تعليق السلاح الألماني إلى إسرائيل: توقف أم تحول سياسي؟

تقرير
وزيرا الخارجية الألماني والإسرائيلي خلال زيارة إلى النصب التذكاري للهولوكوست في برلين في يونيو الماضي (أ ف ب)
وزيرا الخارجية الألماني والإسرائيلي خلال زيارة إلى النصب التذكاري للهولوكوست في برلين في يونيو الماضي (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

يمثّل القرار الذي اتخذته ألمانيا مؤخراً بوقف تصدير أنواع معينة من الأسلحة إلى إسرائيل، بهدف منع استخدامها المحتمل في قطاع غزة، تحوّلاً جذرياً في سياستها الرسمية، حيث تأتي هذه الخطوة في أعقاب خطة إسرائيل لتوسيع العمليات العسكرية في الأراضي المحاصرة، ورغم أن الخطوة  تبدو استثنائية للوهلة الأولى، إلا أن فهمها يتطلب قراءتها من منظور الهوية السياسية لبرلين، المبنية على ذكريات المحرقة المروعة، إذ لا يزال الموقف الألماني من إسرائيل متأثراً بها، فهي تعد البوصلة الأخلاقية وحجر الزاوية في سياسة الدولة، لذا فإن دراسة المظالم التاريخية والإطار القانوني اللاحق، ومبدأ الدولة، تكشف عما إذا كان القرار الأخير الذي اتخذته ألمانيا يمثل قطيعة مع الماضي أم مجرد توقف مؤقت.

مرّ عامان تقريباً منذ أن شنّت حماس هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر، والذي أشعل حرباً كارثية أخرى في غزة، في أعقاب ذلك، راجعت حكومات العالم مواقفها، وصمدت أمام الاحتجاجات الداخلية، وحاولت التوفيق بين حق إسرائيل في الدفاع عن النفس والثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون في غزة، حيث دعمت دول أوروبية عدة وقف إطلاق النار، وأخرى اتخذت خطوة رمزية تمثّلت في الاعتراف بدولة فلسطين، أما ألمانيا، فقد ظلّت ثابتة في موقفها حتى الآن.

قبل بضعة أيام، أعلنت برلين أنها ستوقف صادرات الأسلحة التي قد تُستخدم في غزة، وهي خطوة توحي ظاهرياً بأن المانيا تجاوزت نقطة اللاعودة، غير أن اعتبار هذا القرار قطيعة جوهرية مع سياسة راسخة منذ زمن طويل إنما هو سوء فهم لطبيعة الموقف، الذي تقوده ذكرى المحرقة، ليس فقط كمأساة تاريخية، بل كإطار للسياسة الخارجية، وهي عقيدةٌ صاغها الشعور بالذنب، والمراجعة الأخلاقية التي أعقبت الحقبة النازية، ومن الاعتقاد بأن استعادة ألمانيا لمكانتها بعد الحرب يعتمد جزئياً على إخلاصها للدولة اليهودية، حيث ترسّخ هذا الاعتقاد ضمن المؤسسات على مدى عقود من الزمن، ولن يكون من السهل زعزعته بسبب أحداث راهنة، مهما كانت مأسويتها.

اعتبار القرار قطيعة جوهرية مع سياسة راسخة يُسيء فهم طبيعة موقف ألمانيا الذي قادته المحرقة ليس فقط كمأساة تاريخية بل كإطار للسياسة الخارجية لبرلين

مصلحة الدولة: كيف أصبح دعم إسرائيل ركيزةً في السياسة الألمانية؟

لفهم سبب عدم قدرة ألمانيا على تغيير موقفها من إسرائيل بطريقة عشوائية، يجب البدء من عام 1945، وليس من غزة، ولا من عام 1948.

لم تُبنَ الهوية الألمانية بعد الحرب على صفحة بيضاء، بل تشكّلت فوق فراغ، أي  غياب الشرعية الأخلاقية، فجرائم النظام النازي لم تكن هامشية في هوية الدولة الجديدة، بل كانت في صلبها؛ إذ نشأت جمهورية ألمانيا الاتحادية ليس فقط من أنقاض الحرب، بل من رماد انهيار أخلاقي شامل، وبينما تولت الولايات المتحدة وحلفاؤها، إعادة إعمار ألمانيا اقتصادياً وسياسياً عبر خطة مارشال والقانون الأساسي، إلا أن إعادة البناء النفسي تطلبت شيئاً آخر تماماً وهو التكفير والندم.

كان ذلك العمل بطيئاً، لكن بحلول أوائل خمسينيات القرن الماضي، بدأ يتبلور إطار للتعويض الأخلاقي، ففي عام 1952، وقع مستشار ألمانيا الغربية كونراد أديناور ورئيس وزراء إسرائيل دافيد بن غوريون اتفاق لوكسمبورغ، ولم يكن اتفاقاً مالياً فحسب، بل كان دبلوماسياً وقانونياً ورمزياً، واعترافاً بين ألمانيا الجديدة ودولة يهودية ناشئة، حيث أسس هذا الاتفاق لأول علاقة رسمية بين ألمانيا ما بعد الحرب والشعب اليهودي، ومثّل بداية سياسة ظلت على حالها منذ ذلك الحين.

بحلول تسعينيات القرن الماضي، عقب إعادة التوحيد ونهاية الحرب الباردة، نضجت هذه السياسة لتتحول إلى شيء أعمق بكثير، فقد تطورت ذكرى الهولوكوست من مصدر للعار الوطني إلى فضيلة سياسية، وفي ظل هذا النظام الأخلاقي المُعاد تشكيله، أصبح دعم إسرائيل أكثر من مجرد سياسة خارجية، بل دليلاً على أن ألمانيا تعلمت من ماضيها، وكسبت مكانتها في الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، وفي نهاية المطاف، على الساحة العالمية.

 يُشكّل هذا المبدأ أساس ما يُطلق عليه الألمان “مصلحة الدولة”، وفي عام 2008، أوضحت المستشارة أنجيلا ميركل هذا المبدأ في خطابٍ لها أمام الكنيست الإسرائيلي قائلةً: إن “أمن إسرائيل جزءٌ من مصلحة الدولة الألمانية”، وقد اختارت كلماتها بعناية، وإن هذه المصلحة ليس تفضيلاً سياسياً، ولا تحالفاً استراتيجياً، بل التزاماً وجودياً، وفي ألمانيا – حيث تُصاغ الالتزامات الوجودية بفعل التاريخ لا الاستراتيجية – لذلك نادراً ما يُعاد النظر فيها.

القانون كسياسة والعكس صحيح

مع مرور الوقت، جرى تقنين عقيدة ميركل، ليس فقط في الخطاب، بل في القانون، واندمجت في نسيج الدولة الألمانية بطرق تتجاوز الانقسامات الحزبية، وفي عام 2024، أقرّ البوندستاغ إصلاحاً لقانون التجنيس يشترط على جميع المتقدمين للحصول على الجنسية الألمانية الإقرار بحق إسرائيل في الوجود كشرط للحصول على الجنسية، وهي الحالة الوحيدة التي يُكرّس فيها قانون الهجرة الألماني الولاء لوجود دولة أجنبية، ولم يكن إقرار القانون بدعم من جميع الأطياف الحزبية أمراً عابراً، بل دليلًا على مدى ترسخ الالتزام تجاه إسرائيل في عمق المشهد الألماني.

ومع ذلك، فقد باتت النزعة الأخلاقية الاستثنائية لدى ألمانيا تصطدم بشكل متزايد مع صورتها الذاتية كمدافع عن النظام الدولي القائم على القواعد، فمن حيث المبدأ، تدافع برلين عن القانون الدولي وتفرض عقوبات على روسيا وإيران وبيلاروسيا داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، يتراجع هذا المبدأ، فعلى الرغم من تزايد عدد الضحايا المدنيين في غزة وتحرك المحكمة الجنائية الدولية للنظر في تهم الإبادة الجماعية، استمرت ألمانيا في تفسير إجراءات إسرائيل على أنها دفاع عن النفس.

تدافع برلين عن القانون الدولي بفرض عقوبات على روسيا وإيران وبيلاروسيا داخل الاتحاد الأوروبي لكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل يتغير هذا المبدأ

حتى الآن، تظل ألمانيا من أكبر موردي الأسلحة لإسرائيل، ففي الفترة ما بين هجوم حماس ومنتصف مايو من هذا العام، صدّرت ألمانيا معدات عسكرية إلى إسرائيل بقيمة إجمالية بلغت 485 مليون يورو، (566 مليون دولار).

وتعد هذه المبيعات قانونية من الناحية التقنية بموجب القانون الألماني، لكنها مشروطة فقط بأن تكون الأسلحة متوافقة مع القانون الإنساني الدولي، وهو شرط تم التنازل عنه مراراً وتكراراً بقرارات من الوزراء، فيما لم تغب هذه المناورات القانونية عن نظر شركاء ألمانيا في أوروبا، لا سيما أولئك الذين يرون بشكل متزايد أن التزام برلين بالقانون الدولي انتقائي؛ أي سلطة أخلاقية عندما يكون ذلك مناسباً، واستثنائية عندما لا يكون كذلك، وبالنسبة لهم، كانت التناقضات واضحة وجليّة، فبينما تطالب ألمانيا بمحاسبة خصومها، تمنح الحصانة لحلفائها، طالما أنهم مرتبطون بماضيها.

ومع ذلك، في 8 أغسطس، أي بعد يوم واحد فقط من إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نيته “السيطرة على غزة”، وهي خطوة فُسرت على نطاق واسع على أنها إشارة إلى احتلال دائم، بدا الأمر وكأن ألمانيا قد تجاوزت الخط الأحمر، حيث أعلنت الحكومة أنها ستوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل التي قد تُستخدم في غزة، وأبدى فريدريش ميرز، المستشار وزعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، شكوكاً نادرة لدى الرأي العام، إذ أقرّ بأنه “من الصعب للغاية” فهم كيف يمكن لمثل هذه الخطط أن تُسهم في تحقيق أهداف أمنية مشروعة.

 كانت هذه لفتة دراماتيكية بالنسبة لبرلين، لكن ما إذا كانت تُمثل نقطة تحول حقيقية، أم مجرد وقفة تكتيكية في سياسة راسخة منذ عقود، لا يزال الأمر غير واضح تماماً.

موظفون يعملون على خط إنتاج داخل مصنع في أونترلوس، ألمانيا (أ ف ب)
استثناء أوروبي

حتى الآن، زاد موقف ألمانيا تجاه إسرائيل من عزلتها عن حلفائها، ففي عام 2024، اعترفت إسبانيا والنرويج وأيرلندا رسمياً بدولة فلسطين، فيما أعلنت فرنسا عن تعهدها بالاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل والمملكة المتحدة كذلك في حال لم تتخذ الحكومة الإسرائيلية خطوات لإنهاء “الوضع المروع” في غزة، والقائمة التي تضم الدول التي ستعترف أو تفكر بالاعتراف بدأت تتزايد بشكل ملفت، حتى في الولايات المتحدة، كشف تصويتٌ حديثٌ في مجلس الشيوخ عن انقسامات حزبية متصاعدة بشأن دعم إسرائيل.

داخل الاتحاد الأوروبي، دفع رفض ألمانيا المستمر لدعم القرارات المشتركة التي تنتقد إسرائيل، الاتحاد إلى إصدار بيانات مخففة أو إلى حالة من الشلل التام، لكن هذه العزلة لا تقتصر على مجرد إزعاج دبلوماسي، بل تشير إلى تباعد أعمق في الثقافة السياسية، وترى معظم الدول الأوروبية اليوم أن الإرث الأخلاقي للهولوكوست يُمثّل التزاماً عالمياً بحماية المدنيين من الفظائع أينما كانوا، أما ألمانيا فتتعامل معه كواجب خاص لحماية حياة اليهود، وهذا الاختلاف، رغم دقته في التعبير، إلا أنه لا يزال يحمل تأثيراً هائلاً على أرض الواقع.

نتيجةً لذلك، يُقال إن ألمانيا عانت من ضررٍ في سمعتها أكثر من أي دولة غربية أخرى، باستثناء إسرائيل، وفي الجنوب العالمي، ستُرفض دعوات برلين إلى الالتزام بالمعايير الدولية بشكل روتيني باعتبارها نفاقاً، وأي انتقاد مستقبلي توجهه ألمانيا نحو الأنظمة العربية بشأن حقوق الإنسان من المرجح أن يستقبل بآذان صماء، في ظلّ سياستها الاستثنائية تجاه إسرائيل، ولكن مع سعيها إلى الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن وتعزيز تأثيرها في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، سيصبح قدرتها على التوفيق بين “مصلحة الدولة” والمعايير العالمية اختباراً حقيقياً لمصداقيتها.

ألمانيا تسعى إلى الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن وتعزيز نفوذها في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي لكن قدرتها على التوفيق بين مبدأ سيادة الدولة والمعايير العالمية ستصبح اختباراً لمصداقيتها

القيود الداخلية والثقافة السياسية

بالنسبة للمراقبين الأجانب الذين يتوقعون تحولاً حاداً في موقف ألمانيا تحت الضغوط الدولية، فإن هذه التوقعات تكشف عن سوء فهم لجوهر سياسة البلاد، فالقيود ليست مجرد أيديولوجية فحسب، بل هي هيكلية وثقافية راسخة في أعماقها، إذ يتسم الإجماع السياسي السائد في ألمانيا بشأن إسرائيل بالجمود على نحو غير معتاد، حتى بالمعايير الغربية، ولا تزال أحزاب: الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) ذو التوجه اليميني الوسطي، وحزبه الشقيق البافاري، والاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU)، ملتزمة بشدة راسخة بدعم إسرائيل غير المشروط.

قد يتبنى الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD)، ذو التوجه اليساري الوسطي والمشارك في الائتلاف الحاكم، نبرةً أكثر حذراً أحياناً، لكنه نادراً ما يحيد عن جوهر موقفه، أما حزب الخضر، الذي كان يوماً ما أبرز منتقدي إسرائيل في الساحة السياسية الألمانية، فقد أصبح الآن أكثر هدوءاً في حديثه، وهو الذي دعا سابقاً إلى وقف صادرات الأسلحة، لكن حماسه الأخلاقي بدا فارغاً عندما تلاشت تلك المطالب خلال فترة حكمهم.

حتى على هامش الساحة السياسية، لا يزال هذا النمط قائماًَ، يدعم حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف إسرائيل، ليس تضامناً مع اليهود، بل كجزء من برنامجه المناهض للمسلمين والهجرة، أما على أقصى اليسار، فقد انقسم حزب اليسار، المتعاطف منذ زمن طويل مع القضية الفلسطينية، تحت وطأة الخلافات الداخلية والاتهامات بمعاداة السامية.

 يتبع الخطاب العام نمطاً مشابهاً، ففي كثير من الصحف الألمانية، نادراً ما يُفضي انتقاد السياسة الإسرائيلية إلى نقاش جاد؛ بل يُقابل بالشك وسوء النية، ومعاداة السامية، أو بالنسيان الخطير، حيث تقدم أكسل سبرينغر، أقوى مجموعة إعلامية في ألمانيا، دعماً لإسرائيل كجزء من هويتها المؤسسية، وفي معظم أوساط الثقافة السياسية والصحفية في البلاد، تُؤكد المعادلة أن دعم إسرائيل ليس خياراً سياسياً، بل واجب أخلاقي.

وما قد يبدو من الخارج كنوع من الاستبداد شبه التلقائي، هو في الحقيقة أمر أكثر غموضاً وعمقاً في الجذور “القوة الدائمة للذاكرة التاريخية كقوة تضبط السلوك”، ففي ألمانيا، الماضي لا يشكل الحاضر فقط، بل يحدد حدوده الأخلاقية.

الفجوة بين الرأي العام والإجماع السياسي

رغم وجود إجماع سياسي قوي في ألمانيا بشأن إسرائيل، إلا أن الحرب الطويلة في غزة وتصاعد الأزمة الإنسانية في القطاع بدأتا تؤثران على الرأي العام، حيث

تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى اتساع الفجوة بين الرأي العام والإجماع السياسي الراسخ، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته قناة ARD-Deutschland TREND في أوائل أغسطس، أن 66% من الألمان يريدون الآن من حكومتهم ممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل لتغيير سلوكها، وهي زيادة حادة من 57% في أبريل 2024، وفقاً لاستطلاع رأي أجراه معهد فورسا.

كما يعتقد نصف المشاركين في الاستطلاع (نحو47٪)، أن برلين تبذل جهوداً أقل مما ينبغي تجاه الفلسطينيين في غزة، بينما يختلف مع هذا الرأي 39٪ فقط،

ومن اللافت أن 31٪ يرون أن ألمانيا تتحمل مسؤولية أكبر تجاه إسرائيل بسبب تاريخها، مقارنة بـ 62٪ الذين يرفضون هذا الرأي تماماً.

تشير هذه الأرقام إلى انحراف تدريجي عن الرواية التاريخية التي لطالما شكّلت أساساً لسياسة الدولة الألمانية، ومع ذلك، ورغم هذا التحول في الرأي العام، لا يزال التيار السياسي السائد ملتزماً التزاماً راسخاً بعقيدة ما بعد الحرب، وكذلك كلٌّ من الائتلاف الحاكم والمعارضة لا يزالان يعتبران دعم إسرائيل واجباً أخلاقياً راسخاً في بنية الدولة، حيث لا يعتمد صمود موقف ألمانيا على التفويض الشعبي، بل على ثقافة سياسية راسخة الجذور.

الائتلاف الحاكم والمعارضة يعتبران دعم إسرائيل واجباً أخلاقياً راسخاً في بنية الدولة ولا يعتمد صمود موقف ألمانيا على التفويض الشعبي بل على ثقافة سياسية راسخة الجذور

عقيدة تحت ضغط؟

يخشى العديد من القادة الألمان من أن أي تحول إضافي في الموقف تجاه إسرائيل لن يُثير اتهامات بمعاداة السامية فحسب، بل قد يُزعزع الأسس الأخلاقية للجمهورية التي نشأت بعد الحرب نفسها.

لكن التخلي عن استثنائية ألمانيا يعني التشكيك في هويتها الوطنية المبنية على مسؤولية فريدة، إذ ربطت برلين مصداقيتها الدولية بسلوك حكومة أجنبية لا تستطيع السيطرة على أفعالها، وقد أدى هذا، حتى الآن، إلى شلل سياسي، حيث لم تتمكن ألمانيا من التكيف مع الحقائق أو الادعاءات الجديدة دون المخاطرة بأزمة أخلاقية.

وبغض النظر عن التطورات الأخيرة، فإن الهيكل السياسي سيضمن الاستمرارية، فمن غير المرجح أن يؤيد التحالف المحافظ بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)  والاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU)، الذي يقود السياسة الخارجية، تغييرات أعمق مثل الاعتراف بفلسطين أو تنفيذ مذكرة اعتقال المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو، لأن ذلك سيتطلب حدوث انقسام حكومي، وهو أمر يفتقر الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى القوة اللازمة لإثارته، وفي النهاية، تشير استطلاعات الرأي المتدنية بشكل حاد إلى أنه قد يُعاقب في صناديق الاقتراع إذا حاول ذلك، ومن المرجح أن يتحول إلى حزب معارض في حال شرع في المحاولة.

حتى أن الأمور معقدة لدى حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، فمن المفارقات أنه مؤيد لإسرائيل، وقد حوّل هذا الدعم إلى جزء من هويته المعادية للمسلمين، أي تحول أكبر من جانب التيار الرئيسي يُخاطر بفقدان أرضية خطابية لصالح حزب يصعد بالفعل في استطلاعات الرأي.

قد تُقدّم ألمانيا مساعدات إنسانية، وتُوقف الصادرات، وتُصدر انتقادات حذرة إضافية، لكن في غياب صدمة خارجية كبرى أو إعادة تنظيم سياسي داخلي، فإن هذه العقيدة -التي تتآكل أطرافها- لا تزال ثابتة.

 باختصار، إن المبدأ -رغم تعثره- لا يزال قائماً، ما يجعل الخطوة الأخيرة التي اتخذتها برلين بمثابة توقف مدروس بعناية وليس نقطة تحول في سياسة الدولة.

توماس فالك

توماس فالك

توماس فالك، صحفي ومحلل مقيم في لندن، يركّز على العلاقات عبر الأطلسي، والشؤون الأمريكية، والأمن الأوروبي. وبخبرته الطويلة في التقارير السياسية والتحليل الاستراتيجي، يعتمد على أبحاث معمّقة، ورؤى تاريخية، وتطورات ميدانية لاستكشاف القوى التي تُشكّل المشهد الجيوسياسي الحالي.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.