Getting your Trinity Audio player ready...
|
في الوقت الذي كان فيه بشار الأسد يقلع بطائرته هارباً إلى موسكو، معلناً نهاية 55 عاماً من حكم عائلة الأسد، كانت طموحات أكراد سوريا تحلق عالياً، إذ إن جميع الظروف مهيأة أمامهم لتحقيق حلمهم بدولة مستقلة، أو على الأقل حكم ذاتي شبيه بكردستان العراق.
الأكراد وبعد سقوط الأسد، وفي ظل سيطرة نظام جديد بخلفية مرفوضة دولياً وإقليماً، إلى جانب علاقتهم مع التحالف الدولي لمحاربة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة، رأوا أن مسار دولتهم المستقلة يعيش عصره الذهبي، خاصة وأن المعطيات تشير إلى أن حكومة دمشق ستبقى لفترة طويلة في حالة من الضعف، وفقدان الشرعية الدولية.
ولعل الأكراد بالغوا في توقعاتهم، وربما تجاهلوا دون قصد التغيرات الجيوسياسية في الإقليم، فهناك مصالح وتقاطعات بين القوى الإقليمية والدولية، ليست في وارد الانشغال بطموحات الأكراد بقدر ما هي منشغلة بكيفية الاستفادة من الوضع الحالي لإعادة رسم وجه المنطقة كاملة، فما يجري الآن ليس سوى المراحل النهائية لمخاض ولادة شرق أوسط جديد.
القيادة الكردية ربما بالغت في تقدير نفوذها الجيوسياسي في ظل تطورات الديناميكيات الإقليمية وتغير أولويات المجتمع الدولي التي تتبنى رؤية أوسع لمستقبل الشرق الأوسط
واليوم بعد نحو سبعة أشهر على دخول أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق، انقلبت المفاهيم تماماً، فمن كان مطارداً بالأمس ومصنفاً -هو وهيئة تحرير الشام التي يرأسها- ضمن قوائم الإرهاب، بات رئيساً يحظى بإجماع دولي وإقليمي، وقبل كل ذلك بإعجاب واضح من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وصفه بأنه: “عظيم، أعتقد أنه جيد جداً.. شاب جذاب وقوي البنية وله ماضٍ قوي.. ماض قوي للغاية، مقاتل”.

الأكراد حتى سقوط الأسد
تاريخياً، قبل قيام الدولة السورية بعد الحرب العالمية الأولى، كانت منطقة الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات، تضم السريان والأكراد وبعض القبائل العربية، عندما لم تكن هناك حدود، كون المنطقة كانت جزءاً من الدولة العثمانية، لذا استمرت الجزيرة السورية، في استقبال موجات من الهجرة الكردية من تركيا، كلما تعقدت العلاقة بين تركيا وأكرادها، أو لأسباب طبيعية مثل الهجرة للعمل، وتواصل هذا الأمر حتى إحصاء عام 1962.
بعد ذلك، اعتبرت الحكومات السورية المتعاقبة، كل من كان مسجلاً قبل الإحصاء سوريَّ الجنسية، فيما رفضت الاعتراف بأي شخص جاء بعد ذلك التاريخ، وبالتالي، ظل جزء كبير من الأكراد غير مسجلين، وغير معترف بهم كمواطنين سوريين، كما ساهمت العادات الاجتماعية في امتناع بعض السكان عن تسجيل المواليد، وتجنبهم أداء الخدمة العسكرية.
مطالب الأحزاب الكردية قبل الثورة السورية في عام 2011 كانت مقتصرة على الاعتراف بجميع الأشخاص عديمي الجنسية، بالإضافة إلى مطالب ثقافية، مثل الاعتراف باللغة الكردية، لغة رسمية في البلاد، والمطالب الوطنية العامة مثل حق تشكيل الأحزاب، والمشاركة السياسية.
وخلال فترة حكم حافظ الأسد وابنه، تم رفض جميع هذه المطالب، وكان النشطاء الأكراد يترددون على السجون السورية، وأجهزة المخابرات بشكل دوري، لكن من جانب آخر، أقام النظام علاقات عمل مع جزء من الأكراد الأتراك الذين يطالبون بالانفصال، وهم حزب العمال الكردستاني، بقيادة عبدالله أوجلان، شملت هذه العلاقات توفير الأسلحة والتدريب، بالإضافة إلى أنشطة تهريب المخدرات، ثم، اضطُر نظام حافظ الأسد، إلى التخلي عن هذه العلاقة تحت ضغط التهديدات العسكرية التركية في عام 1998.
وبعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، أقام الأسد الأب علاقات تحالف مع أنقرة، كما تم تعزيز هذه العلاقة في عهد ابنه، بعد أن تم عزل النظام من قبل العالم العربي، بسبب الاتهامات بتورطه في اغتيال رفيق الحريري، وعليه عملياً، أصبحت تركيا الحليف الوحيد لنظام بشار الأسد، ونتيجة لهذا التحالف، تدهورت العلاقة بين النظام السوري والأكراد بشكل كبير.
ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، ووقوف تركيا مع المعارضة وتقديم الدعم لهم، لجأ النظام السوري إلى إعادة العلاقة مع الاكراد، لتخفيف الضغط على نظامه من جهة وللضغط على انقرة من جهة أخرى، حينها، استجاب النظام بسرعة لمعظم مطالب الأكراد المتعلقة بحقوق الإنسان، والمطالب الثقافية، حتى أن الأسد الأبن سلّم المسؤوليات الأمنية، والمعيشية في المناطق ذات الأغلبية الكردية إلى حزب الاتحاد الكردستاني، خليفة حزب العمال الكردستاني.
في 2015 اقترب الأكراد خطوة إضافية من تحقيق حلمهم بإقامة دولة، بعد تشكيلهم لقوات سورية الديمقراطية بدعم أمريكي، لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي كاد أن يقضي على المناطق الكردية بالكامل، لولا تدخل الولايات المتحدة، وحلفائها، في التحالف الدولي لمحاربة “داعش”.
وقد استفاد الأكراد من هزيمة داعش، وسيطروا على مناطق واسعة، شملت مدناً عربية مثل: (دير الزور والرقة)، وأسسوا هيئة الحكم الذاتي، وجهازها العسكري، (قوات سورية الديمقراطية)، التي دمجوا فيها مجموعات من السريان.
الدور الواسع للأكراد في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد داعش دفعهم للاعتقاد بأن قوة علاقتهم معها يدعم مطلبهم بإقامة دولة مستقلة بحكم ذاتي أو بالانفصال
بعد سقوط نظام الأسد
وبعد سقوط نظام بشار الأسد، بدا واضحاً أن المرحلة مفتوحة لصراع واسع بين الحكام الجدد والأكراد، خاصة مع مشاعر الكراهية السائدة بين الطرفين، إذ يعتبر الأكراد أن الحكام الجدد، أو على الأقل بعضهم، كانوا جزءاً من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي ارتكب انتهاكات مروعة في الجزيرة، خاصة ضد الطائفة الكردية اليزيدية، كما أن الحكومة الجديدة، حليفة الجيش الوطني السوري، المدعوم من تركيا، والذي يضم فصائل قاتلت الأكراد، وسيطرت على مناطقهم، في عفرين شمال حلب، وفي رأس العين في الجزيرة السورية.
الأكراد ونظراً لتعاونهم العميق مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم داعش في شمال وشرق سوريا اعتقدوا أن لديهم ورقة قوية تؤهلهم للمطالبة بحقوقهم في إقامة دولة كردية سواء في إطار الحكم الذاتي أو الانفصال الكلي.
وعلى النقيض من ذلك، يعتبر الحكام الجدد في دمشق، أن هيئة الإدارة الذاتية، مجموعة علمانية متطرفة، استولت على مناطق عربية لا يوجد فيها حضور كردي، بالإضافة إلى سيطرتها على حقول النفط والغاز، أي أن المشهد كله كان ينذر بصراع مفتوح بين الطرفين، بدأت ملامحه بالفعل في المعارك التي دارت بالقرب من سد تشرين في مدينة منبج.
طموحات الانفصال
رغم التحديات الخارجية الكبيرة التي رافقت طموحات الأكراد إلا أن هذه التحديات ليست الوحيدة، إذ يعاني التيار الكردي السوري من انقسامات حادة، إذ يعتبر كل تيار أو حزب أنه الممثل الشرعي للأكراد وقضيتهم، فهناك حالة رفض وانكار متبادل بين هذه التيارات.
التيار الكردي في سوريا يشهد تباين جذري في الرؤى السياسية، والارتباطات الإقليمية والدولية، كما أن القضية الأساسية وهي الحكم الذاتي وأشكاله وآلياته تعتبر جوهر هذا الخلاف، الأمر الذي انعكس على قوتهم التفاوضية خلال العقود الماضية، مع النظام السابق، وحتى في تعاملهم مع النظام الجديد.
هذا الواقع المبعثر وتشرذم القوى الكردية أثر بشكل مباشر على عرقلة المساعي الكردية، حيث تستغله القوى الإقليمية لتمرير أجنداتها عبر الدفع بقوى كردية داخلية أو إضعاف أخرى، بشكل قد يخرج القضية الكردية من مستقبل المعادلة السياسية السورية.
رهانات الأكراد وصدمة واشنطن
الأكراد الذين لطالما عولوا على علاقتهم مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، باعتبارهم رأس حربة في محاربة التنظيمات الإرهابية في سوريا وخاصة تنظيم داعش، تلقوا صدمة غير متوقعة من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فبمجرد وصوله إلى البيت الأبيض كشف عن نيته تقليص القوات الأمريكية في سوريا.
وهذا يشير إلى أن ورقة محاربة التنظيمات الإرهابية بدأت تحترق تدريجياً، إذ دعا ترامب النظام السوري بشكل علني إلى المساعدة في منع عودة ظهور داعش وتولي مسؤولية مراكز احتجاز عناصره في شمال شرق سوريا، الأمر الذي شكل ضغطاً جديداً على الاكراد، وأفقدهم أحد أهم العناصر التي كانوا يعولون عليهم.
الضغط الأمريكي للقبول بالنظام الجديد بدأت مؤشراته في دفع الأكراد نحو توقيع اتفاق مع دمشق، حيث قام كل من الرئيس السوري، أحمد الشرع، وقائد قوات سورية الديمقراطية، الجنرال مظلوم عبدي، بتوقيع الاتفاق، حتى أن القوات الأمريكية هي التي قامت بنقل عبدي إلى دمشق عبر طائرة عسكرية أمريكية.

وجاء الاتفاق بين الطرفين على شكل إعلان نوايا مع خطوط عريضة غامضة، لا يعطي للأكراد أي تنازلات، فكل بند من بنود الاتفاق يتطلب التفاوض، فعلى سبيل المثال، لم يحدد الاتفاق شكل تقاسم النفط، أو السيطرة الأمنية على الحدود مع كردستان العراق وتركيا، كما لم يحدد المصير النهائي لقوات سورية الديمقراطية، سواء كانت ستنضم إلى الجيش أفراد أو كتلة عسكرية.
ومنذ توقيع الاتفاق وتعاظم الانفتاح الأمريكي على نظام الشرع، وصولاً إلى القشة التي قصمت ظهر الأكراد حيث قال مبعوث واشنطن إلى سوريا توماس : “نحن مدينون لهم (الأكراد)، لكن السؤال الأهم بماذا ندين لهم؟ لسنا مدينين بحق إقامة إدارة مستقلة داخل دولة”.
في ظل كل هذه المعطيات يبدو أن القضية الكردية وإن كانت محوراً رئيسياً بعد سقوط نظام بشار الأسد، إلا أنها بدأت الآن بالتراجع السريع في ظل تقاطع المصالح الدولية والإقليمية مع مصالح النظام الحاكم في دمشق.
تصرّيح المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم باراك: “نحن مدينون لهم (للأكراد)، لكن السؤال هو: ما الذي ندين لهم به؟ نحن لا ندين لهم بتمكينهم من إقامة حكومة مستقلة داخل حكومة” كانت القشة التي قصمت ظهر الأكراد
السيناريوهات المستقبلية
السناريو الأول، الاندماج دون الانصهار:
ضمن سياق التطورات المرتبطة بالتعامل الإقليمي والدولي مع حكام دمشق الجدد، والتخلي الأمريكي الواضح عنهم، قد تشهد المرحلة المقبلة عودة كاملة إلى المطالب التي كانت سائدة إبان حكم نظام الأسد، والمتعلقة بالهوية واللغة والمواطنة دون المطالبة بلا مركزية الدولة.
ومن المرجح أن تتقبل الحكومة السورية الجديدة بعض المطالب، مع الإبقاء على الأكراد جزءاً من الدولة السورية دون منحهم حكماً ذاتياً، إذ أن المؤشرات كافة تذهب نحو خيار الاندماج، خاصة بعد تأكيد الحكومة السورية “تمسكها الثابت بمبدأ سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”، وترفض رفضاً قاطعاً أي شكل من أشكال التقسيم أو الفدرالية التي تتعارض مع سيادة الجمهورية العربية السورية ووحدة ترابها، وترحب الدولة بانضمام المقاتلين السوريين من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى صفوفها، ضمن الأطر الدستورية والقانونية المعتمدة”.
وما يجعل هذا السيناريو هو المرجح، وجود رفض دولي وإقليمي صلب ضد أي محاولات للحكم الذاتي أو الاستقلال، فمن جانب الولايات المتحدة فلديها مصالح وتقاطعات إقليمية تجعلها ليست في وارد دعم أي شكل من أشكال إضعاف النظام الجديد، خاصة مع الحديث المتواتر عن مباحثات سورية إسرائيلية، والتي إن وصلت إلى تفاهمات جدية ستخدم رؤية الإدارة الأمريكية للشرق الأوسط، وهذا ما يؤكده تصريح مبعوث واشنطن إلى سوريا حين قال إنه يجب على قوات (قسد) أن تدرك سريعاً أن سوريا دولة واحدة.
ومن جانب تركيا، يشكل الحديث عن حكم ذاتي للأكراد أو أي نوع من أنواع الانفصال تهددياً للأمن القومي التركي، لعدة أسباب أهمها فتح الباب واسعاً أمام أكراد تركيا لتكرار التجربة السورية، والمطالبة بالحكم الذاتي أو الاستقلال، كما أن تركيا ترى في قيام كيان كردي على سوريا قناة للنفوذ الإيراني الداعم للأكراد، لذا فإن أنقرة وبعد استثمارها الواسع في النظام الجديد، ستكون عامل ضغط كبير لمنع أي تنازلات أمام الأكراد.
أما الدول العربية فهي من حيث المبدأ ضد أي فكرة لتقسيم سوريا، باعتبار ذلك زعزعة لاستقرار المنطقة قد يصاحبه تأثيرات مباشرة على كامل الإقليم.
ويضاف إلى ذلك عامل التشتت الداخلي الكردي، الأمر الذي يجعل منهم الحلقة الأضعف أمام التيار القوي -حكومة دمشق، والولايات المتحدة، والدول الإقليمية- المعارض لفكرة الحكم الذاتي أو الاستقلال، إذ إن عدم وجود مرجعية موحدة تقود العمل السياسي الكردي تمثل أحد أهم أسباب ضعف القضية الكردية خلال العقود الماضية.
السيناريو الثاني، الحكم الذاتي:
يمثل نموذج كوردستان العراق نموذجاً محفزاً لأكراد سوريا، بحيث تصبح مناطق الإدارة الذاتية الحالية للأكراد منطقة حكم ذاتي ضمن دولة فيدرالية، يحق للإقليم فيه اتخاذ قراراته في القضايا الداخلية، مثل التعليم والصحة والاقتصاد، ولكن السياسة الخارجية والدفاع تظل من اختصاص الحكومة المركزية في دمشق، وهذا المطلب يمثل البند الأول في ورقة المؤتمر القومي الأول لأكراد سوريا.
احتمالية هذا السيناريو باتت ضعيفة جداً، خاصة بعد رفع واشنطن الغطاء عن الأكراد، ودعمها الكامل للنظام السوري الجديد، كما أن جميع أسباب ضعف هذا الاحتمال هي ذاتها الأسباب المذكورة في السيناريو الأول، والتي ترجح الذهاب إلى سيناريو الاندماج.
السيناريو الثالث، الدولة المستقلة:
رغم كل العقبات والتحديات التي تعترض حلم إقامة الدولة الكردية، إلا أن الأكراد لم يتخلوا عن هذا الحلم، الذي رافقهم عبر الحقب السياسية كافة، التي مرت على سوريا، نظراً لشعورهم التام بالاختلاف عن محيطهم العربي، وهذا السيناريو أصبح بعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً، لأسباب عدة، أبرزها رفض حكومة دمشق لهذا الأمر نهائياً، وهذا الموقف مدعوم بشكل كبير عربياً، إلى جانب رفض تركيا القاطع لأي شكل من أشكال الحكم الذاتي أو الانفصال، إضافة إلى التغيير الكامل في الموقف الأمريكي تجاه سوريا.
السناريوهات الثلاث، ورغم أن سيناريو الاندماج هو الأكثر ترجيحاً، إلا أن بذرة الانفصال تبقى أقوى من جميع الحروب والتفاهمات والاتفاقات السياسية، وفي النهاية فإن ما يجري في سوريا حالياً مع الأكراد ليس سوى اتفاق ضرورة وليس قبولاً فعلياً للاندماج داخل الدولة السورية، وما هو إلا مرحلة من مراحل القضية الكردية، ولكنها ليست المحطة الأخيرة في مسار الأكراد، ويبقى الصراع مؤجلاً إلى مرحلة تكون فيها الظروف لصالح الأكراد.