Getting your Trinity Audio player ready...
|
تعد حركة الحوثيين في اليمن واحدة من أبرز الأذرع الإقليمية التي استخدمتها إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة، منذ عام 2014، إذ شكل دعم طهران لها، عسكرياً ولوجستياً ومادياً، دورٌ حاسم في تعزيز قدراتها في مواجهة خصوم الحركة المحليين والإقليميين، وعلى رأسهم التحالف العربي بقيادة السعودية، حيث أكدت تقارير دولية تورط إيران في تهريب الأسلحة إلى اليمن عبر البحر الأحمر.
واليوم، تشير التطورات الأخيرة إلى احتمال تراجع هذا الدعم نتيجة ضغوط داخلية وخارجية تواجهها طهران، ما يثير تساؤلات حول مستقبل نفوذ الحوثيين في اليمن والمنطقة.
التحليل التالي يناقش أثر تراجع الدعم الإيراني للحوثيين، وتقييم تحوّلات الدعم الخارجي على قدراتهم العسكرية، واستراتيجيتهم السياسية، ومكانتهم الإقليمية.
ويستشرف عبر تحليل الديناميات الجيوسياسية الراهنة السيناريوهات المحتملة لمستقبل نفوذ الحوثيين، ومدى قدرتهم على الحفاظ على موقعهم في ظل تغيّر مراكز القوة في المنطقة.
كما يعتمد التحليل في مقاربته على “نظرية الوكلاء” في العلاقات الدولية، والتي تفترض أن القوى الكبرى توظف فاعلين محليين لخدمة مصالحها الاستراتيجية، مع تقليل انخراطها المباشر في النزاعات المسلحة.
وضمن هذا الإطار، توصف حركة الحوثيين في الغالب “وكيلاً إيرانياً” ينشط في مواجهة السعودية، والولايات المتحدة، وشركائهما الإقليميين.
ولكن فعالية مثل هذه الاستراتيجية بالوكالة تعتمد على استمرار الدعم السياسي والمالي والعسكري من الجهة الراعية؛ وبالتالي، فإن أي تراجع في الدعم الإيراني يُعدّ عاملاً مؤثراً كبيراً في تقييم القدرات العملياتية للحوثيين واستدامتهم على المدى الطويل.
وفي هذا السياق، اتّسم رد إدارة ترامب بتكثيف الضربات الجوية، وإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، وتوجيه ضربات لإيران، ما يعكس نهجاً تصادمياً واضحاً، ويطرح تساؤلاً مهماً: إلى أي مدى يمكن أن يُشكّل استخدام القوة العسكرية وحده وسيلة فعّالة لتحييد تهديد الحوثيين؟.
فعالية استراتيجية الوكالة تعتمد على تواصل الإمداد من الجهة الراعية وتراجع الدعم الإيراني يعد متغيراً حاسماً في تقييم القدرة العملياتية للحوثيين واستمراريتهم
العلاقة التاريخية
بدأ التعاون بين إيران والحوثيين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث قدمت طهران دعماً عسكرياً وتدريبياً للحركة خلال مواجهاتها مع الحكومة اليمنية بين عامي 2004 و2010.
وازداد هذا الدعم بشكل ملحوظ بعد اندلاع الحرب الأهلية في اليمن عام 2014، إذ زودت إيران الحوثيين بصواريخ باليستية وطائرات مسيّرة وخبراء عسكريين من الحرس الثوري الإيراني، بالإضافة إلى عناصر من حزب الله.
وعليه مكّن هذا الدعم الحوثيين من السيطرة على صنعاء وأجزاء واسعة من شمال اليمن، ما رسّخ مكانتهم كلاعب رئيسي في الصراع الإقليمي، كما يوفر حزب الله الدعم اللوجستي والتدريب للحوثيين، لا سيما في تطوير قدراتهم الصاروخية.
أسباب تراجع الدعم
ضمن قراءة معمقة للمشهد العام في إيران، يلاحظ أن أسباب تراجع دعمها للحوثيين يعود لعدة أسباب، تضم في أولها، “الضغوط الاقتصادية الداخلية”، حيث تواجه طهران أزمة اقتصادية حادّة نتيجة العقوبات الدولية، وانخفاض أسعار النفط، والتضخم المفرط، ما أدى إلى تقليص قدرتها على تمويل حلفائها في المنطقة.
كما أن التوترات المتصاعدة بين واشنطن وطهران، في أعقاب تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن دعم إيران للحوثيين والضربات الجوية على برنامجها النووي، أدت إلى صدور رسائل متضاربة من إيران.
وثانياً، “التحولات الإقليمية”، التي جاءت بعد سقوط نظام الأسد في سوريا في ديسمبر 2024، وتراجع نفوذ حزب الله في لبنان، إلى جانب الضربات الجوية الإسرائيلية والأمريكية، حيث تبنت إيران موقفاً أكثر تركيزاً على الشؤون الداخلية، أي قد يدفعها ذلك إلى إعادة تقييم أولوياتها وتقليص دعمها للحوثيين.
وثالثاُ، “الضغوط الدولية”، التي برزت بعد تزايد الجهود الأمريكية والغربية لمنع تهريب الأسلحة الإيرانية عبر البحر الأحمر، إلى جانب تهديدات إدارة ترامب الأخيرة بفرض عقوبات أكثر صرامة، ما يجعلها عوامل رئيسية في تقليص الدعم الإيراني.
وأخيراً، “الاتفاق السعودي-الإيراني”، فمنذ مارس 2023، تسعى إيران والمملكة العربية السعودية إلى تهدئة التوترات بينهما، وقد يشمل ذلك تقليص الدعم الإيراني للحوثيين كجزء من التفاهمات الدبلوماسية الجارية.
أثار تراجع الدعم
نتائج تراجع الدعم الإيراني للحركة ستظهر جوانب عدة تتمثل، في الجانب العسكري، حيث سيؤدي نقص الأسلحة المتقدمة مثل الصواريخ والطائرات المسيّرة إلى تقليص قدرة الحوثيين على تنفيذ هجمات بعيدة المدى، مثل تلك التي تستهدف السعودية أو السفن في البحر الأحمر.
أما على جانب الانقسامات الداخلية، فإن تقليل التمويل يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الداخلية داخل الحركة، خصوصاً بين الفصائل الموالية لإيران وتلك التي تسعى إلى تحقيق استقلالية أكبر.
بينما في الجانب السياسي، فمن المرجح أن تضعف مكانة الحوثيين في المفاوضات مع الحكومة الشرعية والتحالف، مما يجبرهم على تقديم تنازلات أكبر.
وأخيراً، في الاعتماد على الموارد المحلية، إذ أن غياب الدعم الخارجي قد يدفع الحوثيين إلى تعزيز سيطرتهم على الموارد المحلية مثل الضرائب وعمليات التهريب، مما قد يزيد من السخط الشعبي المحلي.
تراجع الدعم سيُقيد قدرات الحوثيين لكنهم يظلون عنصراً فاعلاً رئيسياً في اليمن تمكنوا من استغلال مواردهم المحلية والظروف السياسية بشكل فعّال
السيناريوهات المستقبلية
يطرح هذا التحليل عدداً من السيناريوهات المحتملة فيما يتعلق بمستقبل حركة الحوثي في ظل تراجع الدعم الإيراني، تتمثل في: أولاً، التراجع والتفتت: إذا تراجع الدعم الإيراني بشكل كبير، قد يفقد الحوثيون قدرتهم على الصمود أمام الضغوط العسكرية من التحالف العربي بقيادة السعودية وقوات الحكومة اليمنية، وقد يؤدي ذلك إلى انهيار سيطرتهم على مساحات واسعة، خاصة إذا استغلت القوى المحلية والإقليمية هذه الضعف.
وتزداد احتمالية هذا السيناريو في حال تصعيد الولايات المتحدة وإسرائيل الضربات في المستقبل.
وثانياً، التحول إلى قوة مستقلة: قد يسعى الحوثيون إلى تقليل اعتمادهم على إيران من خلال بناء شراكات محلية أو إقليمية مثل: روسيا أو الصين أو الاستفادة من الدعم الشعبي في مناطقهم.
ويتطلب هذا السيناريو قيادة حكيمة وقدرة على التكيف، وتُعتبر احتمالية حدوثه متوسطة بسبب محدودية الموارد والخبرات المتاحة لديهم.
وثالثاً، الاستمرار بتأثير محدود: في حال قلصت إيران دعمها دون التوقف الكامل عنه، قد يحتفظ الحوثيون بتأثير محدود في شمال اليمن.
ومع ذلك، سيواجهون صعوبات في التوسع أو مواجهة أعدائهم بفعالية، ما قد يؤدي إلى تقسيم دائم لليمن إلى مناطق نفوذ، ويُعتبر هذا السيناريو الأكثر احتمالاً على المدى القريب، لأن تراجع الدعم الإيراني سيضعف الحوثيين عسكرياً وسياسياً، لكنه لا يعني بالضرورة نهاية تأثيرهم، نظراً لقاعدتهم الشعبية وقدرتهم على التكيف مع المتغيرات.

الدور الإقليمي والدولي المستقبلي
يعتمد الدور الإقليمي والدولي المستقبليللحوثيينعقب تراجع الدعم الإيراني على عدة عوامل مهمة، أبرزها، مدى قدرة الحركة على التكيف، وشدة الضغوط الدولية على إيران، ودور الفاعلين الإقليميين كالسعودية.
وهذا يشير إلى أنه يتعين على السعودية والدول الإقليمية استثمار هذا التراجع لتعزيز المفاوضات مع الحوثيين، عبر تقديم حوافز اقتصادية وتشجيع دمجهم في عملية سياسية شاملة تهدف إلى تحقيق سلام دائم ومستقر.
بالتزامن مع ذلك، ينبغي على المجتمع الدولي تكثيف جهوده لمراقبة منع تهريب الأسلحة إلى اليمن، بهدف الحد من تجدد الدعم الإيراني وتدفق التكنولوجيا العسكرية المتطورة التي قد تزيد من زعزعة استقرار المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الحكومة اليمنية الشرعية تعزيز حضورها في المناطق المحررة لسد أي فراغ قد ينتج عن ضعف الحوثيين، مع التركيز على معالجة الثغرات في الحوكمة وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين.
وهذه الإجراءات مجتمعة تسهم في منع استغلال الفراغ السياسي من قبل الحوثيين أو قوى إقليمية أخرى.
وعلى النقيض من ذلك، فإنه رغم تراجع الدعم الذي سيقلص من قدراتهم، إلا أن الحوثيين قد يظلون لاعباً مهماً في اليمن إذا تمكنوا من استغلال مواردهم المحلية والظروف السياسية بنجاح.
وهذا يشير إلى أن الأزمة اليمنية معقدة وتتطلب جهوداً جماعية لضمان الاستقرار الإقليمي.
تطور الحركة
تعود أصول الحوثيين، أو “أنصار الله”، إلى حركة سياسية وعسكرية يمنية نشأت في شمال اليمن، وتحديداً في محافظة صعدة، ثم تطوروا من حركة محلية إلى قوة رئيسية في السياسة والصراع اليمني.
تأسست الحركة في تسعينيات القرن الماضي على يد حسين بدر الدين الحوثي، وهو شخصية دينية وسياسية زيدية تمثل طائفة شيعية أقلية في اليمن، (تشكل نحو 35-40% من السكان).
بدأت الحركة كجزء من منظمة “الشباب المؤمن”، وهي منتدى ثقافي وديني أسسه حسين الحوثي عام 1992، بهدف إحياء الهوية الزيدية التي شعر أتباعها بأنها تعرضت للتهميش بعد ثورة 1962 التي أسقطت الإمامة الزيدية في شمال اليمن.
العقيدة الزيدية
جاءت حركة الحوثيين إحياء للمذهب الزيدي، وهو فرع من الإسلام الشيعي، الذي يشارك باقي الفرق الشيعية في الاعتقاد بأحقية نسل الإمام علي في الحكم.
ووفقاً للعقيدة الزيدية، فإن الإمامة -أي القيادة العليا للمسلمين- محصورة في الذكور البالغين من نسل البطنَين (أي سلالتي الحسن والحسين، أبناء علي بن أبي طالب)، ويجوز لأي فرد منهم أن يطالب بالإمامة إذا استوفى أربعة عشر شرطاً للقيادة.
كما تُجيز العقيدة الزيدية الاعتراف بإمام زيدي أو غير زيدي، ما يميزها بقدر من المرونة مقارنةً بغيرها من الفرق الشيعية.
الصدام مع المذاهب الأخرى
تتصادم العقيدة الزيدية مع المذاهب الشيعية والسنية على حد سواء، فمن خلال منحها حق الحكم لذرية “البطنين”، تتعارض مع المذهبين الشيعيين الرئيسيين: الإثني عشري والإسماعيلي، واللذين يحصران الإمامة في عدد معين من الأئمة، وينتهي الأمر بالإمام الغائب وفقاً لعقيدة الإثني عشرية وبعض فروع الإسماعيلية.
كما تتناقض مع معظم المدارس السنية التي توسع شروط تولي الخلافة لتشمل عموم قريش أو حتى عامة المسلمين، كما يظهر في عدد من الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة.
وتتبنى الحركة أيضاً موقفاً معارضاً للنفوذ السلفي المدعوم من السعودية، وتراه تهديداً لهويتها الدينية والسياسية.
التحول العسكري والسياسي
في بداياتها، ركزت حركة الحوثيين على القضايا التعليمية والاجتماعية، لكنها سرعان ما تبنّت موقفاً سياسياً معارضاً لحكومة الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح.
وفي عام 2004، تحولت إلى تنظيم مسلح عقب اندلاع مواجهات مع الحكومة اليمنية، التي اتهمت حسين الحوثي بالتحريض على السلطات ومحاولة إحياء نظام الإمامة.
بعدها قُتل حسين الحوثي في سبتمبر عام 2004 خلال عملية عسكرية نفذتها القوات الحكومية، ثم تولى شقيقه عبد الملك الحوثي قيادة الحركة، وأصبح القائد الفعلي لها، مشرفاُ على تحولها إلى قوة سياسية وعسكرية بارزة في اليمن.
الحروب الست مع الحكومة
خاض الحوثيون سلسلة من المواجهات المسلحة مع الجيش اليمني في محافظة صعدة بين عامي 2004 و2010، عُرفت باسم “الحروب الست”، حيث ساهمت هذه الحروب في تعزيز قدراتهم العسكرية ومنحتهم خبرة ميدانية في حرب العصابات.
وخلال هذه الفترة، بدأ الدعم الإيراني يزداد تدريجياً، كما قدم حزب الله مساعدات للحركة، خاصة في مجالات التدريب والدعم اللوجستي.
ثورة 2011
تطورت الحركة تدريجياً لتصبح قوة عسكرية وسياسية مؤثرة، خاصة بعد ثورة عام 2011 التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح، حيث شارك الحوثيون في الاحتجاجات المناهضة لصالح، ما زاد من نفوذهم السياسي.
ولكن على الرغم من مشاركتهم في الاحتجاجات، رفض الحوثيون المبادرة الخليجية التي مهّدت لنقل السلطة إلى عبد ربه منصور هادي، معتبرين أنها محاولة لتقسيم اليمن، خصوصاً مناطقهم، من خلال مشروع الفيدرالية.
ثم دخل اليمن في حالة من الفوضى السياسية والأمنية، بعد ثورة 2011، أدت إلى استقالة علي عبدلله صالح، واستغلال الحوثيون للوضع القائم ورفض عدد من بنود المبادرة الخليجية.
وبحلول عام 2014، تمكن الحوثيين من السيطرة على العاصمة صنعاء، وهو ما شكّل نقطة تحول كبرى عززت مكانتهم العسكرية والسياسية بشكل غير مسبوق.
السيطرة على صنعاء
في سبتمبر عام 2014، وأثناء تصاعد الصراع الداخلي، سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء بدعم من قوات موالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح، بعد انهيار تحالفه مع الحكومة الجديدة بقيادة عبد ربه منصور هادي، حيث شكّلت هذه الخطوة نقطة تحول مفصلية، رسّخت مكانة الحوثيين كلاعب رئيسي في الحرب الأهلية اليمنية.
ورداً على هذا التطور، قادت السعودية في عام 2015 تحالفاً عسكرياً تحت اسم: “عاصفة الحزم” لدعم الحكومة الشرعية بقيادة هادي ومواجهة التمدد الحوثي.
ومنذ ذلك الحين، أظهر الحوثيون قدرات عسكرية متنامية، بما في ذلك استخدام الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة بدعم إيراني، ما جعل منهم طرفاً لا يمكن تجاهله في أي تسوية إقليمية.
الاستمرار في القتال
تمكن الحوثيون رغم الحصار المفروض من قبل التحالف العربي، من تطوير ترسانتهم العسكرية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، إذ مكّنتهم هذه القدرات من استهداف مواقع داخل السعودية، مثل الرياض ونجران، بالإضافة إلى أهداف بحرية في البحر الأحمر، ما عزز قدرتهم على إطالة أمد الحرب في اليمن وزيادة تعقيد المشهد الإقليمي.
ومع ذلك، أنشأ الحوثيون بين عامي 2017 و2023 شبكات من الأنفاق والمخابئ الجبلية في المناطق الوعرة، للتكيف ميدانياً مع استخدام التحالف لقنابل خارقة للتحصينات لدعم الحكومة الشرعية.
وتوفر الطبيعة الجبلية حماية طبيعية بسبب الصخور الضخمة، وقد صُممت هذه المخابئ لتضم مداخل ومخارج متعددة تُستخدم كنقاط إطلاق وتجهيز للصواريخ، ما يعزز قدرتهم على تنفيذ عمليات هجومية مفاجئة والبقاء في مأمن من الضربات الجوية.
التجنيد
يعتمد الحوثيون على عمليات تجنيد مستمرة، تشمل في كثير من الأحيان الأطفال، في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم، وذلك من خلال مزيج من الإقناع الأيديولوجي، والضغوط الاقتصادية، والتهديدات المباشرة.
وتُسهم هذه الاستراتيجية في تأمين تدفق دائم للمقاتلين إلى الجبهات، رغم الخسائر البشرية الكبيرة التي يتكبدونها.
كما تُمكِّنهم سيطرتهم على العاصمة صنعاء ومناطق غنية بالموارد مثل الحُديدة من توليد إيرادات عبر الضرائب والجبايات، ما يموّل عملياتهم العسكرية، كما أن امتناعهم عن دفع رواتب موظفي الدولة يُخفف من أعبائهم المالية، ما يعزز قدرتهم على الاستمرار في القتال.
ويعتمد الحوثيون على استراتيجية تجمع بين الدفاع عن معاقلهم الشمالية، والهجوم على جبهات مثل مأرب وتعز، حيث يساهم هذا النهج في إنهاك خصومهم، والحفاظ على توازن القوى، ما يجعل من الصعب حسم الصراع عسكرياً ضدهم.
القدرة على التفاوض
يُعد الحوثيون من أبرز الأطراف التي ظهرت بعد تصاعد الصراع في اليمن عام 2014، حيث أظهروا قدرة ملحوظة على الموازنة بين العمليات السياسية والتفاوضية من جهة، واستمرار العمليات العسكرية من جهة أخرى.
وقد مكّنتهم هذه المرونة من تعزيز نفوذهم داخل اليمن وخارجه، مع الحفاظ على قوتهم العسكرية في مواجهة خصومهم، بما في ذلك الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً والتحالف العربي بقيادة السعودية.
وهذا يشير إلى أنه من الضروري تحليل قدرة الحوثيين على التفاوض والقتال المستمر، من خلال التركيز على العوامل التي تدعم هذه القدرات، والتحديات التي يواجهونها، وما تعنيه هذه المعطيات لمسار الصراع في اليمن.
المرونة الاستراتيجية
أظهر الحوثيون قدرة كبيرة على التكيف مع المتغيرات السياسية، فعلى سبيل المثال، شاركوا في محادثات وقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة عام 2022، والتي تضمنت وقف العمليات العسكرية الهجومية وتسهيل وصول الوقود إلى المناطق الخاضعة لسيطرتهم، إذ تعكس هذه المرونة قدرتهم على كسب الوقت وتحسين موقعهم التفاوضي دون التخلي عن أهدافهم الأساسية.
الحوثيون أظهروا قدرة كبيرة على التكيف مع المتغيرات السياسية بشكل أتاح لهم تحسين موقفهم التفاوضي دون التخلي عن أهدافهم الجوهرية
الدعم الخارجي
تلعب إيران دوراً محورياً في تعزيز قوة الحوثيين التفاوضية من خلال الدعم العسكري واللوجستي والسياسي، ما يمنحهم ثقة أكبر في مسار التفاوض، إذ يدركون أنهم يملكون بدائل في حال فشل المحادثات.
وعلى سبيل المثال، يسهم التطوير المستمر لقدراتهم في مجال الصواريخ والطائرات المسيّرة في تعزيز مكانتهم كقوة لا يُستهان بها.
الشروط المسبقة
في الغالب يفرض الحوثيون شروطاً مسبقة قبل الدخول في أي مفاوضات، مثل رفع الحصار عن مطار صنعاء وميناء الحديدة، في إطار استراتيجية تهدف إلى تحقيق مكاسب ملموسة قبل أي اتفاق.
ويتجلّى هذا النهج أيضاً في رفضهم للحوار القائم على “المرجعيات الثلاث” (قرار مجلس الأمن 2216، والمبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني)، مفضلين بدلاً من ذلك صيغاً تضمن مشاركتهم في السلطة بشكل فعلي.
الإعلام
بالإضافة إلى ذلك، يُجيد الحوثيون توظيف الإعلام لتصوير أنفسهم كضحايا للعدوان الأجنبي، ما يساهم في كسب التعاطف المحلي والدولي، حيث تُعزز هذه الاستراتيجية موقفهم التفاوضي، إذ يقدمون أنفسهم كمدافعين عن السيادة اليمنية في وجه التدخلات الخارجية.
عوامل مؤثرة بالقدرات
عبر قراءة شاملة للمشهد تظهر عوامل عدة مؤثرة بقدرات الحركة، تضم، أولاً، التماسك التنظيمي، فعلى الرغم من التقارير المتكررة عن صراعات داخلية، فإن حركة الحوثيين بقيادة عبد الملك الحوثي نجحت في الحفاظ على وحدتها، وهو ما يدعم قدرتها على التفاوض والاستمرار في القتال.
وثانياً، الشرعية المحلية، إذ قد يؤدي تراجع الثقة بالحوثيين في بعض المناطق نتيجة الفساد وسوء إدارة الموارد إلى الحد من قدرتهم على حشد الدعم الشعبي وتحقيق أهدافهم السياسية والعسكرية.
وثالثاً، الضغط الإقليمي، حيث تفرض العمليات العسكرية المستمرة من قبل التحالف العربي ضغطاً كبيراً على الحوثيين، ما يعيق تحقيقهم لانتصارات حاسمة، لكنه لم يكسر إرادتهم في مواصلة القتال.
وأخيراً، المجتمع الدولي، الذي يمارس ضغوطاً متزايدة للتوصل إلى حل سياسي، قد يدفع الحوثيين نحو خيار التفاوض، إلا أن تصنيفهم كجماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة يُعقّد هذا المسار ويقلّص من فرص إشراكهم بفعالية في العملية السياسية.
تأثير الحوثيين على الصراع

في جانب “إطالة أمد الحرب”، تشير قدرة الحوثيين على التوازن بين التفاوض والقتال إلى أن الصراع قد يستمر لسنوات قادمة، إذ أنهم يستخدمون فترات وقف إطلاق النار كتكتيك لإعادة التنظيم وتعزيز مواقعهم العسكرية.
وعلى صعيد “تعقيد الحل السياسي”، يشكل رفضهم للمرجعيات الدولية (مثل قرار مجلس الأمن 2216 والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني)، وفرضهم شروطاً مسبقة، التوصل إلى اتفاق شامل أمراً شبه مستحيل دون تنازلات كبيرة من الأطراف الأخرى.
أما “الأثر الإقليمي”، فإن توسيع تصعيد الهجمات ضد السعودية وفي البحر الأحمر نطاق الصراع، ما يزيد من احتمالية تدخل إقليمي ودولي أوسع، وهذا يُهدد بجعل اليمن ساحة مواجهة ممتدة بين قوى إقليمية كبرى.
إلا أن “امتلاك الحوثيون للقدرة المركّبة”، على الدمج بين التفاوض والقتال المستمر، مدعومين بمرونة استراتيجية، ورعاية خارجية وقوة عسكرية متقدمة نسبياً، مكنهم من الصمود أمام خصوم يفوقونهم قوة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية.
ومع ذلك، فإنهم يواجهون تحديات داخلية وخارجية قد تحدّ من فعاليتهم على المدى البعيد.
وهذا يشير إلى أن “إمكانية الحسم”، تعتمد على قدرة الحوثيين على تحقيق أهدافهم في استثمار التحولات السياسية والعسكرية، إلى جانب استعداد خصومهم لتقديم تنازلات.
ومع ذلك فإن حل الصراع قد يتطلب مزيجاً من الضغط العسكري والحلول السياسية التي تأخذ في الاعتبار الطبيعة المزدوجة للحركة بين القوة الميدانية والقدرة التفاوضية.
العلاقات مع الولايات المتحدة
تمثّل العلاقة بين الولايات المتحدة وحركة الحوثيين في اليمن واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً ضمن سياق الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط.
ومنذ اندلاع أول حرب في صعدة عام 2004، تطورت هذه العلاقة من حالة التجاهل النسبي إلى مواجهات مباشرة وتصعيد سياسي وعسكري، تأثرت بعوامل داخلية يمنية وإقليمية ودولية.
وخلال حروب صعدة الست (2004–2010)، لم تكن الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في النزاع، إذ انصبّ تركيز واشنطن في تلك الفترة على مكافحة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الذي كان ينشط بفعالية داخل اليمن.
التجاهل الأولي
رغم عدم تدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر في بدايات الصراع، فإن الشعارات المعادية لأمريكا التي رفعها الحوثيون، والتي استُلهِمت جزئياً من الثورة الإيرانية، أثارت قلقاً في واشنطن، خاصة مع تزايد الشكوك حول وجود دعم إيراني مبكر للحركة.
ومع ذلك، كان هذا الدعم محدوداً في تلك المرحلة، ولم يُنظر إلى الحوثيين كتهديد استراتيجي مباشر للمصالح الأمريكية، فمصالح الولايات المتحدة في اليمن لم تكن واضحة المعالم آنذاك، باستثناء التركيز على مكافحة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وضمان حرية الملاحة، لا سيما بعد هجوم المدمرة الأمريكية “يو اس اس كول”، الذي جعل من اليمن مصدر قلق أمني لواشنطن.
وعلى النقيض من ذلك، سعت الولايات المتحدة إلى إنشاء آليات مستقلة لمكافحة تنظيم القاعدة، دون الاعتماد الكامل على الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح، الذي كان يستخدم التنظيم كورقة ابتزاز سياسي ضد السعودية، ووسيلة لمناورة الولايات المتحدة في علاقاته معها.
كما قدمت واشنطن مساعدات عسكرية واستخباراتية للحكومة اليمنية، لكن معظمها كان موجهاً ضد الجماعات السنية المتطرفة، وليس ضد الحوثيين.
شارك الحوثيون في الاحتجاجات ضد نظام صالح خلال ثورة 2011، لكنهم رفضوا المبادرة الخليجية التي رعت انتقال السلطة إلى عبد ربه منصور هادي، وبحلول عام 2014، تمكنوا من السيطرة على العاصمة صنعاء، ما عزز بشكل كبير من نفوذهم السياسي والعسكري.
وفي تلك المرحلة، استمرت الولايات المتحدة في دعم الحكومة الشرعية بقيادة هادي، لكنها امتنعت عن أي تدخل عسكري مباشر ضد الحوثيين، وظلت أولويتها الرئيسية متمثلة في مكافحة تنظيم القاعدة، من خلال شن ضربات بطائرات مسيّرة حتى في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
مع ذلك، بدأت واشنطن تُبدي قلقاً متزايداً إزاء تنامي العلاقات بين الحوثيين وإيران، خاصة بعد ورود تقارير تؤكد حصول الحركة على أسلحة وتدريبات من إيران، ما زاد من المخاوف الأمريكية بشأن التمدد الإيراني في اليمن والمنطقة.
تعاون محدود
بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء، حافظت الولايات المتحدة على علاقة استخباراتية محدودة مع الحركة.
وبحسب تقارير، تم التوصل إلى اتفاق سري داخل السفارة الأمريكية في صنعاء بين قيادات حوثية ومسؤولين أمريكيين، يقضي بمنح الحوثيين حرية استهداف تنظيم القاعدة في جزيرة العرب (AQAP)، مقابل دعم جوي أمريكي عبر الطائرات المسيّرة.
وهذا يشير إلى أن الولايات المتحدة ساهمت في تغطية تكاليف الحرب، ودفعت رواتب مقاتلي الحوثيين، وقدمت الدعم لعائلات القتلى، فضلاً عن توفير الرعاية الطبية للجرحى، على أن يتولى الحوثيون تنفيذ ضربات حاسمة ضد عناصر تنظيم القاعدة.
وقد أكّد مايكل فيكرز، الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الاستخبارات آنذاك، وجود هذا التفاهم، مشيراً إلى أن عداء الحوثيين لتنظيم القاعدة ساعد على تسهيل عمليات القوات الخاصة الأمريكية ضد التنظيم.
من جهته، وصف القيادي الحوثي عبدالكريم الخيواني الدعم الجوي الأمريكي للحوثيين في معاركهم ضد القبائل وتنظيم القاعدة في منطقة رداع بأنه أشبه بـ”مساعدة إلهية”، في إشارة إلى حجم التأثير والدعم الأمريكي المقدم خلال تلك الفترة.
تحالف رسمي
في أواخر نوفمبر 2014، زار عضو المكتب السياسي لجماعة الحوثيين، علي العماد، العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، للمشاركة في مؤتمر حول إشراك القطاع الخاص اليمني في دفع عجلة النمو الاقتصادي بزيارة غير متوقعة، وقد علّقت إحدى وسائل الإعلام على هذه الزيارة بقولها: “الحوثي في حضرة الشيطان الأكبر”، في إشارة ساخرة إلى الوصف الذي يستخدمه الحوثيون عادةً للولايات المتحدة.
وبعد ذلك بعدة أشهر، أقرّ الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما، في خطاب ألقاه في أكاديمية وست بوينت العسكرية، بوجود تحالف أمريكي مع الحوثيين في إطار مكافحة الإرهاب الذي يشكّل تهديداً للأمن القومي الأمريكي داخل اليمن.
غموض الموقف الأمريكي
بعد أن ضمنت الولايات المتحدة حليفاً قوياً في الحوثيين لمحاربة الإرهاب في اليمن وسهّلت -بشكل غير مباشر- سيطرتهم على صنعاء، فوجئت بتدخل التحالف العربي بقيادة السعودية عام 2015 ضد الحوثيين.
جاء رد الفعل الأمريكي في البداية غامضاً عقب الضربات الجوية الأولى التي استهدفت المطارات العسكرية ومخازن الأسلحة الخاضعة لسيطرة الحوثيين في صنعاء وعدد من المحافظات الأخرى.
وقد عبّر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري، خلال اتصال مع وزراء خارجية عرب، عن تأييد حذر للعملية العسكرية التي أطلقها التحالف، في حين أبدى الجنرال لويد أوستن، قائد القيادة المركزية الأمريكية حينها، انزعاجه من التدخل السعودي، مشيراً إلى أن واشنطن كانت تدعم الحوثيين سراً في جهودهم ضد تنظيم القاعدة.
ومع موافقة الولايات المتحدة لاحقاً على عملية عاصفة الحزم، حدث تحوّل جوهري في العلاقة الأمريكية-الحوثية، فرغم أن واشنطن لم تشارك مباشرة في العمليات القتالية ضد الحوثيين، إلا أن دعمها للتحالف جعلها طرفاً غير مباشر في الصراع.
ومع ذلك، استغل الحوثيون هذا التحول لتعزيز خطابهم المناهض للولايات المتحدة، متهمين واشنطن بـالتواطؤ في الحرب على اليمن، ما زاد من حدة الشعارات المعادية لأمريكا في خطابهم الإعلامي والسياسي.
الضغط على السعودية
على النقيض من ذلك، تفيد تقارير بأن الولايات المتحدة دفعت باتجاه تمكين الحوثيين من الحكم في اليمن كجزء من تفاهم مع إيران، وذلك بهدف احتواء الحركة واستخدامها كورقة ضغط على السعودية، خاصة في ظل توتر العلاقات الأمريكية-السعودية بحلول أواخر عام 2019.
وقد مارست واشنطن ضغوطاً على السعودية والحكومة اليمنية تحت غطاء الاعتبارات الإنسانية وفرض ما أسمته “الخطوط الحمراء” في الحرب، بما في ذلك تعيين مبعوث خاص لليمن، وتجاهل تهريب الأسلحة إلى الحوثيين، والدعوة إلى هدنة بين صنعاء والرياض تهدف إلى تجميد الصراع في حالة “لا حرب ولا سلام”.
وهذا ما يشير إلى أن هذا التوجه الأمريكي اعتُبر من قبل البعض محاولة لإعادة تشكيل موازين القوى في اليمن والمنطقة، بما يخدم مصالح واشنطن الاستراتيجية، حتى لو جاء ذلك على حساب حلفائها التقليديين.
التحولات السياسية الأمريكية
شهدت السياسة الأمريكية تجاه اليمن تحولات ملحوظة عبر الإدارات المتعاقبة، ما أثّر بشكل مباشر وغير مباشر على موقف الحوثيين، أحد أبرز الفاعلين في النزاع اليمني، فمنذ بدء التدخل العسكري الذي قادته السعودية عام 2015 بدعم أمريكي، مرت العلاقة بين الولايات المتحدة والحوثيين بمراحل متباينة، شملت دعماً عسكرياً لخصومهم، وضغوطاً سياسية واقتصادية، ومحاولات للتهدئة والوساطة.
ولكن مع تغير الإدارات الأمريكية، من أوباما إلى ترامب، ثم بايدن، والعودة إلى ترامب في عام 2025، تغيرت الاستراتيجيات الأمريكية، ما ترك أثراً واضحاً على السلوك السياسي والعسكري للحوثيين.
ويتناول هذا الجزء من التحليل تفسير تأثير هذه التحولات على موقع الحوثيين في المشهد اليمني، من خلال التركيز على السياسات الأمريكية المتعلقة بالدعم العسكري، وتصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية، والعقوبات الاقتصادية، وكيف أسهمت هذه السياسات في صياغة تحركات الحوثيين داخلياً وخارجياً؟.
الدعم العسكري للتحالف
برز دور الولايات المتحدة في اليمن مع اندلاع الحرب الأهلية في 2014–2015، عندما استولى الحوثيون على صنعاء وأطاحوا بحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي.
وفي مارس 2015، أطلق التحالف العربي عملية “عاصفة الحزم” بدعم لوجستي واستخباراتي من الولايات المتحدة في عهد إدارة أوباما، شمل هذا الدعم تزويد الطائرات بالوقود وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ما عزز موقف التحالف ضد الحوثيين.
وخلال إدارة أوباما، ساهم الدعم الأمريكي في تعزيز قدرات التحالف ضد الحوثيين، رغم استمرار الحركة في المقاومة مستفيدة من دعم إيراني متزايد وتضاريس اليمن الوعرة، حيث أثار هذا الدعم رد فعل حوثي عنيف، مع رفع شعارات مناهضة لأمريكا مثل “الموت لأمريكا”، وتعزيز خطاب سياسي يروّج للمقاومة ضد التدخل الأجنبي.
ومع ذلك، اتخذت إدارة أوباما موقفاً حذراً تجاه تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، مفضلة معاملتهم كحزب سياسي ضمن الحوار الوطني، وهو ما أثار جدلاً حول احتمال دعم ضمني للحركة في سياق التقارب مع إيران عبر الاتفاق النووي في 2015.
اما في عهد ترامب، تصاعدت العمليات العسكرية المباشرة، ما دفع الحوثيين إلى تطوير قدراتهم العسكرية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، لمواجهة الضغوط الأمريكية والسعودية.
ولكن بعد تنصيب بايدن في 2021، أعلن عن نيته إنهاء الدعم العسكري للعمليات الهجومية في اليمن، مع التركيز على الوساطة والدبلوماسية لحل النزاع.
المواجهة
بعد 7 أكتوبر 2023، شهدت الديناميات تحولاً جذرياً عندما بدأ الحوثيون في استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر، معلنين تضامنهم مع الفلسطينيين في حرب غزة.
وأسفرت هذه الهجمات، التي استهدفت أكثر من 100 سفينة بحلول يناير 2025، عن اضطراب التجارة العالمية وأثارت غضب الولايات المتحدة.
ورداً على ذلك، شكلت الولايات المتحدة في ديسمبر 2023 تحالف “حراس الازدهار” وشنّت ضربات جوية ضد أهداف حوثية بدءاً من يناير 2024.
ومع ذلك، واصل الحوثيون استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة، مستفيدين من الدعم الإيراني المتزايد، بما في ذلك الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وصوروا أنفسهم كقوة مقاومة ضد الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، ما عزز شعبيتهم في بعض الأوساط العربية.
التغيير في تصنيف الحوثيين
في فبراير 2021، أزالت الولايات المتحدة الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية بهدف تسهيل المفاوضات وتيسير إيصال المساعدات الإنسانية، حينها فسر الحوثيون هذه الخطوة ضعفاً أمريكياً، ما شجعهم على تصعيد هجماتهم في البحر الأحمر.
إزالة تصنيف الحوثيين كإرهابيين في عهد بايدن لعام 2021 وفرت مساحة لهم للتحرك السياسي والاقتصادي، استغلوها لتوسيع هجماتهم على السفن في البحر الأحمر، خاصة بعد أحداث غزة في 2023.
ولكن مع عودة ترامب في 2025، أعيد تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية في 22 يناير، بناءً على أمر تنفيذي صادر عن البيت الأبيض، بهدف قطع مواردهم المالية وشل تحركاتهم الدبلوماسية.
وأكد بيان وزارة الخارجية أن “نشاطات الحوثيين تشكل تهديداً لأمن المدنيين والعسكريين الأمريكيين في الشرق الأوسط، فضلاً عن سلامة شركائنا الإقليميين والتجارة البحرية العالمية”، وفقاً للأمر التنفيذي رقم 14175 الصادر عن ترامب.
وتوفر هذه الخطوة الأساس القانوني لاتخاذ إجراءات أوسع ضد هذه الميليشيا المسلحة المدعومة من إيران في إطار استراتيجية شاملة لمواجهة طهران خلال فترة ترامب الثانية.
وخلال فترة بايدن، حاولت الولايات المتحدة لعب دور الوسيط عبر تعيين مبعوث خاص إلى اليمن، إلا أن الحوثيين استغلوا هذا التحول لتعزيز مطالبهم ورفضوا التنازل عن السيطرة على صنعاء، ومع عودة ترامب، تحول التركيز إلى عزل الحوثيين سياسياً، بهدف دفعهم للعودة إلى طاولة المفاوضات تحت ضغوط عسكرية واقتصادية متزايدة.
العقوبات والضربات
مع عودة ترامب في 2025، استؤنفت سياسة أكثر تشدداً، حيث أعيد تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية في يناير 2025، وتصاعدت الضربات العسكرية والعقوبات الاقتصادية.
جاء رد الحوثيون بتصريحات تحدٍّ، مؤكدين أن ذلك لن يثنيهم عن دعم فلسطين، مع تصعيد هجماتهم في البحر الأحمر كتحدٍّ واضح.
وفي يناير 2025، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على بنك اليمن والكويت، وهو بنك تجاري في مناطق الحوثيين، وذلك للمرة الأولى بهدف تعطيل اقتصادهم، جاء ذلك بالتزامن مع تكثيف الضربات الجوية على مواقع استراتيجية في صنعاء وصعدة ومناطق أخرى، رداً على هجمات الحوثيين في البحر الأحمر.
وعلى النقيض من ذلك، دفعت هذه الضغوط الحوثيين إلى تهديدات بـ”رد قوي وفعّال”، حسب قناة المسيرة في مارس 2025، مصحوبة بسردية شعبوية لتعزيز الدعم المحلي.
ضربات ترامب
شهدت السياسة الأمريكية تجاه الحوثيين تحوّلاً جذرياً مع عودة دونالد ترامب في عام 2025، ففي 15 مارس 2025، شنت الولايات المتحدة حملة جوية مكثفة تحت اسم “الفارس العنيف”، استهدفت مواقع عسكرية حوثية في صنعاء وصعدة ومناطق أخرى، وهي أكبر تدخل مباشر للولايات المتحدة منذ عام 2024.
الضربات الأمريكية في اليمن تأتي كجزء من سياق أوسع مرتبط بالقضية النووية الإيرانية، حيث تتشابك هذه العمليات مع مفاوضات البرنامج النووي الإيراني والحاجة إلى تأمين الملاحة الدولية.
وقد شكلت هذه الإجراءات مبرراً لعسكرة البحر الأحمر تجاه قوى عالمية وأوروبية أخرى، في حين هدفت إلى إضعاف القدرات العسكرية للحوثيين لتعزيز موقف الحكومة اليمنية في التسويات السياسية المستقبلية.
وهنا يمكن القول: إن العلاقات بين الولايات المتحدة والحوثيين تطورت منذ حرب صعدة من الإهمال إلى التعاون المحدود ثم إلى المواجهة المباشرة، وذلك بفعل التحولات في الديناميات اليمنية والإقليمية.
وفي سعيها لردع الحوثيين وحماية مصالحها، تواجه الولايات المتحدة تحديات معقدة تتطلب نهجاً متعدد الأبعاد يتجاوز العمليات العسكرية ليشمل الحلول الدبلوماسية والسياسية.
وهذا يشير إلى أن اليمن سيظل مسرحاً متعدد الأوجه للصراع تتداخل فيه المصالح المحلية والإقليمية والدولية، بشكل يجعل الوصول إلى حل شامل أمراً بالغ الصعوبة.
تأثير التحولات
لقد أثرت التحولات السياسية في الولايات المتحدة على موقف الحوثيين بطرق متنوعة، منها، “تعزيز المقاومة”، إذ ساهمت الضربات العسكرية والعقوبات في ترسيخ رواية الحوثيين كمقاومة للهيمنة الأمريكية، ما ساعدهم على حشد الدعم الشعبي داخل المناطق التي يسيطرون عليها.
أما على صعيد “تطوير القدرات العسكرية”، فإن الضغوط الأمريكية دفعت الحوثيين لتعميق تعاونهم مع إيران، ما أدى إلى تحسين ترسانتهم من الصواريخ والطائرات بدون طيار.
وفي مجال “المرونة السياسية” فإنه على الرغم من تصنيفهم كمنظمة إرهابية، حافظ الحوثيون على موقف تفاوضي متشدد، مستغلين ضعف الحكومة الشرعية والانقسامات بين خصومهم.
أما “التصعيد في البحر الأحمر”، فقد استغل الحوثيون هذه التحولات لتوسيع هجماتهم، متبعين استراتيجية تحدي للضغوط الأمريكية.
وهذا يشير إلى أن التحولات السياسية الأمريكية في اليمن، من دعم عسكري إلى وساطة ثم إلى موقف متشدد مجدداً، تعد عاملاً رئيسياً في تشكيل موقف الحوثيين.
فبينما أدى الدعم الأولي للتحالف إلى تشديد موقفهم العسكري، أتاحت سياسات بايدن للتخفيف من التصعيد مجالاً للتصعيد من قبل الحوثيين، فيما أعاد ترامب فرض ضغوط شاملة قد تدفع الحوثيين إلى خيارين: تصعيد عسكري أو التفاوض تحت ضغوط.
لذلك، يظل موقف الحوثيين مرتبطاً بقدرتهم على الصمود أمام العقوبات والضربات، بالإضافة إلى دعم إيران كميزان قوة مضاد.
استراتيجية ترامب
شهدت السياسة الخارجية الأمريكية تحوّلاً حاداً، لا سيما في الشرق الأوسط، مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، ويتجلى هذا بوضوح في اليمن، حيث أطلقت إدارة ترامب حملة جديدة ومكثفة لمواجهة حركة الحوثيين، المعروفة أيضاً بأنصار الله.
واليوم يُنظر إلى الحوثيين على نطاق واسع كأدوات إيرانية، وقد صعّدوا هجماتهم على السفن التجارية في البحر الأحمر، مهددين التجارة العالمية واستقرار المنطقة.
ورداً على ذلك، عاد ترامب إلى منهجه المألوف: التصعيد العسكري، والضغط الاقتصادي، والمواجهة العلنية مع إيران، حيث تعكس هذه الاستراتيجية انقطاعاً واضحاً مع نهج الرئيس بايدن الأكثر تحفظاً، وهي بالفعل تحقق نتائج واضحة لكنها متفاوتة التأثير.
أهداف استراتيجية
تتمحور سياسة ترامب حول ثلاثة أهداف رئيسية، تضم، أولاً، حماية طرق التجارة البحرية، إذ يمثل البحر الأحمر وخليج عدن شرايين حيوية للتجارة العالمية.
ولم تقتصر هجمات الحوثيين على تعريض حركة الشحن للخطر فحسب، بل أدت أيضاً إلى رفع تكاليف التأمين وتعطيل سلاسل التوريد، لذا فإن استعادة المرور الآمن تعد أولوية قصوى للإدارة.
وثانياً، مواجهة النفوذ الإيراني، حيث يُعتبر الحوثيون ركيزة أساسية في شبكة الوكلاء الإقليمية لإيران، إذ يؤمن ترامب بأن إضعافهم أو القضاء عليهم سيمثل ضربة استراتيجية أوسع لطهران.
وثالثاً، القضاء على التهديد العسكري للحوثيين، من خلال استهداف القيادات العليا وبُنى الأسلحة، بما في ذلك مخزونات الصواريخ ومواقع إطلاق الطائرات المسيرة، تسعى الإدارة إلى تفكيك قدرة الحركة على خوض الحرب.
أدوات التعامل
تتُميّز سياسة ترامب برغبته في استخدام القوة الساحقة وبسرعة، عبر تنفيذ “الغارات الجوية على نطاق جديد”، فمنذ مارس 2025، شنت الولايات المتحدة عشرات الغارات الجوية على معاقل الحوثيين في صنعاء، وصعدة، والحديدة.
ووفقاً لتقرير الجزيرة (30 مارس)، نُفذت أكثر من سبعين غارة جوية في يوم واحد، وهو مستوى من الحدة لم يُشهد في عهد بايدن، كما تغيرت استراتيجية الاستهداف؛ ففي حين كانت العمليات السابقة تركز على مواقع إطلاق الصواريخ، ضربت الضربات الأخيرة مقرات القيادة ومناطق يقطنها مدنيون، مما يعكس توجهاً أكثر عدوانية وتحملاًً للمخاطر في واشنطن.
وفي مجال “إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية”، فإن ترامب في 22 يناير، وقع أمراً تنفيذياً يعيد تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، حيث يهدف هذا التصنيف إلى قطع الدعم المالي واللوجستي عنهم، وأعلن البيت الأبيض القرار في 24 يناير، مؤكداً أهميته لعزل الحركة على الصعيد الدولي.
بالإضافة إلى “المواجهة الدبلوماسية مع إيران”، ففي الوقت نفسه، أصدر ترامب تحذيرات مباشرة لطهران، وفي بيان علني نقلته الجزيرة في 19 مارس، هدد بعواقب عسكرية إذا استمر الدعم الإيراني للحوثيين.
الرسالة كانت واضحة بأن “صبر الولايات المتحدة محدود، والرد العسكري وارد”، وفي نهاية المطاف، شنت الولايات المتحدة هجمات على ثلاثة مواقع نووية إيرانية في 22 يونيو، عقب هجوم إسرائيلي على إيران بدأ في 12 يونيو.
وكذلك فإن “استكشاف التنسيق البري مع الحلفاء”، الذي لم يصبح عملياً بالكامل بعد، بدأ المسؤولون الأمريكيون بالتشاور مع التحالف الذي تقوده السعودية والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً لاستكشاف إمكانية القيام بعمليات برية مشتركة.
العقبات والمخاطر
رغم الزخم الأولي، تواجه استراتيجية ترامب تحديات كبيرة أهمها، “تأثير محدود للغارات الجوية”، فعلى الرغم من أن الغارات الجوية دمرت بنى تحتية وأطاحت بشخصيات رئيسية، لا يزال الحوثيون قادرين على شن هجمات، بما في ذلك صواريخ تستهدف إسرائيل والسفن في البحر الأحمر، كما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال (29 مارس)، لا يزال الجوهر العسكري للحركة متماسكاً.
وكذلك “خطر تصاعد الصراع الإقليمي”، إذ حذّر معهد دول الخليج العربي من أن نهج ترامب قد يتصاعد إلى حرب إقليمية أوسع، خصوصاً إذا قررت إيران الرد أو أدت التوترات في البحر الأحمر إلى تدخل قوى أخرى.
أما “التداعيات الإنسانية”، فقد أثارت خسائر المدنيين جراء الغارات الجوية الأمريكية انتقادات من منظمات حقوق الإنسان، وقد تؤدي هذه الخسائر بشكل غير مقصود إلى تعزيز دعم الحوثيين بين السكان المحليين، وكلما طال أمد الحملة دون حل سياسي، تعقدت الأزمة الإنسانية بشكل أكبر.
النتائج الأولية
حتى الآن، حقق نهج ترامب نتائج متنوعة، فقد تم إضعاف الحوثيين لكن لم يُهزموا بالكامل، فلا تزال هجماتهم مستمرة، وقد عدّل ترامب بالفعل من خطابه الذي كان يعد بـ”القضاء التام” على الحركة إلى التركيز على الهدف الأضيق وهو “وقف الهجمات على السفن”.
من جهتها، نفت إيران سيطرتها على الحوثيين، ففي 16 مارس، نفت قوات الحرس الثوري الإيراني علناً مزاعم توجيهها لاستراتيجية الحوثيين، ما يثير تساؤلات حول مدى تأثير الضغوط الأمريكية فعلياً.
ما القادم؟
تعتمد سياسة ترامب في اليمن على معادلة مخاطرة عالية وعائد مرتفع، عبر استخدام القوة العسكرية والضغط الدولي للقضاء على فاعل غير دولة، مع توجيه رسالة تحذيرية لقوة إقليمية: “إنها مخاطرة قد تحقق مكاسب تكتيكية قصيرة الأمد لكنها تحمل مخاطر استراتيجية طويلة الأجل، دون جهود سياسية موازية”.
لذلك يبقى من غير الواضح ما إذا كان الاستخدام العسكري وحده كفيلاً بجلب استقرار دائم لليمن أو بإضعاف النفوذ الإيراني إقليمياً.
حتى الآن، تمثل عقيدة ترامب في اليمن عودة إلى أقصى درجات الضغط، وتتابع واشنطن عن كثب ما ستؤول إليه الأمور.
الهدنة بين الحوثيين وأمريكا
اتفاق وقف الهجمات على السفن الأمريكية الذي تم توقيعه في 6 مايو بين الولايات المتحدة والحوثيين أثار استياء تل أبيب، إذ لم يتضمن أي بند يمنع الحوثيين من استهداف إسرائيل أو السفن التي ترفع علمها.
وعلى النقيض من ذلك، صعّد الحوثيون هجماتهم بالصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل، فيما كثّفت الأخيرة قصفها الجوي للمرافق الاستراتيجية والحيوية في اليمن.
الهدنة بين الولايات المتحدة والحوثيين كانت ضربة سياسية لإسرائيل، إذ ساعدت الحوثيين على ترسيخ قبضتهم على السلطة في اليمن وأبرزت موقعهم كقوة مهيمنة في المشهد اليمني.
كما وجهت ضربة جديدة للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً والتي تعاني أصلاً من أزمة وجودية، بالإضافة إلى ذلك، أضعفت الهدنة المجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي، وهو القوة الوحيدة القادرة على مواجهة القوة العسكرية الحوثية.
هدنة الولايات المتحدة مع الحوثيين كانت ضربة مؤثرة على المشهد السياسي الإسرائيلي رسخت قبضة الحوثيين على السلطة في اليمن وأبرزت مكانتهم كقوة مهيمنة ووجهت ضربة للحكومة المعترف بها
الاتفاق سمح للحركة بفترة من الوقت إعادة ترتيب صفوفها، واستعادة جزء من البنية التحتية التي تضررت جراء الغارات الأمريكية والبريطانية، وتعزيز ترسانتها السرية من الصواريخ الهجومية والطائرات المسيرة.
وهذا ما يشر إلى تألّق نجم الحوثيين مجدداً، بينما تضاءلت مكانة الوكلاء الإيرانيين الآخرين في المنطقة، مثل حزب الله ونظام الأسد، كما أضعف الاتفاق الميليشيات العراقية التي تجنبت المواجهة المباشرة مع إسرائيل لتفادي الضربات الانتقامية وحماية نفسها كآخر معقل للهيمنة الشيعية الإيرانية.
الحرب الإيرانية الإسرائيلية
برزت الأضرار التي لحقت بالوكلاء الإقليميين لإيران جراء الضربات الإسرائيلية المتواصلة من خلال غيابهم الواضح أثناء الحرب الإيرانية-الإسرائيلية التي اندلعت في 12 يونيو الماضي.
والمشاركة المحدودة للحوثيين، الذين أطلقوا بعض الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، تعكس مدى الضرر الكبير الذي تعرضوا له، ومن الواضح أنهم لا يشكلون تهديداً استراتيجياً كبيراً لإسرائيل في الوقت الحالي.
لكن هذا الانخراط المحدود لا يجب أن يُفسر على أنه دليل على ضعفهم، ولا يعني أنهم ليسوا قوة صاعدة لا يستهان بها على الأرض، فمن غير المحتمل أن يكون نتاج هذه الحرب، التي انتهت بهدنة هشة وهزيلة، في صالح التحالف المناهض للحوثيين في اليمن، فالانقسامات داخل صفوف هذا التحالف ستمنعهم في النهاية من اغتنام الفرصة لتوحيد صفوفهم ضد الزيديين.
ومع ذلك، قد تؤدي الحرب إلى تباطؤ مؤقت في تدفق الأسلحة إلى الحوثيين من إيران، ما يدفع الحركة للبحث عن بدائل أخرى.
ولكن من المؤكد أن الحوثيين سيبدؤون في استكشاف نقاط ضعفهم والعمل على التحرك بشكل مستقل وسط مراقبة مشددة تهدف إلى تقييد حركة الإمدادات الإيرانية إليهم، إذ سيعملون على إصلاح الأضرار التي خلفتها الضربات القاسية، خصوصاً في الموانئ الاستراتيجية ومطار صنعاء ومحطات الكهرباء.
كما سيحاولون إعادة التنظيم وتعبئة قواتهم التي تُقدر بنحو 350 ألف مقاتل وفقاً للأمم المتحدة.
وقد يستغلون الانتصارات التي يعلنون عنها لتعزيز صورتهم محلياً ودولياً، ما قد يدفعهم إلى اكتساب صفة كيان شبيه بالدولة قادر على جذب خصوم الولايات المتحدة، مثل روسيا والصين، كشريك موثوق في الممر الاستراتيجي للبحر الأحمر.
كما أن الظهور الواسع الذي حققته الحركة خلال هذا الصراع والتهديدات التي تمثلها للتجارة الدولية قد يساعدانها على فتح مسارات جديدة لإمدادات الأسلحة والتمويل، كمكمل لتمويل إيران، وليس كبديل عنها.
تحييد الحوثيين باتفاق إقليمي شامل تبقى نظرية قابلة للتحقيق شريطة وجود ضغوط إقليمية ودولية ولكن هناك تحديات تنبع من المصالح المتضاربة والتعقيدات المتشابكة للصراع
اتفاق إقليمي شامل
شهد الشرق الأوسط على مدار سنوات صراعات معقدة تتشابك فيها الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية.
في اليمن، برزت حركة الحوثي كلاعب مركزي في الحرب الأهلية المستمرة منذ عام 2014، حيث تسيطر على العاصمة صنعاء ومناطق واسعة من البلاد بدعم إيراني، ما جعلها طرفاً محورياً في الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران.
ومع تطور الأحداث، تثار تساؤلات حول إمكانية تحييد الحوثيين من خلال اتفاق إقليمي شامل، ومدى جدوى هذه الخطوة، والتحديات التي تواجهها، والعوامل التي قد تسهم في تحقيقها.
ويهدف هذا الجزء من التقرير إلى تحليل هذه الإمكانية، مع التركيز على السياق التاريخي، والمصالح الإقليمية، والمبادرات السابقة، مستندة إلى مصادر موثوقة.
صمود الحوثيين
بالنظر إلى الخريطة العسكرية والسياسية الحالية في اليمن، يبقى تحييد الحوثيين بعيد المنال، حتى في صورته المخففة، عبر تجريدهم من الأسلحة الثقيلة، وحصر نفوذهم في مساحة جغرافية صغيرة، وتحويلهم إلى حزب سياسي، فلا تزال الحركة قوة مهيمنة على المشهد اليمني، وتمتلك بنية عسكرية وسياسية قوية وفعالة، رغم الحروب التي شُنت ضدها منذ بداية عملية “عاصفة الحزم”.
تزدهر الحركة وسط الضربات المشتركة لتحالف “حارس الرخاء”، والهجمات الإسرائيلية على ميناء الحديدة، ورأس عيسى، ومحطات الوقود والطاقة حيث جاءت هذه الأحداث عقب حملة جوية أمريكية مكثفة أطلقت عليها تسمية “الفارس العنيف”، استهدفت مواقع الحركة العسكرية في صنعاء وصعدة وأماكن أخرى، في واحدة من أكبر التدخلات الأمريكية المباشرة منذ 2024.
ورغم ذلك، لا تزال الحركة تصمد أمام جهود ترامب لتفكيك قوتها العسكرية وحماية الملاحة البحرية.
عوامل تقوية الحوثيين
يمكن عزو قوة الحوثيين إلى عدة عوامل، تم التطرق إلى العديد منها سابقاً عند مناقشة صعود الحركة، وسيُعاد ذكرها بإيجاز، أولاً، ضعف وتجزئة الخصوم، حيث تُركز القوى المنافسة، خصوصاً في جنوب اليمن، على منع الحوثيين من السيطرة على المحافظات الجنوبية، ولا تعارض وجودهم في الشمال.
وبعض هذه القوى تأمل في بقاء الحوثيين مهيمنين هناك بسبب الفوائد المتصورة، وهؤلاء الفاعلون يرون الحوثيين أفضل من قوى سياسية أخرى مثل المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح، التي تمتد مصالحها إلى مختلف مناطق اليمن.
وثانياً، فراغ السلطة المستمر، إذا لم تتمكن الحكومة الشرعية من بناء مؤسسات دولة موازية لتلك التي يسيطر عليها الحوثيون في صنعاء، وفي المناطق التي يُفترض أن تكون تحت سلطة الحكومة الشرعية، ستسود الفوضى السياسية والإدارية والأمنية.
مفهوم “تحييد الحوثيين”
يشير مفهوم التحييد والاحتواء هنا إلى إنهاء نفوذ حركة الحوثي أو تقليصه بشكل كبير ليصبح ثانوياً، ويمكن تحقيق ذلك من خلال هزيمتهم عسكرياً أو عبر اتفاقيات مدعومة سياسياً ومرتكزة على ضغط عسكري.
كما يتطلب الاحتواء الناجح تفكيك البنية العسكرية للحركة، بما في ذلك حل قواتها المسلحة ومصادرة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وقد يشمل الاحتواء أيضاً حل الحركة، وحظر أنشطتها، ومقاضاة أعضائها ومؤيديها، بالإضافة إلى تنفيذ إجراءات أخرى تستهدف الجماعات العنيفة.
في هذا السياق، لا يعني تحييد الحوثيين بالضرورة هزيمتهم العسكرية، بل قد يتضمن دمجهم في عملية سياسية شاملة تقلل من تأثيرهم العسكري أو تضعف دورهم كأداة إيرانية في الصراع الإقليمي.
وقد يشمل ذلك تسليم الأسلحة، والمشاركة في حكومة وحدة وطنية، أو وقف الهجمات عبر الحدود وفي البحر الأحمر، مقابل ضمانات سياسية واقتصادية.
عوامل دعم الحياد المحتمل
الضغط الإقليمي والدولي
أظهرت المملكة العربية السعودية، التي تقود التحالف المناهض للحوثيين، مرونة في السنوات الأخيرة، كما يتضح من مبادرة وقف إطلاق النار في عام 2021، والتي شملت تخفيف الحصار عن مطار صنعاء وميناء الحديدة.
ويعكس ذلك رغبة الرياض في الخروج من المستنقع اليمني، خاصةً مع تركيزها على خطة رؤية 2030 الاقتصادية.
وتدعم الولايات المتحدة، التي صنفت الحوثيين منظمة إرهابية في 2021 قبل رفع هذا التصنيف، حلاً تفاوضياً لتخفيف التوترات في البحر الأحمر، تتماشى الخطوات الأخيرة لإدارة ترامب، بما في ذلك الضغوط الاقتصادية والعقوبات على قادة الحوثيين وتصنيفهم كمنظمة إرهابية، مع نهج الحياد، مما يوجه رسائل إلى إيران في ظل تركيز الولايات المتحدة على برنامجها النووي.
الضغوط الاقتصادية والعقوبات من إدارة ترامب على قادة الحوثيين وتصنيفهم كمنظمة إرهابية تتماشى مع نهج الحياد وترسل رسائل إلى إيران تركزعلى برنامجها النووي
موقف الحوثيين التفاوضي
أظهر الحوثيون استعداداً للتفاوض في فترات معينة، كما تجلى في محادثات عام 2023 بين وفد سعودي وعماني مع قياداتهم في صنعاء، ووفقاً لتقرير BBC بتاريخ 11 أبريل 2023، هدفت هذه المناقشات إلى التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم.
وهذا يشير إلى أن الحوثيين قد يكونون منفتحين على صفقة تحقق مكاسب سياسية دون التنازل الكامل عن نفوذهم.
هجمات البحر الأحمر
تشكل المفاوضات غير المباشرة بين الحوثيين والسعودية عنصراً حاسماً لفهم هجمات البحر الأحمر، كجزء من اتفاق محتمل مع الرياض، يأمل الحوثيون في الحصول على اعتراف كسلطة شرعية في اليمن، وإنهاء التدخل العسكري السعودي، وتأمين المساعدات الإنسانية لتجنب أزمة اقتصادية، ويرون أن مهاجمة سفن الحاويات وتهديد النظام الاقتصادي الغربي الذي تنتمي إليه السعودية يمكن أن يعزز من أوراقهم في المفاوضات لتأمين أولوياتهم المحلية.
ومع ذلك، ظلت الرياض حتى الآن محايدة، متبعة استراتيجية التهدئة لتجنب استثارة هجمات حوثية مباشرة على أراضيها.
هناك، تفسير آخر للمفاوضات السرية بين السعودية والحوثيين هو أن المملكة، بعد محادثات طويلة وبلا جدوى، ربما قررت الرياض معالجة العائق الأساسي أمام السلام المستدام، بتوازن القوى غير المتكافئ، إذ لم تدخر السعودية جهداً في معالجة هذا الخلل من خلال تزويد حلفائها بأسلحة ثقيلة لجولة قتال جديدة.
ومع ذلك، وفي ظل الإدانة الدولية لتورط السعودية في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية عالمياً، تحول التركيز إلى إثبات محاولات الرياض لحل النزاع سلمياً، ليأتي رد الحوثيين بمزيد من التعنت.
وقد تستخدم السعودية هذا الموقف لتبرير معركة حقيقية لإجبار الحوثيين على الدخول في سلام عادل وجدي مع المكونات اليمنية الأخرى.
التغيرات الإقليمية
وعلى النقيض من ذلك، قد تتيح تحسُّن العلاقات السعودية-الإيرانية، عقب اتفاقية مارس 2023 التي توسطت فيها الصين، أساساً لتسوية إقليمية تشمل اليمن، وإذا وافقت إيران على تقليص دعمها للحوثيين، فإن تحييدهم يصبح أمراً أكثر واقعية.
ومع ذلك، فقد أرهقت الحرب جميع الأطراف، حيث يواجه اليمن أزمة إنسانية غير مسبوقة، وتتكبد السعودية خسائر اقتصادية وعسكرية، بينما يواجه الحوثيون ضغوطاً داخلية نتيجة الحصار ونقص الموارد، لذا قد تدفع هذه العوامل نحو تسوية شاملة.
التحديات في تحييد الحوثيين
أمام القوى الكبرى العديد من التحديات لتحييد الحوثيين، تتمثل، أولاً، رفض الحوثيين للتنازلات الكبرى، إذ رفض الحوثيون مقترح السعودية لوقف إطلاق النار عام 2021، واصفين إياه بأنه “استهلاك إعلامي”، (بي بي سي 23 مارس 2021)، ويعكس ذلك إصرارهم على الحفاظ على السيطرة العسكرية والسياسية، خاصة مع التقدم في مأرب وشبوة.
وثانياً، تعقيدات الأطراف المحلية، حيث تعارض الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات أي اتفاق من شأنه تعزيز نفوذ الحوثيين، فعلى سبيل المثال، أعرب المجلس عن تحفظاته تجاه خارطة الطريق التي طرحتها الأمم المتحدة عام 2023 لاستبعاده كطرف رئيسي في إنهاء الحرب في اليمن (الجزيرة، 26 ديسمبر 2023).
وثالثاً، التهديدات البحرية، إذأدت هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، لا سيما بعد حرب غزة عام 2023، إلى تعزيز مكانتهم الإقليمية، لكنها في الوقت ذاته دفعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى تنفيذ ردود عسكرية (في 12 يناير 2024)، ما زاد من تعقيد المفاوضات.
وأخيراً، الدور الإيراني، حيث تقوم إيران بتزويد الحوثيين بأنواع متعددة من الأسلحة، واستفادت من ترسانة الجيش اليمني القديمة لتطبيق مفهوم جديد، تمثل في إنشاء مصانع ومراكز لتطوير الصواريخ وتحسين دقتها، بهدف تقليل الاعتماد على الإمدادات الإيرانية المباشرة، وقد مكّن ذلك الحوثيين من إنتاج نظائر محلية للأسلحة.
ومثل نظيراتها الإيرانية، تتسم هذه الأسلحة ببساطة التصميم، وسهولة الحصول على مكوناتها أو تصنيعها محلياً، مع افتقارها للتكنولوجيا المعقدة، ما يوازن بين الكفاءة وتكلفة التشغيل، ويضمن استمرارية الإمداد.
كما تستفيد إيران من استمرار الصراع لإضعاف المملكة العربية السعودية، وقد لا تقبل بتحييد الحوثيين إلا إذا حققت مكاسب كبيرة في مجالات أخرى، مثل برنامجها النووي أو تخفيف العقوبات.
سيناريوهات تحييد محتملة
يبدو أن إمكانية تحييد الحوثيين ضمن اتفاق إقليمي شامل أمر ممكن من الناحية النظرية، بدعم من ضغوط دولية وإقليمية، إلا أنه يواجه عقبات كبيرة تتعلق بمواقف الأطراف وتعقيدات الصراع.
ومع ذلك، يعتمد النجاح في هذا المسار على تحقيق توافق بين المصالح السعودية والإيرانية، وإشراك جميع الأطراف اليمنية، وضمان تنفيذ الاتفاق تحت إشراف دولي.
وفي ظل الأوضاع الحالية، تبقى المفاوضات المسار الأكثر واقعية، رغم أن التحدي الرئيسي يكمن في تحويل النوايا إلى نتائج ملموسة.
التحييد السياسي
يتمثل هذا السيناريو في دمج الحوثيين ضمن حكومة وحدة وطنية مقابل تسليم الأسلحة الثقيلة، مقابل الحصول على ضمانات أمنية واقتصادية، ويتطلب هذا المسار وساطة قوية من الأمم المتحدة، ودعماً مشتركاً من السعودية وإيران.
التحييد العسكري المحدود
يركز هذا السيناريو على تقليص القدرات العسكرية للحوثيين من خلال ضربات محددة وضغوط تفاوضية، دون الوصول إلى القضاء الكامل عليهم، وذلك بهدف الحفاظ على توازن القوى.
فشل التحييد
في حال رفض الأطراف تقديم تنازلات، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد عسكري جديد وتجدد الحرب في اليمن.