Getting your Trinity Audio player ready...
|
في وقت بات فيه الحديث عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية من المحرمات لدى الرأي العام الإقليمي، بفعل المأساة الإنسانية التي تعصف بقطاع غزة، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليؤكد أنه يعيش “مهمة تاريخية وروحية”، وأنه متمسك “جداً” برؤية إسرائيل الكبرى، لم يكن ذلك تصريحاً عابراً أو دعاية انتخابية، بل تعبيراً حقيقياً عن جوهر عقيدته السياسية، وعن البوصلة التي توجه قراراته في الحرب والسلام.
هذه التصريحات تفتح الباب أمام تساؤل جوهري: هل بات نتنياهو عبئاً على إسرائيل والمنطقة والإدارة الأمريكية الصديقة له، بما في ذلك على الساعين للسلام والتعايش معها؟، وهل يؤمن فعلياً بمسار تطبيع العلاقات مع محيطه الإقليمي أم أن ما يريده هو سلام يخدم عقيدته التوسعية فقط؟.
هل يؤمن نتنياهو حقا بتطبيع العلاقات مع جيرانه الإقليميين، أم أنه يريد فقط السلام الذي يخدم أيديولوجيته التوسعية؟
الحديث عن توسيع الاتفاق الإبراهيمي، والانتقال بالشرق الأوسط إلى مرحلة جديدة يتعايش فيها الجميع بسلام، لم يغب يوماً عن سردية إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يرى في الاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والمغرب أحد أهم إنجازاته في ولايته الأولى، كما أنه منذ اليوم الأول لولايته الثانية يسعى إلى توسيع هذا الاتفاق ليشمل السعودية وسوريا ولبنان وعدداً من الدول الإسلامية الكبرى.
لكن، هل رغبة الرئيس الأمريكي وجيران إسرائيل في تطبيع العلاقات والخروج من عنق الزجاجة هي رغبة مشتركة مع نتنياهو، أم أن لدى الأخير مخططات أخرى يسعى إلى تحقيقها، مستغلاً حالة الفوضى الإقليمية، ومدفوعاً بنشوته وتأكيده المستمر على النصر على أذرع إيران في المنطقة وتوجيه ضربة يعتبرها حاسمة للمفاعل النووي الإيراني؟.
نتنياهو بتصريحاته ضرب على الوتر الحساس في مصر والأردن، ففي الوقت الذي يحاول فيه البلدان احتواء الرأي العام المتعاطف مع الفلسطينيين، ويتمسكان باتفاقيات السلام باعتبارها ضمانة للأمن والاستقرار، يعلن نتنياهو أنه لا يعترف بحدودهما الرسمية، وأنه مؤمن برؤية إسرائيل الكبرى التي تضم الضفة الغربية ومناطق من مصر والأردن، وقد استدعى ذلك بيانات رسمية من القاهرة وعمّان تعتبر هذه التصريحات استفزازاً وتصعيداً غير مقبول.
منذ اليوم الأول للحرب في غزة، حذرت مصر والأردن من أي خطوة لتهجير الفلسطينيين تجاههما، ووقفتا بصلابة ضد خطط التهجير التي دعمتها إدارة ترامب عبر فكرة “ريفيرا الشرق الأوسط”، معتبرتين أن هذه الخطوة تهدد أمنهما القومي، لكن تصريحات نتنياهو تتجاوز مخاوف التهجير إلى مخاوف الحرب الشاملة لتوسيع الرقعة الجغرافية الإسرائيلية.
مخاوف جيران إسرائيل لا تنبع فقط من تصريحاته، بل من الإجراءات المرافقة لها، ومنها التوسع الكبير في المستوطنات في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان بحسب تقرير الأمم المتحدة الصادر في أكتوبر 2024، إضافة إلى تقرير في يونيو 2025 عن عمليات التهجير القسري من الضفة والقدس الشرقية، وإقرار الكنيست الإسرائيلي في يوليو الماضي قانوناً يقضي بضم الضفة الغربية، ورفض الحكومة الإسرائيلية لأي حديث عن حل الدولتين.
هذه المخاوف جدية وتضع الحكومات العربية أمام تحديات داخلية، فهي تعزز السردية المضادة لاتفاقيات السلام وتمنح خطاب الحركات المعارضة للتطبيع زخماً أكبر، وفي ظل هذا الواقع، أي حكومة راغبة في الانضمام إلى الاتفاق الإبراهيمي ستجد صعوبة في إقناع الرأي العام بجدوى السلام، بينما يتبنى رئيس حكومة إسرائيل سياسة توسعية على حساب جيرانها الموقّعين على اتفاقات السلام منذ عقود.
تصريحات نتنياهو تعزز السرد ضد اتفاقيات السلام وتمنح زخماً أكبر للخطاب المعارض للتطبيع
كل ذلك يقود إلى السؤال الأهم: هل بات نتنياهو عبئاً على الجميع، وخاصة على إسرائيل نفسها؟، الواقع يؤكد أن مثل هذه التصريحات تضرب في عمق الذاكرة الشعبية العربية، وتعيد الصراع إلى نقطة الرفض الشعبي الإقليمي كما كان في 1948.
نتنياهو، وفي ظل نشوته بانتصاراته المعلنة، يجر إسرائيل إلى الوراء، ويعيدها إلى محيط رافض لها، فبعد الانفتاح العربي ومحاولات إدارة ترامب توسيع اتفاقات السلام مع لبنان وسوريا والسعودية، يجد الجميع أنفسهم أمام حالة جمود، وبدلاً من إيجاد مخرج من معضلة غزة، يطيح نتنياهو بأسس اتفاقات السلام مع الدول المدافعة عن مسار السلام نفسه.
القرار الإسرائيلي يقوده الآن شخص صاحب عقيدة توسعية، متحالف مع أحزاب يمينية متطرفة ترفض أي حديث عن السلام، ومع أن إسرائيل حظيت بتعاطف واسع بعد هجوم حماس في أكتوبر 2023، فإن سياسات نتنياهو أطاحت بذلك، في ظل المجاعة في غزة التي أقر بها حتى ترامب، واستخدام القوة المفرطة، وصولاً إلى تمسكه برؤية إسرائيل الكبرى، وبهذا، فهو يعيد إسرائيل إلى صورة “الدولة المنبوذة” إقليمياً.
لا معنى لترويج أفكار السلام والأمن والاستقرار بينما يتم السعي في الوقت نفسه لسياسات توسعية تمس حدود الدول المجاورة
المعارضة الإسرائيلية ضعيفة ومشتتة وغير قادرة على مواجهة الحكومة، رغم محاولات طرح الثقة التي فشلت، مما يعزز موقف نتنياهو وحلفائه بن غفير وسموتريتش.
الإسرائيليون أمام معضلة حقيقية: بدلاً من تعزيز التعاطف العالمي، تواصل حكومة نتنياهو يومياً ممارسات تقوّضه، سواء على الساحة الدولية أو الإقليمية، فمن غير المنطقي طرح أفكار عن السلام والأمن والاستقرار بالتزامن مع سياسات توسعية تمس حدود الدول المجاورة.

السيناريوهات المحتملة:
التجميد: بقاء نتنياهو على رأس الحكومة، وفتح جبهات جديدة في لبنان أو سوريا أو مع إيران واحتلال غزة، مما يبقي مسارات التطبيع في حالة جمود ويعزز المعارضة العربية، وهذا هو السيناريو الأرجح في ظل ضعف المعارضة الإسرائيلية والدعم الأمريكي.
إسقاط الحكومة: عبر ضغط شعبي يوحد المعارضة الإسرائيلية لتشكيل حكومة أقل حدة وأكثر انفتاحاً على مسارات سياسية، لكن هذا السيناريو غير مطروح حالياً بسبب الانقسام الداخلي.
التصعيد: اتخاذ خطوات فعلية لاحتلال غزة، والاشتباك مع إيران، والتدخل في سوريا ولبنان، مما سيقضي على أي فرصة لإعادة مسار السلام، ويعزز السرديات الرافضة للتطبيع، ويبقى هذا السيناريو قائماً في ظل عقلية نتنياهو الذي يتحكم بالقرار الإسرائيلي.
في المحصلة، نتنياهو أصبح عبئاً على الجميع: عاجز عن صياغة خطة لليوم التالي لغزة، مبدد للتعاطف الدولي، مصرّ على استفزاز جيرانه وإحباط الدول الساعية لتوسيع الاتفاق الإبراهيمي، ليخدم بذلك أعداء إسرائيل أكثر مما يضرهم.