ولاية ترامب الثانية: مكاسب آنية ومخاطر عالمية مرتقبة

تقرير
القادة الأوروبيون يُعربون عن مخاوفهم من أن نهج ترامب يهدد بزعزعة ركائز العلاقات عبر الأطلسي (أ ف ب)
القادة الأوروبيون يُعربون عن مخاوفهم من أن نهج ترامب يهدد بزعزعة ركائز العلاقات عبر الأطلسي (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

حققت سياسات ترامب مكاسب ملموسة، وتصدّرت العناوين، بدءاً من الإنجازات الاقتصادية وصولاً إلى تحركات دبلوماسية غير تقليدية، لكنها في الوقت نفسه ساهمت في تعزيز حالة من عدم الاستقرار الجيوسياسي، والعزلة الاستراتيجية، وظهور مؤشرات على احتمالية تآكل مكانة الولايات المتحدة كقوة قيادية دائمة.

دونالد ترامب تبنّى، منذ تولّيه منصب الرئيس 47 للولايات المتحدة، نهجاً قائماً على الصفقات في تعاطيه مع التحالفات التقليدية ومعالجة القضايا الدولية المعقّدة.

وتُعد السياسات التي ينتهجها في ولايته الثانية بمثابة مجازفة بمستقبل الاقتصاد العالمي والاستقرار المالي، إذ إن الاضطرابات التي أثارتها هذه السياسات خلال أقل من 100 يوم من انطلاق ولايته، تُنذر بمزيد من التوتر وعدم اليقين إذا ما استمر على هذا النهج.

لكن العالم اليوم يختلف تماماً عمّا كان عليه خلال الولاية الأولى لترامب، فجميع خصومه وحلفائه المُحبَطين باتوا هذه المرة أكثر استعداداً وتجهيزاً للتصدّي لنزواته.
كما ستبدد مواقفه تجاه العالم ومصالح بلاده ثروات أمريكا، ولن تجعلها «عظيمة من جديد» كما يزعم.

السياسات التي ينتهجها ترامب تُعد مقامرة بمصير الاقتصاد العالمي واستقراره المالي، فالاضطرابات التي سببتها هذه السياسات خلال أقل من 100 يوم منذ بداية ولايته الثانية تنذر بعواقب وخيمة إذا ما استمر النهج ذاته

التقييمات

أظهرت استطلاعات الرأي أن دونالد ترامب سجّل أدنى نسبة تأييد خلال أول 100 يوم من ولايته، مقارنة بأي رئيس أمريكي خلال 80 عاماً الماضية، حيث لا تزال سياساته تُواجَه بمعارضة واسعة من نشطاء حقوق الإنسان، وقادة المعارضة، وقطاع كبير من الرأي العام.

ووفقاً لنتائج الاستطلاع، فإن أكثر من 55% من الأمريكيين يرفضون أدائه في الحكم، بينما عبّر 72% عن خيبة أملهم من فشله في تحقيق وعوده الاقتصادية.

ويخشى غالبية المشاركين في الاستطلاع من أن تؤدي قراراته إلى دخول البلاد في حالة ركود اقتصادي على المدى القصير.

السياسات الخارجية والاقتصادية

يقول محللون: “إن تصرفات ترامب تُعيد إلى الأذهان ملامح النظام العالمي إبان الحرب الباردة، حيث كانت القوى الكبرى تتقاسم مناطق النفوذ الجغرافي حول العالم”، لكن الهدف النهائي لترامب يتمثل في إعادة تشكيل السياسات الأمريكية تجاه الحلفاء، سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط أو نصف الكرة الغربي.

وعلى النقيض من ذلك، يثير هذا التحوّل المخاوف من فوضى محتملة، ويُنعش مشاعر العداء القديمة تجاه أوروبا.

أما سياساته الاقتصادية القائمة على مبدأ “إمّا طريقتي أو لا شيء”، والتي يعدها شرطاً أساسياً في تعامله، فقد صدمت الأسواق العالمية، ومن المرجح أن تترك آثاراً كارثية على المؤسسات المالية الدولية والعديد من الدول.

ومع ذلك، فإن تهديداته بالانسحاب من المنظمات المالية والتجارية الدولية قد ترتد سلباً على النفوذ والهيمنة الأمريكية في النظام العالمي.

أشباه ترامب

لم يشهد التاريخ الأمريكي رئيساً شبيهاً بدونالد ترامب، باستثناء أندرو جاكسون، فكلاهما كان يتمتع بـ “أنا متضخمة”، وتلقى دعماً قوياً من قواعد شعبوية، في حين كان مكروهاً بشدة من قِبل فئات واسعة من المجتمع.

وكلا الرئيسين أهان خصوم حزبه، ونجا كل منهما من محاولات اغتيال، كما اتخذا إجراءات تمييزية ضد جماعاتٍ أقلية، إحدى قبائل السكان الأصليين في حالة جاكسون، وجميع المهاجرين في حالة ترامب.

ادّعى ترامب وجاكسون أن الانتخابات مزوّرة، واستخدما الأقليات ككبش فداء، واستغلا السلطة الرئاسية، وفرضا تعريفات جمركية غير مبررة، وقاما بتفكيك وكالات فيدرالية، وأشعلا الأحقاد.

 كما اعتمد كلاهما مبدأ المحسوبيات، الذي يكافئ المقرّبين والداعمين الأوفياء بمناصب عالية الأجر، بغض النظر عن كفاءتهم.

ترامب يتحرر من التزامات كل رئيس أمريكي سبقه، من مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، إلى احترام سيادة ووحدة أراضي الدول الأخرى

ترامب في المواجهة

جاء انتخاب دونالد ترامب بمثابة تمرد على النهج التقليدي للجمهوريين تجاه مجموعة واسعة من القضايا، وفي الوقت نفسه، كان تعبيراً عن استياء من الأداء الفاتر والناعم للديمقراطيين.

ومع ذلك، تحدّى ترامب بجرأة المبادئ الأساسية للأيديولوجيا الجمهورية، وهاجم السياسات الراسخة منذ زمن طويل، بدءاً من التجارة الحرة ووصولاً إلى الحمائية، والهجرة، وبرامج الرعاية الاجتماعية التي تُعدّ مقدسة.

وهذا يشير إلى أن هذه الحملة الجريئة، وأحياناً الفظة، قد كسبت تأييد القاعدة الانتخابية الجمهورية، وبنفس الوقت أثارت إعجاب الناخبين المتأرجحين ذوي الميول الديمقراطية التقليدية، وذلك رغم عنصرية ترامب الضمنية والصريحة، إذ ساعده ذلك أيضاً على الفوز لأنه نجح في تقديم نفسه عامل تغيير حقيقي.

رؤى متباينة

إن رؤية ترامب المادية البحتة لعظمة أمريكا تتناقض جذرياً مع رؤى أسلافه من الجمهوريين.
وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، اعتبر أبراهام لنكولن أن الولايات المتحدة هي “آخر وأفضل أمل على وجه الأرض”، بينما وصفها رونالد ريغان بأنها “مدينة مشرقة على تل”، واعتبرها جورج بوش الابن “أقوى منارة للحرية والفرص في العالم”.

وعلى النقيض من ذلك، أمريكا بالنسبة لترامب، ليست سوى لاعب قوي في سلسلة من الصفقات ذات الرهانات العالية، حيث يكمن التباين الواضح مع أسلافه الجمهوريين في نهجه تجاه قيادة أمريكا للعالم.

تغير النهج الجمهوري

قادة الحزب الجمهوري كانوا يتحدثون عن التحالفات العالمية بلغة الخير والشر، بينما عقد ترامب تحالفات مثيرة للجدل، مدّعياً أنه يتصرف بما يخدم مصلحة أمريكا أولاً، حيث أشعل حروباً تجارية، وقلص المساعدات الخارجية بشكل جذري.

على النقيض من ذلك، كان الرؤساء الجمهوريون يدافعون عن التجارة الحرة، وكانوا يقدمون المساعدات بسخاء للخارج من أجل درء المشكلات في الداخل، وكانوا يعززون التحالفات التي تخدم المصالح الأمريكية. 

وبحسب السفير الأمريكي السابق لدى حلف الناتو والصين، ريتشارد نيكولاس بيرنز، فإن ترامب يبتعد عن الخط الذي سار عليه رؤساء أمريكيا السابقين، والمتمثل في الالتزام بالمبادئ والقيم الديمقراطية، وسيادة القانون، وحماية سيادة الدول وسلامة أراضيها.

وهذا ما يشير -بحسب خبراء أمريكيون- إلى أن ترامب يتعامل مع مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وكأنها أمر مفروغ منه، محذّرين من أن هذا النهج بمثابة لعب بالنار ومجازفة بسمعة دامت 80 عاماً.

الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية

ظل دونالد ترامب يقترب، في سلوكه وخطابه، من حدود الحكم الاستبدادي، على الرغم من عزله مرتين خلال فترة رئاسته، حيث تورّط في سلسلة من الفضائح، وارتبط اسمه بشكل مباشر بأحداث الشغب والاعتداء على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021.

لقد جاءت أفعاله ونتائجها بما يناقض وعوده الطموحة والمبالغ فيها، ووفقاً لصحيفة واشنطن بوست، فإن ترامب أدلى بأكثر من 18,000 تصريح كاذب أو مضلل خلال فترة ولايته، في سابقة لم يشهدها التاريخ السياسي الأمريكي الحديث.

وضمن التقرير المعروف باسم “مولر”، تحت عنوان: “التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016″، لم يجد المحقّق الخاص أدلة على وجود مؤامرة بين حملة ترامب وروسيا.

 ومع ذلك، كشف التقرير عن 272 حالة تواصل بين مساعدي ترامب وعملاء روس، ما أثار الكثير من الشكوك حول طبيعة تلك العلاقات.

وفي موقف يعكس أسلوباً بعيداً عن لغة الدبلوماسية، خاطب ترامب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض قائلاً: “أنتم لستم في موقف قوة حالياً”، كان حديثه أقرب إلى لغة المقامرين منه إلى خطاب رئيس دولة عظمى.

كما انضم إلى الصين في رفض قرار صادر عن الأمم المتحدة يدين غزو روسيا لأوكرانيا، وألمح زوراً إلى أن أوكرانيا هي من بدأت الحرب، رغم أن استطلاعات الرأي أظهرت أن غالبية الأمريكيين يعتقدون العكس.  

الانسحاب من الشرق الأوسط

الأصوات اليمينية في الولايات المتحدة تؤكد أن الشرق الأوسط لا يستحق التضحيات والاستثمارات والتكاليف التي تدفعها أمريكا في المنطقة.

 وتشدد على أن مشاكل المنطقة لا تؤثر على الأمريكيين، وأن القوات الأمريكية غير قادرة على حل هذه المشكلات، وبالتالي فإن وجودها هناك بلا جدوى.

وتضيف: “إن صناع السياسات اعتمدوا على نظريات غامضة تتعلق باقتصاد الطاقة، وتوازن القوى الإقليمي، وتهديد الإرهاب لتضخيم أهمية المنطقة بالنسبة للأمن القومي الأمريكي.”

وتشير إلى أن أياً من هذه النظريات لا يبرر السياسة الأمريكية الحالية في المنطقة، وبحسب رأيهم، فإن الأفكار التي تبرر وجود قوات دائمة هناك كانت خاطئة على مدى عقود.

كما يجادلون أنه منذ تفكك تنظيم القاعدة بين عامي 2001 و2002، أصبحت الولايات المتحدة مصدّراً صافياً للنفط، وقامت إسرائيل بتطوير منظومة الدفاع الصاروخي قصيرة المدى “القبة الحديدية”.

الإنفاق الأمريكي

وعلى النقيض منذ ذلك، يقدّر الحزب اليميني أن تكلفة الإنفاق الأمريكي على حفظ السلام في الشرق الأوسط بين 60 و70 مليار دولار سنوياً، بالإضافة إلى التريليونات التي تُنفق على الحروب في المنطقة.

ويُشيرون إلى أن المبررات المقدمة لنشر القوات الأمريكية هناك ضعيفة ولا تضمن استمرار الوجود العسكري.

 وتشمل هذه المبررات منع الهجمات الإرهابية الكبرى، وإحباط هيمنة النفط على السوق، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وضمان عدم تدمير إسرائيل من قبل أي طرف إقليمي.

ويطالبون بالانسحاب الفوري لنحو 60 ألف جندي أمريكي من المنطقة، بعد تأمين اتفاقيات تتيح للولايات المتحدة الوصول إلى الموانئ البحرية.

الاستثمارات الخليجية

لقد نجحت المبادرات الاستثمارية التي أطلقتها كل من السعودية والإمارات في إعفائهما من التعريفات الجمركية الباهظة التي فرضها ترامب على حلفائه وغير الحلفاء على حد سواء.

ومن المتوقع ألا تتجاوز هذه التعريفات النسبة الأساسية التي حددها ترامب وهي 10%، وذلك بفضل استثمارات تقارب التريليون دولار أعلنت عنها الرياض، ووُعِدت أبوظبي باستثمارات تبلغ نحو 1.4 تريليون دولار، حيث لم يتم الكشف بشكل كامل عن تفاصيل هذه الاستثمارات.

ومع ذلك، لن تظل دول الخليج المنتجة للنفط بمنأى عن التأثيرات السلبية غير المباشرة لتعريفات ترامب، إذ قد يؤدي الركود الاقتصادي أو تباطؤ نمو الأسواق العالمية إلى تراجع محتمل في الطلب على النفط.

كما ستؤثر التعريفات الجمركية سلباً أيضاً على اقتصادَي الأردن ومصر، وسيُقاس مدى أهمية المنطقة بالنسبة لترامب بحسب ما تخدم المصالح الأمريكية، أكثر مما تخدم السلام والاستقرار العالميين.

أما أهمية اللاعبين الآخرين في منطقة الخليج، وهما عُمان وقطر، فتُقاس بدورهما في استضافة وتهدئة المفاوضات والاتصالات المتعلقة بالصراع مع إيران والحرب في غزة على التوالي.

وعلى النقيض من ذلك، فإنه من غير المرجح أن تنجح إدارة ترامب في التوصل إلى أي اتفاق بشأن غزة من خلال منح الإسرائيليين الحرية الكاملة لإنهاء الأمر سواء عبر تعميق مستنقع القطاع أو استمرار مسلسل الدماء.

وترامب لا يؤمن بإمكانية حل الدولتين، وبناءً عليه لن يسعى لأي جهود تطبيع، وهو يفهم أن السعودية تضع تطبيع العلاقات مشروطاً بإقامة دولة فلسطينية.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب يظهر خلال تجمع جماهيري في وورن، إحدى ضواحي ديترويت، ميشيغان، الولايات المتحدة الأميركية (أ ف ب)

غزة كريفيرا  

انطلق ترامب في الشرق الأوسط بفكرته الصادمة بتحويل قطاع غزة الملطخ بالدماء إلى “ريفيرا” من خلال تهجير كامل سكانه الفلسطينيين، حيث أثارت هذه الفكرة غضب الحلفاء التقليديين في المنطقة، وهم مصر، والأردن، ودول الخليج العربي.

أما إسرائيل، ومن خلال رد فعل رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، فقد فوجئت بهذه الفكرة الخارجة عن المألوف.

  الدول العربية

رفض القادة العرب هذه الفكرة رفضاً قاطعاً، لكنها لم تكن بلا جدوى تماماً، إذ دفعت هذه الفكرة الدول العربية الكبرى إلى التكاتف والتشاور لإيجاد بديل.

 وأكدوا أن غزة يمكن إعادة إعمارها بعد انسحاب إسرائيل وتسلم السلطة الفلسطينية دون الحاجة إلى إجلاء سكانها.

وأدت المقاومة الهائلة التي واجهها اقتراح ترامب إلى تراجع الرئيس الجمهوري عن فكرة الطرد الإجباري للفلسطينيين، لكن في مقابلة لاحقة، أوضح أنه لن يفرض هذا الحل، بل سيكتفي بالجلوس والتوصية به.

ويبدو أنه أصبح يدرك الآن مدى تعقيد الصراع في الشرق الأوسط، ولماذا ظل غير قابل للحل لعقود، فهو يعلم أن 12 رئيساً أمريكياً قبله حاولوا، وإن جزئياً، في ظروف أكثر ملاءمة من الوضع الحالي، فشلوا في حل هذه المعضلة.

التراجع التدريجي

ربما لهذا السبب لجأ ترامب إلى نوع من التهدئة، إما للحفاظ على الوضع الراهن حتى انتهاء ولايته، أو لتحقيق مكاسب بسيطة يتفاخر بها لاحقاً، كما تراجع عن تهديداته لمصر والأردن، وهما من أشد الحلفاء الأمريكيين في المنطقة.

وأطلق تهديدات بقطع المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية عن الدولتين، ما لم توافقا على استقبال بعض الفلسطينيين الذين سيتم إجلاؤهم.

 لكن الرد الجماعي الرافض لهذه التهديدات من الدول العربية، التي أبدت تضامنها مع القاهرة وعمان، جعله يدرك واقع المنطقة وتعقيدات الصراع.

ومع ذلك فإن الفكرة الغريبة والمتسرعة لـ”الريفيرا” في غزة قوبلت بالشكوك من جانب المتشددين في إسرائيل وواشنطن.

وبدا ترامب محبطاً، فتراجع وسمح بتجدد الحرب في غزة، ما جعله يفشل في الوفاء بأحد وعوده الانتخابية، وهو إنهاء الحرب في غزة من اليوم الأول.

صدمة ترامب  

كانت خطة ترامب، دون شك، محكومة بالفشل منذ البداية، فهي تندرج ضمن الاستراتيجية المعتادة التي يتبعها في جميع تحركاته، والتي تعتمد على ما يمكن تسميته بعلاج الصدمة، حيث يرفع منسوب التصعيد إلى أقصى درجاته.

لكن هذا السلوك ليس غريباً على ترامب، الذي يرمي الطُعم ويترك الآخرين ليلتقطوه، ومع ذلك، لم تنجح طعومه بجذب اهتمام الأطراف المعنية.

سياسات ترامب الأنانية، التي صاغها تحت مظلة “أمريكا أولاً”، وضعت الولايات المتحدة وأوروبا على مسار تصادمي، وغيّرت طبيعة العلاقات عبر الأطلسي

وكذلك “صفقة القرن”، التي قدمها في ولايته الأولى تحت شعار: “السلام مقابل الازدهار”، لم تجد من يقبل بها، لا من العرب ولا من الإسرائيليين، بالإضافة إلى “اتفاقات أبراهام”، التي وقعتها فقط مجموعة محدودة من الدول العربية (الإمارات، والمغرب، والبحرين، والسودان)، لمع نجمها لفترة قصيرة ثم خفت سريعاً.

مواجهة الواقع

ويشير تراجع الضغوط التي مارسها ترامب على كل من مصر والأردن إلى أن العقلاء في إدارته قد نبهوه إلى واقع التوازنات الدولية، وأهمية هاتين الدولتين بشكل خاص، والمنطقة بأسرها بشكل عام.

وربما أوضحوا له الدور المحوري الذي تلعبانه في الاستقرار الاستراتيجي وأمن التجارة العالمية.

فضلًا عن ذلك، فإن فقدان حليفين بهذا الوزن من شأنه أن يهدد أمن إسرائيل، ويُغري كلاً من روسيا والصين للتدخل وكسب ودّ هذين البلدين.

ومع ذلك، يبقى قرار ترامب بالانسحاب من مناطق الصراع العالمي موضع نقاش وتحليل، حيث يُقيّم المراقبون والخبراء إيجابيات وسلبيات هذا التوجه الانعزالي.

 وهذا يشير إلى أن هذا التوجه يعكس أيضاً نقصاً في فهمه العميق لتاريخ المنطقة، وتعقيدات العلاقات الفلسطينية الداخلية، والتداعيات المحتملة على حلفاء الولايات المتحدة، وكذلك للارتباط العاطفي المتجذر بالأرض.

استراتيجيات منوعة

أما دول مجلس التعاون الخليجي، التي كانت لعقود ضمن نطاق النفوذ الغربي التقليدي، لا تزال حريصة على البقاء تحت المظلة الأمنية الأمريكية.

وقد ربطت عملاتها بالدولار الأمريكي، وتُعد جيوشها من العملاء الرئيسيين للبنتاغون، من خلال صفقات تسليح ضخمة، إلى جانب برامج التدريب والاستشارات.

وعلى النقيض من ذلك، دفعت السنوات الأخيرة دول الخليج إلى التفكير في استراتيجيات تنويع، ومحاولة فصل ناعمة عن الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، تجنباً للمخاطر المرتبطة بالإفراط في الاعتماد على طرف واحد.

وعلى سبيل المثال، أدت طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة والنمو المتسارع للاقتصاد الصيني إلى تحوّل الطلب على الهيدروكربونات بعيداً عن السوق الأمريكية لصالح السوق الآسيوية.

واليوم، أصبحت الصين الشريك التجاري الأهم لدول الخليج، متجاوزة الولايات المتحدة.

مجموعة البريكس  

بدأ التكتل الخليجي تدريجياً في الانفكاك الاقتصادي عن القبضة الأمريكية، حيث أبرمت بعض دول الخليج عقود نفط مع بكين بعملة اليوان الصيني بدلاً من الدولار.

وفي عام 2023، انضمت المملكة العربية السعودية إلى التكتل الاقتصادي “البريكس”، الذي قابله ترامب بالتهديد، خاصة إذا ما أقدمت الدول الأعضاء على استبدال الدولار كعملة احتياطية عالمية.

 وفي عام 2024، لحقت بها الإمارات العربية المتحدة، وانضمت هي الأخرى إلى المجموعة.

الاستثمارات الداخلية

بدأت دول مجلس التعاون الخليجي في تنويع محافظها الاستثمارية بعيداً عن الأصول والسندات الأمريكية، متجهة نحو استثمارات عالمية في مجالات استراتيجية مثل الموارد المعدنية الحيوية، والأمن الغذائي، وفي دول ذات أهمية إقليمية مثل مصر وتركيا.

كما تسعى دول الخليج إلى جذب مستثمرين من روسيا والهند والصين، كبديل تدريجي للكوادر الغربية المقيمة.

 العلاقات مع إيران

لم تعد إيران العدو المشترك لكل من الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث قام وزير الدفاع السعودي مؤخراً بزيارة إلى طهران، وهي أول زيارة لمسؤول سعودي رفيع المستوى منذ عام 2016، في خطوة تمثل بداية كسر الجليد في العلاقات المتوقفة منذ عقود.

وجاءت توقيت الزيارة قبل أيام قليلة من انطلاق المحادثات الأمريكية-الإيرانية بشأن التوصل إلى اتفاق نووي جديد، الذي لم يتم، وسط امتناع واضح من جانب كل من السعودية والإمارات وقطر حينها عن السماح لإسرائيل باستخدام مجالها الجوي لتنفيذ أي ضربة ضد المنشآت النووية الإيرانية.

وفي أكتوبر، أجرت السعودية وإيران أول مناورات بحرية مشتركة بينهما في خليج عمان، تلتها في نوفمبر زيارة رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة السعودية إلى طهران، حيث التقى بنظيره الإيراني.

وهذا يشير إلى أن جميع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، قد عارضوا سابقاً قبل بدء الحرب، أي هجوم على إيران.

المؤسسات المالية الدولية

تدعو “خطة 2025″، التي تُعد بمثابة الدستور السري لأجندة إدارة ترامب، إلى انسحاب الولايات المتحدة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إذ تمتلك الولايات المتحدة حصة تبلغ 16٪ من أسهم البنك الدولي، وأكثر من 16٪ من حقوق التصويت فيه.

وتعتمد العديد من دول الأسواق الناشئة بشكل كبير على هاتين المؤسستين لدعم اقتصاداتها، ودفع رواتب موظفيها، وتوفير السيولة خلال الأزمات، وطمأنة المستثمرين، وتنفيذ البرامج التنموية، وتحديث بنيتها التحتية.

كما يُعد تمويل الدول الغنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، عنصراً أساسياً في الحفاظ على الاستقرار المالي العالمي، لا سيما في الدول النامية والشريكة والحليفة.

ومع ذلك، وبعد شهر واحد فقط من توليها السلطة، دعت إدارة ترامب إلى مراجعة شاملة لمدة ستة أشهر لجميع المنظمات الحكومية الدولية التي تعد الولايات المتحدة عضواً فيها، بهدف الانسحاب من أي منظمة تُعتبر منافية لمصالح الولايات المتحدة.

وصرّح متحدث باسم وزارة الخارجية بأن ترامب وقّع الشهر الماضي أمراً تنفيذياً يوجّه وزير الخارجية، ماركو روبيو، إلى إجراء مراجعة خلال 180 يوماً لجميع المنظمات الدولية التي تشارك فيها الولايات المتحدة، لتحديد ما إذا كانت تتعارض مع المصالح الأمريكية.

وتشمل هذه المراجعة بالدرجة الأولى كلاً من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.

منظمة التجارة العالمية   

قامت الولايات المتحدة خلال الولاية الأولى لترامب في عام 2019، بخطوة تمثلت في منع تعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف العليا التابعة لمنظمة التجارة العالمية، ما أدى فعلياً إلى شلّ عمل المنظمة، وحتى اليوم، لا تزال آلية تسوية النزاعات الرئيسية في المنظمة تعمل بشكل جزئي فقط.

وقد اتهمت واشنطن هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة بتجاوز صلاحياتها القضائية في تسوية النزاعات التجارية، وهو ما شكّل مبرراً لتحرّكها.

وتبلغ الميزانية السنوية للمنظمة، التي تتخذ من جنيف مقراً لها، نحو 233 مليون دولار، حيث كان من المقرر أن تساهم الولايات المتحدة بنحو 11% من تلك الميزانية، وفقاً لنظام رسوم يعتمد على حصة كل دولة من التجارة العالمية، بحسب وثائق علنية صادرة عن المنظمة.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية: “إن تمويل منظمة التجارة العالمية، إلى جانب منظمات دولية أخرى، لا يزال قيد المراجعة”، حيث لم تحدد الولايات المتحدة حتى الآن موعداً لإبلاغ المنظمة بقرارها النهائي، سواء باستئناف التمويل أو بالانسحاب الكامل.

ومع ذلك، أضعفت هذه الخطوة قدرة العديد من الدول الأعضاء -البالغ عددهم نحو 150 دولة- على العمل بفعالية ضمن المنظمة، حيث تنذر هذه التحركات بحدوث فوضى في بيئة التجارة العالمية.

وقد تطغى القوة والنفوذ على التوافق والقواعد، ما يهدد بانهيار النظام التجاري الدولي المتفق عليه وزعزعة استقراره.

صندوق النقد الدولي  

ذكر أحدث تقارير صندوق النقد الدولي أن سياسات ترامب العدوانية في فرض الرسوم الجمركية أدّت إلى زيادة كبيرة في مخاطر الاستقرار المالي العالمي.

وقد نُشر التقرير في 22 أبريل، وتوقّع تراجعاً بنسبة 0.5٪ في نمو الاقتصاد العالمي، إلى جانب انخفاض في التوقعات الاقتصادية للولايات المتحدة لعام 2025 بنسبة نقطة مئوية مقارنة بعام 2024.

وحذّر الصندوق من أن تصعيد الحرب التجارية وزيادة حالة عدم اليقين المرتبطة بالسياسات التجارية قد يعوقان آفاق النمو على المدى القصير والطويل على حد سواء.

 وأضاف: “إن التراجع في مستوى التعاون الدولي قد يُعرّض للخطر التقدم المحرز نحو اقتصاد عالمي أكثر مرونة وقدرة على الصمود”.

البنك الدولي

يُعتبر البنك الدولي الذراع الناعمة الأقوى للولايات المتحدة، ورمزاً لريادتها الإنسانية على الساحة العالمية، إذ يتبنى مبادرات ومشاريع تنموية حيوية تُسهم في تحفيز نمو الدول النامية، وتعزز في الوقت ذاته المصالح الأمريكية.

وتُعد الولايات المتحدة أكبر مساهم في البنك الدولي، إذ تمتلك نحو 17.5٪ من حصص رأس المال.

كما يقدم البنك الدولي مساعدات للدول الفقيرة ومتوسطة الدخل بهدف دعم اقتصاداتها وتحقيق التنمية المستدامة، حيث تقدّر مساهمة الولايات المتحدة في البنك ومؤسساته التابعة بنحو 57 مليار دولار من إجمالي رأس مال البنك البالغ 321 مليار دولار.

وعلى النقيض ذلك، فإن إدارة ترامب بصدد مناقشة خيار تقليص أو وقف تمويل البنك الدولي، إذ يتفق المحللون على أن البنك يعاني من الهدر ويحتاج إلى إصلاحات وتحولات هي ممكنة وقابلة للتنفيذ، لكنهم يحذرون في الوقت نفسه من أن فقدان أداة لا تُقدّر بثمن من أدوات القوة الناعمة الأمريكية والتنمية العالمية لا يُعد قراراً حكيماً.

كما يُحذّر الخبراء من أن انسحاب الولايات المتحدة من البنك الدولي سيخلق فراغاً خطيراً، تسعى الصين إلى استغلاله عبر مبادراتها مثل “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” ومبادرة “الحزام والطريق”.

وهذا يشير إلى أن هذا الفراغ سيُضعف النفوذ الأمريكي، وسيُكلف واشنطن أكثر بكثير من أي مكاسب قصيرة الأجل قد تحققها من الانسحاب.

ماذا لو انسحبت الولايات المتحدة؟

يقول الخبراء والمستثمرون: “إن تراجع الولايات المتحدة سيكون هدية لدول أخرى، وخاصة الصين، التي تمتلك 5% من أسهم وأصوات المؤسستين، وترغب في تجريد الولايات المتحدة من دورها القيادي”.

وتابعوا: “قد تخسر الشركات الأمريكية العقود الممولة من قبل هاتين المؤسستين، كما أن هذا الانسحاب قد يثني الشركاء الممولين الآخرين ويقوض ثقتهم في هذه المؤسسات وآلية عملها”.

لقد شكّل كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية الأساس للاستقرار المالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وإن قيام الولايات المتحدة بوقف تمويل هذه المؤسسات سيجعلها غير فعالة، وسيترك الأسواق الناشئة فريسة سهلة للقروض المكلفة والتقلبات المالية.

وإن دعم الولايات المتحدة لصندوق النقد الدولي يُعد بالغ الأهمية لتمكين المؤسسة من إدارة الصدمات المالية العالمية والتنبؤ بها.

 وقد يؤدي الانسحاب إلى حرمان الصندوق من الموارد اللازمة للإنذار المبكر، ما قد يعرّض الاقتصادات الناشئة لأزمات مفاجئة وصادمة.

وفي مقابلة مع وكالة رويترز، حذر مارك سوبل، العضو السابق في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي ورئيس فرع الولايات المتحدة في منتدى المؤسسات النقدية والمالية الرسمية، من أن الاقتصاد الأمريكي سيتضرر إذا حدثت حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي في الخارج.

وقال كآن نازلي، مدير محفظة ديون الأسواق الناشئة في شركة نيوبرجر بيرمان: “سيكون ذلك كارثة”.

مواقف ترامب المتهورة والمعادية تجاه العالم ومصالح بلاده ستؤدي إلى تبديد ثروات أمريكا، ولن تُحقق على الإطلاق شعار “لنجعل أمريكا عظيمة من جديد”

انتهاء عصر الدولار  

إذا تخلّت الولايات المتحدة عن البنك الدولي، فقد يفسح ذلك المجال أمام مقرضين بديلين، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية التابع للصين.

ومع أن هذا التوجه كان قائماً قبل عهد ترامب، فإن العديد من التكتلات بدأت بالفعل في السعي نحو الاستقلال المالي، وإنشاء أنظمة خاصة بها للتجارة والإدارة، وقد بدأت ملامح هذه التحولات بالظهور تدريجياً منذ ذلك الحين.

وعلى سبيل المثال، شرعت تكتلات مثل مجموعة بريكس في تجربة إزالة الدولار من معاملاتها التجارية، من خلال اعتماد التبادل بعملاتها الوطنية، حيث كانت روسيا والصين في طليعة هذه الجهود، حيث دعمتا التعامل باليوان والروبل بدلاً من الدولار.

كما بدأت البنوك الإقليمية للتنمية تلعب دوراً بديلاً عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، من خلال تقديم القروض لأعضاء تكتلاتها دون فرض الشروط المقيدة التي تميز المؤسستين التقليديتين.

وقد أنشأت كل من الصين وروسيا أنظمة تحويل مالي خاصة بها، كبديل عن نظام سويفت الأمريكي، في حين بدأت دول مثل الهند وإيران في اختبار أنظمة تحويل رقمية جديدة.

 وعلى مستوى أمريكا اللاتينية وأفريقيا، انخرطت بعض التكتلات في اتفاقيات تجارة حرة متنامية، ما يعكس توجهاً متزايداً نحو بناء نظام اقتصادي عالمي أكثر تعددية واستقلالية.

توترات تاريخية مع أوروبا  

جعل تركيز ترامب المفرط على الجدوى المالية لمشاركة الولايات المتحدة في الشؤون الخارجية، من المشاريع والتحالفات الأمريكية عبئاً اقتصادياً ثقيلاً في نظره.

من وجهة نظره، يجب التخلي عن جميع هذه الالتزامات حتى يتمكن من التفاخر بالأموال التي وفرها لأمريكا وبالأموال التي استغلّها من الدول التابعة التي تدور في مدار واشنطن.

ومع ذلك يبدو أنه غير مبالٍ بمدى النفوذ الذي قد تفقده الولايات المتحدة أو القوة التي قد تكتسبها منافسيه وخصومه، على اعتبار أنه يرى بلاده تستحق مكافأة على دورها في الحفاظ على استقرار النظامين الإقليمي والدولي بصفتها القوة العظمى.

  طريق التصادم

سياسات ترامب التي تركز على الذات، والتي يختزلها في شعار “أمريكا أولاً”، وضعت الولايات المتحدة وأوروبا على طريق تصادم، ما أثر بشكل عميق على العلاقات عبر الأطلسي وأعاد تشكيلها.

وتتعدد نقاط الخلاف بين الطرفين، بدءاً من حلف الناتو والحرب في أوكرانيا، مروراً بقضايا المناخ والتجارة وتنظيمات التكنولوجيا، وصولاً إلى السياسات تجاه الصين.

وقد تباينت وجهات نظر الجانبين تجاه التحالف والعالم لدرجة تحولت فيها الخلافات إلى حالة من التوتر الحاد والعدائية المتزايدة.

وبالفعل بدأ الأوروبيون يواجهون إدارة ترامب، خاصة فيما يتعلق بتعامله مع الحرب في أوكرانيا وفرضه للتعريفات الجمركية على التجارة، ومن المتوقع أن تؤدي هذه التصادمات إلى زعزعة أسس العلاقات عبر الأطلسي وإعادة تشكيل التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا، وأكثر ما يُخشى في هذه الخلافات هو احتمال أن تصبح غير قابلة للإصلاح.

أوروبا في نظر ترامب

لكن من وجهة نظر ترامب، لم تعد أوروبا تحتل الأهمية نفسها التي كانت عليها سابقاً، خصوصاً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

ويرى ترامب أن الأوروبيين يستنزفون موارد الولايات المتحدة بينما يحافظون على مخزوناتهم ويستمرون في تبني سياسات اقتصادية شبه اشتراكية دون دفع مستحقات الحماية.

ومع ذلك، يلمس ترامب تعالياً أوروبياً تجاه قوميته الثورية ومحاولته تصديرها إلى أوروبا، حيث شهد انتقادات أوروبا لسياساته في الماضي، ومدحها لجو بايدن، وهو ما أيقظ في داخله غروره المتعجرف وزاد من عناده.

تذكر هذه الأجواء بالحالة التي سادت العلاقة بين أوروبا والإدارة الجمهورية في عهد جورج دبليو بوش الابن، عندما اعترض الأوروبيون، وخاصة فرنسا وألمانيا، على غزو الولايات المتحدة للعراق.

وهذا يشير إلى أن ترامب في حالة من الجمود تجاه أوروبا فيما يتعلق بأساليبه التبادلية، فهو لا يطمح فقط إلى حصة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي في ميزانيات حلف الناتو والدفاع، بل يسعى أيضاً إلى الحصول على وضع تفضيلي لصادرات وشركات الولايات المتحدة.

وقد تجلى هذا بوضوح في خطاب نائب ترامب، جي دي فانس، في باريس، حيث أدان اللوائح الأوروبية المتعلقة بالتكنولوجيا.

وكان وزير الدفاع بيت هيغسيث صريحاً حين قال: “إن الولايات المتحدة ستعطي الأولوية لآسيا، وستخلق تقسيماً للعمل تتحمل فيه أوروبا مسؤولية أمنها الخاص”.

وهذا ما يفسر سبب انطلاق القارة الأوروبية في رسم مسار خاص بها بعيداً عن الولايات المتحدة، على نحو يتجاوز الخلافات السابقة والمواجهات الكلامية.

ميول الانفصال  

الظاهرة الأخطر هي أن كامل فريق ترامب في ولايته الثانية يتوافق تماماً مع توجهاته الانفصالية ويخضع لها بالكامل، ففي ولايته الأولى، كان هناك بعض نقاط المقاومة وأصوات الرافضين لسلوكياته العقابية العدوانية.

علاوة على ذلك، يبدو ترامب مصمماً على الانفصال عن حلف الناتو، وقد عبّر مراراً عن عدم ثقته في فعاليته، كما أن فرق الدفاع والسياسة الخارجية ومستشاريه يتماشون معه في هذا الرأي ويرون أن الحلف مثقل بالمهام ويتجاوز طاقته.

ويطالب الأوروبيين بطلب غير ممكن عندما حثهم على تخصيص 5% من ناتجهم المحلي الإجمالي للدفاع، وهو ما يفوق بكثير ميزانية الدفاع الأمريكية، وهو يعلم أن الأوروبيين لن يستطيعوا الوفاء بهذا المطلب، ويبحث فعلياً عن ذريعة للانسحاب.

 أمريكا وحلف الناتو

يترجم هذا إلى تقليص في مشاركة الولايات المتحدة في حلف الناتو والتزامها بأمن القارة الأوروبية، فالولايات المتحدة الإمبريالية المفترسة، ليست على وفاق مع أوروبا الليبرالية الساعية للسلام، ما لم تتول واشنطن إدارة ذات توجه ديمقراطي ليبرالي.

وعلى النقيض من ذلك فإن الأمل معقود على تحقيق تهدئة أو اتفاق بشأن القضايا الأكثر جدلاً، ما يؤدي إلى تخفيف التوتر بشأن القضايا الأقل خلافاً، وإلا فإن التصعيد والمواجهات الحادة حول قضية واحدة، مثل التعريفات الجمركية، سيؤدي حتماً إلى صدامات أكثر حدة حول قضايا أخرى، مثل دعم أوكرانيا.

ماذا لو؟  

لا يستبعد عدم قدرة التنبؤ بتصرفات ترامب احتمال أن ينفذ ما حذّر منه سراً في عام 2018، وهو الانسحاب من حلف الناتو، فقد يؤدي هذا القرار الضخم إلى تغيير ميزان القوى العالمي الذي استقر بعد الحرب العالمية الثانية.

تعقيدات قانونية

مع ذلك، قد يمثل هذا الإجراء المحتمل وغير المسبوق لغزاً قانونياً معقداً، ففي عام 2020، أضاف الكونغرس نصاً خاصاً في قانون تفويض الدفاع الوطني، الذي يحدد تمويل الجيش الأمريكي.

وينص القسم 2050A  من القانون على أن “الرئيس لا يمكنه الانسحاب من الناتو من جانب واحد دون موافقة الكونغرس أو تصديق ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ.”

دعم المحكمة العليا

لكن في عام 2020، في نهاية ولاية ترامب الأولى، أصدرت وزارة العدل رأياً قضائياً يرى أن الانسحاب من المعاهدات هو من صلاحيات الرئيس الحصرية التي لا يمكن للكونغرس تقييدها.

 وقد حكمت المحكمة العليا بأن السلطة التنفيذية تملك صلاحية الاعتراف بالحكومات الأجنبية، رغم أن هذه الصلاحية غير منصوص عليها صراحة في الدستور.

ومع ذلك، ظل البيت الأبيض يؤكد أنه يمكنه الانسحاب من المعاهدات ما لم يعارض الكونغرس ذلك.

وقالت كارين سوكول، محامية تشريعية في خدمة الأبحاث الكونغرسية التي تحلل القضايا لصالح الكونغرس، في مقابلة مع موقع Business Insider: “إن المحاكم قد ترفض ادعاء إدارة ترامب بأن السلطة التنفيذية وحدها يمكنها اتخاذ قرار الانسحاب من المعاهدات”.

وأضافت: “قد ترى المحكمة أن ادعاء الرئيس بامتلاك سلطة دستورية حصرية للانسحاب من المعاهدة غير مقنع، نظراً لأن الدستور لا يتناول صلاحيات الانسحاب من المعاهدات، وأن المادة الثانية تنص على أن الدخول في المعاهدات هو سلطة مشتركة بين الرئيس ومجلس الشيوخ”.

ومع ذلك، قد تمنح المحكمة العليا المحافظة، التي أقرّت للرئيس حق الاعتراف بالحكومات الأجنبية رغم عدم ذكر ذلك صراحة في الدستور، سلطة الانسحاب من حلف الناتو.

لكن مجرد فكرة انسحاب الولايات المتحدة من الناتو قد تثير زلزالاً في الأمن العالمي، مع تداعيات ضخمة على قوة الناتو وميزانيته وفعاليته، خاصة في مواجهة خصوم مثل روسيا وقوى صاعدة أخرى.

العمود الفقري

تمثل الولايات المتحدة العمود الفقري لقدرات حلف الناتو، إذ تشكل نحو 70% من إجمالي الإنفاق الدفاعي للحلف.

 كما تسهم بشكل كبير في الأصول الاستراتيجية للتحالف، التي تشمل أكثر من 800 قاعدة عسكرية في الخارج، وأنظمة دفاع وهجوم متقدمة، بالإضافة إلى بنية تحتية للأمن السيبراني وشبكات الأقمار الصناعية.

وتلعب الولايات المتحدة، إلى جانب فرنسا وبريطانيا، دوراً حاسماً في برنامج المشاركة النووية لحلف الناتو، من خلال استضافة وصيانة الأسلحة النووية التكتيكية في أوروبا.

ومع ذلك فإن انسحاب الولايات المتحدة سيجبر الدول الأوروبية على زيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير للحفاظ على القدرات الحالية، ما سيؤثر سلباً على برامجها التنموية الداخلية.

وسيتعين على الدول الأوروبية اقتناء أنظمة متقدمة لتعويض مساهمات الولايات المتحدة، وفي حال غياب العضوية الأمريكية، ستواجه أوروبا نقصاً حاداً في التدريبات المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وعجزاً كبيراً في ميزانية العمليات المشتركة.

كما أن وجود الولايات المتحدة يعمل كضامن للانضباط والسلام بين بعض الدول الأعضاء المتنافسة داخل الناتو، مثل: تركيا واليونان، وبلجيكا والسويد، وعدد من الدول في أوروبا الشرقية والغربية.

وسيشجع انسحاب الولايات المتحدة كلاً من روسيا والصين على محاولة ابتزاز الأوروبيين أو توسيع نفوذهما في القارة.

ومع ذلك، إذا تم اتخاذ هذه الخطوة الجذرية، لن يكون أمام أوروبا خيار سوى إعادة ترتيب سياساتها الدفاعية والخارجية التي بنيت على الاعتماد، ما سيؤدي أيضاً إلى تحول كامل في هيكلها الاقتصادي لتلبية هذه المطالب الجديدة، وهو ما سيزيد من الأعباء على برامجها الاجتماعية والاقتصادية.

وعلى النقيض من ذلك، ستبدأ أوروبا في البحث عن حلفاء جدد، وصياغة اتفاقيات جديدة، والسعي لكسب ود خصوم سابقين.

كما تحرص أوروبا على بذل جهود كبيرة للحفاظ على التحالف الحالي مع الولايات المتحدة، التي تعتبر الضامن لأمنها والحامي لوحدتها.

  الضرر لا مفر منه

قال آرون ديفيد ميلر، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم الذي خدم في الإدارات الجمهورية والديمقراطية: “إن الوقت لم يفت بعد أمام ترامب لتغيير مساره في السياسة الخارجية، خاصة إذا بدأ يشعر بالضغط من زملائه الجمهوريين الذين أبدوا قلقهم بشأن المخاطر الاقتصادية، في ظل سعيهم للحفاظ على السيطرة على الكونغرس في انتخابات منتصف الولاية المقبلة”.

وأضاف ميلر: “ما يحدث لم يصل بعد إلى نقطة اللاعودة، لكن حجم الضرر الذي يُلحق بالعلاقات الأمريكية مع الأصدقاء، ومدى استفادة الخصوم منه، قد يكون من الصعب تقديره”.

وعلى النقيض من ذلك، إذا تمسك ترامب بمواقفه، فقد يحاول الرئيس القادم إعادة تثبيت دور واشنطن كضامن للنظام العالمي، لكن العقبات ستكون كبيرة وصعبة.

ومع ذلك، كلما تأخر ترامب في تصحيح مساره، زاد الضرر الذي يلحق بمستقبل الولايات المتحدة وأصبح أكثر استحالة للتراجع.

وأولئك الذين يعرفون ترامب يرون فرصة ضئيلة لتحول دراماتيكي في سياساته، بدلاً من ذلك، يتوقعون أن تقوم العديد من الدول بإجراء تعديلات دائمة في علاقاتها مع الولايات المتحدة، لتجنب أو تخفيف تأثير سياساته المتقلبة، خاصة وأن الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون قد تراجع تقريباً عن دوره الرقابي ووضع كل صلاحياته تحت تصرفه.

وهذا يشير إلى أن الجمهوريون قد يصحون على هذه الحقيقة المريرة فقط عندما يخسرون أغلبيتهم الضئيلة في الكونغرس خلال انتخابات منتصف الولاية، وعندها فقط سيبدأ انهيار هيمنة ترامب الطاغية.

 أما إذا استمر الجمهوريون في أغلبيتهم، فستنعدم فرص الخلاص، وسيكون على العالم الاستعداد لكوابيس أكثر قسوة.

  قطار ترامب

الكونغرس قد يتخلى عن مسؤولياته لصالح السلطة التنفيذية، لكن الأمل ما زال معقوداً على قيود أخرى قد تبطئ من اندفاع ترامب المتسارع.

أولى هذه القيود هي المحاكم، التي بدأت بالفعل تُظهِر قوتها من خلال إلغاء شرعية العديد من أوامره وقراراته التنفيذية، حيث تشمل بعض هذه الأوامر قرارات بترحيل المهاجرين قبل إتاحة الفرصة لهم لمتابعة الإجراءات القانونية، وتسريح موظفين فيدراليين، ووقف عمل وكالات إنسانية.

أما الثانية، يمكن أن تكون الأسواق المالية وردود فعلها العنيفة على حرب التعريفات الجمركية التي يشنها ترامب، وتأثير ذلك على أسعار السلع والمواد الأساسية.

والثالثة، فهي الرأي العام، الذي قد يبدو متسامحاً نسبياً، مع منح الرئيس فرصة للاطلاع على ما إذا كانت أوضاعهم ستتحسن أو تسوء.

وأخيراً، تأتي انتخابات منتصف الولاية، حيث سيُقيّم أداء الرئيس في صناديق الاقتراع، حيث ستعمل هذه الانتخابات كاستفتاء على سياساته.

وإذا واصل ترامب أعماله المزعزعة للاستقرار، فقد يخسر سيطرته الثلاثية على الحكومة، وقد يعود الجمهوريون إلى مقاعد المعارضة، ثم يلمون أنفسهم.

كلما تأخر ترامب في تصحيح مساره، ازدادت صعوبة عكس الأضرار التي يُلحقها بمستقبل الولايات المتحدة

EIR

EIR

منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.

كلمات مفتاحية​

موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.