إعادة تموضع إيران: مناورة للهيمنة أم تراجع نحو الداخل؟

تقرير
إيرانيون يشيعون قائد الحرس الثوري أمير علي حاجي زاده وقادة عسكريين آخرين قُتلوا في الضربات الإسرائيلية (أ ف ب)
إيرانيون يشيعون قائد الحرس الثوري أمير علي زاده وقادة عسكريين آخرين قُتلوا في الضربات الإسرائيلية (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

بينما تسعى طهران إلى التكيف مع التطورات المتسارعة في تحالفات المنطقة، تظل الحدود بين الانسحاب التكتيكي وإعادة التقييم الاستراتيجي غامضة، إذ تقف إيران اليوم على مفترق طرق تاريخي حاسم.

وعلى الرغم من ادعاءاتها المتكررة بعدم تأثرها بالضربات الأمريكية والإسرائيلية، إلا أن الحقائق تكشف واقعاً مختلفاً تماماً، لا سيما بعد الخسائر الفادحة التي منيت بها شبكة نفوذها الإقليمية، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، إضافة إلى تراجع وكلائها الآخرين وامتناعهم عن التدخل، في الوقت الذي تعرضت فيه الأراضي الإيرانية لقصف جوي مكثف من الطائرات الإسرائيلية.

ولكن بعد إعلان الولايات المتحدة الهدنة لوقف الحرب بين إسرائيل وإيران، يجد قادة طهران أنفسهم أمام واقع لا رجعة فيه وعليهم الاختيار: هل يواصلون السياسة التي تبنوها على مدى سنوات طويلة، عبر دعم وكلائهم الإقليميين والمضي قدماً في برامجهم النووية والصاروخية، أم يتجهون نحو الداخل لمعالجة أزماتهم الداخلية واحتواء بؤر الاضطراب المتنامية؟.

الإجابة على هذا السؤال لا تعتمد على إيران فقط، بل أيضاً على العديد من القوى في الشرق الأوسط، وكذلك على ما ترغب به إسرائيل والولايات المتحدة. فهل ستلجأ طهران إلى إعادة تقييم استراتيجية شاملة، أم ستكتفي بتوقف تكتيكي مؤقت؟.

عالم إيران

في غضون عام ونصف منذ هجوم 7 أكتوبر 2023، ثم الهجمات الإسرائيلية الأخيرة والضربات الأمريكية اللاحقة على منشآتها النووية الرئيسية، انقلب عالم إيران رأساً على عقب. فمن جهة، بات من الضروري أن تعيد تقييم أولوياتها السياسية وتتجه نحو الداخل، ومن جهة أخرى، تحتاج بشدة إلى إعادة النظر في برامجها التوسعية خارج حدودها.

حلم طهران بمشروع استنهاض لإرثٍ إمبراطوري ضارب في عمق التاريخ، يمتد من قلب آسيا الوسطى، إلى البصرة على ضفاف الخليج العربي، مروراً بسواحل البحر الأحمر، وصولاً إلى البحر المتوسط عبر سوريا ولبنان وغزة، أجبر إيران اليوم بضغط من الأمريكيين والإسرائيليين، على الدخول في مفاوضات تضعها تحت المراقبة والتدخل في شؤونها الداخلية.

القيادة الإيرانية لا تزال ذاكرتها جيدة نوعاً ما فهي لا تنسى شيئاً، ورأت أمامها ما آلت إليه نهاية جارها صدام حسين، الذي فتح قصوره الرئاسية أمام المفتشين الدوليين وتعرض للإهانة السياسية، ومع ذلك لم ينجُ من الغزو الأمريكي وسقوط نظامه.

ومع ذلك، طهران اليوم لا تعيش في أوهام بشأن ما هو مطلوب منها تحديداً، فهي تدرك جيداً أن الحوار لا يدور فقط حول الجوانب التقنية مثل: حدود تخصيب اليورانيوم، بل يتعدّى ذلك إلى جوهر برنامجها النووي.

ولديها قناعة أن المفاوضات ستطال مصير أكثر من 17,000 جهاز طرد مركزي تعمل حالياً، وكذلك الكميات الهائلة من اليورانيوم العالي التخصيب المخزّن في مستودعاتها.

فهل ستوافق إيران على تدمير هذه الأجهزة الفائضة، كما ترغب واشنطن، أم ستصرّ على الاحتفاظ بها داخل أراضيها كضمانة استراتيجية، تحسّباً لتراجع أمريكي عن أي اتفاق جديد، كما حدث في الماضي؟.

طهران تدرك أن الحوار لا يقتصر على قيود تخصيب اليورانيوم فقط بل تشمل المناقشات أجهزة الطرد المركزي ومصير كميات ضخمة من اليورانيوم عالي التخصيب

تبقى الإجابة بتفاصيلها التقنية محصورة بنتائج محور النقاشات الشاقة ضمن جولات التفاوض المتنقلة بين مسقط وروما أو حتى في أماكن أخرى في المستقبل.

وعلى النقيض من ذلك، فإن تجاوز هذه العقبات، لن يكون نهاية المطاف لطهران، بل ستبدأ المداولات الحقيقية والنقاش حول التموضع السياسي لها، وحدود نفوذها، ومستقبل مشروعها الإقليمي بمجرد أن تُحل القضايا الفنية.

 الاتفاق مع إدارة أوباما

تعود إيران مجدداً إلى طاولة المفاوضات حول برنامجها النووي، طامحة لإحياء اتفاق شبيه بذلك الذي أُبرم في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عام 2015، قبل أن يُجهِز عليه خلفه دونالد ترامب بقرار الانسحاب الأحادي عام 2018.

كان الاتفاق آنذاك بمثابة تسوية تاريخية، قيدت إيران بشروط فنية صارمة، من حيث نسبة التخصيب لم تتجاوز 4%، وجرى حصرها في منشأة نطنز قرب أصفهان.

 أما منشأة فوردو فكان من المفترض أن تتحول إلى مركز أبحاث نووية غير عسكري، بينما احتُفظ بمنشأة آراك لإنتاج الماء الثقيل لكن بتعديلات تمنع إنتاج البلوتونيوم المستخدم في صناعة القنابل النووية.

وشمل الاتفاق ترتيبات غير مسبوقة للتفتيش في أي وقت، مع التزام الوكالة الدولية للطاقة الذرية باستخدام وسائل مراقبة دقيقة وحديثة. حيث توصلت إيران إلى هذا الاتفاق مع ست قوى كبرى هي: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، بعد مفاوضات شاقة في مدينة لوزان السويسرية.

وفي مقابل ذلك، حصلت طهران على مكسب اقتصادي كبير تمثل في رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية المرتبطة ببرنامجها النووي، وتسهيل تدفق الأموال المجمدة، وفتح نوافذ للتجارة الدولية.

 كما وافقت على نقل الوقود المُخصب إلى روسيا، في محاولة لتقليل الهواجس الغربية.

لكن التطبيق العملي للاتفاق لم يكن على مستوى التطلعات، فسرعان ما بدأت الخلافات تطفو على السطح، حيث تبادلت إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية الاتهامات بشأن الالتزام ببنود الاتفاق.

ترامب ينسحب من الاتفاق  

مع وصول ترامب إلى السلطة، تغير كل شيء ففي 8 مايو 2018، أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق النووي وأعادت فرض العقوبات على طهران، ووصف ترامب الاتفاق بأنه كارثة، مؤكداً أن وعود إيران كانت كذباً.

ومع ذلك، أعلنت باقي الدول الكبرى الموقعة على الاتفاق تمسكها المستمر به. ومن بين اتهاماته المتكررة لإدارتي أوباما وبايدن، قال ترامب: “إن أوباما وبايدن نقلوا مليارات الدولارات إلى طهران، ما ساعدها على نشر الفوضى في المنطقة”.

 الأوساط الإسرائيلية

وعلى النقيض من ذلك، لم يفوّت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي فرصة للتفاخر بأنه هو من أقنع ترامب بإلغاء الاتفاق مع إيران.

ومع ذلك، لم تكن الدوائر العسكرية الإسرائيلية سعيدة بهذا الإلغاء، حيث أكدوا أن قرار نتنياهو ترك البرنامج النووي الإيراني بلا رقابة، ما سمح لمعدل تخصيب اليورانيوم بالارتفاع إلى أكثر من 60%، وحسب بعض التقديرات إلى أكثر من 80%.

وقد قرب هذا إيران من امتلاك قنبلة نووية، وأشار بعض الخبراء الإسرائيليين إلى أن إيران كانت على بعد أسابيع فقط من بناء قنبلة نووية.

طموحات إيران

رغم أن طموح إيران في استعادة نسخة معدلة من الاتفاق النووي الذي أُبرم في عهد أوباما قد يبدو بعيد المنال، إلا أن طهران تخوض المفاوضات في ظل واقع سياسي وعسكري دقيق.

وقد تكبد حلفاؤها ضربات موجعة، وتعرضت هي لضربات عسكرية أمريكية-إسرائيلية دمرت برنامجها النووي.

مبعوثو إدارة ترامب لم يخفوا موقفهم الصارم، مؤكّدين أن الولايات المتحدة ستطالب إيران بتفكيك بنيتها التحتية النووية بشكل كامل، مستلهمةً في ذلك “النموذج الليبي” الذي قاده تفكيك معمر القذافي لبرنامجه النووي وتسليمه لوكالة الاستخبارات الأمريكية.

كما صرّح المبعوث المفضل لترامب، ستيف ويتكوف، بأن إيران مُلزمة بوقف وإلغاء كامل لبرنامجي التخصيب والأسلحة النووية، بدون استثناء.

فرصة للتفاوض

ومع ذلك، في ظل هذا الخطاب المتشدد، تسود في أروقة صنع القرار في واشنطن توقعات بأن هذه المواقف القاسية قد تكون في الواقع مدخلاً لفتح باب التفاوض والمساومة، إذ لا تبدو الإدارة مستعدة للانزلاق في صراع طويل الأمد آخر بالمنطقة.

الهدف الحقيقي للإدارة قد يكون الحصول على ضمانات صارمة تحكم مستوى التخصيب ومصير الوقود النووي، وهو اتفاق يمكن تقبله طالما أن التهديد الإيراني في المنطقة قد خفّ بفضل الضربات الإسرائيلية التي ألحقت أضراراً جسيمة بحلفاء إيران من حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، بالإضافة إلى سقوط نظام الأسد في دمشق وتصاعد المواجهات بين القوات الأمريكية والحوثيين.

وهنا يكمن السؤال الجوهري: هل ستقبل إدارة ترامب، بعد كل هذه الخطوات والضغوط، بالتنازل والعودة إلى اتفاق معدل على نمط اتفاق أوباما؟.

إذا كان السيناريو سيتجه نحو ذلك بالفعل، فالسؤال الأهم يبقى: ما الهدف الحقيقي من كل هذه السياسات والإجراءات التصعيدية التي اتخذها ترامب؟.

تدمير حزب الله وسقوط نظام الأسد والمعركة المفتوحة بين القوات الأمريكية والحوثيين تطرح تساؤلاً جوهرياً: هل ستقبل إدارة ترامب نسخة معدلة من اتفاق أوباما النووي؟

سوء التقدير الإيراني

المفاوضات بين واشنطن وطهران لم تُصمم لتدوم طويلاً، والرئيس ترامب وضع إيران أمام مهلة أخيرة لا تتجاوز شهرين لإنهاء الاتفاق، مع تهديد ضمني ببدائل أكثر صرامة.

بينما مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، مايكل والتز، أعلن بوضوح أن “كل الخيارات مطروحة على الطاولة”، محدداً شروط واشنطن الصارمة، عبر تفكيك كامل للمرافق النووية الإيرانية، والتوقف الفوري عن تخصيب اليورانيوم، وإنهاء برنامج الصواريخ الباليستية، ومنح مفتشي الأمم المتحدة حق الوصول الكامل وغير المشروط إلى جميع المواقع الإيرانية، فضلاً عن تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة إلى أدنى حد ممكن.

وعلى النقيض من ذلك، فإن الرد من طهران لم يتأخر؛ حيث وصف المرشد الأعلى، علي خامنئي، هذا الإنذار النهائي بأنه محاولة ابتزاز وتهديد فارغ لا أكثر.

وفي خطابه، أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن المفاوضات مع واشنطن محصورة فقط في ملف تخصيب اليورانيوم، مستبعداً بشكل قاطع أي نقاش حول تفكيك البرنامج النووي أو مناقشة تسليح إيران بأسلحة أخرى سوى أسلحة الدمار الشامل.

أما عن جماعات الميليشيات المسلحة في المنطقة، فقد نأت طهران بنفسها عن مسؤوليتها، مؤكدة أن هذه الفصائل تعمل بشكل مستقل ولا تخضع لإمرة الحكومة الإيرانية بشكل مباشر.

أمريكا تُجهض مخطط نتنياهو

فيما تواصل إسرائيل مراقبة تطورات الموقف الإيراني عن كثب، بدأت التصريحات الأمريكية بالتوارد، لتُجهض تدريجياً آمال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في خيار عسكري ضد إيران.

في اليوم التالي، صدرت عن واشنطن تصريحات أقل حدة، ما أثار خيبة أمل في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية.

وكشفت صحيفة نيويورك تايمز في تسريب لافت عن أن إدارة ترامب أوقفت خطة كانت تجهّز لتوجيه ضربة إسرائيلية ضد المنشآت النووية الإيرانية بدعم أمريكي مباشر، بسبب انقسامات داخل الإدارة الأمريكية نفسها.

الإدارة الأمريكية باتت منقسمة إلى معسكرين واضحين، الأول، يدعم مسار التفاوض ويضم نائب الرئيس جاي دي فانس، والمبعوث المتعدد الأطراف ستيف ويتكوف، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ووزيرة الخارجية تولسي غابارد.

أما المعسكر الآخر، فيدفع باتجاه التصعيد العسكري، ويضم وزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي السابق مايكل والتز، مدعومَين من شخصيات نافذة في مجلس الشيوخ.

ومع ذلك، تم تجميد الخيار العسكري بسبب مخاوف استراتيجية أبرزها، احتمال ارتفاع أسعار النفط بشكل حاد، وردود فعل إيرانية مباشرة تستهدف قواعد أمريكية في المنطقة، والأهم من ذلك، تمسّك الرئيس ترامب بفلسفته السياسية الرافضة للتورط في حروب الشرق الأوسط، إذ يُفضّل عقد الصفقات المربحة اقتصادياً بدل الانخراط في صراعات طويلة الأمد.

وهذا يشير إلى أنه بين إدارة أمريكية تركّز على أولويات اقتصادية كبرى، أبرزها المواجهة التجارية مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، وإيران التي أنهكتها الضربات وخسرت ذراعها الإقليمي، يبدو أن مسار التسوية بات أقرب من الانفجار، وأن الصفقة أكثر ترجيحاً من الصدام.

رجال الإسعاف والطوارئ خارج مبنى تعرض لضربة إسرائيلية في طهران بتاريخ 13 يونيو (أ ف ب)
  الضربة وفشل التفاوض

كل السيناريوهات والتكهنات بشأن إيران تصطدم بعقبة واحدة، “بنيامين نتنياهو”، الرجل الذي كرّس أكثر من عشرين عاماً من حياته السياسية لتصوير إيران كتهديد وجودي للدولة العبرية، لا تهديداً عادياً.

لكن بالنسبة لنتنياهو، لا يوجد خيار آخر لمواجهة هذا التهديد سوى ضربة جوية إسرائيلية حاسمة، مدعومة أمريكياً، تستهدف البنية التحتية النووية الإيرانية وتدمرها بالكامل قبل أن تصل طهران إلى العتبة النووية.

وخطابه الشهير أمام الكونغرس الأمريكي، متحدياً إدارة أوباما بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، كان لحظة مفصلية في مسيرته السياسية، فقد ظهر كزعيم إسرائيلي يقف وجهاً لوجه ضد رئيس أمريكي في قلب المؤسسة التشريعية الأمريكية، مطالباً برفض الاتفاق الذي اعتبره بمثابة تهديد مباشر لأمن إسرائيل القومي.

وهذا ما فعله نتنياهو عندما كانت إيران قوية ومحورها محاصراً لإسرائيل من جميع الجهات.

 وفي اللحظة التي أعلن فيها ترامب العودة إلى طاولة المفاوضات مع إيران، ظهر نتنياهو في المؤتمر الصحفي إلى جانب الرئيس الأمريكي، لكنه لم ينطق بكلمة واحدة، وهذا الصمت لم يكن اعتباطياً.

ربما كان نتنياهو يراهن على تصلّب الموقف الإيراني، متوقعاً انهيار المحادثات، ما يمنحه فرصة تاريخية لتدوين اسمه في سجل الزعماء الإسرائيليين الكبار، إلى جانب مناحيم بيغن، الذي أمر بتدمير المفاعل النووي العراقي في 7 يونيو 1981، وإيهود أولمرت، الذي نفذ ضربة سرية ناجحة ضد المفاعل السوري في 6 سبتمبر 2007.

إسرائيل مهملة في المفاوضات

رغم أن المفاعلات النووية العراقية والسورية كانت أقرب جغرافياً إلى إسرائيل، إلا أنها كانت بدائية في مراحلها الأولية، وسهلة الاستهداف، أما المشروع النووي الإيراني، فهو قصة أخرى تماماً.

بنيامين نتنياهو لم يتوقف عن دقّ ناقوس الخطر، مكرراً أن إيران باتت على بُعد أيام من الوصول إلى مستوى تخصيب يتيح لها إنتاج قنبلة نووية، لكن ما يردده نتنياهو لا يُغيّر من الواقع شيئاً، فالقرار لم يعد في يده، لا سياسياً ولا عسكرياً.

ومع ذلك، تحليلات عسكرية غربية تؤكد أن إسرائيل تفتقر إلى القدرة على تنفيذ ضربة شاملة تدمر جميع المنشآت النووية الإيرانية، التي تنتشر في عمق الأراضي الإيرانية، وتتمتع بتحصينات معقدة تحت الأرض يصعب اختراقها حتى بأحدث الطائرات والتقنيات.

والأهم من ذلك، أن إسرائيل باتت فعلياً خارج غرفة المفاوضات، فهي ليست طرفاً في الحوار الجاري بين واشنطن وطهران، وحتى طلبها الحضور كمراقب تم تجاهله ببرود.

 أمام هذا التهميش، لم تجد إسرائيل خياراً سوى اللجوء إلى القنوات الخلفية، حيث أُوفد رئيس جهاز “الموساد”، ديفيد برنياع، والوزير رون ديرمر إلى روما لمحاولة انتزاع أي معلومة من المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، لكن اللقاء كان عقيماً، وتحفّظ ويتكوف عن الكشف عن مسار المحادثات.

وهذا كان يشير إلى أنه لم يتبقَ لنتنياهو سوى الرهان على فشل المفاوضات، على أمل أن تنسف إيران الاتفاق بشروطها، وأن يجد هو فرصة جديدة لإقناع الرئيس ترامب باعتماد خياره التاريخي، ضربة عسكرية تضع حداً نهائياً للمشروع النووي الإيراني وهو ما حدث لاحقاً.

مناورات ومفاجأة

في مواجهة هذا المشهد، كانت إسرائيل غير راضية عن المفاوضات وسعت إلى فرض واقعٍ عملي ينهي الطموحات النووية الإيرانية ويسحب الولايات المتحدة إلى خطها، حتى لو كان بالقوة.

وبعد سلسلة من المناورات والتصريحات المضللة من ترامب وإدارته، شنت إسرائيل هجوماً مفاجئاً على إيران في 13 يونيو. استهدفت الضربات المواقع النووية الرئيسية والصاروخية وأنظمة الدفاع الجوي في إيران.

كما استهدفت وأوقعت قتلى من بين العلماء النوويين وقادة عسكريين، إذ دمرت الهجمات جزءاً كبيراً من ترسانة الصواريخ، وفي المقابل تسببت في تراجع في البرنامج النووي الإيراني.

وعليه، شنّت الولايات المتحدة ضربة نهائية ضد الموقع النووي الأكثر تحصيناً وعمقاً في فوردو، بالإضافة إلى محطات التخصيب في نطنز وأصفهان.

 وأشارت الولايات المتحدة إلى أن ضرباتها قد أضعفت البرنامج النووي الإيراني، ما أدى إلى تأخيره لمدة تتراوح بين عام وعامين.

الرد الإيراني

كان الرد الإيراني على قاعدة العديد العسكرية الأمريكية في قطر محسوباً بدقة ليكون محدوداً وغير مضر ومرتبط بتوقيت يهدف إلى تجنب استفزاز ضربة ضخمة من واشنطن.

وأعلنت طهران لاحقاً عن أن انتقامها قد تحقق بشكل عادل، وأن المهمة قد أُنجزت.

إلى ذلك، أعلن ترامب عن وقف إطلاق نار مصطلحه غامض، وقال: “إنه معتمد من الجانبين، إسرائيل وإيران، وأنه “حان الآن وقت السلام”.

أما الأذرع الإيرانية بالوكالة في لبنان وسوريا والعراق واليمن فلم تكن مرئية خلال الضربات الإسرائيلية والأمريكية، باستثناء بعض الصواريخ التي أُطلقت من اليمن.

بعدها تحول رهان إسرائيل على زعزعة استقرار النظام في طهران إلى وهم، حيث خرج عدد هائل من الإيرانيين إلى الشوارع يرددون هتافات “الموت لإسرائيل” و”الموت لأمريكا” ويشيدون بـ”أبطال” جيشهم وقادتهم.
لكن دقة الاغتيالات المستهدفة لعدد كبير من القادة والعلماء البارزين كشفت مدى هشاشة الأمن الإيراني وخطورته، وعمق الاختراق الذي تعرض له.

وهذا يشير إلى أن النهاية غير الناضجة للحرب تبين أن إسرائيل ربما أخطأت في تقدير مدة الصراع وقدرات إيران الصاروخية الفعلية. إذ أنها قد تكون أضعفت إيران وألحقت ضرراً ببرنامجها النووي، لكنها بالتأكيد فشلت في تقويض طموحاتها النووية.

 النهاية غير المكتملة للحرب تشير إلى أن إسرائيل ربما أساءت تقدير مدة الصراع والقدرات الحقيقية لإيران فنجحت في إضعافها لكنها فشلت في تقويض طموحاتها النووية

مع الأخذ بعين الاعتبار أن إيران لا تزال تمتلك عشرات المنشآت النووية التي لم تتضرر، بالإضافة إلى الشكوك حول مدى الضرر الذي لحق بالأهداف النووية التي استهدفتها الولايات المتحدة.

من الواضح أن الولايات المتحدة كانت حذرة من الانخراط الكامل في الحرب، وذلك بسبب مخاوف جيوسياسية وضغوط سياسية داخلية. لكن الأهم من ذلك هو أن الضربات ساهمت في تقليم أذرع إيران ووضع حد لطموحاتها التوسعية المستندة إلى القوة النووية.

ومع ذلك، فقد منحت هذه الضربات إيران الذريعة التي كانت تنتظرها للتخلص من أنشطة الرقابة والتفتيش المهينة التي كانت تخضع لها من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، والتي باتت تنظر إليها الآن كجهاز تجسس غربي.

وهذا من شأنه أن يمنح طهران حرية أكبر لتسريع برنامجها النووي، ما يزيد من احتمالية جولة جديدة من المواجهة العسكرية.

وهذا يشير أيضاً إلى أن وقف إطلاق النار الذي يفتقر إلى استراتيجية لاحقة لمعالجة سبب النزاع الأساسي، أي البرنامج النووي الإيراني، يزيد من الغموض الذي يحيط بالحسابات الإيرانية. فهو لم ينجح في تبديد الكراهية المتزايدة بين الطرفين المتحاربين، وقد يؤدي إلى توسيع فجوة انعدام الثقة بين طهران وواشنطن.

وقد أثبتت محادثات إيران النووية مع الولايات المتحدة، التي تلت وقف إطلاق النار، حتى الآن عدم جدواها.


واليوم الموقف الإيراني أصبح أكثر تشدداً، إذ تُصرّ طهران على تخصيب اليورانيوم داخل البلاد. ويبدو أن النظام الإيراني يشعر في أعماقه أن الاستهداف الحقيقي لا يطال البرنامج النووي فقط، بل النظام نفسه.

ولا يزال شبح مأساة صدام حسين حياً في الذاكرة الإيرانية، وهم يدركون أن أي ضمانات يقدمونها أو تنازلات يوافقون عليها لن ترضي خصومهم بالكامل.

لكن الحد الأدنى الذي قد يقبل به هؤلاء، من وجهة نظر طهران، هو تغيير النظام أو إدخال البلاد في حالة من الفوضى الشاملة.

وهذا أحد الأسباب التي تجعل النظام الإيراني لا يزال متمسكاً بموقف المقاومة المتشددة تجاه المطالب الغربية.

وعلى النقيض من ذلك، فإن فكرة إسرائيل القائلة بأن زعزعة استقرار الشرق الأوسط وسيلة لضمان الهيمنة وتوفير الأمن لم تعد استراتيجية قابلة للاستمرار. وقد بات ذلك جلياً، خاصة بعد الحرب التي استمرت 12 يوماً مع إيران، والتي كشفت أن إسرائيل، بمفردها، غير قادرة على ضمان هيمنتها أو تحقيق نصر حاسم.

إيران بعد “الشيطان الأكبر”

في ظل الرؤية الاستراتيجية الجديدة التي تعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي، يلفت المحللون الانتباه إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، برفقة جاي دي فانس وماركو روبيو، يحملون شهية مفتوحة لإعادة صياغة العالم، لا تقلّ تطرفاً عن تلك التي حملها دوايت أيزنهاور، وهاري ترومان، وجورج مارشال عقب الحرب العالمية الثانية، أو ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي خلال سبعينيات القرن الماضي.

ورغم أن المقارنة تبدو ساخرة في ظاهرها، خصوصاً بالنظر إلى السلوكيات المتقلبة لهؤلاء السياسيين الجدد على منصات مثل X وTruth Social، والتي تُضفي أجواءً من العبث أحياناً على قضايا في غاية الجدية، إلا أن التوجه الاستراتيجي الأمريكي لا يترك مجالاً للشك، فالعالم القديم قد انتهى.

واليوم، أمريكا تقول بوضوح: “إن مفاهيم مثل الديمقراطية، والناتو، والتحالفات الأوروبية، وحتى التجارة الحرة لم تعد كما كانت، وفي قلب هذا الزلزال الجيوسياسي تقف إيران.

وعلى النقيض من ذلك، فإن حلم تغيير النظام الإيراني ليس جديداً، فقد راود خيال إدارة جورج بوش الابن، وديك تشيني، ودونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل، لكن تلك الإدارات غاصت في مستنقعات أفغانستان والعراق، وانشغلت بحربها المفتوحة على الإرهاب.

أما الآن، فالساحة مهيأة أكثر من أي وقت مضى، فالاتحاد الأوروبي غارق في فوبيا روسيا، وصعود اليمين المتطرف، وأزمات اللاجئين والطاقة والإسلاموفوبيا، بينما روسيا مستنزفة في أوكرانيا، والصين منشغلة في معركة البقاء التجاري وتأمين أسواقها وسط العواصف.

وتدرك طهران جيداً أنه إذا قررت الولايات المتحدة وإسرائيل مهاجمتها مرة أخرى، فإن موسكو وبكين لن تحركا ساكناً لحمايتها. والأمثلة على ذلك كثيرة يصعب حصرها:
سقوط صدام، وبقاء بشار الأسد بثمن باهظ ثم سقوطه، وتدمير غزة، واستنزاف حزب الله وجنوب لبنان، وشن عمليات عسكرية واسعة ضد الحوثيين في اليمن.

إيران من العدو إلى الحليف؟

تسعى واشنطن إلى تحويل طهران من خصمٍ لدود إلى شريك استراتيجي، وتطلب منها أن تطوي صفحة “الشيطان الأكبر”، وتفتح قلبها وأسواقها أمام الشركات الأمريكية، في إطار شراكة اقتصادية مزدهرة.

لكن اللافت في هذا الطرح أنه لا يتضمن أي اشتراطات أميركية بشأن سلوك النظام الإيراني داخلياً، سواءً فيما يخص ملف القمع السياسي أو حقوق المرأة.

الرئيس ترامب لا يُخفي ميوله؛ فقد قالها صراحةً: “أنا أحب الديكتاتوريين، وهم يحبونني”، وعليه، فإن العرض الأمريكي يبدو مغرياً من حيث الشكل، إذ لا يهدد بنية النظام الإيراني ولا يتطلب منه تغييراً أيديولوجياً داخلياً، بل فقط تغيير خطابه الخارجي وعدائه التقليدي لأمريكا.

وعلى النقيض من ذلك، هل طهران مستعدة فعلاً لهذا التحول الجذري؟، وهل هي قادرة على الانفكاك عن محورها الشرقي -موسكو وبكين- والانخراط في منظومة تتحكم فيها واشنطن؟، وهل ستضطر لتفكيك ما تبقّى من نفوذها الإقليمي، بعدما تهاوت أذرعها العسكرية والمالية في لبنان، وغزة، وسوريا واليمن، وربما لم تعد تملك القدرة على إعادة بنائها من جديد؟.

ومع ذلك فإن السؤال الأكثر حساسية هو: هل يتوجب على إيران القبول بالتطبيع مع إسرائيل أو في الحد الأدنى الصمت أمام تمددها وتفوقها الإقليمي؟.

الإجابة على كل ذلك لن تكون في نص الاتفاق النهائي فقط، بل في الكواليس والطريقة التي يُصاغ بها هذا الاتفاق، فالأهم من البنود، هو السياق الذي تُمرّر فيه.

منشأة فردو لتخصيب الوقود النووي بعد الضربة الأمريكية (أ ف ب)
مشروع ترامب لإيران

تتعامل الإدارة الأمريكية مع إيران بمفردها، في جولة التفاوض الجديدة، بعيداً عن الشركاء الأوروبيين، وبشكل يختلف تماماً عن نهج أوباما التشاركي، والهدف لم يعد مجرد اتفاق نووي، بل إعادة هندسة المشهد السياسي والاقتصادي الإيراني بالكامل.

الولايات المتحدة تريد فكّ ارتباط طهران بموسكو وبكين، وإقصاء الشركات الأوروبية، واحتكار السوق الإيراني الواعد لصالح الشركات الأمريكية، لا سيما في مشاريع إعادة الإعمار والطاقة.

وللتذكير، إن الاتفاق النووي في عهد أوباما أدى إلى اندفاع غير مسبوق للشركات الأوروبية والروسية والصينية والتركية نحو إيران، حيث امتلأت فنادق طهران بوفود رجال الأعمال، وعادت خطوط الطيران والعقود التقنية تنهمر.

أما الشركات الأمريكية، فقد كانت محرومة من كل ذلك بسبب غياب العلاقات الدبلوماسية المباشرة مع طهران، رغم أن السوق الإيراني يضم أكثر من 100 مليون مستهلك، وثروة هائلة من النفط والغاز في حاجة إلى استثمارات ضخمة.

الآن، تسعى واشنطن لتصحيح ذلك الخطأ التاريخي، لكن بطريقتها الخاصة.

وعلى النقيض من كل ذلك، فالحرس الثوري الإيراني، الذي يسيطر على نحو 40% من الاقتصاد المحلي، يدرك أن الانفتاح على واشنطن قد يُهدد امتيازاته، ومع ذلك لا يبدو أن النظام يرفض مبدأ الصفقة من حيث الأساس، طالما لم تمسّ جوهر سلطته.

وما يعزز هذه القراءة أن المبعوث الأمريكي، ستيف ويتكوف، ليس دبلوماسياً أو خبيراً نووياً، بل رجل أعمال ومطور عقاري، تم تكليفه سابقاً بملف إنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية، ومهمته واضحة، بتحويل الملفات الجيوسياسية إلى عقود استثمارية.

وقد أعلنت واشنطن صراحة أن وقف إطلاق النار في أوكرانيا لن يتم إلا بعد توقيع كييف اتفاقاً حول المعادن النادرة، وأن موسكو يجب أن تتعهد بعدم منافسة واشنطن في أسواق الطاقة الأوروبية.

وهذا يطرح تساؤلاً عميقاً: هل تشكّل مواجهة “الشيطان الأكبر” فعلاً جوهر بقاء النظام الإيراني؟، وهل يسقط النظام بمجرد أن يتخلى عن سرديته التاريخية وخطابه العدائي ضد واشنطن؟.

 العلاقات الأمريكية-الإيرانية  

في العقود التي سبقت الثورة الإيرانية، تحديداً خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، لم تكن إيران تسير في رَكْب التيارات السائدة في دول الجنوب العالم.

بينما تبنّت كثير من الدول سياسات عدم الانحياز، ودعمت القضايا الثورية مثل تأميم الموارد، والاشتراكية، وكوبا، وفلسطين، وعبد الناصر ونهرو وتيتو، اختارت طهران مساراً مختلفاً تماماً.

باستثناء الفترة القصيرة التي تولّى فيها محمد مصدق رئاسة الوزراء، كانت إيران حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة، وأكبر مشترٍ للأسلحة الأمريكية في المنطقة، بل ذهبت أبعد من ذلك، بتأسيس علاقات استراتيجية مع إسرائيل، رغم ما يمثله ذلك من حساسية إقليمية.

على الصعيد الداخلي، كان النظام الإيراني سلطوياً في المجال السياسي، لكن منفتحاً اجتماعياً، ويتبنى سياسات تحديث جريئة على مستوى التعليم، وحقوق المرأة، والبنية التحتية.

واليوم، تريد واشنطن من طهران أن تعود إلى تلك الأيام الجميلة، حسب الرؤية الأمريكية،
تلك الحقبة التي كانت سبباً مباشراً في العداء الشعبي للنظام الملكي ثم للولايات المتحدة بعد الثورة الإسلامية عام 1979.

هذا العداء تصاعد لاحقاً مع الدعم الأمريكي لصدام حسين خلال الحرب العراقية-الإيرانية، واحتضان قادة الخليج، ما عمّق الهوّة.

ومع وصول الرئيس باراك أوباما إلى السلطة، وتحديداً في ظل العلاقة الشخصية الوثيقة بين وزير خارجيته جون كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، تم كسر العديد من المحرمات السياسية داخل إيران، وبدا وكأن فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة قد ولدت.

لكن مع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض عام 2016، عادت الأمور إلى نقطة الصفر، حيث استغل الحرس الثوري الإيراني، وخاصة جناحه المتشدد، العداء الصريح من ترامب، واغتياله للجنرال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس”، في 3 يناير 2020، لإعادة تعبئة الشارع الإيراني ضد أمريكا.

الخوف من التأثير الثقافي

في أروقة الحرس الثوري ومعاهد الحوزة الدينية في قم، يتصاعد القلق ليس فقط من الضغوط السياسية أو العقوبات الغربية، بل من الغزو الثقافي الأمريكي، الذي يرونه أشد تهديداً للنظام من أي سلاح.

والجيل الإيراني الجديد -المتعطّش للحياة- لم يعد يتسامح مع القيود المفروضة على الإنترنت، ولا مع قمع الحريات الشخصية، أو فرض الحجاب الإجباري، أو الهوس الديني بتقديس الموت والمقامات.

ومع ذلك، السلطة الإيرانية تدرك أن “الثورة” بدأت تتآكل من الداخل، لذا، فإنها تتعامل بحذر شديد مع المفاوضات الجارية مع واشنطن، والقادة في طهران، المعروفون ببرودهم الاستراتيجي وصبرهم الطويل، سيختبرون نوايا واشنطن بدقة.

وعلى النقيض من ذلك، هل هناك إمكانية حقيقية للتوصل إلى تسوية تشبه اتفاق أوباما النووي؟، وهل تستطيع طهران من خلالها استعادة عصر الهيمنة الإقليمية -عصر “السيطرة على أربع عواصم عربية”- والتمدد على ضفاف الخليج العربي، والبحر الأحمر، والمتوسط، أم أن ترامب جاد في تصريحاته، وقد نفد صبره فعلاً، في حال فشل المفاوضات ويمضي نحو استراتيجية “كسر العظم”؟.

وسط هذه التحولات الكبرى، يطرح السؤال التالي: هل بات على إيران أن تعيد ترتيب أولوياتها وتوجّه بوصلتها نحو الداخل؟، وهل حان وقت مواجهة الصدمة الكبرى لفشل مشروع التمدد الإقليمي، والتحوّل من سياسة التوسّع الخارجي إلى احتواء الغضب الداخلي؟.

مشروع التوسع الإيراني

في ذروة نجاح المشروع الإيراني الإقليمي، الذي استغرق أكثر من 25 عاماً من العمل الدؤوب، والتكاليف المالية الهائلة، لم تكن طهران تخفي نشوتها.

والخطاب السياسي الإيراني في تلك المرحلة كان غارقاً في الغرور والاعتداد بالنفس، وترديد عبارات مثل: “نحن إمبراطورية تمتد من بحر قزوين إلى البحر المتوسط”، و”نحن نسيطر على أربع عواصم عربية: بيروت، دمشق، صنعاء، وبغداد”، و”نهدد إسرائيل بمئات آلاف الصواريخ من جنوب لبنان وغزة”، و”نحاصر إسرائيل من كل الاتجاهات، حتى من الضفة الغربية”.

كانت تلك أيام المجد الإقليمي لمشروع “محور المقاومة”، وقد تُوّجت بأقوال المرشد الأعلى علي خامنئي نفسه حين قال: “نتمدد في الخارج كي لا نُضطر للقتال في شوارع طهران.”

وبهذه العبارة، حُدّد جوهر المشروع بوضوح، وأن الهدف الحقيقي من التوسع لم يكن فقط الهيمنة، بل تأمين النظام في الداخل عبر تصدير الأزمات وبناء خطوط دفاع خارجية، لكن كل شيء تغير خلال الأشهر الأخيرة.

 المرشد الأعلى الإيراني يقول: “نتوسع في المنطقة لكي لا نضطر للقتال في شوارع طهران” وهذا أوضح دليل على أن مشروع التوسع الإيراني في المنطقة يهدف بالأساس إلى حماية النظام في الداخل

ولكن، هل سيقبل المرشد الأعلى الآن بالتسوية بعد أن فقد معظم قدرته على مواجهة إسرائيل خلال الضربة الأخيرة، بما في ذلك شبكة الدفاع الجوي التي تحمي المدن والمرافق النووية، والتي يقول الخبراء الأمريكيون إنها دُمّرت إلى حد كبير في الهجوم الذي شنته إسرائيل في 26 أكتوبر 2024؟.

وقد نفى مسؤولون في طهران ذلك، مؤكدين أن الأضرار كانت هامشية.

  انتفاضة الشباب الإيراني  

على مدار سنوات تصدير الثورة ومشاريع الهيمنة الإقليمية، كانت شوارع إيران تتحرك عكس بوصلة القيادة.

وفي الوقت الذي كان فيه النظام منشغلاً بإدارة “محور المقاومة” من بغداد إلى غزة، كانت الأجيال الشابة في الداخل تنشأ على إيقاع آخر، مثل: الإنترنت، والقنوات الفضائية، ومنصات التواصل الاجتماعي، والانفتاح على العالم.

وهذه الأجيال الجديدة لم تعش زمن الشاه محمد رضا بهلوي، ولم تختبر قمع جهاز السافاك، ولا فساد أشرف بهلوي أو تكديس الثروات الملكية، وكل ما تراه اليوم هو نظام ديني سلطوي، تعتبره أكثر فساداً وتسلطاً من الملكية التي أطاحت بها الثورة عام 1979.

وهذا يشير إلى أن الشباب الإيراني اليوم لا يريد شعارات ثورية ولا صواريخ في غزة أو لبنان، بل يريدون سياسة خارجية عقلانية لا تتصادم مع الغرب، ويطمحون إلى رفع العقوبات، إعادة إعمار البلاد، وتحسين مستوى المعيشة.

وهؤلاء لا يفهمون لماذا يُرسَل المال العام إلى حركات خارجية مثل: حماس وحزب الله، بينما يعاني الداخل من أزمة اقتصادية خانقة.

بالإضافة إلى أن اغتيال الطالبة مهسا أميني بسبب عدم التزامها الكامل بالحجاب الشرعي، كان لحظة مفصلية فجّرت الغضب الكامن في صدور الشباب الإيراني، حيث خرجت الجامعات، ثم الشوارع، بمطلب واضح يتمثل بنهاية حكم رجال الدين، وبداية جمهورية ديمقراطية حقيقية لا تهدر ثروات البلاد في مغامرات عسكرية، ولا تتدخل في تفاصيل الحياة الشخصية.

ومع وفاة الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي في حادث مروحي غامض، لم ينجح خليفته الإصلاحي مسعود بازغشيان في امتصاص غضب جيل بأكمله من الإيرانيين الذين يرون بلدهم تتجه نحو مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة.

الشرارة الأولى لثورة الوعي

تعود جذور التمرّد الشبابي في إيران إلى ما يُعرف بـ “الثورة الخضراء”، التي اندلعت عقب انتخابات 2009 الرئاسية، والتي أُعلن فيها فوز المحافظ المتشدد محمود أحمدي نجاد، وسط تشكيك واسع من المعارضة التي أكدت أن الفائز الحقيقي هو الإصلاحي مير حسين موسوي.

وفور إعلان النتائج، نزل أكثر من خمسة ملايين إيراني إلى شوارع طهران، في واحدة من أضخم الاحتجاجات السياسية منذ قيام الجمهورية الإسلامية.

وردد المتظاهرون شعارات غير مسبوقة مثل: “أين صوتي؟ من سرق صوتي؟”، حيث ردّت السلطات بقبضة حديدية، وواجهت الاحتجاجات بحملة قمع دموية أودت بحياة العشرات، وخلّفت شرخاً عميقاً بين الشعب والنظام.

لكن ما ميّز تلك الثورة لم يكن فقط حجم الغضب، بل ظهور جيل جديد مسلّح بوسائل التواصل الاجتماعي، عبّر بوضوح عن هوية سياسية مختلفة تماماً، حيث برزت آنذاك عبارة تلخّص روح التمرّد الجديد: “لا لغزة، لا للبنان، روحي فداءٌ لإيران.”

تصدير الثورة

وكان هذا الشعار أكثر من مجرد رفض للتدخلات الخارجية، بل أول تحدٍ علني لمبدأ “تصدير الثورة”، ورفض واضح لإنفاق المال العام على حروب بالوكالة في المنطقة.

أحد قادة الحركة، مهدي كروبي، ذهب أبعد من ذلك، مطالباً بكشف الملفات الأكثر حساسية، كعلاقة إيران بـ”حزب الله” و”حماس”، والميزانيات الضخمة المخصصة لمغامرات إقليمية لا يفهم المواطن العادي فائدتها.

ومع ذلك فإن الحركة الخضراء لم تسقط النظام، إلا أنها كسرت حاجز الصمت والخوف، وغرست بذور الوعي السياسي الجديد لدى شريحة واسعة من الإيرانيين، الذين لم يعودوا يرون في الثورة الإسلامية مشروعاً مقدساً، بل عبئاً يحرمهم من مستقبل أفضل داخل وطنهم.

مسّ المقدّس

في ذروة الاحتجاجات التي قادها الشباب الإيراني، برز مطلبٌ صادمٌ للنظام، يتمثل بمراجعة صلاحيات “الولي الفقيه” المطلقة، ومساءلة مدى صلاحية هذه النظرية كأساس للحكم، والذي يُعتبر، من وجهة النظر العقائدية الشيعية، نائباً عن الإمام المهدي الغائب، الذي يعتقد الشيعة أنه سيعود في أخر الزمان لإقامة العدل.

لكن اعتبر هذا المطلب قد تجاوز المطالب السياسية والاقتصادية، ولامس جوهر العقيدة التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية عام 1979.

وما إن طُرحت فكرة المراجعة، حتى انفجرت ردة فعل غاضبة من النظام، وبدأت الآلة الإعلامية تتهم المتظاهرين بأنهم “عملاء للموساد والسي آي إيه”، وهي نغمة مألوفة في الخطاب الرسمي الإيراني، كما في بقية الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط.

لكن ما أزعج السلطة فعلاً لم يكن مجرد التظاهر، بل أن جيلاً شاباً بدأ يُسائل “الولي الفقيه” نفسه، ويطرح تساؤلات جوهرية مثل: هل لا تزال هذه الولاية صالحة لإدارة دولة معقدة كإيران في القرن الحادي والعشرين؟.

اعتقالات

ردّت السلطات على ذلك بقسوة، عبر اعتقالات طالت قيادات الصف الأول والثاني من الحركة، وتكميم للإعلام، وحجب واسع النطاق، وقمع شامل في الجامعات والشوارع، وتفكيك تدريجي للحراك، خصوصاً بعد اتساع الهوّة بين جيل الشباب المتطلّع للتغيير الجذري، و”التيار الإصلاحي التقليدي” الذي رفض الذهاب بعيداً في نقد أساس النظام.

كما واجهت الحركة نقطة ضعف بنيوية، إذ بقيت حركة نُخَب مدنية من الطبقة الوسطى، عاجزة عن التمدد إلى الأرياف والمحافظات النائية التي لا تزال تُمثّل خزّاناً اجتماعياً للنظام، سواء بدافع عقائدي أو بسبب الحاجات الاقتصادية.

وفي ظل شحّ الفرص والعمل، التحق مئات آلاف الشبان بمؤسسات القمع، مثل “الحرس الثوري” و”الباسيج”، لا حباً في النظام بل هرباً من البطالة، وهكذا، أصبح جزءٌ من الطبقة الشابة التي يفترض أنها المحرك الطبيعي لأي تغيير، في صفوف القوى التي تحرس النظام وتمنع انهياره.

 ولاية الفقيه

 يُعدّ النظام السياسي الإيراني فريداً من نوعه على مستوى العالم، إذ يجمع بين عناصر ديمقراطية ظاهرية وتناقضات جوهرية لا يمكن التوفيق بينها. فمن جهة، تُجرى انتخابات عامة لاختيار أعضاء البرلمان ورئيس الجمهورية، لكن هذه الانتخابات محكومة بشروط تجعل العملية الديمقراطية أشبه بمنافسة نتائجها معروفة مسبقاً.

وترشّح أي شخص لمجلس الشورى أو لرئاسة الجمهورية مشروط بالحصول على موافقة مجلس صيانة الدستور، وهو هيئة غير منتخبة يعيّن أعضاءها المرشد الأعلى. كما يتولى هذا المجلس فحص طلبات الترشح، ويملك صلاحية القبول أو الرفض بناءً على “معايير غامضة”.
فعلى سبيل المثال، رفض المجلس ترشح محمود أحمدي نجاد للانتخابات الرئاسية التي فاز بها إبراهيم رئيسي، رغم أن أحمدي نجاد شغل منصب الرئيس مرتين بعد انتخابات 2005 و2009.

ولا يُلزَم مجلس صيانة الدستور بتقديم أي تفسير لقراراته، وغالباً ما يُنظر إليه كأداة لتصفية المرشحين غير المرغوب بهم من قِبل المرشد الأعلى. فالوضع الفريد في إيران هو أن هناك نظاماً شبه ديمقراطي تُجرى فيه انتخابات، لكن القرار النهائي في جميع شؤون الدولة يبقى في يد شخصية غير منتخبة: المرشد الأعلى، الذي يمثل ولاية الفقيه.

واللافت أن هذه الفكرة -ولاية الفقيه- ليست محل إجماع في الأوساط الشيعية، فآية الله علي السيستاني، المرجع الشيعي الأبرز في العراق، رفض حتى الآن تبنّي هذا المنصب أو النظرية كأساس للحكم.

لكن رغم ذلك، انتشرت فكرة ولاية الفقيه سياسياً وعقائدياً في مناطق واسعة خارج إيران، وساهمت في بروز العديد من كبار آيات الله الموالين للنظام الإيراني، ما منح الجمهورية الإسلامية نفوذاً سياسياً دينياً عابراً للحدود.

حلفاء سقطوا وآخرون تم إنقاذهم

في نهاية المطاف، يبدو أن إيران تتجه نحو خسارة معظم أذرعها الإقليمية، ومع ذلك، فقد اختارت إنقاذ بعض الحلفاء وترك آخرين يواجهون مصيرهم بمفردهم.

وعبر القناة الدبلوماسية في سلطنة عُمان، سعت طهران لإيجاد مخرج للحوثيين، ونجحت في وقف الضربات الأمريكية على اليمن، لكن لماذا حرصت إيران على إنقاذ الحوثيين؟.

ربما كانت تسعى للحفاظ على ورقة تهديد فاعلة ضد السعودية ودول الخليج، لمنعها من تقديم الدعم للولايات المتحدة في حال فشل المفاوضات واندلاع مواجهة عسكرية مباشر،
كما أرادت الاحتفاظ بأداة قادرة على تعطيل حركة التجارة العالمية في بحر العرب والبحر الأحمر وقناة السويس، بالتوازي مع قدرتها على إغلاق مضيق هرمز في الخليج العربي في حال نشوب حرب.

وهذا يشير إلى أن طهران تسعى حالياً لتأمين مخرج لحلفائها في العراق، لتجنيبهم المصير الذي واجهه كل من حركة حماس، وحزب الله، ونظام بشار الأسد.

كما تنظر طهران إلى بغداد باعتبارها خط الدفاع الأخير عن عمقها الاستراتيجي، نظراً للتداخل الديموغرافي والديني الواسع بين الشيعة في العراق وإيران، ووجود العتبات المقدسة في النجف وكربلاء، ما يمنح العراق أهمية خاصة في الحسابات الإيرانية.

في المحصلة، تتعامل إيران، المعروفة ببراغماتيتها، ببرود وواقعية، فالميليشيات في اليمن والعراق ما تزال تملك دولاً تحتضنها، وموارد تمكّنها، وتقدم فوائد استراتيجية لطهران،
أما حماس، وحزب الله، ونظام الأسد، فقد أصبحوا ـ في نظر القيادة الإيرانية ـ أوراقاً خاسرة لا جدوى من الاستثمار فيها.

 حزب الله

تبدو حالة حزب الله في لبنان خاسرة ويائسة، فإعادة تمويل الحزب وتسليحه أصبحت مهمة شاقة، إن لم تكن مستحيلة، ولا تزال إسرائيل ترفض الانسحاب من المواقع الاستراتيجية في الجنوب.

وفي جنوب لبنان، يتعرض عناصر الحزب وقادته للاستهداف اليومي، فيما يعمل الجيش اللبناني والحكومة على تقليص نفوذ الحزب داخل مؤسسات الدولة بشكل بطيء ولكن ثابت.

كما تم إغلاق المعابر غير الشرعية، وتخضع مطارات وموانئ بيروت لرقابة لصيقة من الدولة اللبنانية بالتعاون مع أجهزة أمنية غربية، وتوقفت حركة القوافل البرية بعد انهيار نظام الأسد في دمشق.

ومع ذلك، تظل الاستراتيجية الوحيدة لإيران في لبنان هي محاولة الحفاظ على ما تبقى من مكاسب الانتخابات البلدية والنيابية للطائفة الشيعية، وهي تسعى للبحث عن حلفاء سياسيين جدد بعد أن تخلّى معظم حلفائها السابقين عن “سفينة حزب الله الغارقة”.

باختصار، عاد المشروع الإيراني في لبنان إلى ما قبل حقبة الثورة الخمينية؛ إذ لم يعد هناك مشروع لـ”دولة داخل الدولة”، بل محاولة يائسة للاحتفاظ بنفوذ داخل الطائفة الشيعية، دون القدرة على السيطرة على الدولة أو فرض الهيمنة عليها كما في السابق.

وفي هذه الأثناء، تستعد السلطات اللبنانية للشروع في تفكيك الجناح العسكري للحزب، ضمن عملية تدريجية لنزع سلاحه بدعم دولي وإقليمي.

  الخروج من كارثة اليمن

في 21 سبتمبر 2014، سيطر تنظيم أنصار الله الحوثي على العاصمة صنعاء، وشكّل مجلساً سياسياً أعلى لإدارة البلاد، وبعد نحو 16 شهراً، في مارس 2016، انطلقت عملية عسكرية بقيادة المملكة العربية السعودية وتحالف عربي ضم الإمارات وقطر والبحرين والمغرب والسودان.
وقدمت الولايات المتحدة دعماً عبر تزويد التحالف بالذخائر والأسلحة، حيث شن التحالف غارات جوية وفرض حصاراً بحرياً.

وبالفعل نجح التدخل العربي في وقف تمدد الحوثيين نحو الجنوب واستعادة مساحات واسعة من الأراضي. لكنه فشل في إنهاء سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء، ومحافظات عمران وصعدة والحديد، التي ما تزال تشكل قلب نفوذهم السياسي والعسكري.

واليوم، بعد سنوات من الحرب، تبرز الحاجة إلى استراتيجية خروج شاملة تُنهي الكارثة الإنسانية والسياسية، وتمنع تحول اليمن إلى نقطة ضعف إقليمية دائمة، سواء لإيران أو لأي أطراف دولية أخرى.

  الدعم الحوثي لحماس

مع اندلاع المواجهة بين حركة حماس وإسرائيل عقب هجوم حماس على مواقع عسكرية ومدنية في جنوب إسرائيل، أعلنت جماعة الحوثي تدخلها في الصراع.

وفي 19 نوفمبر، أقدمت الجماعة على اختطاف سفينة شحن في البحر الأحمر، زاعمة أنها مرتبطة بمصالح تجارية إسرائيلية، حيث شكلت هذه العملية تمهيداً لسلسلة من الهجمات المشابهة التي عطلت حركة التجارة العالمية في المحيط الهندي وقناة السويس.

كما أطلق الحوثيون عدداً كبيراً من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة باتجاه إسرائيل، ورد الجيش الإسرائيلي بهجوم مدمر على ميناء الحديدة الواقع تحت سيطرة الحوثيين.

ويمتلك الحوثيون ترسانة عسكرية ضخمة، ورثوها من الجيش اليمني السابق بعد السيطرة على مقراته، كما زوّدتهم إيران بصواريخ باليستية يصل مداها إلى 2000 كم، إلى جانب مجموعة واسعة من الطائرات المسيرة الإيرانية.

ومع ذلك، فإن مشاركة الحوثيين وتأثيرهم في الصراع بين حماس وإسرائيل كان رمزياً إلى حد كبير، وربما كان الهدف منه تحسين شعبيتهم المتراجعة في الشارع اليمني نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية والانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه المناطق الواقعة تحت سيطرتهم.

الاتفاق الأمريكي – الحوثي

مع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، نفذ صبر الرئيس وفريقه إزاء تصرفات الحوثيين، وطالبت الإدارة الأمريكية الجماعة بوقف استهداف إسرائيل والسفن التجارية، لكن الحوثيين رفضوا الاستجابة.

ومع استئناف القتال في غزة بعد فشل المرحلة الثانية من الهدنة، صعّد الحوثيون من هجماتهم، فردّت القوات الأمريكية بشن غارات عنيفة على أهداف حيوية في جميع المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.

ومع ذلك، جاءت الضربات الأمريكية على غرار الغارات التي شنّها التحالف العربي سابقاً، لكنها افتقرت إلى هجوم بري فعّال.

 وفي بلد بدائي من حيث البنية التحتية ولا يحتوي على بنك أهداف واسعة، وذي تضاريس معقدة، كان من الممكن للحوثيين الصمود أمام الضربات الأمريكية لفترة طويلة.

وعلى النقيض من ذلك، تُعرف إدارة ترامب برفضها الشديد لفكرة التورط العسكري طويل الأمد في صراعات الشرق الأوسط، لذلك، وفي تطور جديد فاجأ تل أبيب والمنطقة، أعلن الرئيس ترامب التوصل إلى اتفاق مع الحوثيين يقضي بوقف الضربات الأمريكية على اليمن مقابل تعهّد الحوثيين بعدم استهداف السفن في البحر الأحمر.

هذا الاتفاق اعتُبر بمثابة “تسوية تكتيكية” أكثر من كونه تحوّلاً استراتيجياً، يعبّر عن رغبة واشنطن في احتواء التوتر دون الانزلاق إلى مستنقع جديد في اليمن، خاصة في ظل تصاعد التوترات على جبهات متعددة في الشرق الأوسط.

إيقاف العمليات في اليمن

كما هو الحال مع العديد من قرارات الرئيس دونالد ترامب التنفيذية، فإن شكل الاتفاق مع الحوثيين وأسباب التوصل إليه لا تزال غير واضحة.

وتشير التقارير إلى أن المفاوضات التي أدت إلى هذا الاتفاق جرت بسرية تامة، وكما هو معتاد، في العاصمة العُمانية مسقط، برعاية وزارة الخارجية اليمنية، حيث أعلن ترامب عن الاتفاق خلال مؤتمر صحفي جمعه برئيس الوزراء الكندي مارك كارني، قائلاً:
“الحوثيون استسلموا وطلبوا من الولايات المتحدة وقف الغارات، لم يعودوا يرغبون في القتال.”

وعلى النقيض ذلك، فإن الاتفاق لا يزال يثير العديد من علامات الاستفهام، فلا يُعرف بعد ما إذا كان يشمل ضمان حرية الملاحة الكاملة في البحر الأحمر، أم أنه يقتصر فقط على وقف الهجمات ضد السفن الأمريكية.

وأوضح الحوثيون لاحقاً أن الاتفاق لا يشمل إسرائيل، وسرعان ما نفذوا تهديداتهم باستمرار إطلاق الصواريخ نحو أهداف إسرائيلية.

لكن اللافت في الأمر هو تجاهل واشنطن الواضح لإسرائيل في هذه التطورات، وعدم مطالبة الإدارة الأمريكية بضمانات توقف الهجمات على تل أبيب.

 وقد عبّرت الحكومة الإسرائيلية علناً عن انزعاجها الشديد من هذا التهميش، معتبرةً أن ما يحدث هو بداية لتراجع مكانتها في الحسابات الأمريكية.

وتفاقم التوتر مع إقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايكل والتز، بشكل مفاجئ، حيث تشير مصادر من واشنطن إلى أن سبب الإقالة يعود إلى تنسيقه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن الملف الإيراني، ومحاولتهما المشتركة لإفشال مفاوضات مسقط، بل وحتى التحضير لعملية عسكرية ضد إيران.

ورغم أن المسؤولين في واشنطن يحرصون على نفي وجود أزمة مفتوحة بين ترامب ونتنياهو، إلا أن تجاهل الرئيس الأمريكي لإسرائيل في جولته الشرق أوسطية يُعدّ مؤشراً واضحاً على أن الأزمة قد بدأت فعلاً بين الحليفين التقليديين.

العراق يبحث عن حل

أما في العراق، تبدو القصة أكثر تعقيداً، فالميليشيات المدعومة من إيران لم تتعرض لهزيمة عسكرية، ولا تزال تهيمن على مفاصل الدولة، خاصة من خلال اختراقها للأجهزة الأمنية والجيش.

لكن من الزاوية الاقتصادية، فإن الصورة لا تزال قاتمة، حيث بدأت الولايات المتحدة باستخدام أدوات ضغط فعالة، من بينها إلغاء كافة الإعفاءات التي كانت ممنوحة للحكومة العراقية.

ونتيجة للتطورات الإقليمية الأخيرة، تم شطب موضوع الانسحاب السريع لقوات التحالف الدولي من العراق، التي كانت تقاتل تنظيم داعش، من جدول الأعمال.

وهذا يشير إلى أن الميليشيات العراقية بدأت تشعر بالحاجة إلى بقاء المستشارين والقوات الأمريكية في البلاد، خصوصاً بعد التحول الجذري في دمشق.

ومع ذلك، فإن الرجل الذي حمل السلاح ضد القوات الأمريكية وضد الشيعة المتعاونين معها، أبو محمد الجولاني، أصبح اليوم رئيساً لسوريا تحت اسم أحمد الشرع.

 وتخشى بغداد أن يكون الجولاني لا يزال يحتفظ بخيوط تواصل قوية مع السنة داخل العراق، والذين يشعرون بسخط عميق من أداء الحكومة العراقية الحالية.

وبالمعايير العراقية، فإن زيادة الاعتماد على واشنطن تعني بالضرورة تقليص النفوذ الإيراني، ولهذا بدأت الحكومة العراقية تتحدث بصوت أعلى عن ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، والحد من نفوذ الميليشيات داخل المؤسسات.

وفي أولى مؤشرات التراجع، أعلنت بعض الميليشيات أنها لا ترغب في الانخراط في أي دعم عسكري لقطاع غزة، ولا في استفزاز إسرائيل، بل إنها منحت الحكومة العراقية مساحة للتحرك بحرية لتطوير علاقاتها مع السعودية والإمارات.

وكحال غيرها من القوى في المنطقة، تنتظر هذه الجماعات بصبر ما ستسفر عنه مفاوضات مسقط.

بين مسقط وروما

السباق المحموم بين التوصل إلى اتفاق أو الانزلاق نحو نهاية عسكرية للصراع يبدو أنه اقترب من نهايته، وواشنطن تتحدث عن جولة حاسمة، والآن أصبحت الخطوط الحمراء للطرفين واضحة تماماً.

والمبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف يؤكد صراحة أن المفاوضات ستكون بلا جدوى ما لم يتم التوصل إلى اتفاقات محددة، فهو لم يُخفِ الخطوط الحمراء الأمريكية، بل أعلنها بوضوح: “لا تخصيب نووي”.

وقال ويتكوف: “لا يمكن السماح بوجود أي برنامج لتخصيب اليورانيوم داخل إيران مجدداً،  هذه هي خطوطنا الحمراء”، وهذا يعني أن منشآت التخصيب في نطنز وفوردو وأصفهان يجب تفكيكها بالكامل.

ومع ذلك فإن هذا الوضوح الأمريكي غير مسبوق، يدل على أن اتفاقاً نووياً على غرار ما تم التوصل إليه في عهد أوباما، أو حتى نسخة معدلة منه، بات خارج الرؤية الأمريكية.

لكن الطرف الآخر يرسم خطوطاً حمراء معاكسة تماماً، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي يتولى التفاوض مع ويتكوف، يؤكد أن لإيران الحق الكامل في امتلاك دورة الوقود النووي، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم على أراضيها.

 ويقول: “إن ما يمكن التفاوض عليه هو درجة التخصيب أو مصير الوقود النووي، وليس مبدأ التخصيب ذاته”.

الولايات المتحدة والمنطقة يراقبان عن كثب مصير هذه المفاوضات، لكن من الواضح أن تل أبيب، والرياض، وأبو ظبي، والمعارضة الإيرانية لديهم تطلعات مختلفة تماماً بشأن النتائج المتوقعة.

دول الخليج والاتفاق النووي

لدى العواصم الخليجية الثلاث التي زارها ترامب، الرياض وأبوظبي والدوحة، قصص وذكريات مختلفة عن جارتها إيران ومستقبل علاقاتها معها.

وتُقدم الرياض نفسها كزعيمة للعالم السني، في مقابل قيادة إيران للعالم الشيعي، وهذا يعني أن كلا الطرفين ورثا رواية تمتد لأكثر من ألف عام من المواجهة بين السنة والشيعة عبر العالم الإسلامي.

وكانت علاقات الرياض بطهران متوترة منذ اليوم الأول لعودة آية الله الخميني إلى طهران من باريس.

وقد اعتبرت الثورة الإيرانية الرياض واحدة من حلفاء نظام الشاه السابق، وهذه النظرة لم تكن دقيقة تماماً، إذ إن جميع العواصم الخليجية لم تكن تنظر إلى الشاه كحليف في المنطقة، وكانت تشعر بالقلق من محاولات الشاه إقامة علاقات مع الشيعة العرب في الخليج.

لكن حكام طهران الثوريين اختاروا هذا المنظور لأنه سهّل عليهم الاستمرار في التدخل في شؤون المنطقة والسيطرة عليها.

من جهة أخرى، شعرت دول الخليج بالارتياح للتخلص من منافسة الشاه في التحالف مع واشنطن.

رغم ما كان متوقعاً، تحسنت العلاقات بين الخليج وإيران بعد انتهاء الحرب. وعلى عكس التوقعات، تحسنت العلاقات الخليجية الإيرانية، إذ خرجت إيران من الحرب منهكة وكانت بحاجة إلى فترة تنفس.

كما بدأت ترسل معتدلين إلى الرئاسة مثل هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي الذين زاروا دول الخليج بانتظام، وتم الحديث عن وحدة العالم الإسلامي، بكل أجنحته السنية والشيعية، ثم انقلبت التحالفات رأساً على عقب عندما تحالف صدام حسين ضد دول الخليج وغزا الكويت.

ماذا تريد الرياض؟

قبل انطلاق المفاوضات وفي لحظاتها الحرجة الحالية، اعتاد عباس عراقجي على زيارة دول الخليج العربي لاطلاعهم على مجريات الأمور، حيث أصبح الخطاب الدبلوماسي أكثر ودية، خاصة بعد الهزائم العسكرية التي مني بها حلفاء إيران في المنطقة.

لكن الرياض ترغب بضمانات بعدم تحول إيران إلى قوة نووية لا يمكن إيقافها في المنطقة، كما تطمح إلى امتلاك برنامج نووي سلمي خاص بها، بالشراكة مع الولايات المتحدة.

والأهم من ذلك، تريد ضمانات بعدم تدخل طهران في الشؤون الداخلية للسعودية، وبالأخص في محاولات دعم الشيعة السعوديين في المنطقة الشرقية.

الاستياء من إيران

وعلى النقيض من ذلك، تتهم الرياض طهران بأنها وراء كل الاضطرابات في القطيف، والهجمات على سفارتها في طهران وقنصليتها في أصفهان، بعد إعدام رجل الدين الشيعي السعودي الذي كان يقود تلك الاحتجاجات.

كما تتهم الرياض إيران بأنها الداعم الرئيسي للاحتجاجات في المنامة والاغتيال السياسي لرئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، المقرب من الرياض ويحمل الجنسية السعودية.

وهذا يشير إلى أن قائمة مآخذ السعودية على إيران طويلة جداً، ولا تتوقف عند دعم حزب الله والحوثيين الذين شنوا هجمات صاروخية على السعودية.

وتعتبر السعودية دعم الجماعات العراقية وبناء تحالف إقليمي يمتد من البصرة إلى غزة تهديداً وجودياً لها، حتى أبرز المحللين يقولون: “إن طهران هي من أمرت بشن هجوم 7 أكتوبر لوقف محاولات السعودية للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام”.

إذا كانت الرياض تريد من طهران ألا تمتلك أسلحة نووية، ولا صواريخ طويلة المدى، وألا تتدخل في شؤون المنطقة، وألا تتواصل أو تحرض الشيعة السعوديين، فهل سيضمن الاتفاق الأميركي-الإيراني تحقيق كل هذه المطالب؟.

الرياض غير قلقة  

يقول ويتكوف: “إن كل الأمور الأخرى ثانوية وغير مهمة، والأمر الوحيد المهم هو البرنامج النووي الإيراني وبرنامج التخصيب”، بعبارة أخرى، واشنطن لن تسعى لإدخال كل عوامل القلق الإقليمي تجاه إيران ضمن الاتفاق.

 وربما في أسوأ السيناريوهات، قد يؤدي نجاح الاتفاق الأميركي-الإيراني إلى تحالف بين واشنطن وطهران يطغى على العلاقات الأميركية مع دول الخليج العربي.

ولكن، هل يعني هذا أن الرياض ستكون معادية لنجاح المفاوضات في مسقط؟ حتى الآن، استراتيجية الرياض تؤكد أن إيران النووية تحتل المرتبة الأولى في قائمة التهديدات، لكنها لن تعرقل الاتفاق أو تعارضه كما فعل نتنياهو.

وهذا يشير إلى أن الاستجابة الملائمة لاحتمال التفاهم والتحالف المقبل بين واشنطن وطهران يتمثل بتعزيز الشراكة الأميركية-السعودية، خاصة بعد هزيمة محور إيران، فلا شيء سيبقى كما كان من قبل.

وفي ظل برنامج نووي سعودي تحت إشراف ومساعدة واشنطن، وتحقيق حلم ترامب باستثمار تريليون دولار في السوق الأميركية وقبول المزيد من الصادرات الأميركية إلى السوق السعودية، تبدو الرياض مرتاحة ومستعدة لقبول أي نتيجة في هذه المفاوضات.

الجار الإيراني

فشل المفاوضات سيفاقم من الضغوط الأميركية والإسرائيلية على طهران، وهذا أمر مرحب به، أما نجاح الاتفاق، قد يؤدي إلى عودة إيران كجار عقلاني يركز على تطوير بلده ونسيان المغامرات الخارجية.

ولكن بعيداً عن آمال السعودية، تشير تجربة العشرين عاماً الماضية من المواجهة غير المباشرة إلى أنه عندما كانت لطهران تحالفات كبرى في المنطقة، لم تتمكن من التأثير الحاسم على السياسات السعودية.

وأبرز نجاحاتها كانت تهديد الحوثيين، الذي انتهى بمبادرة سعودية، إضافة إلى فقدان السعودية تحالفها القديم مع دمشق الذي أرساه الملك فيصل الراحل، وخسارتها لمواقعها في لبنان.

لكن كل ذلك أصبح من الماضي الآن، فالحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة جوزيف عون، والرئيس السوري الجديد أحمد الشراع، جميعهم يسعون إلى علاقات مع السعودية ودعم مالي لإنقاذ أوضاعهم من الواقع الذي أوصلتهم إليه سياسة إيران الإقليمية.

 أبوظبي.. والحلول الممكنة

تتمتع أبوظبي بقصة أكثر تعقيداً مع طهران، فالمسألة هنا ليست مجرد محاولات إيران للهيمنة الإقليمية، أو تدخلها في الشؤون الداخلية، أو تموضع أبوظبي وطهران على محورين سياسيين متناقضين في المنطقة، بل إن الإمارات تمتلك أراضي تحتلها إيران، وهي الجزر الثلاث: أبو موسى، وطنب الكبرى، وطنب الصغرى.

وتطالب أبوظبي في كل الاجتماعات العربية والإسلامية والدولية حقها في هذه الجزر الثلاث.

وعلى النقيض من ذلك، ترفض طهران التفاوض أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية بشأن هذه القضية، وهذا هو جوهر النزاع منذ البداية، لكنه لا يتوقف هنا.

واليوم، كل قضية تتبناها الإمارات تجد إيران على الطرف المقابل، سواء كانت متعلقة بالمحاور الإقليمية، أو القضايا العربية، أو العلاقات مع الغرب، أو مع إسرائيل.

ومع تراجع دور السعودية بسبب انشغالها بشؤونها الداخلية أو تنميتها الاقتصادية في السنوات الأخيرة، برزت الإمارات كطرف رئيس يقود السياسة في المنطقة والعالم العربي في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين أو الإسلام السياسي السلفي.

أما فيما يخص الملف النووي الإيراني، اتخذت الإمارات موقفاً وسطاً، فهي لم تعتمد مقترحات نتنياهو الخاصة بتسليح القضية أو التحريض على ضرب المفاعلات النووية، وترى نجاح المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران حلاً مناسباً للأزمة.

ومع رضاها عن مسار الأحداث واستعدادها للتعامل مع نتائج المفاوضات مهما كانت، طورت أبوظبي علاقاتها في الشرق مع الهند والصين كشركاء تجاريين، وكذلك مع الاتحاد الروسي للتوصل إلى تفاهم حول القضايا الجوهرية في المنطقة.

ولها علاقات خاصة استثنائية مع الإدارتين الأولى والثانية لترامب، وبعد اتفاقات إبراهام، طورت علاقاتها مع إسرائيل في المجالات التجارية والأمنية.

وقبل كل ذلك، تحولت الإمارات إلى مركز تجاري لا غنى عنه لكل الأطراف، خصوصاً في تجارة إعادة التصدير، حيث تعمل كوسيط بين الشرق والغرب.

على أي حال، تراقب أبوظبي مفاوضات مسقط لترى ما إذا كان الاتفاق، إن تحقق، سيؤثر على سلوك إيران في المنطقة.

 قطر والتحالف مع الجميع  

كانت الدوحة المحطة الثالثة في جولة الرئيس ترامب، الحليف غريب الأطوار ضمن حلفائه.
من جهة، تستضيف قطر جميع الحركات والتيارات الإسلامية والجهادية، من حماس في فلسطين، إلى هيئة تحرير الشام التي تولت السلطة مؤخراً في سوريا، وحزب الله في لبنان، والإخوان المسلمين في مصر، والإسلاميين في السودان، وحركة النهضة في تونس، وجماعة العدل والإحسان في المغرب، وتقدّم لهم منبر “الجزيرة” للتخاطب مع العالم العربي والعالم بأسره.

وفي الوقت نفسه، تستضيف قطر محادثات الرهائن مع إسرائيل، وقد أصبحت الوسيط الوحيد في هذا الملف.

وقادة “الموساد” و”الشاباك” يزورون الدوحة بانتظام، وبالنسبة للدوحة، التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، تُعدّ إيران حليفاً رئيسياً، ويتوافق البلدان في المواقف من معظم الملفات الإقليمية.

 وحتى في الملف السوري، حين وقفت الدوحة إلى جانب المعارضة الإسلامية بينما دعمت طهران نظام بشار الأسد، لم يتأثر هذا التحالف المعقّد بينهما.

بالنسبة لقطر، التي تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، تعتبر إيران حليفاً أساسياً، وتتشارك الدولتان في نفس السياسة في كل القضايا الإقليمية. حتى عندما اتخذتا مواقف متعارضة في القضية السورية، حيث دعمت طهران بشار الأسد ودعمت الدوحة المعارضة الإسلامية، لم يؤثر ذلك على علاقتهما المعقدة.

وقد تبقى العلاقة متماسكة رغم أن إيران أطلقت صواريخ على قاعدة العُديد الأمريكية في قطر. رغم احتجاج قطر على الهجوم، فقد منحها هذا الحدث فرصة لتصبح وسيطاً حاسماً في وقف إطلاق النار الناتج عن الحرب التي استمرت 12 يوماً.

أما فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، تحاول قطر الحفاظ على الموقف الخليجي العام الرافض لامتلاك إيران سلاحاً نووياً، لكنها في الوقت ذاته تؤيد حق طهران في برنامج نووي سلمي، وتعارض التهديدات الإسرائيلية.

ومع ذلك، يبدو المشهد الحالي ملائماً جداً للدوحة، فهي تفضل بقاء حالة “لا حرب ولا سلام”،
فأي مواجهة عسكرية قد تضعها في موقف خطير، خاصة مع وجود قوات أمريكية على أراضيها.

 أما نجاح المفاوضات وبناء علاقة طيبة بين واشنطن وطهران فقد يُفرغ دورها كوسيط من مضمونه، ويُضعف مكانتها في الملفات الأخرى التي تشهد صراعات إيرانية-أمريكية.

ورغم رغبتها في بقاء الوضع كما هو، إلا أن قطر لا تملك النفوذ الكافي لتغيير مسار الأحداث، ولا تمتلك أوراق ضغط على إدارة ترامب، وكل ما بوسعها الآن هو أن تأمل في استمرار حالة “لا سلم ولا حرب” لأطول فترة ممكنة.

تُطلق تسمية “المعارضة الإيرانية” على طيف واسع من الأحزاب والحركات التي تختلف في كل شيء، من السياسة، والعرق، إلى الأيديولوجيا، لكن يجمعها فقط العداء للنظام الحاكم في طهران.

المعارضة الإيرانية

وأعادت منظمة مجاهدي خلق -أقدم فصائل المعارضة- تقديم نفسها تحت اسم المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، لكنها اليوم منظمة فقدت تأثيرها في الداخل الإيراني، واقتصر نشاطها على إصدار بيانات، وتنظيم مظاهرات في العواصم الأوروبية، خصوصاً عند وقوع أحداث مفصلية مثل مقتل مهسا أميني.

ورغم محاولات المجلس تقديم نفسه كمصدر لمعلومات حساسة عن البرنامج النووي الإيراني، مدعياً وجود “خلايا نائمة” له داخل البلاد، إلا أن الدوائر الغربية باتت تشكك في مصداقية معلوماته، نظراً لطبيعة أهدافه الواضحة في التحريض ضد النظام بغض النظر عن الوقائع.

كما ينظم المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية تجمعات سياسية دورية يحضرها شخصيات أمريكية وأوروبية، لكن هذه التجمعات تجذب فقط مناصري الحل العسكري الذين يشككون في فعالية المفاوضات ويسعون إلى ضربات عسكرية ضد المفاعلات النووية الإيرانية.

ومن بين هؤلاء المناصرين جون بولتون، مستشار الأمن القومي الذي أُقيل من الإدارة الأولى لترامب بسبب دعواته المستمرة للحل العسكري، ورودي جولياني، المحامي الشخصي السابق لترامب.

 ولذا فإن أي تقارب أمريكي-إيراني، أو نجاح في التفاوض، يمثل تهديداً وجودياً لهذه المنظمة، التي كانت من أبرز معارضي الاتفاق النووي في عهد أوباما.

مشاركة

وبالرغم من مشاركتها في الثورة ضد الشاه، فقد فقدت مجاهدي خلق حضورها في الداخل الإيراني، لا سيما بين أوساط الشباب الذين لا يرون في خطابها البالي أو علاقاتها السابقة ما يعبر عن طموحاتهم الحالية.

أما بقية المعارضة الإيرانية، فأبرزها حزب الحياة الحرة الكردستاني ( (PJAK، المنبثق عن حزب العمال الكردستاني التركي، يعاني من تراجع كبير في الزخم، خاصة بعد إعلان زعيم الحزب الأم عبدالله أوجلان نهاية الكفاح المسلح والتخلي عن فكرة “كردستان الكبرى”، الكبرى التي تشمل مساحات واسعة من تركيا وإيران والعراق وسوريا.

وقد أصبح كل فرع من فروع هذا المشروع، في إيران وسوريا والعراق، يبحث عن طريق مستقل، بعيداً عن الرؤية السابقة.

أما بقية أحزاب المعارضة الإيرانية، فليست في وضع أفضل، وبالنسبة للفصائل البلوشية المسلحة، فهي تواصل تمرداً يائساً بلا أفق، وبعضها ذهب إلى حد الانخراط في تحالفات مع تنظيمات متطرفة كتنظيم القاعدة، في تعبير صارخ عن العزلة واليأس.

والحقيقة القاسية هي أن المعارضة الإيرانية تتصارع فيما بينها أكثر ما تواجه النظام، وفشلت مراراً في عقد مؤتمر وطني يوحّد صفوفها أو يبني برنامجاً سياسياً جامعاً لمستقبل إيران.

وبهذا المشهد المتشظي، وغياب القيادة والرؤية، فإن هذه الفصائل لن يكون لها دور يُذكر، سواء استمرت طهران في نهج المواجهة أو اختارت طريق المصالحة مع الغرب. أو توصلت إلى تفاهم للعودة إلى المجتمع الدولي، وهذه العودة ستكون بلا شك ضربة للمعارضة الإيرانية

المشهد المستقبلي

الأحداث هذه المرة تتخذ منحى مصيرياً، فرهان طهران على انتهاء عهد ترامب وانتظار إدارة ديمقراطية أكثر ليونة لم يعد خياراً مضموناَ.

والرئيس الأمريكي لا يزال أمامه أربع سنوات في الحكم، وإن نجح في ملفيّ الهجرة غير الشرعية وإعادة التصنيع، فقد يُمدد حضوره السياسي، ما يقلل فرص عودة الديمقراطيين.

خلال ولاية بايدن، أهدرت طهران أربع سنوات ثمينة دون أي تحرك فعّال لإحياء الاتفاق النووي الذي ألغاه ترامب.

 بدلاً من ذلك، انشغلت بمغامراتها الإقليمية، ودعمها المتواصل لجماعات مناوئة لإسرائيل، وسعت لإفشال اتفاقيات أبراهام، وفي لحظة انطلاق المفاوضات، كانت إيران في أضعف حالاتها، سياسياً واقتصادياً.

طهران أهدرت فرصة أربع سنوات من ولاية بايدن دون محاولة إقناع واشنطن بتجديد الاتفاق النووي الذي ألغاه ترامب ولم تطور علاقاتها مع الغرب لأنها كانت مشغولة بمحاولات الهيمنة الإقليمية

دخلت طهران المفاوضات في أضعف حالاتها، والوضع الاقتصادي للبلاد يثير غضب غالبية السكان، ولم يعد شكل الحكم الديني يجذب الشباب الإيراني.

وبالمثل، فإن تورطها في المغامرات الخارجية يمثل قضية جدية بالنسبة لواشنطن. فلم يعد بالإمكان تجاهل قرب إيران من مستوى تخصيب يسمح بتطوير قنبلة نووية. وكذلك هناك قوى مؤثرة في واشنطن، بما في ذلك اللوبي المؤيد لإسرائيل، تدعو لتدمير المفاعلات النووية إلى جانب احتمال ضربات مستقبلية. ومع ذلك، فإن التوصل إلى اتفاق لن يكون سهلاً أبداً.

الاتفاق الدبلوماسي

غير أن التوصل إلى اتفاق دبلوماسي لن يكون سهلاً، فالإدارة الأمريكية مطالَبة بإظهار جدية مطلقة في التفاوض، دون الوقوع تحت تأثير الخطاب الإسرائيلي المتشدد الذي يرى أن المواجهة هي الطريق الوحيد.

نتنياهو كان المحرك الرئيسي للأزمة حين أقنع ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، ما ترك البرنامج الإيراني خارج رقابة المجتمع الدولي لسنوات.

واليوم، لم تعد إسرائيل مهددة كما كانت، بعدما تلقى حلفاء طهران، مثل حماس وحزب الله ونظام الأسد، ضربات قاسية قلّلت من قدرتهم على تهديد أمنها.

لكن على واشنطن أن تتعلّم من أخطاء الاتفاق السابق، الذي ركّز على التفاصيل التقنية، مثل: مستويات التخصيب والرقابة على المنشآت، بينما ترك الجانب السياسي للنوايا الحسنة، وهو ما استغلته طهران لتلقي مليارات الدولارات من إدارة أوباما، استخدمتها في دعم أذرعها العسكرية وتأجيج الصراعات الإقليمية.

ماذا بعد؟

الحديث عن تعديل سلوك النظام الإيراني يبدو حالياً أقرب إلى الأمنيات، فالنظام قائم على منطق الصدام، ويستمد شرعيته داخلياً من استدامة التوتر والمواجهة، وبالتالي، فإن التخلي عن هذا النهج يعني تهديداً لوجوده ذاته.

يبدو أن أفضل ما يمكن لإدارة ترامب فعله للمنطقة والعالم هو التوصل إلى اتفاق صارم يمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، ويربط تخفيف العقوبات بمسار تدريجي مشروط بإجراءات ملموسة.

كما يجب على ترامب أيضاً أن يضمن توجيه العوائد المالية نحو تنمية الاقتصاد الإيراني، لا نحو تسليح الميليشيات أو توسيع النفوذ الخارجي.

وعلى واشنطن أن تفرض رقابة صارمة على آلية التنفيذ، مع التأكد من أن طهران تستخدم الأموال لتحسين أوضاعها الداخلية وتوسيع الطبقة الوسطى وتعزيز اندماجها مع العالم، حينها فقط، قد يصبح التغيير الحقيقي في إيران ممكناً.

بالمحصلة يبقى السؤال الذي يؤرق إيران وخصومها وحلفاءها على حدّ سواء: ما الخطوة التالية؟، هل هي الانكفاء، أم إعادة التموضع، أم العودة إلى الواجهة؟.

الإجابة لا تعتمد كثيراً على طهران، بقدر ما تعتمد على ردّ فعل المنطقة.

EIR

EIR

منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.