الاضطراب التجاري الكبير: نهاية اليقين الاقتصادي

تقرير
عمال صينيون في احد مصانع مركبات كهربائية (أ ف ب)
عمال صينيون في احد مصانع مركبات كهربائية (أ ف ب)
ﺷﺎرك
Getting your Trinity Audio player ready...

إلى أين ستؤدي الحروب التجارية المستمرة؟، وما هي نهاية هذه الصراعات؟، وهل يتطلب الأمر الرجوع إلى الحروب العسكرية لمعرفة الإجابة؟، وهل ستستغرق هذه الحروب سنوات كما حدث في الحرب العالمية الأولى والثانية؟.

المفاوضات التجارية والدبلوماسية بين الدول، تجري دائماً خلف الأبواب المغلقة، بحجة أنها قضايا حساسة وخاصة، ونادراً ما تصل إلى وسائل الإعلام، التي تفضل التركيز على جوانب أكثر جاذبية للجمهور، رغم أن القضايا الاقتصادية والتجارية ذات أهمية كبرى وتتعلق بحياته اليومية.

 وفي الغالب الجمهور العام لا يبدي اهتماماً واسعاً بهذا النوع من القضايا العالمية، أي بمعنى أخر، فهو غير مبالي بمن فرض من الدول نسبة جمركية معينة على استيراد أو تصدير أي منتج ضد دولة أخرى، لكنهم يميلون إلى الإعجاب بالقِمم الكبرى، مهما كانت غير مهمة، ويركزون على حضورها من القادة المشهورين من مختلف الدول.

ورغم أن الدبلوماسيين في معظم الاجتماعات يخرجون منها محملين بالشكوك والخلافات، إلا أنهم يحرصون على إظهار نوع من التوافق للحفاظ على الرأي العام.

لذلك، نادراً ما تمارس الأطراف المعنية أساليب الاستفزاز والتصعيد في مثل هذه السيناريوهات، إذ من الممكن أن تخرج الأمور عن السيطرة سريعاً، علاوة على أن الطرف الأول غير مدرك تماماً لرد فعل الثاني أو قوته أو وسائله أو طرق تعامله مع التصعيد.

 الرسوم الجمركية العدائية لترامب تمثل تهديداً واضحاً لاستقرار الأسواق العالمية وتشبه الاضطرابات الاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي

الكساد التاريخي

الجمود التجاري الحالي يشبه الاضطرابات الاقتصادية التي شهدتها ثلاثينيات القرن الماضي، عندما نشأت أزمة الكساد الكبير بعد تطبيق السياسات الحمائية، واليوم تمثل الرسوم الجمركية العدائية التي فرضها الرئيس ترامب تهديداً واضحاً لاستقرار الأسواق العالمية، ما يثير المخاوف لدى دول عدة من الانزلاق إلى ركود اقتصادي جديد.

وقد سجل ميناء لوس أنجلوس بالفعل تراجعاً حاداً في حجم شحنات الحاويات القادمة من آسيا، وسط غياب مخزون احتياطي سابق يمكن أن يحد من آثار هذا التراجع الكبير الناجم عن حرب الرسوم الجمركية.

ومع ذلك فإن سياسات الحماية التي تبناها ترامب، والتي ستظل قائمة لفترة طويلة بعده، تعكس السياسات الاقتصادية الداخلية التي اعتمدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تُذكر هذه المرحلة كأسوأ فترة في تاريخ الدبلوماسية التجارية الحديثة، إذ يتصارع أكبر اقتصادين في العالم عبر حرب رسوم انتقامية، ما ينبئ بعواقب غير مسبوقة على المستوى العالمي.

وعلى النقيض من ذلك، في ظل مواجهة حرب تجارية طويلة الأمد، سيكون على الرئيس شي جين بينغ بذل المزيد من الجهود للحفاظ على نشاط الاقتصاد الصيني، وأي صدمة محتملة قد تكون على غرار الأزمة المالية التي شهدها العالم بين 2007 و2009، والتي دفعت الحكومة الصينية إلى إطلاق حزمة تحفيز بقيمة 4 تريليونات يوان (590 مليار دولار).

 الناخبون الأمريكيون صوتوا لدونالد ترامب باعتباره منقذهم إلا أنه بدأ في الظهور مثل فرانكشتاين الذي صنعوه بأنفسهم في مجال التجارة الدولية

السياسات التجارية الأمريكية  

انتخب الأمريكيون دونالد ترامب لأنهم رأوا فيه منقذاً لهم، لكن من المحتمل أن يتبين لاحقاً أنه “فرانكنشتاين” صنع في ميدان التجارة الدولية، فبدلاً من إنقاذ النظام التجاري الحالي، قد يكون السبب لفوضى قادمة لا يمكن احتواؤها.

وهذا يشير إلى أنه إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في الاستمرار ببيع ديونها للعالم، فربما يجدر بالرئيس الأمريكي أن يتوقف عن التقليل من شأن الدول الأخرى، وأن يتعامل معها على الأقل بقدر من الاحترام واللياقة.

أوحى دونالد ترامب للجمهور -قبل الانتخابات وبعدها- بأن الحروب التجارية ستكون مفيدة للبلاد وسهلة الانتصار، إلا أن الواقع بعد خمسة أشهر فقط من توليه المنصب بدأ يظهر عكس ذلك تماماً.

إذاً، ما الذي تريده الولايات المتحدة فعلياً في ملف التجارة؟، وهل لديها استراتيجية واضحة أصلاً حيال أفعالها؟، تلك أسئلة لا تزال تنتظر الإجابة.

في كل مرة يتم الإعلان عن رسوم جمركية ثم يتم تعليقها، لأن الرئيس ترامب يقوم بتبديل موقفه بشكل يومي، ما يضع مسؤولي إدارته في موقف صعب بشكل دائم، ويحاولون جاهدين تبرير تغيّر مواقفه المفاجئة أو تراجعاته غير المتوقعة.

ومع ذلك، فإن الهدف الأمريكي المعلن بتوقيع 90 اتفاقية تجارية بحلول 8 يوليو يبدو بعيد المنال، رغم أنه من المتوقع توقيع عدد من الاتفاقات قبل هذا الموعد، أما المفاوضات مع العديد من الدول فستستمر في ظل توقعات تلك الدول بتعليق الرسوم مؤقتاً خلال فترات الحوار المستمرة، في محاولة للحصول على شروط أفضل.

لكن ترامب من جهته بحاجة لإثبات جديته في إبرام مزيد من الاتفاقيات، إلا أن نهجه المتذبذب في فرض الرسوم تارة وتعليقها تارة أخرى لن يؤدي إلا لتأخير الصفقات التي يسعى إليها.

ومع ذلك، فإن هذا التخبط لا يرقى لأن يكون استراتيجية تجاه الصين، بل يبدو أن العامل الحاسم في هذه السياسة التجارية هو مزاج الرئيس وتقلباته الشخصية، مع القليل من الاعتبار -إن وجد- لأولئك الذين يديرون العلاقات والسياسات يومياً.

على النقيض من ذلك، أدت الحروب التجارية التي شنها الرئيس دونالد ترامب ضد مختلف دول العالم، إلى حالة من الجمود المستدام بين الولايات المتحدة والصين.

 وبينما خفّفت واشنطن أو ألغت الرسوم الجمركية المفروضة على دول أخرى، بقيت التعريفات على الواردات الصينية على حالها، في إشارة واضحة إلى أن الصين كانت الهدف الرئيسي وراء هذه الحملة التجارية التي اتسمت بطابع استعراضي أكثر منه استراتيجي.

في حين أن التجارة الحرة يفترض أن تعود بالنفع على جميع الأطراف، إلا أن الأزمة التجارية الحالية بين الولايات المتحدة والصين تتجه نحو سيناريو خاسر للجميع.

 ومع ذلك، وعلى خلاف ما يعتقده كثيرون، تبدو الصين أكثر قدرة على امتصاص تداعيات هذه المواجهة، وقد تخرج منها بأضرار أقل مقارنة بالولايات المتحدة.

الأهمية الاستراتيجية

هل سيُبرم ترامب صفقة مع الصين؟، أم أن الحرب التجارية ستمتد إلى المجال الأمني؟، وما الخطوات التي سيتخذها في هذا الصدد؟، وكيف ستكون ردود فعل الصين؟.

هذه تساؤلات تثير الكثير من الشكوك، وتفتح الباب أمام احتمالات مقلقة في العلاقات الثنائية.

العلاقات الحالية بين الولايات المتحدة والصين، تبدو أقرب إلى مرحلة طويلة من التنافس الاستراتيجي، وهي مرحلة كانت بكين تتحضّر لها على مدار العقد الماضي.

اليوم لا واشنطن ولا بكين مستعدتان للتراجع، رغم الضغوط الاقتصادية الداخلية وتحديات الحفاظ على الهيبة الدولية، فالحرب التجارية المتصاعدة لم تعد مجرد نزاع اقتصادي، بل تحولت إلى استعراض متبادل للقوة بين زعيمين قويين لا يبدو أن أياً منهما مستعد للتنازل.

على الصعيد الأمريكي، بدأت تتضح ملامح نية استراتيجية أعمق، إذ أن سياسات الرسوم الجمركية العدوانية التي تنتهجها إدارة ترامب تزداد تأثيراً وتوسّعاً، وتتسبب في اضطرابات واسعة النطاق.

ومن الواضح أن التصعيد، الذي يليه التهدئة، في هذه الحرب التجارية الواسعة، سيكون جزءاً من خطة شاملة تهدف إلى عرقلة صعود الصين وسعيها لتجاوز الولايات المتحدة كقوة عظمى.

ورغم أن ترامب يروّج بشكل مباشر لتصحيح مسار اضطرابات تجارية عمره عقود، إلا أن بعض كبار مسؤولي إدارته، مثل وزير الدفاع بيت هيغسث ووزير الخزانة سكوت بيسنت، ينظرون إلى هذه المواجهة من زاوية جيوسياسية، معتبرين أن الصراع مع الصين يتجاوز التجارة ليصل إلى قلب معركة النفوذ العالمي.

أزمة الأفيون

من جانب أخر، تطالب إدارة ترامب الصين ببذل المزيد من الجهود لوقف تهريب الفنتانيل والمواد الكيميائية المرتبطة به إلى الولايات المتحدة، إذ يُحمّل ترامب هذا المخدر مسؤولية تفاقم أزمة الأفيون في أمريكا، ويلقي باللوم على الرئيس السابق جو بايدن لعدم التزامه باتفاق كان قد وقّعه مع الصين خلال ولايته الأولى.

ومع ذلك، تدرك الولايات المتحدة أن إظهار أي ضعف في ملف تايوان سيُفسَّر من جانب الصين كدعوة مباشرة للتصعيد، تماماً كما لو تم اتخاذ موقف عدائي صريح، لهذا، فإن الاستمرار في حرب تجارية مع بكين من دون وجود استراتيجية واضحة ومنسّقة، لن يكون خياراً حكيماً.

وهذا يشير إلى أن المضي في هذا المسار العشوائي، سيكون محفوفاً بالمخاطر، وقد يؤدي إلى تداعيات غير محسوبة لا تقتصر على التجارة فحسب، بل قد تهدد أيضاً الاستقرار الأمني العالمي.

واليوم لن يكون من الحكمة الاستمرار في حرب تجارية مع بكين من دون وجود استراتيجية واضحة ومنسقة، لأن مثل هذا المسار سيكون مليئاً بالمخاطر غير المبررة التي قد تُعرّض الأمن العالمي والتجارة معاً للخطر.

 ليس من الحكمة الاستمرار في حرب تجارية مع بكين دون وجود استراتيجية واضحة والسير في هذا الطريق محكوم عليه بمخاطر غير مبررة تهدد الأمن العالمي والتجارة

التبادل التجاري  

بلغت حجم صادرات الصين من السلع إلى الولايات المتحدة العام الماضي نحو 440 مليار دولار، ما منحها فائضاً تجارياً ضخماً بلغ نحو 300 مليار دولار.

 ومع ذلك، تراجعت الصادرات بنحو 35% في شهر يونيو مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، مع استمرار موجة الانكماش التي تهز السوق المحلية الصينية.

ولكن بالنظر إلى حالة الجمود الراهنة بسبب الرسوم الجمركية، فإن صادرات الصين إلى الولايات المتحدة قد تنخفض بنسبة تصل إلى 50%، ما يؤدي إلى اقتطاع نحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

ورغم أن هذه الضربة تعد كبيرة، إلا أنها لا تبدو كافية لزعزعة الاقتصاد الصيني بالكامل، فوفقًا للبيانات الرسمية، حقق الاقتصاد الصيني نمواً يقارب 5% العام الماضي، رغم أن الإحصاءات الواقعية قد تكون أقل من تلك المُعلنة.

ومع ذلك، من غير المرجح أن تدخل الصين في حالة ركود اقتصادي، حتى في ظل التراجع الحاد في صادرات السلع إلى الولايات المتحدة.

الأرقام الرسمية تشير إلى أن الاقتصاد الصيني حقق نمواً بمعدل 5.4% خلال الربع الأول من العام الحالي، إلا أن مؤشرات مقلقة تلوح في الأفق، فالحرب التجارية المستمرة تُلقي بظلالها الثقيلة على الاقتصاد الصيني، الذي يقوم في جوهره على قاعدة التصنيع والتصدير.

وفي محاولة لاحتواء تداعيات تراجع الصادرات إلى الولايات المتحدة، قد تلجأ بكين إلى عدة أساليب لتعويض الفجوة، من بينها إعادة توجيه السلع الصينية إلى الولايات المتحدة عبر دول ثالثة.

ويشار الآن إلى أن بعض المصانع الصينية بدأت فعلاً في طباعة ملصقات “صُنع في فيتنام” على منتجاتها، لتُشحن لاحقاً عبر دول أخرى، على أمل الالتفاف على الرسوم الجمركية الأمريكية.

لكن واشنطن على الأرجح ستبقى متيقظة لهذه الخطوة، وستسعى إلى تطبيق سياسة “قواعد المنشأ” بدقة لتحديد مصدر كل شحنة وفرض الضرائب المناسبة، إلا أن هذه المهمة قد تكون معقدة للغاية نظراً لحجم وتنوع البضائع الصينية التي تصل إلى الجمارك الأمريكية عبر قنوات متعددة، ما يصعّب التحقق والتصنيف بدقة.

ولتقليص حجم الضرر الاقتصادي، قد تلجأ الصين أيضاً إلى بيع سندات الخزانة الأمريكية، في محاولة لإحداث فوضى في سوق السندات والتأثير على قيمة الدولار، لكن هذه الخطوة لا يمكن الاستمرار فيها طويلاً، إذ إن الصين ذاتها ستتضرر نتيجة ذلك.

ومع ذلك، فإن مجرد اتخاذ هذه الخطوة -ولو مؤقتاً- قد يُرضي القيادة الصينية ويُرسل رسالة قوية إلى ترامب بشأن الطرف الذي يواجهه.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن لبكين أن تلجأ إلى الرد بالمثل عبر استهداف صادرات زراعية أمريكية رئيسية، وخصوصاً فول الصويا والدواجن، وهما قطاعان يعتمدان بشكل كبير على السوق الصينية ويتركزان في ولايات مؤيدة للجمهوريين.

هنا تجب الإشارة إلى أن الصين تشتري نحو نصف صادرات فول الصويا الأمريكية، ونحو 10% من إجمالي إنتاج الدواجن، وفي مارس الماضي، ألغت الحكومة الصينية تراخيص استيراد لثلاث من كبرى الشركات الأمريكية العاملة في قطاع فول الصويا.

 النيوديميوم والديسبروسيوم والتيربيوم عناصر أساسية في تصنيع السيارات ورقائق الحواسيب وطائرات F-35 المقاتلة والغواصات النووية وبدونها تكون غير مكتملة

المعادن النادرة

تستورد الصين الطائرات والمنتجات الزراعية من الولايات المتحدة، ويمكنها بالتأكيد تأمين هذه السلع من مصادر أخرى، لكن ماذا عن الحاجة المتزايدة للولايات المتحدة للمعادن الأرضية النادرة؟، أين ستتجه أمريكا للحصول على هذه المعادن الحيوية لصناعاتها المختلفة؟.

تعد الصين المزود الرئيسي لأكثر من 72% من المعادن الأرضية النادرة السبعة عشر، والتي تُستخدم في مجموعة واسعة من المنتجات بدءاً من الزجاج والسيراميك ووصولاً إلى المحولات.

 وليس هذا فقط، بل تعتبر الصين المنتج الوحيد عالمياً لستة عناصر ضمن فئة المعادن الأرضية النادرة الثقيلة، التي تُعد فرعاً من المعادن الأصلية.

وهكذا، تسيطر الصين بشكل كامل على إمدادات المعادن الأرضية النادرة، وقد يرد الرئيس شي جين بينغ ضربة قوية للولايات المتحدة من خلال تضييق توريد هذه المواد، فبدون هذه العناصر، مثل: (النيوديميوم،  والديسبروسيوم ، والتيربيوم (لن تكتمل صناعة السيارات، ورقائق الكمبيوتر، وطائرات F-35 المقاتلة، والغواصات النووية.

وعلى سبيل المثال، في عام 2010، فرضت بكين عقوبات على اليابان من خلال وقف تجارة المعادن الأرضية النادرة، بعد اندلاع نزاع بحري بين البلدين على خلفية تصادم سفينة في مياه متنازع عليها، حيث أثَّر هذا الإجراء بشكل كبير على اليابان، التي واجهت صعوبة في العثور على مصادر بديلة لتلك المعادن الحيوية للحفاظ على تشغيل مصانعها، لاحقاً، لجأت طوكيو إلى نهج تصالحي وناشدت بكين استئناف التجارة بين البلدين.

الصناعة التقنية  
الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تهدد استقرار الأسواق العالمية

تواجه طموحات الصين وموقعها في مجال الذكاء الاصطناعي واقعاً هشاً، إذ تعتمد بشكل كبير على صادرات التكنولوجيا المتقدمة من الولايات المتحدة، وخاصة أشباه الموصلات المتطورة، التي لم تتمكن الصين حتى الآن من تصنيعها محلياَ، على الرغم من كونها المصنع العالمي لمعظم السلع.

من جانبها، تعتمد شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى مثل آبل وتيسلا، إلى حد كبير على التصنيع في الصين، ومن المؤكد أن تعريفات ترامب الجمركية ستؤثر سلباَ على أرباح هذه الشركات الأمريكية العملاقة.

وعلى النقيض من ذلك، يسعى ترامب لتوسيع وصول الشركات الأمريكية إلى السوق الصينية، فيما تأمل بكين في استخدام هذا الأمر كورقة ضغط ضد إدارة ترامب، كما يبدو أن الصين مستعدة للرد من خلال تشديد اللوائح والتنظيمات على الشركات الأمريكية العاملة داخل أراضيها.

المستهلكون الصينيون

في الوقت نفسه، تواجه الصين تحديات داخلية جسيمة، إضافة إلى مشكلة البطالة المخفية الواسعة ونمط انكماش مستمر لا يبدو أن له نهاية قريبة، فمن المؤكد أن الحرب التجارية ستؤثر سلباً على ملايين الوظائف في الصين، ما قد يفتح الباب أمام مخاطر عدم الاستقرار السياسي.

 ومع ذلك، فقد استعدت الصين جيداً لهذه المواجهة وستخوضها بما يتجاوز حدود التجارة، لكن من سيكون ضحية الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟.

 الجواب ببساطة هو المستهلك الصيني البريء، فعندما تصدر الصين منتجاتها إلى الولايات المتحدة، فإن المستهلكين المحليين يكسبون ويُدخرون من هذه العمليات، بينما ينفق المستهلكون الأمريكيون على شراء هذه المنتجات، لذلك، فإن الحرب التجارية التي يقودها ترامب تؤثر سلباً على الأسر الصينية، في محاولة منه لتحقيق توازن في اضطرابات التجارية القائمة.

وتشير البيانات الأخيرة إلى أن أسعار المستهلكين انخفضت لأربعة أشهر متتالية، بمعدل تراجع 0.1%، مع تراجع في أسعار الغذاء والوقود التي كانت العامل الأساسي في هذا الانخفاض.

 كما كشفت 83% من شركات الأغذية والمشروبات عن أن بيئة عملهم تشهد تدهوراً مستمراً، وفقاً لتقرير صادر عن غرفة التجارة الأوروبية في الصين.

في الواقع الكثير من المستهلكين في الصين يتصرفون بحذر ويمتنعون عن اتخاذ قرارات إنفاق كبيرة، فهم ينتظرون عروضاً وتخفيضات في الأسعار، أو يفضلون الاحتفاظ بالنقد، لكن حتى الآن، لم يشهد هذا الوضع أي تغيير يذكر.

أظهرت دراسة حديثة أجرتها شركة ماكينزي أن الأسر الصينية ليست ميالة لإنفاق المزيد بما يتناسب مع دخلها، وهو تطور إيجابي مقارنة بعام 2024، عندما أعرب معظم الأسر عن نيتهم تقليل الإنفاق.

ومع ذلك، وفي محاولة لتحفيز الإنفاق، أطلقت الحكومة الصينية برنامجاً يسمح للمستهلكين بشراء أجهزة كهربائية جديدة عن طريق استبدال أجهزتهم القديمة، حيث تُحتسب قيمة الأجهزة القديمة ضمن سعر الشراء الجديد.

ووفقاً لوكالة شينخوا، بلغت قيمة المعاملات من خلال هذه المبادرة 175 مليار يوان (نحو 18 مليار جنيه إسترليني) هذا العام، مع ارتفاع مبيعات السلع الجديدة بنسبة 39% في أبريل مقارنة بالعام السابق.

ومع ذلك، فإن هذا النمو قد يكون محدود التأثير على الصورة الاقتصادية العامة، وربما يضيف نقطة أو نقطتين فقط إلى الناتج المحلي الإجمالي.

 وتشير شركة كابيتال إيكونوميكس إلى أن الاستهلاك في الصين بحاجة إلى النمو بنسبة تقارب 4% لتعويض خسائر الصادرات.

الآن، الكرة في ملعب بكين، إذا أرادت الصين الحفاظ على استقرار اقتصادها من خلال تعزيز الاستهلاك المحلي ومعالجة اضطرابات التجارة مع الولايات المتحدة، فعليها اتخاذ قرارات أكثر حزماً ووضوحاً، وإلا، عندها سيتحول ما يسميه ترامب “انتصاراً عظيماً” إلى خيبة أمل كبيرة.

  الاكتفاء الذاتي في الصين

يبني الرئيس شي جين بينغ مسار اقتصاد صيني قائم على الاكتفاء الذاتي، يشبه القلعة المحصنة، وهو ما يجعل التوصل إلى اتفاق تجاري دائم بين بكين وواشنطن أكثر صعوبة، خاصة في ظل رغبة ترامب في أن تزيد الصين من مشترياتها من السلع الأمريكية.

كما أدى النزاع التجاري إلى توحيد الرأي العام داخل الصين؛ إذ يرى المواطنون الصينيون أن الإجراءات الأمريكية ضد الشركات الصينية تمثل شكلاً من أشكال التنمر أو ممارسات تجارية غير عادلة شبيهة بتلك التي فرضها الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر، وبفعل هذا التأثير العاطفي، بدأ العديد من المواطنين يدعمون موقف بكين بشدة.

في اللغة الصينية، تحمل كلمة أزمة في طياتها معنى مزدوجاً: “الخطر والفرصة”، وإذا تمكنت الصين من الصمود أمام المواجهة الحالية مع الولايات المتحدة، فقد تخرج منها أكثر قوة على المدى الطويل.

ورغم أن الحرب التجارية تُلحق أضراراً بكلا الجانبين، فإن العديد من الاقتصاديين يتخوفون من أن يكون خطر الركود أكثر ترجيحاً في الولايات المتحدة منه في الصين.

وعلى النقيض من ذلك، قد يتمكن الرئيس الصيني من تبرير أي تباطؤ اقتصادي داخلي على أنه نتيجة للضغط الأمريكي، وهو خطاب يمكن أن يكسب تعاطف الشارع ويدعم استمراره في الحكم بسلاسة.

 أما الرئيس الأمريكي، فقد لا يحظى بالقدر نفسه من التسامح أو الصبر السياسي في الداخل الأمريكي.

 سلاسل التوريد المترابطة تشكل 70% من حجم التجارة العالمية والواقع الاقتصادي يشير إلى أن الرسوم الجمركية تُلحق أضراراً بالغة بالتجارة والمستهلكين  

الاقتصاد العالمي

أي اتفاق تجاري بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، سيكون بمثابة استراحة مرحب بها في مناخ التجارة العالمية المتوتر، فما بدأ كنزاع تجاري تقني سرعان ما تحول إلى صراع على المكانة والهيبة الوطنية، حيث يبدو أن الرئيس الصيني شي جين بينغ مستعد للعب على المدى البعيد، مستلهماً تكتيكات من الاستراتيجية الماوية.

لقد أثبت التاريخ أن الاقتصادات التي حققت نمواً سريعاً لم تفعل ذلك إلا من خلال انخراط عميق في التجارة الدولية، فجميع النجاحات الاقتصادية الكبرى، منذ الثورة الصناعية وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ارتبطت بتوسع التجارة العالمية وتكامل الأسواق.

اليوم، يشهد العالم انعكاسات مباشرة لتراجع الطلب الصيني على الواردات، ما يؤثر على الدول التي كانت تصدّر منتجات عالية القيمة مثل السيارات والمعدات الصناعية لتغذية النمو الصيني المتسارع.

وبين أواخر عام 2022 ومايو من هذا العام، انخفضت واردات الصين من الولايات المتحدة بنسبة 11%، ومن اليابان بنسبة 17%، ومن ألمانيا بنسبة 18 %.

وهذا يشير إلى أن هذا الانخفاض يُظهر اتجاهاً واضحاً نحو فتور في شهية الصين للواردات، رغم ارتفاع صادراتها، وهو مؤشر على تراجع في الطلب المحلي، بالتوازي مع تركيز بكين المتزايد على تعزيز الاكتفاء الذاتي الصناعي وتقليل الاعتماد على الخارج.

على نحو مماثل، فإن العلاقات التجارية بين الصين والأسواق الناشئة الكبرى مثل البرازيل وجنوب إفريقيا تسير بوتيرة بطيئة للغاية، ويُعزى ذلك جزئياً إلى انهيار قطاع العقارات في الصين، ما حوّل التركيز بعيداً عن استهلاك السلع الأساسية.

اليوم، يُقدَّر أن نحو 70% من التجارة العالمية بات معقداً ومتشابكاً عبر سلاسل توريد تمتد عبر أكثر من دولتين، ما يجعل أي اضطراب فيها -كما هو الحال في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين- يُضخِّم الآثار الاقتصادية بطريقة يصعب التنبؤ بها.

وهنا تكمن خطورة الحروب التجارية؛ فهي تعطل أحد المحركات الأساسية للنمو والاستقرار العالمي، وتمنح بعض النقاط السياسية للأنظمة التي تعلن الانتصار، لكنها في الواقع تُلحق أضراراً جسيمة بالشركات العالمية والمستهلكين على حد سواء.

الواقع الاقتصادي يؤكد أن الرسوم الجمركية لا تضر بالخصم وحده، بل تمتد آثارها لتصيب الاقتصاد العالمي بأكمله، بما في ذلك سلاسل التوريد، والأسواق الناشئة، وحركة التجارة، وغالباً ما تسبق التدهورات الاقتصادية أي بوادر تحسّن، ما يجعل الأثر الدبلوماسي والاقتصادي للحروب التجارية عميقاً وطويل الأمد.

الحسابات الاستراتيجية  

تتجه الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين نحو مواجهة قائمة على قدرة كل واحدة منهما على التحمّل وتقبّل الخسائر.

بكين تنظر إلى الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على أنها خطوة غير منطقية تقوّض الثقة العالمية في الدولار الأمريكي، وتهدد مكانته كعملة احتياطية مهيمنة، وقد بدأت بالفعل ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكي تتزعزع بعد فرض رسوم جمركية شاملة على عدد كبير من الدول، ما أثّر على استقرار الدولار.

كما تعتقد القيادة الصينية أن شعبها قادر على تحمّل الأعباء الاقتصادية لفترة أطول من الأمريكيين، إلا أن التحدي الأكبر يتمثل في الشكوك القديمة لدى الصين بشأن نوايا الولايات المتحدة، بالإضافة إلى طبيعة القرارات المتصلبة التي يتّبعها الرئيس شي جين بينغ.

وهذا يشير إلى أن هذه الشكوك المستمرة قد تُشجّع صقور واشنطن على اتخاذ خطوات أكثر عدائية، وهو ما قد يُقلق حتى الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة.

وعلى النقيض من ذلك، يرى مؤيدو ترامب أن تصعيد التوترات جزء من استراتيجية الضغط لعقد صفقات أفضل، ويصفون هذا النهج بأنه تجسيد لفلسفة “فنّ التفاوض” التي يشتهر بها.

ومع ذلك، بدأت أصوات أكثر واقعية وبراغماتية تبرز داخل البيت الأبيض، رغم أن الأضرار الاقتصادية والدبلوماسية قد تكون قد وقعت بالفعل، حيث يخشى البعض أن يكون عصر الهيمنة المطلقة للدولار الأمريكي قد بلغ ذروته، ما يثير القلق بشأن مستقبل النظام المالي العالمي.

وقد أخطأت إدارة ترامب في افتراضها أن الصين ستنهار سريعاً تحت ضغط الرسوم، إذ قللت من شأن صبر بكين الاستراتيجي وثقافتها الجماعية التي تدعو إلى التحمل والمثابرة.

واليوم ها هي الصفقة السريعة التي وعد بها ترامب لم تتحقق، بينما تحذّر شركات التجزئة الأمريكية من نقص وشيك في السلع على رفوف المتاجر.

مفترق طرق

في عهد الرئيس ترامب، وصلت الولايات المتحدة إلى مفترق طرق حاسم في مسيرتها كقوة مهيمنة عالمياً، فقد نجح إلى حد كبير في إيصال رسالة مفادها أن تفوّق أمريكا الاقتصادي والسياسي ليس مضموناً إلى الأبد، ما لم تُتخذ خطوات جريئة للحفاظ عليه.

وبغضّ النظر عن الجدل حول سياساته، فإن فهمه للواقع الجيواقتصادي الحالي والمستقبلي يمتد إلى ما هو أبعد من الأزمة التجارية الراهنة.

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى سياساته التجارية المتشددة على أنها خطوات استباقية تهدف إلى ترسيخ الهيمنة الأمريكية حتى نهاية هذا القرن وربما إلى ما بعده.

ولكن تركيزه على تنمية الثروة الأمريكية دفع قوى ناشئة أخرى إلى إعادة تقييم أوضاعها ووضع خطط استراتيجية طويلة المدى.

الآن، تسعى الولايات المتحدة بقيادة ترامب إلى تقليص اعتمادها على الاقتصادات الصاعدة، وفي مقدمتها الصين، خاصة فيما يتعلق بالموارد الحيوية مثل معادن الأرض النادرة.

 لقد أدرك ترامب طبيعة التهديد الحقيقي الذي تمثّله الصين لمكانة الولايات المتحدة عالمياً، سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل.

وعلى النقيض من ذلك، تسير الصين بهدوء وثبات نحو استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى فك الارتباط التدريجي مع الولايات المتحدة وتنويع سلاسل التصدير، وهي تركز على تحقيق الاكتفاء الذاتي، لا سيما في القطاعات التي تعتمد فيها على الخارج، مثل أشباه الموصلات.

لذلك، تدرك القيادة الصينية أن اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية يشكّل عائقاً أمام طموحاتها المستقبلية، وتسعى لتجاوزه ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى.

على المدى القصير، لن تُحدث الحرب التجارية تغييراً جوهرياً في الوضع القائم، إذ ستستمر الدول في التبادل التجاري، ولو على مضض، حفاظاً على استقرارها الاقتصادي، غير أن التحولات الكبرى في الجغرافيا الاقتصادية والسياسية مرجّحة الحدوث على المدى المتوسط والبعيد، ومن المؤكد أن العالم سيشهد بروز تكتلات اقتصادية موازية، لكلٍ منها سلاسل إمدادها الخاصة، ومعاييرها وقواعدها المختلفة.

العولمة لن تنتهي، لكنها ستتخذ شكلاً جديداً من خلال هذه التكتلات المتوازية، ما يفرض على العالم أن يبدأ في وضع إطار عملي يُنظّم التعايش السلمي بين قوى اقتصادية متعددة ومتكافئة.

واليوم، ينبغي على العالم أن يستعد لاحتمال استمرار هذه الحرب التجارية لفترة أطول مما كان يُتوقع، مع بقاء هوية المنتصر النهائي غير محسومة، فهل سينجح ترامب في الانتصار دون إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد الأمريكي، أم أن شي جين بينغ سيفرض نفسه كمنتصر رغم ما قد يتكبده من خسائر؟.

الإجابة على هذا التساؤل ربما لن تُحسم قريباً، فالفائز الحقيقي في هذه المعركة قد لا يُعرَف إلا عندما تُكتب فصول جديدة في كتب الاقتصاد المستقبلية.

EIR

EIR

منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.
موضوعات أخرى
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
تقرير
Eagle Intelligence Reports
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.