير، فبينما تفرض القيود الأمريكية على أشباه الموصلات اختناقات تكنولوجية طويلة الأمد على الصين، تؤدي قيود بكين على العناصر الأرضية النادرة إلى ضغوطًا تشغيلية فورية على سلاسل إمداد الدفاع الأمريكية، مما يؤثر على جداول الإنتاج وتركيبة التكاليف.

يركز نطاق القيود الأمريكية على أشباه الموصلات على الطرف العلوي من سلسلة التوريد الدفاعية عالية التقنية، مستهدفاً التكنولوجيا المتقدمة والأساسية في مجالات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الفائقة، والتخطيط العسكري من الجيل التالي في الصين.

ويتمثل تأثير هذه القيود على القطاع الدفاعي الصيني في احتواء تكنولوجي طويل الأمد، حيث تؤدي إلى اختناقات حادة ونقص في المعدات وتقليل الإنتاجية للرقائق المتقدمة، ما يحد من قدرة الصين على إنتاج الذخائر الموجهة المتطورة، والأنظمة الذاتية، والرادارات المتقدمة محلياً.

وعلى النقيض من ذلك، تركز قيود الصين على العناصر الأرضية النادرة على المواد الأساسية من سلسلة التوريد، والمعرفة التقنية في التصنيع، مثل المغانط الأرضية النادرة وتقنيات المعالجة، التي تُعتبر ضرورية لمعظم منصات الدفاع الأمريكية الحديثة.

 وتتمتع خطوة الصين بتأثير عملي أكثر مباشرة وفورية، حيث ترفض بشكل صريح منح تراخيص التصدير للمستخدمين العسكريين في الخارج، ما يُجبر مقاولين الدفاع الأمريكيين على إعادة تصميم سلاسل التوريد بشكل عاجل لتوفير المكونات الحيوية في أنظمة الأسلحة الرئيسية.

تتمتع خطوة الصين بتأثير عملي أكثر مباشرة وفورية إذ ترفض بشكل صريح منح تراخيص التصدير للمستخدمين العسكريين في الخارج

التداخل المسلح

تجسد هذه الديناميكية التصاعدية مفهوم “التداخل المسلح” بشكل مثالي، حيث تقوم دولتان مترابطتان اقتصادياً بتسليح نقاط الضعف غير المتكافئة في علاقتهما التجارية، وتعتمد الولايات المتحدة استراتيجياً على الصين في توفير العناصر الأرضية النادرة المكررة، بينما تعتمد الصين بدورها على الولايات المتحدة وحلفائها في تقنيات أشباه الموصلات المتقدمة، وخاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة من خلال تطبيق إطار ترخيص خارج الحدود الإقليمية يُحاكي بفعالية قانون حماية البيانات الفيدرالية، إذ تؤكد بكين قدرتها على تعطيل سلاسل الإمداد الأمريكية من الأسفل إلى الأعلى.

يضمن هذا التسليح المتبادل أن كل خطوة تقيد وصول إحدى الدول إلى تقنية حيوية ستقابل برد مماثل يقيّد وصول الأخرى إلى مورد حيوي، ما يزيد من التكلفة والمخاطر المرتبطة باستراتيجية الانفصال التكنولوجي لكلا القوتين العظميين.

تعزيز الثقة الاستراتيجية عبر الهيمنة على الموارد

 تستغل بكين توسيع نطاق ضوابط تكنولوجيا المعادن النادرة كإعلانٍ واضحٍ عن ثقتها الاستراتيجية، ما يُظهر امتلاكها مصدراً فريداً وهيكلياً للقوة الجيوسياسية يُواجه مباشرةً الهيمنة التكنولوجية الأمريكية، حيث تنبع هذه الثقة من سيطرتها الحاسمة على سلسلة قيمة المعادن النادرة بأكملها، إذ تُمثل نحو 90% من عمليات المعالجة وتصنيع المغناطيس عالمياً.

من خلال تطبيق نظام ترخيص ذو نطاق خارج حدودها الإقليمية، تقوم الصين بتمديد سلطتها التنظيمية بشكل فعّال إلى ما وراء حدودها، ما يجبر الشركات الأجنبية حول العالم على الامتثال لمصالح الأمن القومي الصيني، حيث تعكس هذه الخطوة صورة قوة عالمية واثقة من نفسها، لم تعد تكتفي بأن تكون مجرد متلقٍ للتقنية، بل أصبحت تفرض قواعد اللعبة المتعلقة بالمدخلات الحيوية، وتوجه هذه الرسالة إلى واشنطن مفادها أنه بينما قد تسيطر الدول الغربية على المجال الرقمي لأشباه الموصلات، فإن بكين هي التي تتحكم في المواد الفيزيائية والمعرفة الصناعية التي تشكل الأساس لجميع التقنيات المتقدمة.

  تطبيق الصين لنظام ترخيص ذو نطاق خارج حدودها الإقليمية يمدد سلطتها التنظيمية بشكل فعّال إلى ما وراء حدودها ما يجبر الشركات الأجنبية حول العالم على الامتثال لمصالح الأمن القومي الصيني

تُظهر هذه الإجراءات نية بكين المدروسة لاستغلال هيمنتها الصناعية المحلية لتشكيل المشهد التنافسي العالمي، فبجعل توريد المواد الأساسية غير مؤكد ومكلف بطبيعته بالنسبة للخصوم، تُجبر الصين الحكومات الغربية على إنفاق مليارات الدولارات على بناء سلاسل توريد جديدة كلياً خاضعة لسيطرة محلية، بشكل لا يُعزز قوة الصين السوقية الحالية فحسب، بل يُرسخ ثقة استراتيجية طويلة الأمد في قدرتها على إملاء شروط الانخراط في منافسة القوى العظمى، ومن المرجح أن تستمر هذه الاستراتيجية الحازمة في إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة العالمية وتسريع فصل الصناعات الاستراتيجية لسنوات قادمة.

أصبحت السيطرة على المواد الأساسية أحد الأشكال الجديدة للتنافس الجيوسياسي، وفي هذا السياق، تُبرز استراتيجية بكين للاستثمار في معالجة المواد النادرة، بدلاً من مجرد استخراجها، آفاقاً جديدة للتنافس الجيوسياسي.

صينيون في إحدى شركات إنتاج المعادن النادرة في مقاطعة جيانغشي وسط الصين
التنبؤ بالإجراءات الأمريكية المضادة
السيناريو الأول: تصعيد انتقامي يتبعه تفاوض

أبرز رد فعل فوري سيكون تصعيداً انتقامياً على شكل عقوبات تجارية متبادلة،
ويتجلى ذلك جزئياً في تهديد الرئيس ترامب برفع الرسوم الجمركية بنسبة 155% على جميع الواردات الصينية، حيث ستسعى الولايات المتحدة إلى رد فعل مماثل تجاه الصين بسرعة، مستغلة ما لديها من أدوات ضغط، لإجبار بكين على العودة إلى طاولة المفاوضات خلال قمة “أبيك” المقبلة.

وتهدف واشنطن من ذلك إلى التوصل إلى هدنة تجارية مؤقتة، تتيح استئناف منح التراخيص التصديرية بشكل مؤقت للشركات الأمريكية العاملة في المجالات العسكرية والتقنية المدنية المتقدمة.

السيناريو الثاني: تسريع سياسة التصنيع المحلي

يتمثل بالردّ طويل الأمد والجوهري في التعامل مع تهديد سلاسل الإمداد باعتبارها أزمة أمن قومي، ما سيدفع نحو ضخّ رأسمال ضخم، خارج آليات السوق التقليدية، بهدف إنشاء منظومة محلية مستقلة متكاملة تمتد من “المناجم إلى المغناطيس”، كما ستعمد الحكومة الأمريكية إلى تفعيل “قانون الإنتاج الدفاعي”  وغيره من آليات التمويل، لتقديم دعم مالي واسع وتسريع بناء منشآت فصل العناصر الأرضية النادرة الثقيلة ومصانع لإنتاج المغناطيس داخل الأراضي الأمريكية، بالتوازي مع تمويل البحوث والتطوير للحصول على المعرفة التقنية الاحتكارية في مجال المعالجة، والتي ما زالت الصين تفرض عليها قيوداً صارمة.

السيناريو الثالث: التنويع والاستبدال عبر التحالفات

 يتمثّل بردّ استراتيجي آخر في السعي الحثيث نحو ما يُعرف بـ” تحالف سلاسل الإمداد” لتوريد العناصر الأرضية النادرة، وذلك عبر تعزيز الشراكات مع دول حليفة مثل أستراليا وكندا، من خلال تقديم تمويل مباشر وعقود طويلة الأمد لمشروعاتهم في هذا المجال، إضافةً إلى ذلك، ستُوجَّه تمويلات اتحادية كبيرة إلى برامج بحثية تركّز على استبدال المواد، بهدف تطوير بدائل عالية الأداء لا تعتمد على العناصر الأرضية النادرة، خاصة في المكوّنات الحيوية للصناعات الدفاعية، كما ستشهد مبادرات إعادة التدوير و”التعدين الحضري” توسعاً ملحوظاً،
في محاولة لتقليل الاعتماد الهيكلي على سلسلة الإمداد الصينية بشكل جذري.

وقد تحقق تقدم كبير يدعم هذه الاستراتيجية عندما وقّع الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي مؤخراً اتفاقاً بشأن المعادن الحيوية في البيت الأبيض، وتُقدَّر قيمة الاتفاق بما يصل إلى 8.5 مليار دولار في مشاريع، ما يؤكد إصرار واشنطن على تأمين مصادر بديلة للعناصر الأرضية النادرة وتقليل اعتمادها الاستراتيجي على الصين.

سونغ هيون تشوي

سونغ هيون تشوي

باحث في المعهد المركزي الأوروبي للدراسات الآسيوية (CEIAS)، ومتخصص في الشؤون العسكرية الصينية، والسياسة الخارجية والنووية لكوريا الشمالية، والتعاون الدفاعي بين كوريا الجنوبية وأوروبا.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.