الانتخابات الهولندية: ماذا قالت لاهاي لأوروبا؟

تقرير
إحدى جلسات البرلمان الهولندي
إحدى جلسات البرلمان الهولندي
ﺷﺎرك

بعد عام من الاضطرابات السياسية، عاد الناخبون الهولنديون إلى التيار البراغماتي الوسطي، حيث يمنح فوز حزب D66 بقيادة روب جيتن متنفساً لأوروبا، وفرصة لاختبار ما إذا كان نمط الحكم الائتلافي لا يزال قادراً على تقديم إدارة فعّالة في عصر تصاعد الشعبوية.

واليوم تميل بوصلة أوروبا السياسية من جديد، نحو الوسط العملي المتزن، ففي الانتخابات المبكرة بهولندا، تصدّر الحزب الديمقراطي الليبرالي الوسطي (D66)  بقيادة روب جيتين المشهد، متقدماً على حزب الحرية اليميني المتطرف (PVV)  بقيادة جيرت فيلدرس، حيث يقع على عاتق الحزب الفائز الآن مهمة قيادة مفاوضات تشكيل التحالفات في برلمان شديد الانقسام، في اختبار لقدرة السياسة الوسطية على إدارة حكم فعال في بيئة سياسية معقدة.

قد يبدو الأمر وكأنه محاولة محلية لترميم عامٍ مليء بالفوضى، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما، لكنه في جوهره يحمل دلالة أعمق، فالنتائج في هولندا تشير إلى أن الوسط الأوروبي ما زال متماسكاً، وأن التحول لا يزال ممكناً إذا استقر المشهد السياسي، وأن الاتحاد الأوروبي ما زال يمتلك القدرة على رسم خيارات استراتيجية رغم ما يشهده العصر من انعدام ثقة وتفتت.

النتائج في هولندا تشير إلى أن الوسط الأوروبي ما زال متماسكاً وأن التحول لا يزال ممكناً إذا استقر المشهد السياسي

أولاً: المعنى السياسي
الوسط صامد بصعوبة وتحت المراقبة

تحولت هولندا إلى نموذجٍ مصغّر يعكس المعادلة السياسية الجديدة في أوروبا، فقد اختفى الاحتكار الحزبي القديم، فلم يعد أي حزب يحقق أكثر من 20% من الأصوات، وأصبحت عملية تشكيل الحكومة تتطلب عملاً ائتلافياً معقداً يجمع أربعة أحزاب، بينما يتقلّب المزاج الانتخابي بشدّة كلما أخفقت الحكومة في أداء مهامها.

في عام 2023، حقق خيرت فيلدرز فوزاً ساحقاً، وتولى السلطة بالوكالة، وترأس عاماً انتهى بالانهيار، وفي عام 2025، تحول الناخبون المُنهكون إلى حزب D66، ليس من باب الود مع المؤسسة الحاكمة، بل بسبب المعاناة من الخلل الوظيفي والتطرف المُصطنع، فالرسالة واضحة: “اليمين المتطرف يزداد قوة، لكنه ليس قدراً محتوماً، فالقوى الوسطية الجادة والقادرة على حلّ المشكلات ما زالت تملك فرصة للفوز”.

قد يبدو الأمر استثنائياً، لكن أوروبا مرّت بهذا الموقف من قبل، فقد كانت تجربة فايمار درساً في التفتت بدون مسؤولية، بينما كان الدرس ما بعد الحرب في التحالفات ذات الهدف الواضح، والنتيجة الهولندية اختارت الخيار الثاني، فهي تعكس ما حدث في بولندا عام 2023 من تصحيحٍ سياسي، وتشبه التقدّم المتعثر في إسبانيا نحو تسوية بنّاءة، كما تتماشى مع النموذج الألماني حيث يفضّل الناخبون محاسبة الأداء السياسِي الفاشل على المحاسبة الأيديولوجية.

يمكن للاتحاد الأوروبي الآن أن يتوقع من رئيس وزراء هولندا الجديد، روب جيتين، أنه سيعود إلى الطاولة لمناقشة الملفات المهمة، وأوكرانيا، وتنفيذ السياسات المناخية، وسياسة صناعة الدفاع.

ثانياً: صراعات أوروبا من منظور هولندي
حدود الشعبوية واستمراريتها

تمثل التجربة الهولندية إيقاعاً مألوفاً، حيث يتصاعد الشعبيون، ويقتربون من السلطة أو يمارسونها، ثم تُقيدهم متطلبات الحكم، ويقوم الناخبون بتصحيح المسار.

 في إيطاليا، تدير جورجيا ميلوني البلاد بشكل أكثر براغماتية مما وعدت، ويقيدها السوق، وحلف الناتو، وبروكسل، وفي السويد وفنلندا، تُقيد الحكومات اليمينية بقواعد الحساب البرلماني والقانون.

أما في فرنسا، تجد مارين لوبان أرضية خصبة في المعارضة، لأنها لم تضطر بعد إلى مواءمة برنامجها الخطابي الواسع مع القيود القانونية، وقد قدمت هولندا النسخة المختصرة من هذا السيناريو: فترة متأثرة بالشعبوية، ثم العودة إلى مركز عملي وقابل للحكم، فالإغراء لم يختفِ، لكن الثمن السياسي للفوضى ما زال مرتفعاً، وما زالت الأصوات الأوروبية تفضل وجود الفاعلين في الحكم عندما يحين وقت تحمل المسؤولية.

المناخ: من حرب ثقافية إلى سياسة صناعية موثوقة

لم تكشف أي ساحة سياسية في هولندا عن تكلفة عدم الاستقرار السياسي بشكل أكثر وضوحاً من ملف المناخ، فقد أنتجت سلسلة من الائتلافات قصيرة الأمد والانتخابات المبكرة دورة من التذبذب في السياسات، وإصدار تعليمات إلزامية لاستخدام مضخات الحرارة ثم خُففت وأُعيد تفسيرها، وأُعلنت عن مناطق منخفضة الانبعاثات ثم تم تأجيلها، وأعلنت عن أطر الدعم المالي ثم أُعيدت صياغتها.

تعلمت الشركات عدم الاعتماد على الأهداف الرسمية، لأن القواعد التي تقوم عليها نادراً ما صمدت طوال مدة الحكومة، وتأخرت خطط الاستثمار ليس بسبب التكنولوجيا، بل بسبب عدم التنبؤ السياسي.

يكشف هذا التصادم بين البيئة والاقتصاد والالتزامات القانونية عن حقيقة هيكلية أعمق، فهولندا دولة مكتظة بالسكان وتعتمد على التجارة، وتضم أحد أكثر القطاعات الزراعية الغذائية كثافة في العالم، مع إرث من تقنيات الإنتاج المكثفة بالنيتروجين، وفي الوقت نفسه، هي مركز لوجستي واقتصاد مرفأي، ومجتمع معتاد على الطاقة الوفيرة والرخيصة، وأي تغيير في استخدام الأراضي، أو شبكات الطاقة، أو سياسات الانبعاثات يؤثر على سلاسل التوريد بالكامل، وليس على صناعات منفردة.

راقبت الدول الأوروبية الأخرى الوضع عن كثب، لأن المأزق الهولندي ليس هامشياً بل نموذجياً، فهو يبرز التوترات الموجودة في جميع أنحاء القارة، من المقاومة الريفية للوائح البيئية، والعواقب السياسية للالتزامات المناخية القابلة للتنفيذ قضائياً، والفجوة بين الأهداف المناخية الوطنية وقدرة الشبكات، والردود الاجتماعية عندما يُصوَّر الانتقال على أنه تقييد لا بناء.

أصبحت هولندا حالة رائدة ليس لأنها فريدة، بل لأن قيودها كانت مركزة وواضحة، وما جرى هناك ليس استثناءً هولندياً بل قد يكون لمحة عما ينتظر بقية أوروبا.

 ما جرى هناك ليس استثناءً هولندياً بل قد يكون لمحة عما ينتظر بقية أوروبا

الهجرة: من الإيماءة إلى النظام

نادراً ما تتوقف أزمات الهجرة في أوروبا عند الحدود الوطنية، وقد أظهرت التجربة الهولندية مرة أخرى كيف يمكن للسياسة المحلية أن تكشف عن نقاط الضعف القارية.

أطاحت قضية الهجرة بالائتلاف الهولندي السابق لأنها كشفت الفجوة بين خطاب الشعارات وقدرة الدولة على التنفيذ، و لسنوات، وعد خيرت فيلدرز بحل جذري عبر وقف قبول طلبات اللجوء، وإغلاق مراكز الاستقبال، وترحيل طالبي اللجوء المرفوضين، واستعادة السيطرة الوطنية على قواعد الهجرة الأوروبية بشكل أحادي، حيث كان الخطاب صارماً، مؤكداً أن السيادة يمكن استعادتها مجرد الرغبة بها أكثر من بروكسل أو المحاكم أو “النخب العالمية”.

عندما ازداد تأثير فيلدرز، اصطدمت هذه الوعود بالواقع، إذ لم يكن هناك آلية قانونية لتعليق التزامات هولندا تجاه اللجوء دون الانسحاب من قانون الاتحاد الأوروبي واتفاقية اللاجئين، وهي خطوات كانت ستؤدي إلى أزمات مالية ودبلوماسية ودستورية، حيث رفضت البلديات تنفيذ أوامر الإيواء الإلزامية، وذهب بعضها إلى المحكمة وفازت، وتعطلت سياسة الترحيل أمام نفس العقبات الهيكلية التي تواجه كل دولة أوروبية من  تعاون دول المنشأ، ونقص في الوثائق، وحدود القدرة الاستيعابية، وتبيّن أن إغلاق الحدود لم يكن أداة فعالة بل مجرد شعار.

لم تكن النتيجة سيطرةً، بل جموداً، حيث امتلأت مراكز اللجوء؛ وتنافست البلديات؛ وترنحت الدولة بين مراسيم الطوارئ والأوامر القضائية، فكلما زاد فيلدرز من تصعيده الحاد، اتضح أن آلية إدارة الهجرة لا يمكن استبدالها بالإصرار وحده.

التفتت: نظام التشغيل الجديد

تُعد هولندا الآن واحدة من أكثر الأنظمة البرلمانية تفتتاً في أوروبا، وهذا ليس مصادفةً، فعلى عكس ألمانيا، لا يوجد حد انتخابي؛ فالحزب لا يحتاج إلى دعم بنسبة 5% لدخول البرلمان،  فالمقعد الواحد يعادل نحو 0.67%  من الأصوات، وهذا يعني أن حتى المشاريع السياسية الصغيرة والمحددة بدقة، مثل حركات الاحتجاج الزراعي، أو أدوات مناهضة المؤسسة، أو أحزاب المناخ أو التقاعد ذات القضية الواحدة، أو قوائم الإصلاح التكنوقراطية، يمكنها تحويل الاستياء إلى تمثيل والنتيجة هي مجلس برلماني يتألف من مجموعة من الأحزاب متوسطة الحجم، وليس من كتلتين أو ثلاث كتل حاكمة، بل من كتلة من كتلتين أو ثلاث كتل حاكمة، كل منها يدعي صلاحية مستقلة.

هذا الانفتاح الهيكلي يزيد من التقلب السياسي، إذ يمكن للأحزاب أن تصعد بسرعة لأن عوائق الدخول منخفضة، وتتلاشى بسرعة أيضاً لأن الاستمرارية تتطلب تنظيماً مستداماً وليس مجرد احتجاج مؤقت، إذ يؤدي التفتت إلى تغييرات ليس فقط في من يدخل البرلمان، بل في كيفية سير عملية الحكم لتشكيل أغلبية، تحتاج الائتلافات إلى أربعة أحزاب أو أكثر، ويجب منح كل منها تنازلات سياسية للبقاء في الطاولة حيث تميل الاتفاقيات الناتجة إلى صياغة حلول أدنى مشتركة، حيث تكون الأولوية للحفاظ على التوازن الداخلي بدل اتباع خط برنامجي واضح، ومع توزيع المسؤوليات بين قادة عدة ومكاتب حزبية، تصبح عملية اتخاذ القرار أبطأ، وتحديد اللوم أصعب، والمساءلة السياسية أقل وضوحاً ومباشرة.

في الوقت نفسه، الائتلافات متعددة الأحزاب هشة بطبيعتها، إذ يمكن لأي شريك واحد أن يهدد بالانسحاب من الدعم، ما يؤدي إلى الانهيار؛ ويمتلك كل حزب نفوذاً يفوق حجمه الفعلي، حيث  تصبح اتفاقيات الائتلاف، التي كانت أساس الاستقرار، وثائق تفاوضية تُعاد مراجعتها تحت الضغط، والحكومة تجد نفسها دائماً تتفاوض مع نفسها كلما تغيّر الرأي العام أو أصبح حقيبة وزارية معينة محط جدل سياسي.

ثالثاً: تداعيات الانتخابات على أوروبا

عودة هولندا بقيادة تيار الوسط لا تغيّر بروكسل من خلال تحوّل أيديولوجي بقدر ما تفعل عبر استعادة القدرة على الحكم، فطوال العام الماضي، كان المقعد الهولندي في مجلس الاتحاد الأوروبي مشغولاً بحكومة مؤقتة؛ كانت تستطيع الردّ فقط وليس التأثير أو التشكل، ومع تولي روب ييتن، تمتلك هولندا مرة أخرى حكومة قادرة على تقديم الالتزامات والحفاظ عليها،  وهذا مهم لأن أهم الملفات الأوروبية الحالية تعتمد على استقرار التنفيذ على المدى الطويل، لا على مجرد التصريحات.

عودة هولندا بقيادة الوسط لا تغيّر بروكسل من خلال تحوّل أيديولوجي بقدر ما تفعل عبر استعادة القدرة على الحكم

المناخ والطاقة

ما يحدث في لاهاي نادراً ما يبقى محلياً، خاصةً عندما يتعلق الأمر بطموحات أوروبا المناخية، وفي سياسة المناخ، تحتل هولندا موقعاً فريداً لا يملكه كثيرون: فهي بمثابة تحذير أوروبي وحالة اختبار في آنٍ واحد، فحكم محكمة النيتروجين أكد أن سياسة المناخ في أوروبا لم تعد قابلة للتأجيل دون عواقب قانونية، وكل قرار صناعي أو زراعي أو سكني رئيسي يتقاطع الآن مع هدف الانبعاثات المفروض قضائياً، وما كان ينقص هو حكومة مستعدة لتصميم عملية الانتقال كاستراتيجية صناعية بدلاً من كونها ساحة معركة ثقافية.

حكومة ائتلافية فاعلة في لاهاي ستعيد هولندا إلى صفوف الدول التي تشكل المرحلة الثانية من الصفقة الخضراء الأوروبية، من تحديد الأهداف إلى التنفيذ على الأرض، وهذا يعني عقوداً طويلة الأجل لتحديث الشبكات، ومناقصات متوقعة لطاقة الرياح البحرية والتخزين، وشبكات هيدروجين منسقة، وتمويل الانتقال للمناطق الأكثر تأثراً بتغيرات استخدام الأراضي، فلا شيء من هذا يبدو جذاباً، لكن كل ذلك حاسم، والرسالة الموجهة لأوروبا واضحة: هل ستتحول سياسة المناخ إلى بنية تحتية وتعويضات ملموسة، أم ستظل مجرد جدال حول الهوية؟، حيث ستشكل قضية هولندا سابقة في أي من الحالتين.

الأمن والدفاع

تتحدد ملامح الأمن الأوروبي بشكل متزايد من خلال دور الدول المتوسطة الحجم، وقد أصبحت هولندا واحدة من الركائز الهادئة لهذا التوازن.

في مجال الأمن، أدّت هولندا دوراً يفوق حجمها الفعلي لسنوات، ولا سيما في دعم أوكرانيا، وما يتغير الآن ليس الموقف السياسي بل التفويض البرلماني، فوجود ائتلاف يحظى بدعم البرلمان يتيح لها الالتزام بجداول شراء متعددة السنوات، وإنتاج ذخيرة مشترك على المستوى الأوروبي، وخطوط تمويل مستدامة تتجاوز دورات الموازنة، كما يعني ذلك تعزيز التكامل العملياتي مع ألمانيا والدول الإسكندنافية، التي تنظر إلى الدفاع لا كرمز للسيادة، بل كتحدٍّ يتعلق بسلاسل الإمداد والتصنيع.

المجال الأكثر تعقيداً هو أمن التكنولوجيا والعلاقة مع الصين، فقد كشفت أزمة شركة نِكسبيريا، بما تضمنته من تدخل حكومي، وردٍّ صيني عبر قيود تصدير، ونقص في سلاسل التوريد ضمن صناعة السيارات الأوروبية عن الواقع المادي الكامن وراء مصطلح “تقليل المخاطر”.

باتت هولندا الآن الدولة التي سيُضطر الاتحاد الأوروبي عبرها إلى توضيح كيفية إدارة ضوابط التصدير، وتنويع مصادر الإمداد، واستقرار سلاسل التوريد عملياً، ويتطلب ذلك تنسيقاً دقيقاً مع واشنطن؛ يكون كافياً لحماية الشركات من تغييرات مفاجئة في القواعد، وصلباً بما يكفي لتجنب الانجراف غير المقصود في تصعيد التوتر بين الولايات المتحدة والصين.

وإذا كان لأوروبا أن تضع خطة واقعية للأمن الاقتصادي، فإنها ستفعل ذلك من خلال تتبع النموذج الهولندي، لا بتجاهله.

في الوقت نفسه، لطالما تعاونت لندن ولاهاي بشكل وثيق في مجالات التموضع العسكري داخل حلف الناتو، والتنسيق البحري، وشبكات الربط الطاقي، فإن وجود حكومة هولندية فاعلة تعزز العمود الفقري للأمن في شمال غرب أوروبا، حيث ما تزال القوة الصلبة البريطانية والخبرة الدبلوماسية والهندسية الهولندية تتكاملان على نحوٍ متين، حتى في المشهد المؤسسي لما بعد البريكست.

التكامل الاقتصادي

اقتصادياً، لن تتخلى هولندا بسهولة عن نزعتها التقشفية، لكن منطق السياسة المالية الهولندية تغيّر بعمق، فالسؤال لم يعد ما إذا كان على أوروبا أن تنفق جماعياً، بل ما القضايا التي يجب أن يحلّها هذا الإنفاق المشترك؟.

تشمل هذه القضايا إنتاج الدفاع، وتنويع مصادر المواد الخام، وتوسيع قدرات تصنيع أشباه الموصلات، وشبكات الطاقة العابرة للحدود، وهي مجالات لا يمكن لخطط الميزانيات الوطنية أن تؤدي دورها فيها بمفردها.

ومن المتوقع أن تظل لاهاي صارمة في مسألة الشروط، أي أن تُربط الأموال بنتائج قابلة للقياس لا بخطط طموحة فحسب، لكنها ستكون أكثر مرونة في حجم الأدوات المالية المشتركة ومدتها، وبذلك، تعود هولندا إلى صف الدول التي تُسهم في صياغة آليات التمويل الأوروبي، بعد أن كانت تُصنَّف غالباً ضمن معسكر المعرقلين أو المتحفظين.

تعود هولندا إلى صف الدول التي تُسهم في صياغة آليات التمويل الأوروبي بعد أن كانت تُصنَّف غالباً ضمن معسكر المعرقلين أو المتحفظين

قضية الهجرة

الهجرة هي المجال الذي قد يكون لنتيجة الانتخابات الهولندية أكبر أثر مؤسسي مباشر في بروكسل، حيث أظهر العام الماضي حدود السياسات الرمزية، من التهديدات بإغلاق مراكز استقبال اللاجئين التي قوبلت بالطعن القضائي وتمرد البلديات، ووعد ترحيل أعداد كبيرة اصطدم بالواقع الإداري والدبلوماسي، ومحاولات استعادة السيطرة بقرارات أحادية لم تحقق لا النظام ولا القدرة التشغيلية، فما انهار لم يكن مبدأ إدارة الحدود، بل الوهم القائل بأنه يمكن إعادة السيطرة بدون وجود آليات فعالة.

حكومة مركزية تعيد هولندا إلى صف الدول التي ترى أن إدارة الهجرة لا تتم بالمظاهر، بل بالإدارة الفعلية عبر معالجة أسرع للطلبات عند الحدود، وآليات توزيع تُطبق فعلياً، واتفاقيات عودة قائمة على تعاون يمكن التحقق منه، وهذا له تأثير في بروكسل، ليس لأن هولندا تتبنى نهجاً ليبرالياً بالضرورة، بل لأنها تعيد المصداقية إلى الجانب التنفيذي في نقاش الهجرة، فاتفاقية الاتحاد الأوروبي للهجرة، التي كانت تتقدم على الورق أسرع ما تطبّق فعلياً، تستعيد الآن فاعلية أحد أهم الأطراف القادرين على التنفيذ، فالاتحاد لديه الكثير من القواعد المقترحة، لكنه كان يفتقد دولة عضو كبرى مستعدة لتطبيقها.

العلاقات الخارجية

تتوقف مصداقية أوروبا على الساحة الدولية بشكل متزايد على قدرتها على مواءمة المصالح الوطنية مع الاستراتيجية المشتركة، وتبرز هولندا مرة أخرى كدولة محورية في هذا السياق.

خارجياً، تعمل هولندا بقيادة الوسط على نقل السياسة الخارجية الأوروبية من حالة الارتجال إلى مسار أكثر اتساقاً، فقد جمعت الدبلوماسية الهولندية تقليدياً بين الأطلسية والانضباط المؤسساتي، عبر دعم حلف الناتو مصحوباً بالإصرار على أن تكون قوة الاتحاد الأوروبي مبنية على قواعد قابلة للتطبيق.

والفرق الآن أن هولندا تعود إلى النقاش ليس كحكم إجرائي فحسب، بل كدولة لديها مصالح فعلية، من مرافق، وموانئ، وأنظمة غذائية، وشبكات طاقة مترابطة وستُختبر مصداقية مبدأ الحد من المخاطر في أوروبا بمدى قدرة هولندا على إدارة تعرضها دون أن تصاب بالشلل سياسياً، فإذا نجحت، سيحصل الاتحاد الأوروبي على نموذج يُحتذى به، وإذا أخفقت، فسيحصل على درس تحذيري جديد.

التحوّل الهولندي يعيد أيضاً تشكيل التوازن السياسي في أوروبا، فعلى مدى عقدٍ من الزمن، استند مركز الثقل الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي إلى محور باريس–برلين بشكل غير مستقر؛ إذ كانت ألمانيا مترددة في تولّي القيادة، بينما بالغت فرنسا في الطموح والخطاب دون أن تملك الدعم الصناعي الكافي.

 أما هولندا، بقيادة تيارٍ وسطيٍّ براغماتي، فتبرز اليوم كقطبٍ ثالث، لا كمنافسٍ لأيٍّ منهما، بل كحلقة وصل بينهما، حيث تشترك لاهاي مع برلين في حذرها المالي، لكنها أقل تردّداً في إعادة تشكيل السياسات الصناعية، كما تتقاسم مع باريس إدراكها لأهمية الرهانات الاستراتيجية، من دون ميلها إلى المشاريع الكبرى الطموحة، وعملياً، يعني ذلك أن المرحلة المقبلة من التكامل الأوروبي ستكون أقل اعتماداً على البيانات المشتركة بين فرنسا وألمانيا، وأكثر استناداً إلى “تحالفات تنفيذية” تلعب فيها هولندا دور الوسيط والمترجم والمنفّذ.

الرابع: النمط الأوروبي الأوسع

في مختلف أنحاء القارة، لم يعد الناخبون يختارون بين اليمين واليسار، بل بين القدرة على الحكم وكفاءة الأداء، فالمواطنون الهولنديون لم يرفضوا القضايا التي يطرحها فيلدرز، مثل الهجرة والهوية وتكاليف التحوّل، بل رفضوا عجزه عن إدارة الحكم، ولم يحتضنوا النزعة التكنوقراطية، بل طالبوا بالكفاءة والمسؤولية.

أما الدرس الأخلاقي فهو أن الديمقراطيات لا تنهار عندما يعلو صوت المتطرفين، بل عندما ينسى التيار الوسطي كيف يحكم.

في مختلف أنحاء القارة لم يعد الناخبون يختارون بين اليمين واليسار بل بين القدرة على الحكم وكفاءة الأداء

ثلاث حقائق هيكلية باتت اليوم تُعرِّف المشهد الأوروبي:

أولًا، عودة الدولة إلى مركز الفعل، فسياسات الصناعة، وتصنيع الدفاع، وبنى التحوّل المناخي التحتية تتطلّب تخطيطاً واستراتيجية، لا شعاراتٍ وخطابات.

ثانياً، المحاكم أصبحت فاعلاً سياسيا، فالأحكام المتعلقة بالمناخ وسيادة القانون باتت تؤثّر في أجندات الحكومات بقدر ما تفعل الانتخابات نفسها.

وأخيراً، التفتت أصبح واقعاً دائماً، فلن تعود السياسة الأوروبية إلى الاصطفاف في كتلتين واضحتين، بل ستظلّ الائتلافات الحاكمة واسعة، قائمة على التفاوض، وهشّة بطبيعتها.

هذا هو المناخ الذي تعمل فيه هولندا اليوم، والذي يتعيّن على أوروبا أن تتعلّم كيف تتأقلم معه وتنجح في إدارته.

زعيم حزب D66 روب يِتّن يُدلي بتصريحاتٍ عقب الانتخابات البرلمانية الهولندية (أ ف ب)
الخامس: السيناريوهات المستقبلية
ائتلاف كفؤ:

يتشكّل ائتلافٌ واسع ذو توجه وسطي ويحكم بانضباط ومسؤولية، في ظل هذا السيناريو، تستقرّ البرامج طويلة الأمد الخاصة بالمناخ والدفاع، ويصبح تسريع النمو الصناعي الأوروبي ممكناً، بينما تُدار قضايا الهجرة بآليات إدارية منظمة لا باستعراضات سياسية.

وبهذا، تكتسب أوروبا ركيزة فاعلة في شمالها تعزز توازنها واستقرارها.

شلل مُدار:

يتشكّل ائتلافٌ حاكم، لكنه يفتقر إلى الانسجام الداخلي، حيث تتقدّم السياسات بخطواتٍ صغيرة ومتقطعة، فيما يطغى منطق إدارة الأزمات على التخطيط طويل الأمد، وتتراجع وتيرة الابتكار والتجدي

تتمكّن أوروبا من الاستمرار بصعوبة، لكنها تفقد تدريجياً فرصة القيام بتعديلات صناعية واستراتيجية سريعة كان يمكن أن تضمن لها موقعاً أكثر قوة في المستقبل.

الانهيار وعودة اليمين المتطرّف:

 ينهار الائتلاف الحاكم، ويُعاقب الناخبون حالة العجز والاضطراب السياسي في صناديق الاقتراع، ويعود فيلدرز أو من يخلفه إلى الساحة بقوةٍ أكبر، مستفيداً من السخط الشعبي وفقدان الثقة بالمؤسسات التقليدية.

تتباطأ وتيرة تنفيذ سياسات المناخ، وتضعف الالتزامات الدفاعية، فيما تتحوّل الأمنية الاقتصادية من نهجٍ استراتيجي قائم على التخطيط إلى ردود أفعال آنية تُدار بالأزمات لا بالتصوّر الطويل المدى.

النتيجة الأكثر احتمالاً

هي الشلل المُدار، وليس ذلك لأن النظام الهولندي عاجز، من حيث المبدأ، عن تقديم حكم كفؤ، بل لأن الظروف الهيكلية التي سيعمل تحتها الائتلاف القادم تجعل الحفاظ على الانسجام الدائم أمراً بالغ الصعوبة، حتى لو بدأ الائتلاف بنوايا جدية وحسنة.

سادساً: الانتخابات الهولندية

لم تُعِد الانتخابات الهولندية مركزية الحكم، بل كسبت بعض الوقت، حيث لم يرفض الناخبون أفكار اليمين الشعبوي، بل رفضوا عجزه عن الحكم، وما قدمته هولندا لأوروبا هو إعفاء مشروط، أي فرصة لإثبات أن الدول الديمقراطية لا تزال قادرة على التخطيط والبناء والإدارة.

لكن هذه الفرصة ضعيفة جداً، فالائتلاف القادم سيكون واسعاً لكنه مُرهَق داخلياً بالتناقضات والصراعات، ويُقاس نجاحه ليس بالخطابات والشعارات، بل بالأداء الفعلي من فتح ملف الإسكان، وإدارة إجراءات اللجوء بفعالية، وتنفيذ التحوّل الأخضر كجزء من بنية تحتية استراتيجية لا كأداة لصراعات الهوية، والتعامل مع الأمن الاقتصادي كخطة استراتيجية طويلة الأمد لا مجرد استجابة للأزمات.

في عصرٍ مقسم، الإدارة الكفؤة للموجود ليس أمراً بسيطاً؛ بل هي الاختبار الحقيقي لقدرة النظام على العمل والاستمرار.

إذا نجح الائتلاف في ذلك، فسيُرسي الاستقرار في شمال أوروبا، ويُعيد تركيز بروكسل حول الحوكمة بدلاً من الأداء، أما إذا تعثر، فسيعود اليمين المتطرف أقوى، مُدّعياً تأييده، فالحزام الصحي ليس حلاً، بل هو موعد نهائي.

 لقد منحت هولندا أوروبا فرصة ثانية والمهم الآن هو ما إذا كانت ستُستغل هذه الفرصة أم لا؟، حيث نجى التيار الوسطي الأوروبي من الانهيار، لكن ذلك مرهون بقدرة لاهاي على تحويل الكفاءة إلى زخم سياسي.

توماس فالك

توماس فالك

توماس فالك، صحفي ومحلل مقيم في لندن، يركّز على العلاقات عبر الأطلسي، والشؤون الأمريكية، والأمن الأوروبي. وبخبرته الطويلة في التقارير السياسية والتحليل الاستراتيجي، يعتمد على أبحاث معمّقة، ورؤى تاريخية، وتطورات ميدانية لاستكشاف القوى التي تُشكّل المشهد الجيوسياسي الحالي.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.