“الهندي والهادئ” على حافة الهاوية: نقاط الارتكاز وحدود الردع

تقرير
مجندون تايوانيون خلال مناورة بالذخيرة الحية في وقت سابق (أ ف ب)
مجندون تايوانيون خلال مناورة بالذخيرة الحية في وقت سابق (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

رغم تعدد الصراعات العالمية، تظل منطقة المحيطين الهندي والهادئ المحور الرئيسي للتنافس الاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين، وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز نظام إقليمي قائم على حرية الملاحة، وإعادة هيكلة التحالفات، والردع القوي، يواصل المنافسون الإقليميون، وعلى رأسهم الصين وكوريا الشمالية، اختبار حدود هذا النظام من خلال الدبلوماسية الحازمة، والتوسع العسكري، والعمليات في المناطق الرمادية، فطموحاتهم متجذرة بعمق في مسارات تاريخية غير محسومة، لا سيما فيما يتعلق بتايوان وشبه الجزيرة الكورية، الأمر الذي يُبقي المنطقة في حالة من التقلب الاستراتيجي المستمر.

ويمثل تلاقي نقاط التوتر من مضيق تايوان إلى شبه الجزيرة الكورية ومن بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه أكبر من مجرد نزاعات معزولة، بل مسرح معقد ومترابط للتصعيد المحتمل، لذا فإن فهم مسارات الحرب في هذا السياق يتطلب ما هو أعمق من التكهنات؛ إذ يستلزم رسم خريطة للظروف التي قد تؤدي إلى تآكل الردع وفتح الباب أمام الصراع، سواء كان ذلك عمداً أو نتيجة حسابات خاطئة.

 تزايدت احتمالية اندلاع حرب في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الماضية، إذ تختلف الظروف التي قد تؤدي إلى الصراع تبعاً لعوامل عدة، غير أن الثابت الوحيد فيها هو أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيواجهون كلاً من الصين وكوريا الشمالية، حيث يطرح التحليل سيناريوهات محتملة عدة، لتسليط الضوء على الظروف التي قد تفضي إلى اندلاع مثل هذا الصراع، وهي ليست للتنبؤ بمسار الحرب بدقة، بل لفهم البيئات الاستراتيجية التي قد تنشأ فيها.

نقاط التوتر الإقليمية المتقاربة من مضيق تايوان إلى بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه وصولاً إلى شبه الجزيرة الكورية تشكل مسرحاً شديد التعقيد وعميق الترابط لاحتمالات التصعيد السريع

تحرك الصين للاستيلاء على تايوان

تعد تايوان، السيناريو الأكثر ترجيحاً لنشوب الحرب بين الصين والولايات المتحدة، وذلك عبر قيام بكين بغزو الجزيرة أو فرض حصار عليها، ما يدفع واشنطن إلى التدخل دعماً لتايبيه، بإرسال قواتها العسكرية إليها لتعزيز قدراتها الدفاعية ضد أي محاولات لغزوها من قبل جيش التحرير الشعبي الصيني.

كما ستقوم الولايات المتحدة بنشر وحدات ومعدات عسكرية في المناطق المحيطة بتايوان، بهدف منع الصين من الوصول إلى غرب المحيط الهادئ والتمركز على الساحل الشرقي لتايبيه، أي أن اليابان والفلبين ستشاركان في دعم واشنطن بالدفاع عن تايوان، نظراً لسماحهما بنشر وحدات عسكرية أمريكية في سلسلة جزر ريوكيو وباتانيس، مع تعبئة القوات والقدرات العسكرية الأمريكية في المحيط الهادئ الشرقي، ومن داخل الأراضي الأمريكية لدعم الحملة.

الدعم الأمريكي للفلبين في بحر الصين الجنوبي

يتمثل السيناريو الآخر في اندلاع مواجهة بين الولايات المتحدة والصين، عندما تقدم الأولى الدعم للفلبين في بحر الصين الجنوبي، وذلك من خلال قيام مانيلا بتفعيل معاهدة الدفاع المشترك مع واشنطن، بعدها ستنشر الأخيرة معدات عسكرية لها، تضم سفناً حربية وقوات برية، في الفلبين لمساندة جيشها في مواجهة جيش التحرير الشعبي الصيني، كما ستدفع القوات الأميركية بقطع بحرية متقدمة للمنطقة، بما في ذلك حاملات الطائرات، وذلك نظراً للتفوق الكمي والنوعي الكبير الذي تتمتع به بكين مقارنةً بالقدرات العسكرية لمانيلا.

مع ذلك، فإن السفن الحربية لن تُشكّل سوى نصف المساعدة العسكرية، إذ ستنشر الولايات المتحدة أيضاً طائرات وقوات برية في الجزر المواجهة لبحر الصين الجنوبي لتنفيذ عمليات ضد جيش التحرير الشعبي الصيني، وستكون لتلك القوات مهمتان رئيسيتان: الأولى، هي استخدام أنظمة الأسلحة بعيدة المدى، مثل منظومتي HIMARS وNMESIS، لتدمير السفن في بحر الصين الجنوبي؛ أما الثانية فهي منع قوات جيش التحرير الشعبي من تنفيذ إنزال برمائي على السواحل الفلبينية، كما ستُستخدم وحدات أخرى للقيام بعمليات إنزال على جزر تسيطر عليها بكين بهدف تدمير الحاميات العسكرية ومنظومات الأسلحة الموجودة عليها، وستشارك هذه الوحدات في دعم قوات مشاة البحرية والجيش الفلبيني لاستعادة الجزر التي سبق أن استولت عليها القوات الصينية.

غزو كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية

هناك سيناريوهان محتملان قد يدفعان الولايات المتحدة إلى خوض حرب ضد كوريا الشمالية، الأول: يتمثل في تحرك القوات الأميركية لمساندة كوريا الجنوبية خلال الصراع مع جارتها الشمالية، وذلك عبر تعبئة وحدات وأصول قوات الولايات المتحدة داخل سيؤول لتقديم الدعم اللازم لها في مواجهتها مع جيش بيونغ يانغ، وعلى وجه التحديد، ستُستخدم القوات لمنع كوريا الشمالية من السيطرة على منطقة سيؤول الكبرى أو دخولها، بالإضافة إلى أماكن أخرى على طول المنطقة منزوعة السلاح.

 كما ستنفذ وحدات القوات الجوية الأمريكية المتمركزة في كوريا الجنوبية مهام قصف تستهدف تدمير مستودعات الإمداد ومراكز القيادة والسيطرة على محاور تقدم الجيش الكوري الشمالي أمام الخط الأمامي لقوات العمليات، حيث ستُرسل القوات الأمريكية وحدات عسكرية من مناطق أخرى، مثل الولايات المتحدة القارية، لتعزيز القوات الموجودة بالفعل في شبه الجزيرة الكورية، وستشارك هذه الوحدات أيضاً في عملية هجومية تهدف إلى إبعاد وحدات الجيش الكوري الشمالي عن المنطقة منزوعة السلاح، وربما غزو محتمل لأراضي بيونغ يانغ، فعلى سبيل المثال، ستقوم هذه الوحدات بعمليات إنزال برمائي في مدينة وونسان ومواقع أخرى على السواحل الشرقية والغربية لكوريا الشمالية.

الهجمات الكورية الشمالية على الولايات المتحدة

يتمثل السيناريو الثاني، بقيام بيونغ يانغ بشن ضربات صاروخية على مواقع عسكرية أميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، أو حتى على أراضي الولايات المتحدة نفسها، باستخدام صواريخ باليستية عابرة للقارات مزودة برؤوس تقليدية أو نووية، التي تستند في إطلاق هذه الصواريخ إلى رغبتها في حماية نظامها من التهديد الذي تراه قادماً من واشنطن، حيث ستشمل الأهداف المحتملة قواعد عسكرية أميركية في اليابان وغوام، مثل قاعدة يوكوسوكا البحرية أو قاعدة أندرسن الجوية.

مع ذلك، قد تُطلق كوريا الشمالية صواريخها الباليستية العابرة للقارات، مثل هواسونغ-18، ضد أهداف داخل الأراضي الأميركية، سواء كضربة أولية أو كمرحلة ثانية من الهجوم، وفي المقابل، سترد واشنطن بشن ضربات جوية وصاروخية على أهداف متعددة داخل بيونغ يانغ، تشمل منشآت تخزين الصواريخ ومرافق القيادة والسيطرة، وستُشكّل هذه الضربات، المرحلة الأولى من حملة تهدف إلى تحييد وتدمير المواقع المرتبطة ببرنامج كوريا الشمالية الصاروخي والنووي،  أما المرحلة الثانية، فستكون عملية برية تستهدف تلك المواقع بهدف التأكد من تدميرها الكامل نتيجة الضربات الجوية أو الصاروخية، ومن شأن هذه الحملة البرية أن تدفع كوريا الشمالية إلى توسيع نطاق أهدافها لتشمل جميع القواعد العسكرية في سيؤول، في محاولة لعرقلة قدرة القوات الأميركية والكورية الجنوبية على تنفيذ العمليات أو مواصلة دعمها، بحيث تؤدي هذه الحملة في نهاية المطاف إلى تغيير النظام واحتلال كوريا الشمالية من قبل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.

الدعم الصيني

كلا السيناريوهين يحملان احتمال تدخل الصين إلى جانب كوريا الشمالية، كما حدث في الحرب الكورية الأولى، وتزداد احتمالية هذا التدخل في حال رأت بكين أن واشنطن وسيؤول تسعيان إلى تغيير النظام في بيونغ يانغ، حيث ستقوم الصين بإرسال وحدات وأصول عسكرية من جيش التحرير الشعبي إلى كوريا الشمالية وبحر الصين الأصفر لتحقيق هدفين رئيسيين: الأول، منع انهيار الحكومة الكورية الشمالية، وثانياً: دفع القوات الأميركية والكورية الجنوبية إلى الخروج من البلاد، ومن المرجّح أن يؤدي هذا التدخل إلى نشوب صراع واسع النطاق بين الولايات المتحدة والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

مناورة لسفينة حربية أمريكية وأخرى فلبينية في بحر الفلبين الغربي بتاريخ 25 ابريل 2025 (أ ف ب)
السيناريوهات الأكثر احتمالية

بالمحصلة، من المحتمل أن ينشب أي صراع بين الولايات المتحدة والصين أو كوريا الشمالية في منطقة المحيطين الهندي الهادئ، حيث تختلف السيناريوهات بشكل كبير؛ إذ يرجح أن ينطوي الصراع بين واشنطن وبكين على دفاع الأولى عن الفلبين أو تايوان، أما الحرب مع كوريا الشمالية، فقد تندلع نتيجة غزو كوريا الجنوبية أو شن ضربات صاروخية ضد القواعد العسكرية الأمريكية أو الأراضي الأمريكية نفسها.

تطرح السيناريوهات المتعلقة بكوريا الشمالية أيضاً احتمال تدخل صيني، خاصة إذا رأت بكين في التطورات محاولة لتغيير النظام قد تؤدي إلى توحيد الكوريتين تحت حكومة موالية للولايات المتحدة على حدودها، أما رد فعل روسيا، يظل غير مؤكد، ومن المرجح أن يقتصر على تبادل المعلومات الاستخباراتية أو تقديم دعم لوجستي محدود، نظراً لتردد موسكو في توسيع مشاركتها العسكرية المنهكة أصلاً بسبب الحرب المستمرة في أوكرانيا.

اندلاع حرب بين الصين والولايات المتحدة بسبب تايوان سيعني تلقائياً انخراط دول أخرى في دعم الولايات المتحدة، حيث تُعد اليابان والفلبين من أبرز هذه الدول، إذ تعتبر كل منهما سيطرة الصين على تايوان تهديداً وجودياً، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة، إذ ترى الفلبين أن غزو تايوان سيكون تمهيداً لصدام مباشر مع الصين، يهدف إلى السيطرة على المناطق التي تحتلها حالياً في بحر الصين الجنوبي، أما اليابان، فتنظر إلى سيطرة الصين على تايوان كعامل يمنحها القدرة على قطع خطوط الاتصال البحرية الحيوية لليابان، الأمر الذي من شأنه أن يلحق أضراراً جسيمة باقتصادها.

اندلاع حرب بين الصين والولايات المتحدة بسبب تايوان يعني تدخل دول أخرى لمساندة أمريكا مثل اليابان والفلبين اللتين تريان في سيطرة بكين على تايوان تهديداً وجودياً لأمنهما القومي

رغم أن الحرب ليست حتمية، إلا أن الظروف التي كانت تضمن سابقاً الاستقرار الاستراتيجي تشهد تآكلاً واضحاً، ويزيد من هشاشة هذا الوضع إدارة أمريكية تتسم، في الحد الأدنى، بالاندفاع إلى تحقيق مصالحها، وغالباً دون اكتراث كافٍ بالتداعيات الواسعة على الأمن والتوازن العالميين، وقد تشكّل هذه الإدارة بحد ذاتها شرارة أو محفزاً للتصعيد.

تكشف السيناريوهات السابقة، عند النظر إليها مجتمعة، عن بنية أمنية إقليمية تتعرض لضغوط متزايدة، فلم تعد منطقة المحيطين الهندي والهادئ تُعرَف بنقاط توتر معزولة، بل أصبحت شبكة مترابطة من النزاعات، حيث يمكن لعدم الاستقرار في ساحة واحدة أن يمتد بسرعة إلى ساحات أخرى، وإن انهيار الردع سواء في مضيق تايوان، أو بحر الصين الجنوبي، أو شبه الجزيرة الكورية، ينذر باندلاع أزمات متزامنة قد تتجاوز قدرات التحالف الحالية وتُنهك آليات إدارة الأزمات القائمة.

لذا، فإن الاستعداد للأسوأ يتطلب أكثر من مجرد تموضع عسكري، فهو يستلزم إعادة ضبط الآليات الدبلوماسية، وإحياء أُطر الردع متعددة الأطراف، والاعتراف الواقعي بأن أي صراع مستقبلي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ قد يتجاوز بسرعة الحدود الوطنية، مما يفضي إلى مواجهة متسلسلة تشمل قوى كبرى عدة في آن واحد.

EIR

EIR

منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.