Eagle Intelligence Reports

مفاوضات السلام في أوكرانيا ومستقبل أوروبا

Eagle Intelligence Reports • ديسمبر 10, 2025 •

الحرب التي بدأت مع غزو روسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير 2022 تقترب من منعطف دبلوماسي حاسم، فعلى مدى أشهر، سعت واشنطن وموسكو إلى إجراء محادثات أسفرت، في صيغتها الأولية، عن مسودة تسوية مؤلفة من 28 بنداً محفوفة بالمخاطر، فنظرياً، كان من المفترض أن تشكّل أساساً لنهاية سياسية لأكبر حرب برية تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، أما عملياً، فقد أثارت عاصفة سياسية في كييف وفي أنحاء أوروبا وحتى داخل مؤسسة الأمن القومي الأمريكية.

الآن، تتداول الأوساط نسخة مُختصرة إلى 19 بنداً بعد نقاشات مكثفة بين المفاوضين الأمريكيين والأوكرانيين في جنيف، ورغم التنقيحات، ما تزال تحمل السمات الجوهرية لمسودتها السابقة، مخططاً يطالب أوكرانيا بقبول تنازلات سياسية وإقليمية وعسكرية واسعة مقابل وقفٍ لإطلاق النار.

لكن مع تطور هيكل الاتفاق وبروز الدور الأوروبي بشكل أكثر قوة، تحوّلت المفاوضات إلى ما هو أكبر من مجرد تسوية حرب؛ إذ أصبحت ساحة صراع حول مستقبل الأمن الأوروبي، ووحدة الغرب، ومعنى السيادة في القرن الحادي والعشرين.

  تطور هيكل الاتفاق وبروز الدور الأوروبي بشكل أكثر قوة  حوّل المفاوضات إلى ساحة صراع حول مستقبل الأمن الأوروبي

 الدبلوماسية على حافة التنازل

لقد عكست مسودة المقترح الأصلي المؤلف من 28 بنداً تفاوتات السياق الجيوسياسي الذي نشأت فيه، حيث صيغت في لحظة كانت واشنطن، تحت ضغط داخلي متزايد لإظهار أي تقدّم، تبحث فيه عن مخرج من حربٍ أوروبية مُنهِكة، وفي المقابل، كانت موسكو بعد فشلها في تحقيق نصر سريع على أرض المعركة، ترى في المسار الدبلوماسي جبهة ثانية يمكن من خلالها انتزاع المكاسب السياسية التي عجزت عن تحقيقها بالقوة.

جاءت النتيجة في وثيقة تحمل بصمة الأولويات الروسية بوضوح لا لبس فيه، فقد طالبت أوكرانيا بقبول ضمّ موسكو لمناطق واسعة في الشرق والجنوب، وتكريس حيادٍ دستوري، وتعليق طموحاتها للانضمام إلى الناتو إلى أجل غير مسمّى، وتقييد حجم وقدرات قواتها المسلحة، والحدّ من المساعدات العسكرية الغربية، إضافة إلى إعادة منح الحقوق الثقافية للغة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الموالية لموسكو، إذ لم تكن هذه المطالب أشبه بتسوية دبلوماسية، بل أقرب إلى قائمة من الإهانات السياسية صيغت في الكرملين.

كان الخلل في التوازن شديداً إلى درجة أنه، عند تسريب المقترح، بدا حتى لبعض دوائر الحكومة الأمريكية وكأن الأمر باغتَها تماماً، ففي منتدى أمني في هاليفاكس، صرّح أعضاء في مجلس الشيوخ من كلا الحزبين علناً بأن وزير الخارجية ماركو روبيو أبلغهم بأن الخطة ذات الـ28 بنداً “ليست توصيتنا”، بل “قائمة رغبات روسية خالصة”.

وبحسب روايتهم، وصلت المسودة إلى فريق ترامب عبر وسيط يُعتقد أنه تحدّث باسم موسكو، وتمّ تداولها في واشنطن قبل أن تُخضعها وزارة الخارجية للمراجعة أو تمنحها أي شكل من أشكال التأييد.

ترامب وبوتين في قمة ألاسكا (أ ف ب)

نفى روبيو تلك المزاعم، مؤكداً أن الخطة “وضعها الجانب الأمريكي، مع مساهمات من الروس والأوكرانيين”، فيما وصفت وزارة الخارجية روايةَ أعضاء مجلس الشيوخ بأنها غير صحيحة، ومع ذلك، كشف الحادث أمراً لا يمكن إنكاره: “أن المقترح لم ينبثق عن استراتيجية دبلوماسية أمريكية واضحة أو متماسكة”، لقد خرج إلى العلن وهو محلّ جدل منذ اللحظة الأولى، تُثار حوله الأسئلة بشأن أصله، وتُشَكّك في نيّاته، وتسيسه، ولهذا بالتحديد بدا نصّ المسودة على النحو الذي ظهر به؛ لم يكن خطة سلام بقدر ما كان اختبار “رورشاخ” يعكس تنافس بيروقراطياتٍ وفصائل سياسية ووسطاء خارجيين، مع بروز بصمة موسكو عليه بوضوح.

وفي مقابل هذه التنازلات الشاملة، عُرضت على أوكرانيا «ضمانات أمنية»، وهي عبارة باتت في أوروبا ما بعد الحرب الباردة مرادفاً للغموض، فلم يَرِد أي ذكر للمادة الخامسة، ولا لأي معاهدة دفاع متبادل، ولا لأي آلية مُلزِمة تُجبر الولايات المتحدة أو أيّاً من حلفائها على التحرّك في حال تجدّد العدوان الروسي، وبالنتيجة، لم تتجاوز تلك الضمانات حدود التشجيع السياسي ليس أكثر.

أما روسيا، فعلى النقيض تماماً، فلم يُطلب منها التخلي عن أي شيء تقريباً، إذ ستُطَبَّع مكاسبها الإقليمية، ويُكرَّس حقّها في فرض فيتو استراتيجي على مستقبل أوكرانيا، وتُعاد لها فرص الوصول إلى الأسواق والمؤسسات الغربية، وهكذا، تُمنح دولةٌ أطلقت أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945 شرعيةً وتخفيفاً للضغوط ونفوذاً جيوسياسياً، وبكل المقاييس المعقولة، كان ذلك بمثابة دعوةٍ لإضفاء الطابع المؤسسي على الغزو.

وكما كان متوقعاً، رفضت كييف تلك الشروط على الفور تقريباً، لكن ما كان أكثر أهمية هو ردّ فعل أوروبا، فعواصمها التي استُبعدت من عملية الصياغة وأقلقها مضمون المقترح، أشارت مباشرة إلى أن أي تسوية تقوم على استسلام أوكرانيا ستكون غير قابلة للقبول سياسياً أو أخلاقياً، لهذا طالبت بإعادة النظر في البنود.

وقد أدّى هذا الضغط، إلى جانب الرفض الأوكراني، إلى إنتاج نسخة مختصرة من 19 بنداً في جنيف، وتم حذف أكثر المطالب فجاجة، من البنود التي تُقيّد الجيش الأوكراني، والمواد التي تُلمّح إلى الاعتراف بالمكاسب الإقليمية الروسية، والقيود الصريحة على المساعدات العسكرية الغربية.

لكن الحذف لا يعني الحلّ، فالمعضلات الجوهرية لا تزال متجذرة في هيكل الاتفاق: تجميد الأراضي الذي قد يتحول إلى دائم، وترتيبات أمنية قائمة على الغموض بدل المعاهدات، وقيود على حرية أوكرانيا الاستراتيجية على المدى الطويل، لا تزال مطالب موسكو واضحة، حتى لو خفت حدتها.

بهذا المعنى، تكشف المفاوضات عن أكثر بكثير من مجرد محاولة لإنهاء حرب، فهي تُظهِر العودة البطيئة والمتوترة لعالم مُنظّم وفق دوائر النفوذ، والنضال في كييف وعبر أوروبا لمنع هذه الدوائر من التصلّب لتصبح القاعدة الجديدة.

البقاء مقابل السيادة؟

بالنسبة لأوكرانيا، ليست المفاوضات مجرد تمرين أكاديمي في حل النزاعات، بل هي تمس الهوية والاستقلال والمصالح الوجودية للحرب، والموقف الاستراتيجي لكييف أيضاً متناقض: فهي مضطرة للتفاوض لأن البلاد منهكة، لكنها لا تستطيع الموافقة على تسوية تشرّع مكاسب روسيا أو تدين أوكرانيا إلى حياد شبه دائم إلى أجل غير مسمّى.

يدرك الرئيس فولوديمير زيلينسكي أن تفويضه، السياسي والأخلاقي وحتى التاريخي، يعتمد على رفض أي اتفاق يبدو أنه يُكافئ العدوان الروسي، فالحرب الدفاعية التي خاضها الأوكرانيون منذ عام 2022 لم تُشن من أجل الأرض فحسب، بل أيضاً من أجل حقهم في تحديد مستقبلهم السياسي بأنفسهم، وأي وثيقة تُجبر أوكرانيا على التخلي عن عضوية الناتو، أو التنازل عن أراضٍ بشكل كامل، أو نزع سلاحها، ستؤدي إلى تفكك الوحدة الوطنية وبالتأكيد إلى انهيار الحكومة.

علاوة على ذلك، فإن الوضع العسكري هش وديناميكي في الوقت نفسه، فقد أظهرت أوكرانيا قدرة استثنائية على الصمود، مُلحقَةً خسائر كبيرة بالقوات الروسية، ومهاجمةً أصول العدوان البحرية والطاقة، ومُحافظةً على الضغط على جبهات عدة، وهذه الخصوصيات تشكّل موقف كييف التفاوضي: فالبلد القادر بعد على الدفاع عن نفسه يمتلك نفوذاً أكبر من بلد يوشك على الانهيار.

تزيد السياسة الداخلية الأمور تعقيداً أكثر، فقد هزّت استقالة أندري ييرماك، رئيس مكتب زيلينسكي القوي والمفاوض الرئيسي، الثقة العامة على خلفية اتهامات بالفساد، والآن، يجب على الإدارة أن توازن بين إدارة الحرب، والمفاوضات، وأزمة مصداقيتها الداخلية في الوقت ذاته؛ ثلاثية خطرة، وإذا شعر الجمهور أن المحادثات تمثل استسلاماً من قبل نخبة مُتأثرة بالفساد، فقد ينجم عن ذلك اضطراب، وفي زمن الحرب، للاضطرابات عواقب استراتيجية، وبالطبع، فإن بوتين مدرك تماماً لهذه الديناميات.

ومع ذلك، فإن القادة الأوكرانيين واقعيون أيضاً، فهم يدركون تكلفة استمرار الحرب إلى أجل غير مسمّى، من حيث الخسائر البشرية، والدمار الاقتصادي، والضغط على البنية التحتية للطاقة، والثقل النفسي المستمر، فقد تركت أربع سنوات من الصراع ملايين المشردين، وصناعات مدمرة، ومدناً في أنقاض، بينما استهدف الروس البنية التحتية المدنية بلا محاسبة، فالتحدي الذي يواجهه زيلينسكي ليس في مسألة السعي للسلام، بل في تحديد ما إذا كان السلام المتاح حقيقياً أم مجرد وهم.

التحدي الذي يواجهه زيلينسكي ليس في مسألة السعي للسلام بل في تحديد ما إذا كان السلام المتاح حقيقياً أم مجرد وهم

وهذا هو جوهر المعضلة الاستراتيجية، إذ يجب على أوكرانيا موازنة التخفيف الذي قد يحققه إنهاء الأعمال العدائية مقابل خطر أن تؤدي تسوية ناقصة إلى ترك البلاد أضعف، وعرضة للخطر، ومحكومة في النهاية على خوض الحرب مرة أخرى بمفردها.

صراع الثقافات الاستراتيجية

وربما يكون أبرز ما تكشّف خلال الأشهر الأخيرة لا يحدث على أرض المعركة، بل في عواصم أوروبا، فقد تحوّل شعور الانزعاج الهادئ من مسودة التسوية الأمريكية إلى مقاومة علنية، والسبب واضح: فقد أدركت أوروبا الآن، بفطرتها، أن مصير أوكرانيا هو مصيرها، وبالنسبة لهم، ليست هذه حرباً بعيدة على هامش الخريطة، بل صراعاً يُخاض على خط الفاصل بين التعديلات الاستبدادية للهياكل الإقليمية والمعمار الأمني الذي حافظ على وحدة القارة لعقود، وإذا أُجبرت أوكرانيا على قبول وضعٍ مخفّض (محايد، ومُبتور، ومعرض للخطر إلى أجل غير محدد)، فإن الحدود الشرقية لأوروبا ستتحرك ببساطة نحو الغرب، فالمنطقة العازلة تنهار، والتهديد يقترب أكثر.

وقد أدّى هذا الإدراك بالفعل إلى تحفيز استثمارات غير مسبوقة، فحتى عام 2025، أفادت الناتو بأن جميع الدول الأعضاء أصبحت الآن تحقق معيار الإنفاق الدفاعي البالغ 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي؛ وهو الحد الذي كان يُنظر إليه لسنوات على أنه هدف طموح على أفضل تقدير، وعبر الاتحاد الأوروبي، ارتفعت النفقات العسكرية بنفس الوتيرة، فقد أنفقت دول الاتحاد 343 مليار يورو على الدفاع في عام 2024، وهو مستوى كان من المستحيل تصوره قبل الغزو، مع تخصيص حصة متزايدة باستمرار نحو المعدات والاستعداد القتالي بدلاً من الصيانة البيروقراطية.

وعلى الجناح الشرقي للناتو، فإن التغير أكثر دراماتيكية، فبولندا تنفق الآن نحو 4.5 إلى 4.6٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، كما وسعت دول البلطيق وفنلندا ورومانيا جهودها في المشتريات العسكرية، وقدرات التعبئة، والنشر الأمامي للقوات، وتمثل هذه الأرقام مجتمعة شيئاً لم تظهره أوروبا منذ عقود: الجدية الاستراتيجية، حيث غيّرت الحرب أوروبا، بينما بدا أن المقترح الأمريكي الأولي مصمم على التظاهر بأن هذا التحوّل لم يحدث.

لهذا السبب يُصرّ القادة الأوروبيون على أن أمن أوكرانيا لا يمكن أن يقوم على وعود غامضة أو تفاهمات غير رسمية، فهم يريدون آليات مدمجة في مؤسسات مثل الناتو أو هياكل مرتبطة به مباشرة، وليس مذكرة بودابست أخرى يمكن انتهاكها كيفما شاءت روسيا، وهم يدركون أن الضمانات دون آليات إنفاذ ليست ضمانات على الإطلاق، بل دعوات لديكتاتور روسي أظهر مراراً ميوله للحرب.

ومع شعورها بالانقسام، كانت روسيا حريصة على التفاوض مع واشنطن بمفردها، فهي تدرك أن أوروبا تمثل العقبة، لذلك، ليس من المستغرب أن ترفض موسكو المقترح الأوروبي المضاد باعتباره «غير بناء»، بالضبط لأنه يعيد تأكيد المبادئ نفسها التي تأمل روسيا أن تمحوها هذه الحرب.

الناتو والمستقبل العسكري لأوروبا

إذا حُرِمت أوكرانيا من عضوية الناتو، أو أُجِّل انضمامها إلى أجل غير محدد، فإن الحلف يفقد أحد أهدافه الردعية الأساسية عبر توفير ضمانات أمنية موثوقة للدول التي تسعى للحماية من العدوان الروسي، وأوكرانيا التي تُترك في حالة وسطية، ليست ذات سيادة كاملة ولا محمية بالكامل، تصبح مغناطيساً للأزمات المستقبلية.

علاوة على ذلك، إذا حدّّت الخطة من قدرة أوكرانيا العسكرية، حتى بشكل غير مباشر، فإن ميزان القوى في أوروبا الشرقية سينحاز بشكل حاسم لصالح روسيا، فأوكرانيا منزوعة السلاح أو مسلحة خفيفاً ستخلق فراغاً استراتيجياً يضطر الناتو إلى سدّه، إما بنشر قوات دائمة أكثر، أو بقبول مخاطر أكبر لحدوث صراع مستقبلي.

وسيتعين على التخطيط الدفاعي الأوروبي، الذي يعاني بالفعل من ضغوط كبيرة، أن يتكيف مع عالم تحتفظ فيه روسيا بمكاسبها الإقليمية، وقوتها العسكرية، وثقتها السياسية، وسيختفي نهائياً الوهم القائل بأن النظام الأمني لما بعد الحرب الباردة يمكن أن يعمل دون مواجهة.

حتى مفهوم الضمانات الأمنية خارج الناتو ينطوي على مخاطر عدة، فبدون دمجها في آليات ملزمة قائمة على معاهدات، فإن هذه الضمانات قد تكون فارغة مثل الاتفاقات التي سبقت الحرب، وبدون تلقائية التنفيذ، فإنها تعتمد على الإرادة السياسية، وهذه الإرادة قابلة للتغير، وهذه النقطة بالذات مهمة، إذ أظهرت روسيا مراراً أنها لا يمكن الوثوق بها.

مفهوم الضمانات الأمنية خارج الناتو ينطوي على مخاطر عدة فبدون دمجها في آليات ملزمة قائمة على معاهدات ستكون فارغة

مستقبل سياسة القوة

تمتد التداعيات إلى ما هو أبعد من أوكرانيا وأوروبا، فإذا نجحت روسيا في تأمين تسوية تعترف، صراحةً أو ضمنياً، بمكاسبها الإقليمية، فإن الرسالة إلى العالم ستكون واضحة: الحدود قابلة للتغيير، والقوة تجدي نفعاً، والإدانة الدولية مؤقتة، وسيُحدث هذا سابقة تتردد أصداؤها من شرق آسيا إلى الشرق الأوسط.

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن النتيجة ستؤثر على كيفية إدراك حلفائها وخصومها لمصداقيتها، فالتوصل إلى تسوية متسرعة أو تصالحية قد يعطي الانطباع بعدم صبر أمريكا أو بتقلب مواقفها، وستفسر روسيا والصين وإيران مثل هذه النتيجة على أنها ضعف.

أما بالنسبة لروسيا، فإن المخاطر والتحولات المحتملة هائلة، فنتيجة تفاوضية بشروط ملائمة ستؤكد صحة اعتقاد فلاديمير بوتين بأن التعديلات الجيوسياسية يمكن أن تنجح إذا نُفذت بالإصرار والوحشية والتوقيت الاستراتيجي، وستعيد مثل هذه النتيجة إدماج روسيا في الأسواق العالمية، واستعادة القنوات الدبلوماسية، وإثباتاً للشعب الروسي أن التضحيات تؤدي إلى مكاسب، وكرملين يُقوى بهذه الطريقة لن ينزوي في العزلة، بل سينظر إلى الخارج من جديد.

بالنسبة للنظام العالمي، ستحدد التسوية ما إذا كانت القاعدة المناهضة للغزو الإقليمي، والتي يُفترض أنها الإنجاز الأعظم للنظام الدولي لما بعد عام 1945، ستصمد أم ستنهار عملياً، فإذا استطاعت روسيا غزو جارتها، وضم أراضيها، والحصول على الاعتراف بها بعد أربع سنوات، فإن هذه القاعدة تصبح مجرد طموح، لذا، فإن تسوية أوكرانيا ليست مسألة إقليمية، بل هي استفتاء على ما إذا كان عصر سياسات القوة قد عاد بالفعل، وما إذا كان حُماة النظام الليبرالي مستعدين للدفاع عنه.

 السيناريوهات المستقبلية

في ظل هذه الخلفية الجيوسياسية، تواجه المفاوضات الآن ثلاثة مسارات محتملة، وإن كان يبدو أن مساراً واحداً فقط هو الأنسب من الناحية الاستراتيجية.

الأول، تسوية كاملة: تشمل الاعتراف الرسمي بضمّ روسيا للأراضي، ونزع السلاح الأوكراني، والحياد الدستوري، هي مستحيلة سياسياً، فلن توقع كييف عليها، ولن يقبلها الرأي العام الأوكراني، ولن توافق أوروبا على تبنيها، فهي موجودة فقط في خيال موسكو.

الثاني، هدنة مؤقتة بدون معاهدة: تُجمّد خطوط الجبهة دون حلّ النزاعات السياسية الجوهرية، وهو أمر ممكن وربما مرغوب لأوكرانيا، فهي تحافظ على الغموض الاستراتيجي، وتتجنب التنازلات المهينة، وتبقي احتمال الانضمام إلى الناتو قائماً، لكن روسيا ترفض مثل هذا الاتفاق، لأنه لا يمنحها أي تخفيف للعقوبات ولا يضفي شرعية على مكاسبها.

الثالث، تسوية سياسية هجينة: تُقدّم فيها أوكرانيا تنازلات فعلية، لكن ليس قانونية، بشأن السيطرة الروسية على الأراضي المحتلة؛ وتحصل على ضمانات أمنية غامضة؛ وتقبل قيوداً على حريتها الجيوسياسية؛ وتتلقى دعماً مالياً لإعادة الإعمار مقابل الاستقرار.

هذه النتيجة الهجينة ليست السيناريو الأمثل، بل هي الأكثر احتمالاً فحسب، فهي تمنح كل طرفاً انتصاراً جزئياً، حيث تحتفظ روسيا بالأراضي التي احتلتها، وتتفادى أوكرانيا الاستسلام التام، ويمكن لأوروبا أن تدّعي تحقيق إنجاز دبلوماسي، فيما تستطيع واشنطن القول إنها أنهت صراعاً مكلفاً.

رجال الإطفاء يحاولون إخماد حريق شب بعد ضربة روسية على بولتافا (أ ف ب)




تسوية بلا سلام مع تراجع الولايات المتحدة

مسار المفاوضات الراهن يمثل تسوية هشة تتشكل من الإرهاق والخوف والوهم، تفترض إمكانية إنهاء صراع متجذر في النزعة الإمبراطورية دون مواجهتها، ودبلوماسية صممت ليس لإنهاء الحرب بل لتأجيل محاسبة المسؤولين عنها

مسار المفاوضات يمثل تسوية هشة تفترض إمكانية إنهاء صراع متجذر في النزعة الإمبراطورية دون مواجهتها ودبلوماسية صممت ليس لإنهاء الحرب، بل لتأجيل محاسبة المسؤولين عنها

ومع ذلك، ثمة مأساة أعمق تخفيها اللغة الإجرائية لشروط وقف إطلاق النار والضمانات الأمنية، فلو كانت الولايات المتحدة متماسكة ودولية التفكير، ولا تزال تؤمن بأن قوتها تخدم غرضاً يتجاوز المصالح اللحظية، لكان الموقف مختلفاً، فلعقود طويلة، كانت واشنطن تعمل كمُثبّت نهائي للنظام الدولي، والدولة الوحيدة القادرة على إمالة الكفة لصالح الديمقراطيات وضد استبداد العالم، إذ كانت غير كاملة، لكنها كانت حاضرة.

الاتفاق الذي يتشكل الآن هو، بطريقته الخاصة، دليل واضح على نهاية تلك الحقبة، فهو يعكس الولايات المتحدة التي لم تعد ترى نفسها وصية على أي نظام على الإطلاق، بل قوة تتاجر وتساوم وتنسحب وفق مزاجها، والرسالة إلى الحلفاء واضحة بلا لبس: لم يعد الأمن مضموناً بمبدأ ثابت، بل بمصلحة عابرة؛ ولم يعد قائماً على الاستقرار، بل على قرارات تُتخذ ارتجالاً.

تستحق أوكرانيا شيئاً أكثر قوة، وكذلك أوروبا، والنظام الدولي الذي بُني بعناية، وبشكل غير كامل، على أساس أن الحدود لا يمكن تغييرها بالقوة، وأن الديمقراطيات تحمي بعضها البعض لأن أحداً آخر لن يفعل ذلك، لكن الحروب لا تنتهي لأن العدالة تقتضي ذلك؛ بل لأنها تنتهي حين يختار الفاعلون السياسيون بدائل ناقصة وغير كاملة.

المأساة تكمن في أن الخيار الأقل سوءاً هو المتاح، وهذا الاتفاق الهجين، قد يعمّق بالضبط المخاطر التي يدّعي تفاديها: “روسيا انتقامية، وأوروبا مُقسّمة، وأمريكا لم تعد تتذكر معنى القيادة”.