التحوّل الجذري لجيل الشباب الذي يشهده المجتمع الأمريكي لا يقتصر على كونه تغييراً ثقافياً أو اقتصادياً أو في القيم فحسب، بل يعكس تحولاً سياسياً أعمق بدأ يرسم ملامح المسار المستقبلي لأمريكا كأمة.
يتجه الشباب الأمريكي اليوم، مدفوعاً بإحباطات اجتماعية مرتبطة بعدم المساواة، والديون، وتغير المناخ، ومستقبل تكنولوجي غير واضح، إلى تبني الفكر الاشتراكي بشكل متزايد، فهذا التوجه يعيد النظر في الأسس الأخلاقية التي تقوم عليها الرأسمالية الأمريكية والديمقراطية، ويطرح تحديات على مستويات متعددة، فصحوة الجيل التي تشهدها أمريكا حالياً تبدو وكأنها ستمهد الطريق لإعادة تشكيل المشهد السياسي الأمريكي بشكل أوسع، ما قد يؤدي إلى إعادة تعريف القيم والمُثل الوطنية داخلياً، مع انعكاسات واضحة على القوة والنفوذ الاقتصاديين للولايات المتحدة على الساحة العالمية.
منذ وقت ليس ببعيد، كان الاعتراف بالانتماء إلى الاشتراكية في أمريكا كفيلاً بتدمير المسيرة المهنية أو الزج بالشخص في السجن، لكن اليوم، انتقلت الاشتراكية من فكرة هامشية إلى صدارة النقاش العام حول مستقبل أمريكا، لا سيما بالنسبة للناخبين الشباب في البلاد.
بالنسبة للأمريكيين دون سن الخامسة والثلاثين، لم تعد الاشتراكية تحمل الوصمة التي اقترنت بها خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، فليس الحماس الثوري هو ما يجذب الشباب إلى هذه الفلسفة، بل الإحباط الاقتصادي، من ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، وتفاقم ديون الطلاب، وغلاء أسعار السكن، وجمود الأجور، والاختلالات في اقتصاد الأعمال المؤقتة، كلها عوامل تجعل الاشتراكية تبدو أكثر جاذبية بشكلها من الرأسمالية التي تمجَّد من قِبل أصحاب المليارات.
لم تعد الاشتراكية بالنسبة للأمريكيين دون سن الخامسة والثلاثين تحمل الوصمة التي اقترنت بها خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي
ركود الدخل يجذب الاشتراكية
توثّق استطلاعات الرأي تحولاً عن المعتقدات التي يعتز بها كبار السن في أمريكا، حيث أفاد استطلاع أجراه معهد “كاتو” بالتعاون مع “يوغوف” عام 2025 أن 62% من الأمريكيين دون سن الثلاثين ينظرون إلى الاشتراكية بإيجابية، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى أن أوضاعهم الاقتصادية تبدو قاتمة مقارنةً بالأجيال الأكبر سناً، فعلى سبيل المثال، 90% من الأمريكيين المولودين في أربعينيات القرن الماضي كانوا قد كسبوا أكثر من آبائهم بحلول سن الثلاثين، في حين أن نصف مواليد الثمانينيات فقط تمكنوا من تحقيق ذلك، وتؤكد استطلاعات أخرى هذه النتائج، وبالنسبة لكثير من الشباب، لم يعد “الحلم الأمريكي” سوى قصة حنين إلى ماضٍ ينتمي إلى زمن آخر.
التكنولوجيا التي يروّج لها أصحاب المليارات في وادي السيليكون تزيد من التطلّع إلى بدائل، وتوسّع نطاق النقاش ليتجاوز مسألتي الأجور والديون، فصعود الذكاء الاصطناعي وما يصاحبه من أتمتة للوظائف لم يعد يهدد الفرص الصناعية فحسب، بل امتد ليطال المهن المكتبية التي كانت تُعدّ في السابق آمنة.
كما يواجه الشباب سوق عمل غير مستقر، تهيمن عليه الوظائف المؤقتة الهشّة، وخوارزميات إنتاجية تراقبهم عن كثب، إلى جانب تراجع متسارع في الامتيازات الوظيفية.
ساندرز ينقل الفكرة من الهامش إلى النقاش العام
أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة هارفارد عام 2025 أن أربعة من كل عشرة أمريكيين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً يقولون إنهم “بالكاد يدبرون أمورهم”، في حين أن 16 % فقط يقولون إنهم يعيشون حياة جيدة أو جيدة جداً، فالشباب الأمريكيون الذين شهدوا فضائح الرأسمالية، مثل: أزمة الرهن العقاري، يشككون في العقيدة التي تمجدها وول ستريت.
الشباب الأمريكيون الذين شهدوا فضائح الرأسمالية مثل أزمة الرهن العقاري يشككون في العقيدة التي تمجدها وول ستريت
نتائج الاستطلاع لا تعكس افتقار الشباب للطموح، بل إن التحولات الهيكلية في الاقتصاد تجعلهم يشعرون بالقلق حيال المستقبل، فمع استبدال الأتمتة للوظائف الروتينية وتكديس المنصات الرقمية لثروات هائلة، يرى الشباب بشكل متزايد أن وجود حكومة أقوى مكرسة للصالح العام أمر ضروري للبقاء الاقتصادي.
شخصيات سياسية مثل السيناتور بيرني ساندرز، الذي تجاوز الثمانين ويحظى بشعبية بين الناخبين الشباب، والنائبة ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، تروّج لنوع جديد من “الاشتراكية الديمقراطية”، وبدلاً من الخطابات الحماسية التقليدية التي تدعو إلى تأميم الصناعة الخاصة، يركزون على مطالب مثل: الرعاية الصحية الشاملة للجميع، وإلغاء ديون الطلاب، والأجور الكريمة، وهي سياسات تميّزها العدالة أكثر من الأيديولوجيا.
رد فعل محافظ
أعادت حملات ساندرز للرئاسة في عامي 2016 و2020 تعريف الاشتراكية على أنها نسخة حديثة من سياسة الرئيس فرانكلين روزفلت الجديدة، أو كنظام أقرب إلى دول الرفاهية الناجحة في الدول الاسكندنافية أو أوروبا الغربية، حيث حوّل الاشتراكية من فلسفة راديكالية ثورية كان يتبناها في السابق السياسيون المتطرفون إلى أداة لتحقيق العدالة الاقتصادية والمساواة السياسية.
واجه “تشارلي كيرك” تصاعد التيار الاشتراكي من خلال التوغل في الحرم الجامعي لتحفيز الشباب الأمريكي على تبني قيم الأسواق الحرة وحكومة محدودة الصلاحيات، وكان كيرك يحظى بشعبية كبيرة، لكن موته المأساوي على يد مشتبه به ترك فراغاً في الصفوف المحافظة، وهو فراغ تعهدت زوجته إريكا بملئه.

الذكاء الاصطناعي والرعاية الصحية
بينما يكافح الكونغرس مع الإغلاق الحكومي المستمر، تبرز قضية الرعاية الصحية، التي تشكل محور اهتمام الشباب الأمريكي، كنقطة مهمة في الجدل السياسي، إذ يؤيد نحو 70% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً نظاماً حكومياً للرعاية الصحية مثل “الرعاية الطبية للجميع”.
ويرى الديمقراطيون أن الرعاية الصحية تمثل قضية حاسمة في الانتخابات النصفية المقبلة، التي تتنافس فيها الأحزاب على السيطرة على إحدى غرف الكونغرس على الأقل، ويدرك الحزب جيداً أن عدد الشباب البالغين الذين يشعرون بالقلق على صحتهم وصحة آبائهم غير المؤمن عليهم بشكل كافٍ قد بات يفوق عدد كبار السن ككتلة ناخبة مؤثرة.
في الوقت نفسه، يثير توسّع الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل القانون، وخدمة العملاء، وتطوير البرمجيات، والمحاسبة، وغيرها من الوظائف المكتبية، مخاوف من فقدان جماعي للوظائف، وتزداد المخاوف من أن ينتشر هذا الاضطراب التكنولوجي ليشمل مجالات كانت تُعتبر في السابق مقدسة، ما يعزز المطالب بدخلٍ عالمي مضمون وتوسيع نطاق الرعاية الاجتماعي الحكومية، وهي برامج تتناسب تماماً مع استراتيجية الاشتراكية الديمقراطية.
التحول بين الأجيال وتأثيره العالمي
التحول الأيديولوجي بين الشباب الأمريكي له تداعيات عالمية، حيث يعبر الشباب الأمريكي ذو الميول الاشتراكية عن شكوكه تجاه السياسة الخارجية العسكرية ذات الميزانيات الدفاعية الضخمة، وتشير آراؤهم المتغيرة إلى إعادة تفكير أكثر شمولية في دور أمريكا كقوة عالمية تحافظ على السلام، كما يشير استطلاعات الرأي إلى أن الناخبين الشباب يفضلون السياسات التي تعطي الأولوية للتعاون في القضايا التي يعتبرونها ملحة، مثل: المناخ، والدبلوماسية النشطة، وخفض ميزانيات الدفاع، وإيلاء مزيد من الاهتمام لمصالح القوة الناعمة في مجالات حقوق الإنسان ومكافحة انتشار الأمراض.
الشباب الأمريكيون ذوو التوجهات الاشتراكية يعبرون عن شكوكهم تجاه سياسة خارجية عسكرية تعتمد على ميزانيات دفاعية ضخمة
بينما تبدو شكوك الشباب الأمريكي تجاه التحالفات الأوسع متشابهة مع تشكك الرئيس ترامب تجاه الناتو، إلا أن الدوافع تختلف، فالشباب الأمريكيون ليسوا أقل قلقاً بشأن مستويات الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو؛ بل إنهم أكثر قلقاً بشأن التورط في صراعات خارجية تؤدي إلى حروب مكلفة، مثل الصراعات التي خاضها الأمريكيون في العراق وأفغانستان، وقد يشير تغير المواقف إلى انخفاض الحماس تجاه استعراض القوة ضد خصوم أجانب مثل روسيا والصين، وزيادة التعاطف تجاه التعاون في قضايا مثل: تغير المناخ وتنظيم الذكاء الاصطناعي.
الشاغر القيادي يخلق فراغاً سياسياً
الحركات التي تسعى إلى إعادة توجيه سياسات محورية مثل موازين القوى تحتاج عادةً إلى قادة يتمتعون بالكاريزما، ومع اقتراب ساندرز من سن الرابعة والثمانين وغياب كيرك عن الساحة، يواجه كلا المعسكرين فراغاً في القيادة.
ومع ذلك، تبين التجربة التاريخية أن الأصوات الجديدة يمكن أن تظهر بسرعة على الساحة السياسية، فقد صعد باراك أوباما من كونه نائباً غير معروف نسبياً في ولاية إلينوي إلى رئيسٍ للولايات المتحدة في وقت قصير، وفي عصر تهيمن فيه وسائل التواصل الاجتماعي على الفضاء العام، قد تصنع الشهرة نفسها بين عشية وضحاها، فالقادة الجدد يمكن أن يبرزوا في لحظة رقمية، مدفوعين بديناميات الإنترنت أكثر من التحالفات السياسية التقليدية في الكواليس.

على المدى البعيد، فإن تنامي جاذبية الاشتراكية بين الشباب الأمريكي لا يُعد مجرد نزعة شعبية عابرة، بل هو تعبير عن مراجعة عميقة لمستقبل البلاد الاقتصادي والسياسي، حيث كان جيل الطفرة السكانية (البُيبي بومرز) يحدد سابقاً ملامح الأجندة السياسية في أمريكا، لكن لم يعد الأمر كذلك، فجيل الألفية (الميلينيالز) وجيل “زد” يطالبان برؤية جديدة لمستقبل الأمة، ترتكز على قادة يضعون العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، وفلسفة الاشتراكية الديمقراطية في الأمن والضمان الاجتماعي، في صميم أولوياتهم.
تنامي جاذبية الاشتراكية بين الشباب الأمريكي لا يُعد مجرد نزعة شعبية عابرة على المدى الطويل
المستقبل يتغير مع الشباب
ما إذا كانت هذه الثورة ستُفضي إلى إصلاح مستدام أو تظل مجرد تمرد جيلي آخر، يتوقف على مدى صلابة القادة الجدد، وتنظيمهم السياسي، وقدرتهم على تحويل مشاعر السخط إلى سياسات حكم فعلي، لكن أمراً واحداً بات مؤكداً أن “الشباب هم من سيكتبون الفصل القادم من التجربة الأمريكية المتغيرة باستمرار” فهؤلاء لن يتواروا عن المشهد.
ما يحدث حالياً ينبع من إدراك الشباب الأمريكيين لشعورهم بالحرمان من مجتمع عادل وأمن اقتصادي، وهو شعور تصاعد على مدى السنوات الماضية، فحاجتهم إلى العدالة واليقين والهدف المشترك تحمل في طياتها مزيجاً من الخيبة والأمل، كما يدعو الشباب الأمريكي إلى إعادة هيكلة النظام القديم الذي لم يعد يخدم مصالحهم، ويطالبون بنظام ومجتمع عادل يُعطي الأولوية لأمن ورفاهية الفئة الشابة المتعثرة.
ما يحدث حالياً ينبع من إدراك الشباب الأمريكيين لشعورهم بالحرمان من مجتمع عادل وأمن اقتصادي، وهو شعور تصاعد على مدى السنوات الماضية
بالمحصلة، سواء تحوّلت هذه الصحوة إلى لحظة إصلاح مستدام، أو بقيت مجرد تمرد اجتماعي غير ناجح، فذلك يعتمد بشكل كبير على القيادة الأمريكية، هل ستستمع إلى شكوى الشباب الأمريكيين وتعمل على إيجاد حلول تلبي مطالبهم، أم ستتجاهل هذه المخاوف وتعتبرها أموراً تافهة؟، فهذا ما سيظهره المستقبل.
لكن هذه اللحظة تكشف عن حقيقة أساسية: أن “المعركة من أجل العدالة الاجتماعية وفرصة الازدهار تتحول إلى قوة ستعيد تعريف القيم والمُثل الأمريكية”، ومن المرجح أن ينعكس ذلك عبر المجتمعات المختلفة، ليعيد رسم صورة أمريكا ويُعيد ضبط دورها في العالم.




