أزمة القيادة في بريطانيا ومعضلة ستارمر

تقرير
ﺷﺎرك

عندما منح الناخبون البريطانيون حزب العمال فوزاً كاسحاً في يوليو 2024، لم يكونوا يبحثون عن ثورة، بل عن قدر من الراحة، بعد فوضى بريكست، وافلات جونسون من المساءلة، وتجربة “ليز تراس” القصيرة في «الإحراق المالي»، ورئاسة ريشي سوناك التي بدت بلا ثقل، والآن يقدم كير ستارمر كذلك شيئاً شبه تقليدي، بعودة المؤسسات، واحترام القواعد، وعودة الحياة السياسية إلى طبيعتها.

بعد 16 شهراً، أصبح رئيس الوزراء الأقل شعبيةً في استطلاعات الرأي الحديثة، ولم يعد خصومه محصورين في صفوف المعارضة فقط، بل بات زملاؤه من خلفه أيضاً يتساءلون علناً عمّا إذا كان سيصمد حتى نهاية الأسبوع.

أولاً: أزمة القيادة تتجاوز بريطانيا

أول ما يجب فهمه بشأن ستارمر بأنه ليس حالة استثنائية، فهو جزء من جيل القادة في الدول الغربية جرى انتخابهم لاستعادة الاستقرار والجدية، ثم سرعان ما فقدت الجماهير الثقة في القدرة على تحقيق أيٍّ منهما.

ستارمر جزء من جيل القادة في الدول الغربية جرى انتخابهم لاستعادة الاستقرار والجدية لكن سرعان ما فقدت الجماهير الثقة في القدرة على تحقيق أيٍّ منهما

جو بايدن استطاع تهدئة أمريكا المُرهَقة، ومرّر تشريعات كبرى، وحقق انخفاضاً في معدلات البطالة ومع ذلك جرى تجاوزه بعد ولاية واحدة بفعل الفوضى ذاتها التي حاول احتواءها، وحاول إيمانويل ماكرون إعادة بناء الوسط الفرنسي، ليجد نفسه في نهاية المطاف يشرف على مشهد سياسي مُفرغ ومتجه نحو اليمين المتطرف، وفي ألمانيا، جاء فريدريش ميرتس واعداً بإحياء القلب الاصطناعي لأوروبا؛ لكن خلال أشهر بات حزبه متراجعاً خلف حزب البديل لألمانيا في الاستطلاعات الوطنية، في إشارة إلى أن حتى ما يُعدّ “أكثر الديمقراطيات استقراراً” في أوروبا أصبح اليوم قابلاً لاختراق التطرف.

القوى المؤثرة هي نفسها في كل مكان والتي تشمل: ركود الأجور، وارتفاع التكاليف، وأزمات السكن، والقلق الثقافي، ونظام معلوماتي يميل إلى تضخيم المخاوف بدل الصبر، أما القادة الذين يتحدثون بصدق عن حدود الممكن، فيُحاكَمون لا على ضوء الواقع، بل مقارنةً بالوعود الخيالية التي يقدّمها الشعبويون الذين لا يُطلب منهم مطلقاً الوفاء بها.

يمثل ستارمر نموذج الوسطية في هذا العصر، فهو حذر، وملتزم بالقانون، وجادّ، وقدّم الكفاءة كفضيلة أخلاقية، لكن الكفاءة لا تخفّض فواتير الطاقة ولا تُقصّر قوائم انتظار هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وعندما اتضح أن حزب العمال لا يستطيع إعادة تشكيل بريطانيا في عام واحد، بدا ضعفه واضحاً بسبب رفضه أو عجزه  عن تقديم رؤية أكبر وأوسع.

مأزقه ليس مشكلته فحسب، بل هو معضلة كل حكومة من وسط اليسار في الغرب: كيف يحكم بمسؤولية في ظل ثقافة سياسية تُعاقب المسؤولية وتُكافئ من يَعِدون بالمستحيل؟.

كير ستارمر يغادر 10 داونينج ستريت في لندن (أ ف ب)
ثانياً: آليات حزب العمال وحدود الولاء

لفهم كيفية تطور هذه الأزمة، لا بد من فهم الآليات الفريدة لحزب العمال، فبموجب الإصلاحات التي أقرّها ستارمر بنفسه عام 2021، يجب على أي منافس أن يحصل أولاً على ترشيحات من 20% من نواب حزب العمال ونبلائه، أي نحو ثمانين توقيعاً، بعد ذلك فقط تتوسع العملية: تضع اللجنة التنفيذية الوطنية الجدول الزمني؛ ويظهر اسم المرشح الحالي تلقائياً في ورقة الاقتراع؛ ويعود القرار النهائي إلى الأعضاء والمؤيدين المنتسبين في منافسة صوت واحد لكل عضو، كما لم تعد النقابات تحظى بأصوات الكتلة كما كانت في السابق، لكن تأييدها لا يزال يُشكّل السباق.

سابقتان تُطاردان وستمنستر، حيث لم يُعزل أي رئيس وزراء من حزب العمال من منصبه من خلال منافسة رسمية على القيادة؛ إذ تم دفع بلير وبراون للاستقالة بتنسيق مسبق، لا عن طريق إجراءات رسمية لإسقاطهما، والأعضاء في الحزب قد يكونون أكثر ولاءً من النواب، حيث خسر جيريمي كوربين دعم حزبه البرلماني في 2016، لكنه فاز بسهولة بإعادة انتخابه عندما وقف القاعدة الجماهيرية خلفه ضد ما رأوه كمكيدة من المؤسسة الحزبية.

 هذه الحقائق تمثل وجهان لعملة واحدة، فهي تجعل أي انقلاب ضد ستارمر صعباً إجرائياً واستثنائياً تاريخياً، لكنها أيضاً تثير قلقاً إضافياً لدى النواب: حتى لو جمعوا ثمانين توقيعاً، فهل سيتبعهم الأعضاء بالفعل أم سيعاقبونهم على محاولتهم؟.

 في هذه الأثناء، تحوّلت نفسية حزب العمال البرلماني الجديد والواسع النطاق بفعل الذعر، حيث أسفرت الانتخابات الساحقة لعام 2024 عن مئات النواب الجدد بأغلبية هشة، والآن تشير استطلاعات رأي حزب إصلاح المملكة المتحدة إلى نسب تصل إلى الثلاثينات في كثير من دوائرهم الانتخابية، فحسابهم أصبح قاسياً وبسيطاً في آن واحد: إذا لم يتغير شيء سأخسر مقعدي، لكن إزاحة الزعيم مجازفة؛ أما الإبقاء عليه فيبدو وكأنه الخيار الآمن.

 وتحت كل هذا، تكمن خريطة حزب العمال الفئوية القديمة غير المحسومة: الإصلاحيون البليريون (من مؤيدي توني بلير) والوسطيون الذين رأوا في ستارمر وسيلتهم؛ واليسار المعتدل الذي أراد الكفاءة بضمير حي؛ واليسار المتشدد الذي يعتقد أن مشروعه خيانة، فمن بعيد، يبدو حزب العمال كآلة متجانسة، أما عن قرب، فهو بيئة هشة من الميول المتضاربة، والطموحات الشخصية، وتظهر فيها نقاط ضعف وإشكالات في الإجراءات.

من بعيد يبدو حزب العمال آلة متجانسة أما عن قرب فهو بيئة هشة من الميول المتضاربة والطموحات الشخصية ونقاط ضعف وإشكالات في الإجراءات

إجبار رئيس وزراء قائم على الاستقالة في هذا المشهد سيكون صعباً للغاية، وكذلك الأمر بالنسبة لمطالبة أكثر من 400 نائب ومئات آلاف الأعضاء بالتحرك خلف زعيم يبدو للكثيرين منهم وكأنه يقود الحزب بثبات نحو حافة الهاوية.

ثالثاً: الميزانية كلحظة الحقيقة

الأزمة التي تحيط الآن بستارمر هي في جوهرها مالية، ففي الغرب الحديث، لم تعد السلطة السياسية تنهار بسبب الحروب أو الخلافات الأيديولوجية الكبرى، بل بسبب أسواق السندات ومدى قدرة الحكومات على الوفاء بوعودها، حيث أصبحت ميزانية رايتشل ريفز القادمة اختباراً حقيقياً لهذا النوع من التحديات.

ميزانيتها الأولى رفعت الضرائب بأكثر من 40 مليار جنيه إسترليني، وهي أكبر زيادة منذ عقود ودفعت بالعبء الضريبي في بريطانيا إلى مستوى تاريخي، حيث كان من المقرر أن تقدم الميزانية الثانية الاستقرار، لكنها بدلاً من ذلك كشفت عن خطوط الصدع داخل حزب العمال، فقد تخلت الخطط المبكرة لرفع معدلات ضريبة الدخل عن الأجندة خلال أيام، بعد أن أثار ذلك غضب النواب، وقلق الناخبين، وأسواق أعربت لفترة وجيزة عن رفضها، وما تبقى هو مزيج من تجميد حدود الضريبة وفرض رسوم أصغر، لا تُرضي أحداً: فهي ضعيفة جداً بالنسبة للمستثمرين الذين يريدون مساراً موثوقاً لتقليل الديون، وقاسٍ جداً بالنسبة للنواب المدافعين عن مقاعد هشة، ومتردد جداً بالنسبة لليسار الأخلاقي في الحزب، الذي يحذر من أنه دون رفع حد الطفلين أو إعادة الاستثمار في الخدمات، سيبدو حزب العمال غير مميز عن المحافظين الذين حل محلهم.

 لذلك، أصبحت الميزانية بديلاً لسؤال أعمق: هل تستطيع هذه الحكومة اختيار مسارها أصلاً؟، بالنسبة للتكنوقراط في مقر رئاسة الوزراء، الأولوية هي تجنب ثورة سوقية أخرى على غرار ثورة تراس، أما بالنسبة للنواب من الصفوف الخلفية، فالأمر ببساطة هو البقاء، أما بالنسبة للنقابات العمالية ويسار الحزب، فالأمر هو الشرعية الأخلاقية، لذا يجب على ستارمر التوفيق بين هذه الأمور الثلاثة، ولكنه لا يستطيع.

 بهذا المعنى، ليست الميزانية مجرد وثيقة مالية، بل هي حكم على سلطته، وزلة واحدة، ستتحول توترات حزب العمال من همسات سرية إلى ثورة علنية.

رابعاً: التداعيات الدولية لضعف بريطانيا  

بالنسبة لحلفاء بريطانيا وخصومها، فإن تفاصيل سياسات ريفز بشأن الحدود الضريبية أو رسوم العقارات أقل أهمية من السؤال الأوسع، وهو: هل ستكون بريطانيا شريكاً متماسكاً خلال السنوات الأربع المقبلة، أم دولة في حالة طوارئ دائمة، تتأرجح بين حكومة تقنية وتمرد شعبوي؟.

الاتحاد الأوروبي

الاتحاد هو صاحب المصلحة الأكثر اضطراراً، حيث تولى ستارمر منصبه واعداً بعلاقة “ناضجة ومسؤولة” مع بروكسل، وقد أدى ذلك بالفعل إلى تحسينات طفيفة في اللهجة والتعاون العملي، لا سيما في مجالي الأمن والبحث، لكن أي تعميق جدي للعلاقة، سواءً من خلال نظام تجاري أكثر مرونة، أو مواءمة تنظيمية أوثق، أو مبادرات مشتركة بشأن الهجرة، يتطلب حكومة بريطانية تتمتع بمساحة سياسية وقدرة على إقناع شعبها بالتنازلات.

حزب العمال الذي يناقش إزاحة رئيس وزرائه لا يملك أياً من الأمرين، فالقادة الأوروبيون يطلعون على استطلاعات الرأي البريطانية، التي تبين أن حزب إصلاح المملكة المتحدة يتقدم، وحزب المحافظين لا يزال يبحث عن هويته بعد الهزيمة، وحكومة العمال قد لا تصمد حتى إتمام ميزانية ثانية.

في ظل هذه الظروف، تصبح الحوافز واضحة وتتمثل بالانتظار، فلماذا يقدمون تنازلات لحكومة قد تُستبدل قريباً بأخرى أكثر تشككاً في الاتحاد الأوروبي؟، ولماذا يراهنون على ستارمر إذا كان “فاراج”، الرجل الذي كرّس حياته لتقويض الاتحاد الأوروبي  قد يتولى رئاسة داونينغ ستريت خلال أربع سنوات؟.

الولايات المتحدة وحلف الناتو والعيون الخمس

في واشنطن، الحساب مختلف لكنها لا تقل تعقيداً، إذ تحتاج الولايات المتحدة إلى بريطانيا كداعم لمواقفها في أوروبا، وكحليف عسكري، وكحلقة حيوية في شبكة الاستخبارات «العيون الخمس»، وفي القضايا التي تشغل الاستراتيجيين الأمريكيين -أوكرانيا، والصين، وتقاسم أعباء الناتو- اتسم ستارمر حتى الآن بطابعه الأطلسي التقليدي، حيث حافظت حكومته على الدعم العسكري والمالي لكييف، واستمرت في تبني موقف أكثر صرامة تجاه الصين، ورفعت الحد الأدنى للإنفاق الدفاعي.

مع ذلك، فإن أي رئيس وزراء بريطاني يُشكك في بقائه يُعدّ شريكاً ضعيفاً، فكل ساعة تقضى في إدارة أزمة قيادية هي ساعة لا تُستثمر في التفكير بشأن الالتفاف على العقوبات، أو القدرة الصناعية الدفاعية، أو التنسيق في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذا سقط ستارمر وحل محله شخصٌ ناشئ من صراع داخلي حاد، فقد تُدار السياسة الخارجية لفترة وجيزة بالتنازلات الحزبية أكثر من الاستراتيجية الوطنية، فعلى سبيل المثال، وعودٌ لليسار بشأن الأسلحة النووية أو للمحافظين الماليين بشأن الإنفاق الدفاعي.

إذا سقط ستارمر وحل محله شخصٌ ناشئ من صراع داخلي حاد فقد تُدار السياسة الخارجية لفترة وجيزة بالتنازلات الحزبية أكثر من الاستراتيجية الوطنية

أوكرانيا

بالنسبة لكييف، فإن الأزمة في لندن تحمل دلالات مقلقة بشكل خاص، فقد كانت بريطانيا واحدة من أكثر الداعمين التزاماً لأوكرانيا، وكان هذا الدعم حتى الآن محل توافق بين الحزبين، لكن الضغط الاقتصادي الطويل والحديث الشعبوي عن إعادة أموال دافعي الضرائب البريطانيين قد يقوّض هذا الإجماع، وقد يمكّن سباق قيادة حزب العمال الأصوات داخل الحزب التي ترى أن الإنفاق الاجتماعي يجب أن يكون أولوية على الالتزامات الخارجية، أما صعود فاراج، فسيطرح على الأرجح سؤالاً أشدّ حدة: لماذا، وفقاً لحجته، تُواصل بريطانيا ضخّ مواردها في حرب على أطراف أوروبا في الوقت الذي تُعاني فيه الخدمات المحلية من التدهور؟.

الصين

 وأخيراً، هناك الصين، التي استنتجت منذ زمن طويل أن الديمقراطيات الغربية قصيرة الأجل مزمنة، وقد عزز تعاقب رؤساء الوزراء السريع في بريطانيا هذا الاعتقاد، فالحكومة البريطانية المشلولة بالصراع الداخلي أقل ميلاً للضغط من أجل فرض ضوابط تصدير أكثر صرامة على التقنيات الحساسة، وأقل قدرة على إدارة قضايا مثل هونغ كونغ أو شين جيانغ، وأكثر ميلاً إلى وهم إمكانية فصل التجارة عن المخاوف الأمنية.

في كل هذه المجالات، ما يهم ليس فقط من يقود حزب العمال، بل ما إذا كانت السياسة البريطانية لا تزال قادرة على إنتاج تحالف حكومي مستقر يملك رؤية خارجية.

خامساً: المرشحون وتكلفة السباق

إذا قرر نواب حزب العمال أن ستارمر لا يمكن إنقاذه، فلن يتحركوا بدافع المبدأ المجرد، بل سيتحركون لأنهم يعتقدون أن شخصاً آخر قادر على القيادة.

ويُعدّ ويس ستريتينغ الاسم الأكثر تداولاً، فهو يتمتع بشخصية راقية ومتزنة، وحضور إعلامي واسع، وعلى توافق أيديولوجي مع يمين الحزب المتجدد ما يجعله يُقدم استمراريةً دائمة بفضل قدرته على التواصل، أما بالنسبة للنواب الذين يرون فشل ستارمر سببه أسلوبه لا استراتيجيته، لذا يُعدّ ستريتينغ هو المرشح المحتمل فهو نفس الوسطية الحذرة، لكن بوجه إنساني أكثر جاذبية.

تروي شبانة محمود قصة مختلفة بعض الشيء، قصة بريطانيا أكثر انضباطاً، وقائمة على الجدارة، ومتعددة الأعراق، ولا تزال تؤمن بالمؤسسات، لكن لن تعني رئاسة محمود للوزراء تحولاً جذرياً في السياسة؛ بل ستشير إلى أن حزب العمال يعتقد أن مشكلته تكمن في العرض، لا في التوجيه.

أما أنجيلا راينر تُمثل الاتجاه المعاكس، التي ترغب في إعادة التواصل مع الناخبين من الطبقة العاملة الذين فقدهم حزب العمال، فقصتها الشخصية من الفقر، والعمل في الرعاية، والنشاط النقابي، تمنحها مصداقية لن يمتلكها ستارمر أبداً، وكان حزب العمال بقيادتها سيتناول بصراحة أكبر قضايا إعادة التوزيع، وحقوق العمال، وإعادة بناء دولة الرفاه، لكن الخطر أن ما يُطمئن ناخبي حزب العمال السابقين الذين يُغازلون حزب الإصلاح قد يُزعج ناخبي الطبقة المتوسطة الذين يحتاجهم حزب العمال أيضاً.

بينما يقدّم آندي بيرنهام، الذي يدير مانشستر كدولة أو مدينة، مساراً آخر، يتمثل بديمقراطية اجتماعية شعبوية مستندة إلى الفخر المدني، فهو يجمع بين تيارات حزب العمال، مازجاً بين اقتصاديات اليسار المعتدل والخطاب الوطني، وإعادته إلى وستمنستر ستتطلب ترتيبات لوجستية معقدة، لكن إذا كان الحزب يائساً، فهذه العقبات يمكن التغلب عليها.

هذه ليست مجرد بدائل شخصية، بل خيارات مؤسسية أيضاً، ففوز ستريتينغ أو محمود سيُرسّخ عودة حزب العمال إلى وسطية عصر بلير ويُصوّر الأزمة على أنها مسألة تنفيذ، أما فوز راينر أو بيرنهام فسيُفسّر على أنه تمرد أيديولوجي، حكم بأن “ستارمرية” أصبحت تكنوقراطية بلا معنى.

وحتى لو خرج ستارمر منتصراً، فستكون هناك تكلفة باهظة، فالتحديات على القيادة تولّد دينامياتها الخاصة، حيث تزداد ثقة التيارات، وتُعطى وعود، وتبقى آثار النزاعات ظاهرة، حيث تُظهر تجارب أستراليا الطويلة مع “استقالات القيادة” المتكررة، وتجربة حزب المحافظين البريطاني بين 2016 و2022، كيف يمكن أن يتحول عدم الاستقرار سريعاً إلى نمط دائم؟، وكيف يعاقب الناخبون ذلك بشكل حاسم في النهاية؟.

يمكن لحزب العمال أن يجادل بأن إقالة ستارمر الآن هي السبيل الوحيد لإعادة الأمور إلى نصابها قبل عام 2029، لكن ما لا يستطيع الحزب مناقشته بصراحة، هو أن المنافسة على القيادة ستكون سلسة، وهادئة، أو بلا ثمن، كما ستكون علنية، ومؤلمة، ويستحيل احتواؤها، وصراع قد ينقذ الحزب، أو يجعله أكثر عرضة للمد الشعبوي المتصاعد حوله.

ستارمر يلتقط صورة مع الطلاب في كلية ميناي في ويلز (أ ف ب)
سادساً: خمس سيناريوهات مستقبلية محتملة

أصبح مستقبل السياسة البريطانية الآن مرهوناً بعدد قليل من المسارات المختلفة، لكنها تتسم بالتشاؤم.

أصبح مستقبل السياسة البريطانية الآن مرهوناً بعدد قليل من المسارات المختلفة لكنها تتسم بالتشاؤم

أحد الاحتمالات هو البقاء بدافع الجمود، حيث يصمد ستارمر أمام الميزانية، وتظل الأسواق هادئة، ويقرر نواب حزب العمال أن اتباع نهج المحافظين -الذين يُطيحون بالقادة باستمرار- أخطر من تحمل رئيس وزراء غير شعبي، مع تعديل وزاري وتحسن طفيف في الاقتصاد، يدخل حزب العمال عام 2029 متعثراً، لكنه لا يزال في الحكومة، هذا هو سيناريو المتفائلين، ويتطلب انضباطاً لم يُبدِه حزب العمال منذ شهور.

السيناريو الثاني، الأكثر تآكلاً، يرى أن ستارمر ينجو من تحدٍ القيادة لكنه يخرج منها ضعيفاً بشكل قاتل، حيث يُعيده الأعضاء، الحذرون من تكرار فوضى تغيير القادة في حزب المحافظين، إلى منصبه، لكن رئيس وزراء هزم للتو تمرد حزبه الخاص هو رئيس وزراء فقدت سلطته، ويدخل حزب العمال الانتخابات القادمة منقسماً، ودفاعياً، ومن غير المرجح أن يلهم أي أحد.

السيناريو الثالث يستبدل ستارمر بوريث من الوسط، ستريتينغ أو محمود، حيث يقدمان الاستمرارية في كل شيء ما عدا النبرة: مؤيدان للأعمال، وحذران مالياً، ومطمئنان لكل من واشنطن وبروكسل، حيث ترتفع المؤشرات لبرهة قصيرة، لكن ما لم تتحسن مستويات المعيشة، يتحول الوضع ببساطة إلى «ستارمرية بلا ستارمر»، منهاراً تحت نفس الضغوط الاقتصادية التي دمرته.

السيناريو الرابع، يتجه نحو اليسار بقيادة راينر أو بيرنهام، حيث يتبنى الحزب ديمقراطية اجتماعية أكثر شعبوية، مع وعود بزيادة الاستثمار العام وموقف أكثر عدائية تجاه عدم المساواة، حيث يعود بعض الناخبين، بينما يفر آخرون، وتختبر الأسواق القيادة الجديدة على الفور، ويبدأ حلفاء بريطانيا بالتساؤل عما إذا كانت لندن لا تزال تملك سياسة خارجية واضحة.

ثم يأتي المسار الأكثر قتامة، لا يحل حزب العمال أي شيء، ويبقى ستارمر في منصبه لمدة طويلة جداً؛ ويرث خليفته حزباً منقسماً؛ ويصبح حزب الإصلاح مستودعاً لكل الشكاوى؛ وفي ظل نظام الأغلبية، ينجح اليمين بقيادة فاراج في الوصول إلى السلطة نتيجة تصويت منقسم، ولأول مرة، تُحكم بريطانيا من قبل حركة معادية للمؤسسة الحاكمة بشكل صريح.

والأرجح من بين هذه السيناريوهات، الثاني: ينجو ستارمر من التحدي، ولكن بصعوبة بالغة، سيبقى في داونينغ ستريت، مُجرداً من سلطته، يقود حزباً منهكاً إلى انتخابات من غير المرجح أن يفوز بها -نصرٌ للبقاء يُشبه الهزيمة بلا شك- ليس فقط لستارمر، بل للبلاد بأكملها.

سابعاً: نهضة أم انتكاسة في بريطانيا؟

يُعد كير ستارمر، في كثير من النواحي، رجلاً نزيهاً في عصر يفتقر إلى النزاهة، وفي بعض الأوقات أكثر هدوءاً، وربما كان رئيس وزراء بريطانيا مثالياً، مجتهداً، جاداً، ملتزماً، لكن لندن اليوم لا تبحث عن الاجتهاد، بل عن الاتجاه، والثقة، والشعور بأن المستقبل يمكن أن يكون أكبر من الماضي، إنها تبحث عن نوع من الخيال السياسي الذي قدّمه ريغان يوماً للأمريكيين، صباح جديد لأمة فقدت إحساسها بالبدايات المشرقة.

لا يستطيع ستارمر توفير هذا الدعم المعنوي، وبصراحة، لا يمكن لأي من الشخصيات المحيطة به أن تفعل ذلك أيضاً، فأزمة حزب العمال ليست مجرد أزمة قائد؛ إنها أزمة حزب أبدع في الإدارة لكنه أخطأ في تحديد المعنى، فهو بُني لأوقات مستقرة في عصر يهيمن عليه التقلّب.

أزمة حزب العمال ليست مجرد أزمة قائد بل حزب أبدع في الإدارة لكنه أخطأ في تحديد المعنى فهو بني لأوقات مستقرة في عصر يهيمن عليه التقلّب

إذا أرادت بريطانيا الخروج من دوامتها الحالية، فهي بحاجة إلى أكثر من مجرد كفاءة تكنوقراطية، إنها بحاجة إلى قصة، وأفق، وسبب للإيمان من جديد، ستارمر ليس سبب كآبة البلاد، ولكنه ليس القائد القادر على تبديدها، إنه رجلٌ خارج الزمن، يحكم أمةً لم يعد لديها الصبر على الفضائل التي يمثلها.

توماس فالك

توماس فالك

توماس فالك، صحفي ومحلل مقيم في لندن، يركّز على العلاقات عبر الأطلسي، والشؤون الأمريكية، والأمن الأوروبي. وبخبرته الطويلة في التقارير السياسية والتحليل الاستراتيجي، يعتمد على أبحاث معمّقة، ورؤى تاريخية، وتطورات ميدانية لاستكشاف القوى التي تُشكّل المشهد الجيوسياسي الحالي.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.