Getting your Trinity Audio player ready...
|
عزم دونالد ترامب منذ اقتحامه عالم السياسة على قلب النظام التقليدي، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، حيث انتهج خطاً سياسياً يتسم بنزعة شبه ميكافيلية، واضعاً مصالح الولايات المتحدة فوق كل اعتبار، وقبل الجميع، وبصرف النظر عن أي ثمن.
وهذا التوجّه الانعزالي مهد الطريق لتفكك النظام العالمي القديم، الذي كانت واشنطن قد أسسته وتزعّمته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
واليوم يتصرف ترامب وفق القواعد التي وضعها في كتابه فن الصفقة، التي قد لا تؤتي ثمارها دائماً، بل قد تنقلب عليه، في ظل التقلّبات التي تُضعف الثقة وتربك التوقعات.
ومع ذلك، لا يزال من غير المعروف ما إذا كانت أي خطوات تصحيحية ستكون كافية لمعالجة الضرر الذي وقع بالفعل، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.
أما فيما يخص الحرب التجارية التي كانت موعودة ومخيفة في آن واحد، فقد أطلق ترامب وابلاً من الرسوم الجمركية ضد معظم دول العالم، بما في ذلك جزر نائية لا يقطنها سوى البطاريق والأسماك!.
بالتزامن مع موجات تسريح واسعة للموظفين الفيدراليين، وحملة قمع عشوائية ضد المهاجرين، وإلغاء برامج الدعم الاجتماعي والإنساني، إلى جانب تهديدات مباشرة استهدفت برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية.
منذ وصوله إلى منصب رئيس الولايات المتحدة، تبنّى ترامب نهجاً سياسياً شبيهاً بالميكيافيلية، يضع – بحسب تعبيره – مصالح أمريكا فوق كل شيء، وقبل الجميع، وبغضّ النظر عن أي ثمن
الترامبية الجديدة
عشية الاحتفال بمرور 250 عاماً على تأسيس الولايات المتحدة، أعلن ترامب استقلال أميركا عن العالم ذاته التي صنعته هي، وقد تحمل ولادة هذه “أميركا الجديدة” على يد ترامب في طيّاتها نهاية العظمة الأميركية وتراجع نفوذها، خاصة في ظل انحيازها للاستعمار، وتأييدها للأنظمة الاستبدادية، وتجاهلها لحلفائها الديمقراطيين.
وهذا يشير إلى أن النظام الناشئ الذي يروّج له ترامب يبتعد عن الأعراف التقليدية التي كانت تمزج بين الترغيب والترهيب في إدارة المصالح وتحقيق الأهداف.

وعلى النقيض من ذلك، يعتمد ترامب على التهديدات، والتوبيخيات، وأحياناً على الخداع، كوسائل تفاوضية تهدف إلى تحقيق أقصى المكاسب الممكنة من أي صفقة.
ويتجلّى هذا بوضوح في موجة الرسوم الجمركية التي فرضها على أبرز شركاء الولايات المتحدة التجاريين، بعضهم من الحلفاء الاستراتيجيين والجيران، وبعضهم من المنافسين، وهي إجراءات تُستخدم، في الظروف الطبيعية، ضد الخصوم لا الأصدقاء.
ملامح الترامبية
تتجلّى السمات الرئيسية للترامبية الجديدة في انسحاب الولايات المتحدة من وكالات دولية كبرى، وتجاهل الحلفاء الاستراتيجيين، وتهديد الجيران، والانسحاب من مناطق النزاع.
وينذر هذا الانحراف الكبير عن البنية التقليدية للنظام العالمي الحالي، بمخاطرة حقيقية مثل: تدهور العلاقات الدولية، وإظهار الولايات المتحدة عامل تهديد أمني محتمل، أو بالأحرى شوكة في خاصرة حلفائها في الشرق والغرب.
كما تشير إلى فوضى عارمة وتحوّلات زلزالية ضخمة في النظام العالمي، من بينها تشكّل كتل مناهضة للولايات المتحدة، وتغيّرات في مراكز القوى، وظهور قوى بديلة تسعى لملء الفراغ الذي قد تخلّفه واشنطن.
ازدواجية
رؤية ترامب السياسية العالمية، إن وُجدت، تبدو غامضة ومشوشة أكثر من نظرته الاقتصادية، رغم أن كلاهما يعكس توجهات رجعية ومقلقة.
وعلى النقيض من ذلك، تُذكرنا نزعة الانعزال التي يتبعها ترامب بالموقف الأميركي المحايد قبيل الحرب العالمية الثانية، في حين تشبه سياساته الاقتصادية الحمائية تلك التي اتخذتها الولايات المتحدة خلال صعودها الصناعي وتنافسها مع أوروبا، حيث فرضت رسوماً جمركية مرتفعة على واردات القارة.
ومع ذلك، يدافع ترامب عن هذه السياسات باعتبارها ضرورية لجذب المستثمرين وتحفيزهم على إعادة نقل مصانعهم وصناعاتهم إلى الأراضي الأميركية، معترفاً بأن الأميركيين سيتحملون الأعباء خلال فترة الانتقال.
لكنه يغفل عن أن الحوافز وحدها لا تكفي لاستقطاب رؤوس الأموال، كما أن الوعود والتهديدات ليست كافية أيضاً، فالقرار الاستثماري يعتمد على مجموعة متكاملة من العوامل تشمل تكلفة المعيشة، والأجور، وأسعار الإيجارات، والرهون العقارية، وأسعار المواد الخام، وكلها من بين الأعلى عالمياً في الولايات المتحدة، وخارج نطاق قدرة ترامب على التحكم بها.
عواقب
ترامب يبدو فاقداً للذهنيّة الاستراتيجية، ومن دون وعي منه، يعيد بناء عالم جديد لا ينتمي إلا للأقوى أو الأنسب للبقاء، ولهذا يظهر احترامه وتقاربه مع روسيا والصين، واحتقاره للدول الصغيرة والضعيفة.
لكن هذه النظرية تبقى غامضة أيضاً، فخلفيته كسمسار عقارات تُظهر أنه ماهر في الهدم والتعطيل والتفاوض، لكنه يفتقر إلى إنجازات ملموسة ومقنعة.
وهذا يشير إلى أنه بجانب التقلبات وعدم الاستقرار واللايقين التي قد تتراكم خلال فترة هذا التحول، تُشكّل الترامبية خطراً حقيقياً على الثقة التي تمتع بها العالم بالولايات المتحدة لعقود، ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي بأسره.
النظام الناشئ الذي يطرحه ترامب ينأى بنفسه عن الأعراف التقليدية التي تجمع بين الترغيب والترهيب في إدارة العلاقات؛ إذ يستعيض عنها بالتهديدات والتوبيخ وأحياناً بالخداع، لتحقيق أقصى مكاسب ممكنة من الصفقات
الانسحاب من التعددية
ادعاءات ترامب بأن التعددية والمنظمات الدولية والمعاهدات تمسّ بالسيادة الأميركية لا تستند إلى أساس منطقي ويمكن دحضها بسهولة.
والانضمام إلى هذه الكيانات لا يُعدّ انتقاصاً من السيادة، بل هو تجسيد فعلي لها، إذ يمثل قبولاً طوعياً بالتزامات متبادلة مقابل منافع مشتركة، وهذا هو جوهر التعددية في الأساس.
وعلى النقيض من ذلك، ما لم تصمد المؤسسات المتعددة الأطراف، الإقليمية والدولية، في وجه هذه العاصفة الترامبية المتهورة، وتتخذ التدابير اللازمة لاحتواء تداعياتها وعكس مسارها، فإنها قد لا تتمكن من النهوض مجدداً بعد انقشاعها.
وكذلك على الحلفاء أن يتحلّوا بالشجاعة الكافية لتعلّم كيفية الاعتماد على أنفسهم، والبحث عن بدائل مستقلة، دون التفريط بالقيم الأخلاقية التي قامت عليها شراكاتهم الأصلية.
أميركا اللاتينية
يتعامل ترامب مع أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي بوصفها مصدراً للهجرة المدمرة، والجريمة المنظمة، وهو موقف انعكس بوضوح في خطابه وممارساته السياسية.
وفي مشهد أقرب إلى السخرية، تحوّلت مهام دوريات الحدود من التصدي لتسلّل المهاجرين إلى ضبط تهريب البيض، بعد أن ارتفعت أسعاره في السوق الأميركية نتيجة تفشي إنفلونزا الطيور، ما دفع البعض إلى تهريبه من المكسيك حيث لا تزال أسعاره منخفضة نسبياً.
ومع ذلك، إدارة ترامب، لن تعطي الأولوية لمعالجة الأسباب العميقة للهجرة، مثل العنف، وانعدام الأمن، والفقر، وتغير المناخ، وهي تحديات متجذّرة في بنى تعاني من الفساد المزمن وضعف مؤسسات الحكم في معظم دول أميركا الوسطى والجنوبية.
وهذا يشير إلى أن هذا التجاهل سيزيد من تفاقم الأزمة، وسيقوّض الجهود الدولية الرامية إلى معالجتها من جذورها، بدل الاكتفاء بالحلول الأمنية السطحية.
ديناميكيات التجارة
النهج العدائي الذي اتبعه ترامب تجاه معظم دول العالم من خلال فرض الرسوم الجمركية أو بالأحرى العقوبات، استند إلى قناعة مفادها: “هم بحاجة إلينا أكثر مما نحن بحاجة إليهم”، إلا أن العلاقات التجارية المعقدة بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية سرعان ما أثبتت خطأ هذه القناعة التجريبية.
أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي تشكلان ما نسبته 21.3% من إجمالي التجارة السلعية للولايات المتحدة، والتي بلغت نحو 1.97 تريليون دولار في عام 2023.
وتأتي المكسيك في صدارة الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، حيث تمثل وحدها نحو 16% من إجمالي التجارة السلعية الأميركية.
كما قُدّر حجم التبادل التجاري السلعي بين الولايات المتحدة وكندا في عام 2024 بنحو 762.1 مليار دولار، منها 349.4 مليار دولار على شكل صادرات أميركية إلى كندا.
وعند جمع التبادل التجاري مع كندا وأميركا اللاتينية، نجد أنه يشكّل نحو ثلث التجارة الأميركية مع العالم بأسره، والتي تُقدَّر بنحو سبعة تريليونات دولار.
وهذا يشير إلى أن أي محاولة لزعزعة هذا التدفق التجاري الهائل بين الجانبين قد تشعل أزمة اقتصادية كبرى، وقد تصل تداعياتها إلى حد الركود أو حتى الانهيار.
ردّة فعل سوق الأسهم
تجلّى أثر سياسات ترامب بوضوح عندما اهتزّ سوق الأسهم الأميركي إثر الإعلان عن فرض رسوم جمركية على كل من كندا والمكسيك والصين.
وقد ردّت هذه الدول بفرض رسوم مماثلة على الواردات الأميركية، ما أثار موجة من الذعر في الأسواق المالية وأسواق المستهلكين داخل الولايات المتحدة.
بعدها سارع ترامب إلى تعليق هذه الرسوم مؤقتاً، ليس نتيجة مراجعة مدروسة، بل تحت وطأة ردود الفعل الحازمة والمواقف الصلبة التي واجهها من تلك الدول، خاصة بعد ارتفاع الأسعار وظهور شبح الركود الاقتصادي في الأفق الأميركي.
لقد أثبتت هذه التجربة أن سياسة الاستقواء، التي يتبعها ترامب ليست فعالة دائماً، لا سيما حين يكرر استخدامها بلا حساب، ما يؤدي إلى نتائج عكسية على الاقتصاد الوطني.
التحالف مع القادة
فيما يتعلّق ببقية دول المنطقة، يبدو أن ترامب مصمّم على مواصلة نهجه القائم على المعاملات السياسية قصيرة الأمد، والضغوط الاقتصادية، وتجاهل حقوق الإنسان بشكل صارخ، مقابل مكاسب سياسية سريعة، وهو النمط الذي تبنّاه بحذر خلال ولايته الأولى.
أما في حال عودته لولاية ثانية، فقد تؤدي سياساته إلى تشجيع القوى المناهضة للديمقراطية، وتهديد مؤسسات الحكم الديمقراطي، والحريات المدنية، وأمن المواطنين، وضمانات حقوق الإنسان في عموم المنطقة.
ومع ذلك، بلغ الأمر بترامب حد تهديد سيادة جيرانه، بما في ذلك كندا والمكسيك وبنما، بل وحتى غرينلاند الخاضعة للسيادة الدنماركية.
ويتزايد تقاربه مع قادة شعبويين وسلطويين في المنطقة، مثل خافيير ميلي (رئيس الأرجنتين)، وناييب بوكيلي (رئيس السلفادور)، وعائلة بولسونارو في البرازيل.
ويسعى ترامب إلى بناء علاقات براغماتية مع زعماء يساريين كنيكولاس مادورو في فنزويلا، وغوستافو فرانسيسكو أورّيغو في كولومبيا، الذين يبدون استعدادهم للتعاون في استعادة المهاجرين أو استقبال المرحّلين على أراضيهم.
الشرق الأوسط
أثبتت الوعود الانتخابية التي أطلقها دونالد ترامب بشأن إحلال السلام في الشرق الأوسط أنها مجرد شعارات فارغة، سرعان ما تهاوت أمام تعقيدات الواقع.
وقد انهار وقف إطلاق النار الهش بين إسرائيل وحركة حماس، واستأنفت إسرائيل قصفها العنيف لقطاع غزة، في حملة عسكرية جديدة طالت المدنيين والبنى التحتية المنهكة.
وعاد الحوثيون في الجنوب، لاستهداف السفن الحربية والتجارية التابعة للولايات المتحدة وحلفائها، ما فاقم من حدة التوتر في أحد أهم الممرات المائية في العالم، وهدّد الأمن البحري الإقليمي والدولي.
ورغم أن إدارة ترامب ردّت بضربات عسكرية ضد الحوثيين، إلا أن الوضع الإقليمي بدا أقرب إلى الانفلات، وسط تراجع قدرة واشنطن على فرض الاستقرار أو احتواء التصعيد.
ولكن الأكثر إثارة للقلق هو اقتراح ترامب لما سماه “ريفييرا الشرق الأوسط”، الذي يتضمّن تهجير سكان غزة وإعادة تشكيلها على نحو يخدم مصالحه وتحالفاته، إلا أن هذه الخطة قوبلت برفض واسع من الدول العربية، التي اعتبرتها امتداداً لفكر استعماري فجّ يفتقر إلى أدنى درجات العدالة والواقعية.
أما في سوريا، يسود الغموض، وسط استمرار الغارات الإسرائيلية وتوسّع نفوذها هناك.
وما يزيد الطين بلّة هو خطاب ترامب المفعم بنزعة استعمارية قديمة، حيث لم يتردد في التفاخر برغبته في ضم كندا، وشراء غرينلاند بالقوة، واحتلال قناة بنما، بل وحتى السيطرة على غزة وتهجير سكانها، في تصريحات تعبّر عن رؤية خطيرة تتعارض مع القانون الدولي ومع المبادئ الإنسانية الأساسية.
ترامب وأوروبا
يشكل استخدام ترامب للسياسات التجارية والعسكرية، كأدوات للضغط الخارجي خطراً بالغاً، لا على العالم فحسب، بل على الولايات المتحدة نفسها، فعندما حذّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض من أنه يلعب بالنار ويغامر بحرب عالمية ثالثة، كان الأجدر بتوجيه هذا التحذير إلى ترامب نفسه.
في الواقع، يعمل ترامب على تدمير النظام الذي شيده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ذلك النظام الذي طالما اعتُبر أمراً مسلماً به، وساهم في منع نشوب حرب عالمية ثالثة حتى الآن
بعد أيام قليلة فقط من لقاء ترامب، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطاباً دعا فيه أوروبا إلى الاستقلال تدريجياً عن الحماية الأميركية، فيما بدا وكأنه بداية لفكّ الارتباط مع واشنطن.
في الوقت ذاته، شنّ نائب ترامب، جيه دي فانس، هجوماً لاذعاً على الحلفاء الأوروبيين، متهماً إياهم بقمع الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتساهل المفرط مع الهجرة، ومحاصرة القوى اليمينية المحافظة.
لكن الإجراءات التي يتخذها ترامب لقطع الحبل السري الذي يربط أوروبا بالولايات المتحدة، ستؤذي الطرفين بلا استثناء، فالولايات المتحدة لن تستطيع الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى دون شبكة تحالفات قوية وموثوقة.
ومع ذلك، فإن تحويل كل تحالف ودعم أميركي إلى صفقة تجارية مشروطة ومؤقتة، سيُفقد واشنطن قدرتها على بناء شراكات دائمة، وسيُبعد عنها حلفاء محتملين في وقت تشتد فيه الحاجة إلى التكتلات.
وهذا يشير إلى أن ما يُحدثه ترامب من اندفاع غير محسوب لتفكيك النظام العالمي القديم، سيكون بالغ الضرر وصعب الإصلاح.
والخروج المتعمّد عن النظام القائم سيقود إلى ولادة نظام جيوسياسي جديد، يُفسح المجال أمام قوى بديلة تسعى لملء الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة، لا كحليف، بل كمصدر اضطراب عالمي.
العلاقات الأميركية – الأوروبية
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا تتشبث بأي طوق نجاة ينتشلها من ركام الدمار والبؤس الذي خلّفته الحرب، ويمنحها فرصة للنهوض من تحت الرماد، حيث مدّت الولايات المتحدة يد العون لها واشترطت عليها تقديم الولاء الكامل دون اعتراض أو نقاش، مقابل الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري.
لكن هذا الولاء ترجم لاحقاً بتوقيع اتفاقيات تجارة حرة شكّلت شريان حياة للدول الأوروبية، وساهمت في الوقت ذاته في توسيع رقعة الإمبراطورية الافتراضية الأميركية وتعزيز ازدهارها.
فبما بعد تحوّل هذا التحالف إلى ما يشبه الترابط الوثيق، الذي تعمّق أكثر بإنشاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي وحّد أوروبا تحت مظلة أمنية واحدة، ووفّر الحماية للقارة العجوز من المدّ الشيوعي، وأسهم لاحقاً في حسم الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي.
ومع مرور الوقت، تعزّزت العلاقات بين ضفّتي الأطلسي إلى درجة باتت فيها أوروبا والولايات المتحدة تعتمد كل منهما على الأخرى بشكل متبادل يصعب فصله.
ورغم خطاب ترامب العدائي تجاه الحلفاء، فإنه يدرك تماماً أن الولايات المتحدة بحاجة إلى شركاء وتحالفات قوية لتعزيز نفوذها ومصالحها حول العالم، كما يعلم أن مدّ اليد إلى الآخرين لا يُضعف من هيبة دولته، بل يمنحها قدرة أكبر على توسيع تأثيرها وجني مزيد من المكاسب.
الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة
في حقبة ما بعد الحرب الباردة، كان العالم أقل تعقيداً مما هو عليه اليوم، إذ سيطرت الولايات المتحدة بلا منازع كقوة عظمى منتصرة، تُحترم مواقفها، ويُصغي لها حين تتحدث، وتترك أثراً فورياً في قراراتها وأفعالها.
لكنها لم تكن في تلك الفترة قوة خارقة، ولا كان العالم قبل عهد ترامب يعيش في فوضى عارمة، ربما لم تكن الأوضاع مثالية، لكن كان هناك نظام عالمي يحكم العلاقات، تحترم فيه القواعد وتُرسم خطوط حمراء تُقيد طموحات القوى المتسلطة.
وفي تحليل حديث للنظام الدولي الجديد، قال أليكس يونغر، رئيس جهاز المخابرات البريطاني السابق: “نحن نعيش في عصر جديد تتراجع فيه أهمية القواعد والمؤسسات متعددة الأطراف، لتُحلّ محلها العلاقات التي يحكمها رجال الأقوياء والصفقات السياسية.”
وأضاف: “هذه هي العقلية التي تمثلها شخصيات مثل ترامب وبوتين، ولا شك أن الزعيم الصيني شي جينبينغ يشاطرهم هذا المنظور.”
بيع أوروبا
يُعد التحول المفاجئ في السياسة الأميركية من التحالف التقليدي مع أوروبا إلى مدّ جسور الصداقة مع روسيا أحد الألغاز الكبرى في المشهد الدولي الحالي، ومن المتوقع أن تتضح المزيد من التفاصيل مع تطور المفاوضات حول الأزمة الأوكرانية.
ومع ذلك، يعد هذا التحول، الذي يمكن وصفه بـ”بيع أوروبا لشراء روسيا”، هو الأكثر صدمة في السياسة العالمية منذ سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989.
الرئيس الروسي بدأ يستفز القادة الأوروبيين، كما فعل في منتدى دافوس، حيث أخبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن روسيا قادرة على توفير الأمن الذي تحتاجه أوروبا، ما يفتح الباب واسعاً أمام اللعب الروسي في الساحة الأوروبية.
بالتزامن مع ذلك، شجّعت المواقف العدائية التي اتخذها ترامب تجاه أوكرانيا الرئيس بوتين على رفع سقف مطالبه التفاوضية، فبدلاً من قبول مقترح السلام الأميركي الذي رحّبت به كييف فوراً، يبدو أن بوتين يسعى لفرض شروطه الخاصة بشأن أوكرانيا.
وعلى النقيض من ذلك، يبقى من الصعب التنبؤ بموقف ترامب النهائي، بسبب طبيعته غير المتوقعة والمتقلبة، كما ظهر من خلال تهديداته بفرض عقوبات على روسيا، وفي الوقت نفسه قراره تعليق الدعم العسكري لأوكرانيا.
الإهانة الأوروبية
شرع الأوروبيون في البحث عن حلول محلية ومستقلة بعيداً عن هيمنة واشنطن، بعد الإهانات المتكررة التي تعرضوا لها.
وحذر ريتشارد هاس، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية ومدير التخطيط السياسي في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، قائلاً: “بإبعاد حلفائها، قد تفقد الولايات المتحدة تأثيرها وربما تضعف قواعد النظام الدولي”.
وأضاف: “قد يبدأ بعض هؤلاء الحلفاء في تنويع تحالفاتهم وعدم الاعتماد فقط على الولايات المتحدة، وقد يلجأ بعضهم حتى إلى تطوير قدراتهم النووية متجاهلين واشنطن.”
وتوقع هاس قائلاً: “نحن نتجه نحو عالم أقل تمركزاً حول الولايات المتحدة.”
تأثير الرسوم الجمركية
يبدو أن استراتيجية ترامب المعروفة بالهجوم ثم التفاوض لم تعد تنجح في كل الحالات، ربما تثمر في الدول الضعيفة والفقيرة، لكنها قد تنقلب ضده عند تطبيقها على القوى الكبرى.
وفي يوم التحرير، عندما أعلن ترامب عن بدء فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية ابتدائية بنسبة 10% على جميع شركاء التجارة، ثم ارتفعت لاحقاً، على الفور، تراجع اليوان الصيني في الأسواق الخارجية إلى أدنى مستوياته التاريخية، ما دفع البنك المركزي الصيني إلى إصدار أوامر للبنوك الكبرى بتقليل شراء الدولار الأمريكي.
بدورها، أبدت الاتحاد الأوروبي تحفّظاً، ومنحت نفسها مهلة لدراسة الرد المناسب، مع وعد بالرد بالمثل إذا لزم الأمر.
أما الصين، التي استعدت لهذا الموقف منذ فترة طويلة، فلم تتراجع، وبدأت في مواجهة واشنطن بشراسة، مشيرة إلى استعدادها للمواجهة حتى النهاية، ما تسبب في هزات عنيفة في الأسواق العالمية.
وعلى النقيض من ذلك، انهارت أسواق الأسهم الأمريكية إلى أدنى مستوياتها التاريخية، متكبدة خسائر تجاوزت 6 تريليونات دولار خلال أول يومين من فرض الرسوم الجمركية.
ومع ذلك، ارتفعت معدلات الرسوم الجمركية في نفس اليوم، 9 أبريل، حيث أضاف ترامب رسوماً تصل إلى 125% على المنتجات الصينية، في حين ردت بكين بفرض رسوم بنسبة 84% على الواردات الأمريكية.
كما تقدمت الصين بشكوى إلى منظمة التجارة العالمية، واصفةً تصعيد الولايات المتحدة بالمتهور والخطير، ما يعكس مدى الهلع الذي أحدثته هذه الرسوم في بكين.
الواردات الصينية
بعد ساعات قليلة من فرض الرسوم الجمركية الجديدة، أمر ترامب بتعليق معظم هذه الرسوم المفروضة على عشرات الشركاء التجاريين لمدة 90 يوماً، مع إبقاء الرسوم عند نسبة 10% الأساسية، باستثناء الصين.
وأدى هذا الإعلان إلى ارتفاع حاد في أسواق الأسهم، لكنه لم يُنهِ المخاوف من احتمال وقوع ركود اقتصادي، لا سيما مع التأثير المحتمل على الاقتصاد الصيني.
ولكن عندما يتعرض الاقتصاد الصيني لضغوط، يتردد صداها عبر الاقتصاد العالمي، بما في ذلك الأسواق الأمريكية التي تستورد أكثر من 500 مليار دولار من المنتجات الصينية سنوياً.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الصراع مع القوى الاقتصادية الكبرى لن يلحق الضرر بالطرف الآخر فقط، بل سيتسبب أيضاً في أضرار جسيمة لمختلف القطاعات في الولايات المتحدة، فقد ارتفعت أسعار المستهلكين بالفعل، وازداد معدل التضخم، فيما يلوح في الأفق خطر أزمة اقتصادية.
وتوقعت مؤسسات مالية كبرى، منها جي بي مورغان، احتمالية حدوث ركود اقتصادي.
وهذا يشير إلى أن ترامب بالفعل يحطم النظام الذي بنتّه دول العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ذلك النظام الذي كان بمثابة الضامن لتجنب نشوب حرب عالمية ثالثة، على الأقل حتى الآن.
التحالف بين الصين وروسيا
أبرز ما يجعل أمريكا عظيمة، والذي يبدو أن ترامب لا يفهمه أو يقدّره، هو دورها في الدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية الديمقراطية، والاهتمام بالعالم، والمظلومين.
وقد تجعلها قوتها العسكرية وثروتها الاقتصادية محل خوف، لكنها لن تكسب احترام الآخرين إلا من خلال مبادئها وقيمها.
لكن التخلي عن الدفع نحو تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطية يعني أن الولايات المتحدة ستفقد قيمتها لدى حلفائها السابقين، كما أن تحالفها مع الطغاة سيشجع الأنظمة الاستبدادية ويزرع الفوضى في مناطق كثيرة من العالم.
ربما لم تكن الولايات المتحدة ذلك الملاك الذي ينشر جناحي الرحمة على العالم، لكنها كانت دوماً قوة توازن تواجه المحور الصيني الروسي، وكبحاً لاستبداد الطغاة.
لقد كانت دائماً أمل اليائسين ومنقذة المستضعفين، حتى وإن لم يكن ذلك بدون تكلفة.
أفريقيا
وكالة التنمية الدولية الأمريكية
بينما تتبنى الصين سياسة صفر رسوم جمركية مع أكثر من 33 دولة أفريقية، تفرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية باهظة على أقرب حلفائها، وتلغي جميع امتيازات التجارة الممنوحة للعديد من الدول الأفريقية الصديقة التي تحترم النظام الديمقراطي.
وكذلك، لم يخفِ ترامب ازدراءه للفقراء، ولم يذكرهم في خطاباته أبداً، وعندما سحب عشرات المليارات من الدولارات من منظمات المعونة الدولية، تخلى أيضاً عن أفريقيا، إذ أن أكثر من ربع ميزانية وكالة التنمية الدولية الأمريكية (USAID) المخصصة سابقاً لأفريقيا قد توقف الآن.
كما يقوم ترامب بإلغاء برامج كانت قائمة لسنوات طويلة، ما ترك فراغاً تحاول الصين وروسيا سدّه بسرعة، وتسعيان إلى إنشاء وكالات مشابهة لـUSAID، وقد كثفتا نشاطاتهما في أفريقيا بعد تراجع وكالات المعونة الأمريكية.
روسيا والصين
تتسابق بكين وموسكو نحو الموارد الطبيعية والأسواق الاستهلاكية المزدهرة في أفريقيا، كما تعملان على توسيع نفوذهما في مجالات متعددة تشمل العسكرية والاقتصادية والسياسية.
ومع ذلك، الصين لا تكتفي بتعزيز وجودها المادي في القارة السمراء، بل تسعى أيضاً إلى توسيع قوتها الناعمة واستخدام أدوات الدعاية الإعلامية بلا أي مقاومة تُذكر.
وتمتلك الصين أكبر تجمع إعلامي فيها، ولوكالة أنباء شينخوا، سبعة وثلاثين مكتباًَ في أفريقيا، حيث تفوقت شبكة التلفزيون CGTN، التي تحظى بملايين المتابعين، على شبكة CNN وغيرها من وسائل الإعلام الغربية.
يأتي هذا في وقت قلصت فيه الولايات المتحدة تمويلها، وأغلقت العديد من وسائل إعلامها العالمية الكبرى، ما ترك المجال مفتوحاً للصين وروسيا للهيمنة على فضاء المعلومات.
لقد استبدل ترامب القيادة والمسؤولية الأمريكية بنزعة أنانية ومهووسة بالعظمة، ترسم ملامح عالم منزوع الرحمة والتعاون والتنظيم، وخالٍ من أي معنى إنساني
المعونات الأمريكية
قدّر مركز “AidData”، وهو مختبر بحثي ووكالة دولية ترصد المعونات الخارجية، أن الولايات المتحدة أنفقت نحو 1.24 تريليون دولار على شكل منح، ومساعدات إنسانية، ودعم عسكري وغير عسكري، وذلك بين عامي 2000 و2021.
أما الصين، فقد أنفقت خلال الفترة نفسها نحو 1.34 تريليون دولار على أكثر من 18,000 مشروع، أغلبها مشاريع تنموية ضخمة.
لكنّ الفارق الجوهري بين الطرفين يكمن في طبيعة التمويل، فالمساعدات الأمريكية غالباً ما تكون غير قابلة للاسترداد، في حين أن المساعدات الصينية تأتي في صورة قروض تُمنح وفق أسعار السوق.
ومع ذلك، يرى بعض الباحثين أن الصورة ليست سوداء بالكامل، وتقول يون سُن، الخبيرة في السياسة الخارجية الصينية في مقال لها نُشر عبر معهد بروكينغز: “انسحاب أمريكا من تقديم المساعدات سيمنح الصين وزناً أكبر في مساحة أصغر، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الصين قادرة على ملء هذا الفراغ.”
تراجع الكرم الأمريكي
تعد الولايات المتحدة أكبر مانح إنساني في العالم، إذ تنفق أكثر من 70 مليار دولار سنوياً، وهو ما يمثل 41% من إجمالي المساعدات العالمية في العام الماضي.
لكن، ورغم هذا الرقم الكبير، لا تتجاوز مساهمات الولايات المتحدة المالية في الأمم المتحدة 18 مليار دولار، أي ما يعادل 2% فقط من ميزانيتها العسكرية، وأقل من نصف ما ينفقه الأمريكيون على المثلجات سنوياً.
وانسحاب الولايات المتحدة من الساحة الإنسانية سيُخلّف آثاراً كارثية على حياة الملايين من الفقراء والمحتاجين حول العالم، وسيُفاقم الأزمات القائمة، ويُمهّد لظهور أزمات جديدة.
لقد تلاشى الوجه السخي للولايات المتحدة، وتراجع نفوذها الذي كان له دور حاسم في إدارة الصراعات، خصوصاً في أفريقيا، كما استبدل ترامب قيادة أمريكا ومسؤوليتها العالمية بنزعة أنانية مفرطة، وتحركات مرتجلة تُجرد العالم من الرحمة، والتعاون، والبُنى المنظمة، وأي معنى إنساني مشترك.
مناورات حرب التجارة
تُعدّ الطبقة الوسطى الكادحة في الولايات المتحدة الضحية الأولى للسياسات الاقتصادية المزعزعة التي تسببت في ارتفاع الأسعار، ومع تفاقم آثار هذه الحرب التجارية، خرج الملايين إلى الشوارع في الأسبوع الأول من أبريل احتجاجاً على سياسات ترامب العدوانية، مردّدين شعارات مثل “ارفعوا أيديكم”، تعبيراً عن رفضهم للمساس بمصادر رزقهم.
بات الأمريكيون قلقين على مدّخرات تقاعدهم، فيما فقدت الشركات الصغيرة ثقتها في استقرار الاقتصاد الأمريكي واستدامة قوته الشرائية.
وهذا يشير إلى أن القرارات المتقلبة وغير المتوقعة الصادرة عن الإدارة الأمريكية تُحدث موجات من الاضطراب، ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل على مستوى العالم بأسره.
كان بإمكان ترامب أن يُعالج ما وصفه باختلال توازن النظام التجاري العالمي بطريقة أكثر حذراً وتدرّجاً، دون أن يُحدِث هذا الإرباك الهائل في الاقتصاد العالمي.
وكذلك، كان من الممكن أن يتعامل مع كل اتفاقية تجارية على حدة، ليحقق شروطاً أفضل دون أن يُرهق جيوب الأمريكيين أو ينشر حالة من الذعر الاقتصادي.
على النقيض من ذلك، بدأ أسلوبه القائم على حافة الهاوية في التفاوض يفقد فعاليته، وقد ظهر ذلك بوضوح في ردود الفعل القوية من كندا والمكسيك والصين، التي قابلت فرضه للرسوم الجمركية بإجراءات مماثلة.
كما أن هذا التحدي المتزايد، والمواقف المتكررة التي تنمّ عن تهور، بدأت تساهم في رسم صورة سلبية للولايات المتحدة كطرف غير موثوق وغير يمكن الاعتماد عليه، ما يُهدد بتقويض مكانتها كقوة قيادية عالمية.
الاستفتاء الأمريكي
ومع ذلك، فإن الشعب الأمريكي، الذي يمر بفترة فريدة وغريبة، قد لا يكون صبوراً كما يبدو في الوقت الحالي، فقد تتحول الأوضاع إلى مشهد مرعب، مع إغلاق أبواب نظام الرفاهية الأمريكية التي تحققت بصعوبة واحدة تلو الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، قد تُغير انتخابات التجديد النصفي المقررة في نوفمبر 2026 المشهد بأكمله بشكل جذري، التي تشمل 435 مقعداً في مجلس النواب، وثلث مقاعد مجلس الشيوخ البالغ عددها مئة مقعد، و36 منصباً حاكماً، بالإضافة إلى مناصب فيدرالية أخرى.
وتُجرى هذه الانتخابات في منتصف ولاية الرئيس، وتُعتبر استفتاءً على أدائه، وبالنظر إلى الدمار المستمر الذي يلحق بالبنى الاجتماعية والاقتصادية التي عاش فيها العديد من الأجيال لفترات طويلة، فإن قلعة الرمال التي يحاول ترامب بنائها قد تنهار بين ليلة وضحاها إذا استعاد الديمقراطيون السيطرة على السلطة التشريعية.
في تلك الحالة، سيصبح ترامب هدفاً هشاً لهجمات خصومه المنتقمين الذين سينفثون غضبهم لإفشال تحوّلاته الطموحة والمتسرعة.
استراتيجية ترامب
مع فشل استراتيجية ترامب الاقتصادية القائمة على التعريفات الجمركية في تحقيق النتائج المرجوة، بدأت تحركاته الاندفاعية والعشوائية تؤثر سلباً على هيبة الولايات المتحدة.
كما أن تصرفاته اللامبالية، ونقص رؤيته السياسية العالمية، وخطابه الذي يركز فقط على المصالح الذاتية، لن تقوض النظام العالمي فحسب، بل ستحوله إلى حالة من الفوضى.
لكن بانسحابه إلى عزلته، لن يترك ترامب أوكرانيا وحدها فحسب، بل سيترك أوروبا بأسرها ملعباً مفتوحاً لموسكو، كما سيسهل على الصين اصطياد تايوان، وسيجعل كوريا الجنوبية عرضة لمغامرات “رجل الصواريخ” المجنونة في شمالها المجاور، وسيجعل الشرق الأوسط هدفاً سهلاً لوكلاء إسرائيل، وستصبح أفريقيا سوقاً تحت الهيمنة الصينية.
كل ذلك يعني تبديد مئات المليارات من الدولارات التي أنفقتها الولايات المتحدة واستثمرتها في هذه المناطق لعقود طويلة.
باختصار، الرؤية القاتمة التي يلخصها شعار ترامب المبتكر “أمريكا أولاً” ستسرّع في نهاية المطاف من تفكك النظام العالمي الهش بالفعل، في حين تسعى قوى عالمية أخرى إلى قيادة المشهد.
هذه الرؤية تؤجج التنافس الجيوسياسي، وتشجع القوميات الشعبوية، وتزعزع الاستقرار والتنمية، وتعطل الابتكار، وتفاقم مخاطر التغير المناخي والأزمات الإنسانية.
أما الأمل فيتعلق بمرونة المؤسسات الأمريكية وقدرة الديمقراطية الأمريكية على التصدي لكل هذه المخططات ودرء سمومها بلا شك.
لكن بشائر النظام الجديد الذي وعد به ترامب بدأت تُرسل نداءات استيقاظ للأمريكيين وللعالم، كما تجلى ذلك في أحدث الاحتجاجات العالمية.
بالمحصلة، حافظت العولمة والتفوق الاقتصادي والعسكري الهائل للولايات المتحدة، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشؤون الداخلية الأمريكية، على النظام العالمي القائم، وما يحدث في الولايات المتحدة -سواء كان رخاءً أو أزمة- سيرتد صداه فوراً في جميع أنحاء العالم.
باختصار، الرؤية القاتمة التي يجسدها شعار ترامب المبتكر “أمريكا أولاً”، ستُعجل في تفكك النظام العالمي الهش أصلاً، بينما تتأهب قوى أخرى لقيادة العالم