Getting your Trinity Audio player ready...
|
بين رئيس سوري انتقالي يراهن على التحالفات الإقليمية، ورئيس وزراء إسرائيلي متمسك بفكرة منع نشوء دولة وطنية مستقلة، يجد السوريون أنفسهم اليوم في قلب معادلة إقليمية شديدة التعقيد، رغم حالة الانفتاح الإقليمي والدولي على الحكومة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024.
ما تعيشه سوريا اليوم لم يعد مسألة قبول أو رفض بقدر ما هي مسألة إعادة ضبط لتوازنات المنطقة، فقد دخلت دمشق مرحلة انتقالية غير مسبوقة، تولّى فيها أحمد الشرع رئاسة البلاد بصفة مؤقتة.
لكن هذه المرحلة التي أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، جلبت معها صراعاً من نوع مختلف، إذ لم تعد دمشق في عين العاصفة بسبب إيران أو داعش أو روسيا، بل أصبحت هدفاً لضغوط إسرائيلية مباشرة، تسعى من خلالها تل أبيب إلى ضبط الدولة السورية الجديدة في إطار قابل للتطويع أو الإضعاف، دون الانخراط في حرب شاملة.
مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر
رغم أن سوريا خرجت، بعد سقوط النظام السابق، من مرحلة الاستنزاف الدموي التي استمرت لأكثر من عقد، إلا أن هذا الأمر لم يأتِ باستقرار أمني أو هيكلي، إذ ورث أحمد الشرع دولة ممزقة وجيشاً منهاراً، واقتصاداً شبه متخلف، ناهيك عن أن القوات العسكرية والأمنية الجديدة تهيمن عليها فصائل مسلّحة من خلفيات أيديولوجية متنوعة، أبرزها الإسلامية الجهادية، وكل ذلك في ظل غياب شرعية انتخابية ودستورية، إذ تبقى شرعية الشرع مرتبطة بقدرته على حفظ تماسك الدولة ومنع الانهيار.

وضمن هذا السياق، وفي محاولة واضحة لاستغلال الأحداث لصالحها بدأت إسرائيل في إعادة تعريف دورها في الساحة السورية، ورغم أن خروج إيران نهائياً بدد الذريعة الأمنية التقليدية، التي لطالما تمسكت بها تل أبيب، إلا أن الغارات الإسرائيلية على الأراضي السوري لم تتوقف، بل تصاعدت وتيرة تدخلها، خصوصاً في الجنوب السوري.
ما تقوم به إسرائيل حالياً لا يمكن قراءته من منظور السعي إلى إسقاط سلطة قائمة، بل إبقاؤها هشة وقابلة للضغط، وتقديم التنازلات، وهذا هو جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية: “لا نريد دولة قوية على حدودنا، لكن لا نريد فوضى مطلقة قد تجلب أطرافاً أكثر تطرفاً وعدائية لإسرائيل”.
جوهر استراتيجية إسرائيل: “لا نريد دولة قوية وذات سيادة على حدودنا، ولكننا أيضاً لا نريد فوضى كاملة قد تفتح صندوق باندورا”
السويداء: التحوّل من التكتيك إلى الهيمنة
في 13 يوليو 2025، قصف الطيران الإسرائيلي مواقع تابعة للجيش السوري الجديد بعد دخولها إلى السويداء، بذريعة “حماية الدروز” وإعلان تل أبيب المسبق أن جنوب سوريا يجب أن يبقى منزوع السلاح، ولم تكتف بذلك بل وجهت رسائل خشنة جداً لدمشق بعد قصفها وزارة الدفاع وهيئة الأركان السورية ومحيط القصر الجمهوري، وهذا التصرف دفع الرئيس الشرع إلى وصف إسرائيل في كلمة له بـ”الكيان”، ما فجر حملة تحريض ضده في الإعلام الإسرائيلي، وُصف فيها بأنه “رأس الأفعى” و”الجهادي المتنكّر بثوب الدولة”، وكل ذلك تزامن مع تحول إسرائيلي من مراقبة حذرة إلى محاولة فرض وقائع ميدانية.
فخ التطبيع: مَن يناور مَن؟
قبل التطورات الأخيرة في السويداء ارتفعت وتيرة الحديث عن لقاءات واجتماعات سورية-إسرائيلية في عمان وباكو وأبوظبي، إلى درجة اعتقد البعض فيها أن مسار التطبيع أصبح شبه مؤكد مع دمشق.
الشرع اليوم بين فكي كماشة فهو من جهة يقود سلطة انتقالية بلا تفويض شعبي، ويعتمد على قوات أغلبها من فصائل سابقة ذات خلفيات سلفية أو وطنية متشددة، لذا فإن أي خطوة تطبيعية مع إسرائيل ستُفجّر هذه التوازنات الداخلية، فيما عدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية يُضعف هيبة الدولة، وبالتالي يتحرك الشرع على حبل مشدود: لا مواجهة شاملة ممكنة، ولا تسوية سياسية مقبولة داخلياً.
إسرائيل لا تسعى إلى مسار عادل للتطبيع يكون كلا الدولتين شريكين متساويين بل ترغب في السلام مع سوريا وفقاً لشروطها الخاصة
مسار التطبيع الذي تريده إسرائيل ليس باتجاهين، فهي تريد سلام مع دمشق مقابل تنازلات كبيرة في ملف الجولان، وفي ذات الوقت لن تقبل بأي دولة قوية ومستقرة في سوريا، بل سلطة ضعيفة وهشة.
إسرائيل تقود مناورة عالية المخاطر مع الشرع تحت النار، فهي من خلال دعمها للدروز وضرب المقرات السيادية في دمشق وفرض منطقة منزوعة السلاح في الجنوب، تضغط بكل قوتها على الشرع لتقديم التنازلات المطلوبة إسرائيلياً إذا ما أراد أن تستقر الأوضاع قليلاً، لكن الشرع يدرك أن أي انفتاح علني تجاه تل أبيب سيعني خسارته للشارع والفصائل معاً.
الشرع بدوره يناور بطريقته، إذ ترك المجال للقبائل السورية للتحرك نيابة عن الدولة في أحداث السويداء، وكأنه يقول لإسرائيل “إما أنا أو الحشود غير المنضبطة”، والتي لا تستطيع إسرائيل قصفها بالطائرات، لذلك، يراهن على سياسة النفس الطويل، وتثبيت سلطة الأمر الواقع، دون خوض معارك لا يملك أدواتها، ودون تقديم أي تنازلات سيادية.
هل تنفجر الأمور؟
رغم أن الأوضاع بدأت تميل إلى الهدوء قليلاً في السويداء، مع تنازلات واضحة من دمشق أمام الزعيم الدرزي حكمت الهجري وداعميه في إسرائيل، إلا الأوضاع قد تنفجر في أي وقت، خاصة إذا ما ارتكب الدروز خطأً يعيد مشهد الحشود القبلية المسلحة إلى صدارة المشهد.
هذا السيناريو قد يؤدي إلى تدخل بري إسرائيلي في الجنوب، لدعم الفصائل الدرزية، وهذا أخطر سيناريو ممكن، لأن ذلك يعني عملياً تقسيم سوريا ونسف مشروع الدولة الجديدة، وفي هذه الحالة الشرع لن يستطيع البقاء سياسياً، فإن لم يرد، سيصبح وقتها الرد الشعبي أو الفصائلي أمراً حتمياً، ما يفتح الباب أمام احتمال انفجار شامل.
وفي حال قدّم الشرع أي تنازل مباشر أو غير مباشر للسويداء، وعجز عن فرض سيادة الدولة على المحافظة، فإن ذلك لن يكون مجرد إخفاق موضعي، بل سابقة قد تفتح الباب أمام انهيارات أوسع في سوريا الجديدة.
الدروز الذين لا يمتلكون سوى دعم إسرائيل يقابلهم الأكراد بكل مقومات الانفصال من قوات عسكرية منظمة ومدربة، وتسليح ثقيل، وموارد اقتصادية، وبنية حكم محلي مستقلة منذ سنوات، إضافة إلى علاقات دولية مرنة مع قوى غربية، وعلى الطرف الآخر يسيطر العلويون على الساحل، فهم يحتفظون ببنية أمنية وإدارية متماسكة منذ عهد الأسد.
وهذا يشير إلى أن أي ضعف تبديه الدولة السورية في ملف السويداء، سيؤدي بشكل أو بآخر إلى تعزيز دعوات “الحكم الذاتي” عند الأكراد والعلويين إذا ما شعروا أن السلطة المركزية في دمشق غير قادرة على ضبط الأطراف الأخرى.
بذلك، فإن أي إخفاق في الجنوب قد يُترجم سريعاً إلى نموذجين (شمالي وساحلي)، يهددان بتفتيت الدولة الجديدة حتى قبل أن تُبنى.
أي ضعف في قدرة الدولة السورية على معالجة أزمة السويداء من المرجح أن يُعزز الدعوات الكردية والعلوية من أجل الحكم الذاتي
واشنطن وعقدة إدارة الصراعات
أمام هذا المشهد، تبدو الإدارة الأمريكية التي انخرطت بشكل كبير في الشأن السوري، وتراهن على إعادة تأهيل الدولة الجديدة، والاستثمار في استقراراها ما زالت تغرق في إشكالية إدارة الصراعات بدلاً من حسمها، وإيجاد حلول جذرية لها.
هي من جهة لا تريد واشنطن الوقوف ضد إسرائيل علناً، والتصدي لمخططات رئيس الوزراء الإسرائيلي المتعلقة بسوريا والمنطقة، وفي ذات الوقت لا تريد أن تغضب حلفائها في المنطقة وخاصة دول الخليج العربية التي يعول عليها كثيراً الرئيس الأمريكي في الترويج لسرديته المتعلقة باستقطاب الاستثمارات الترليونية من الخليج، علاوة على معضلة الأردن الحليف المهم للولايات المتحدة، والذي يعتبر الأكثر تأثراً بما يحدث في الساحة السورية.
موقف واشنطن حتى الآن هش، وفي ظل جموح بنيامين نتنياهو، الذي يرى أن الفرصة مواتية لإعادة هندسة المنطقة، قد يعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترتيب أولوياته، فهو أولاً وأخيراً رجل صفقات قبل أن يكون رجل تحالفات، وقد يرى في اندفاع نتنياهو عقبة أمام هندسته الخاصة للمنطقة.
ترامب الآن أيضاً كمن يقف على حبل مشدود، فمن جهة لا يريد معاداة إسرائيل واللوبي الأمريكي الذي يقف خلفها، ومن جهة أخرى لا يريد خسارة الدول الإقليمية وخاصة السعودية وتركيا، لذا قد يلجأ إلى ما هو أقل من مواجهة إسرائيل وأكثر من القبول بما تخطط له في سوريا، إذ لا يزال ترامب لديه أوراق ضغط قوية تتعلق بعقود التسليح وموضوع غزة.

إذا صمد الشرع
إذا تمكن الشرع من إفشال المشروع الإسرائيلي في الجنوب دون الانجرار إلى حرب مفتوحة، فسيخرج من هذه المرحلة بأقوى أنواع الشرعية: “شرعية من ثبت واستعصى على الابتزاز”، عندها، سيبدأ العالم بالتعامل معه كحقيقة لا يمكن تجاوزها، لا مجرد رئيس مؤقت.
الصراع في الجنوب السوري لم يعد يدور حول خطوط التماس، بل حول حدود الشرعية الجديدة في الإقليم، فإسرائيل تدرك أن سوريا بلا إيران أخطر عليها من سوريا مع إيران، والولايات المتحدة تعرف أن الفوضى مجدداً قد تطيح بتحالفاتها الأهم في المنطقة.
أحمد الشرع يقف في المنتصف يفتقر إلى القوة لمواجهة وإلى المرونة للتنازل ومع ذلك فهو ينجو حتى الآن
وفي ظل كل ذلك يقف أحمد الشرع في المنتصف: لا يملك قوة كافية للمواجهة، ولا مرونة كافية للتنازل. لكنه حتى الآن ينجو، ويؤسس لمعادلة قد تُعيد تعريف مفهوم “السيادة” في الشرق الأوسط.
ولكن يبقى السؤال الأهم ماذا لو لم ينج الشرع، فهل نرى انهياراً دراماتيكياً في المنطقة، وعابراً للحدود السورية، يدفع ثمنه الجميع فقط لأن بنيامين نتنياهو يريد تطبيعاً مقيداً مشروطاً بدولة هشة وضعيفة في سوريا.