Eagle Intelligence Reports

الموانئ والطاقة وصراع النفوذ بين أمريكا والصين

Eagle Intelligence Reports • ديسمبر 6, 2025 •

لطالما جذب الموقع الجيوستراتيجي لشرق البحر المتوسط القوى الخارجية الساعية إلى توسيع نفوذها، إلا أن المرحلة الحالية تمثل تحولاً عن الأنماط السابقة، فالأمر الذي كان يُحدد سابقاً من خلال الوجود العسكري وهياكل التحالفات، بات اليوم يتجسّد عبر أدوات اقتصادية تتمثل في السيطرة على الموانئ وسلاسل الإمداد والبنى التحتية الحيوية، والتي أصبحت تحدد النتائج الاستراتيجية دون الحاجة لاستخدام القوة بشكل ظاهر.

يُظهر تطوّر ميناء بيرايوس هذا التحوّل بوضوح كبير، فالميناء الذي كان يُنظر إليه في البداية على أنه صفقة تجارية بحتة خلال أزمة اليونان المالية، أصبح اليوم نقطة تحوّل استراتيجية، وحالة نموذجية داخل الاتحاد الأوروبي والناتو، حيث أدّت السيطرة الصينية على بنية تحتية حيوية إلى رد فعل جيوسياسي علني، وتشير المواجهة الدبلوماسية الأخيرة بين واشنطن وبكين حول الميناء إلى أن الأصول التجارية في المنطقة لم تعد تُعامل كمسألة اقتصادية محايدة، بل أصبحت مؤشراً على التوجّه الاستراتيجي طويل المدى.

عملياً، سمح التوسع الصيني من ميناء بيرايوس وصولاً إلى منطقة قناة السويس الاقتصادية للصين بترسيخ نفوذها في سلاسل الإمداد عند نقطة العبور الحيوية بين البحر المتوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

التوسع الصيني من ميناء بيرايوس وصولاً إلى قناة السويس سمح للصين بترسيخ نفوذها في سلاسل الإمداد عند نقطة العبور الحيوية بين البحر المتوسط والهندي والهادئ

 وفي المقابل، تعيد الولايات المتحدة ضبط استراتيجيتها، من مجرد إدارة المخاطر بشكل سلبي إلى جهود تهدف إلى إعادة التوازن في التعرض الهيكلي عبر شركائها الإقليميين، وفي الوقت نفسه، يفتح انضمام مصر إلى مجموعة بريكس+ آفاقاً جديدة للتمويل وآليات للتنسيق يمكن أن تغيّر، مع مرور الوقت، توزيع النفوذ الإقليمي.

وتشير هذه التطورات مجتمعة إلى أنه رغم استمرار القوة العسكرية في موقعها المركزي، فإن النفوذ الاستراتيجي أصبح يُمارس بشكل متزايد من خلال إدارة الروابط والاتصال والسيطرة على البنية التحتية الحيوية، وهو ما يحمل تداعيات بعيدة المدى على الاستقرار الإقليمي، وأمن أوروبا، ومرونة التجارة العالمية.

توسع النفوذ الصيني في الموانئ وسلاسل الإمداد

تمتلك الشركات الصينية في مصر الآن مواقع استراتيجية في كلا طرفي قناة السويس، وهي متواجدة أيضاً في مختلف القطاعات الاقتصادية، وبحلول أوائل 2025، تجاوزت الاستثمارات وفقاً للتقارير 7 مليارات دولار، شملت منطقة الأعمال المركزية في العاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع طاقة رياح بقدرة 1.1 غيغاواط، ومصنع أمونيا بقيمة 5.1 مليارات دولار، فيما تتجه شركات السيارات الصينية نحو إنتاج السيارات الكهربائية محلياً، وتكمّل هذه المشاريع البنية اللوجستية في العين السخنة وشرق بورسعيد، محوّلةً مصر من مجرد نقطة عبور إلى منصة للإنتاج والتوزيع ضمن سلاسل القيمة المرتبطة بالصين.

في اليونان، تكمن أهمية الصين في حجم الاستثمار أكثر من موقعها الهيكلي، حيث تُشكل حصة شركة كوسكو الأغلبية في ميناء بيرايوس وهو الرئيسي الوحيد الذي تسيطر عليه الصين داخل الاتحاد الأوروبي، ما يمنح بكين نفوذاً عند تقاطع سلاسل التوريد الأوروبية والجناح الجنوبي-الشرقي لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

وقد أدى ربط الميناء بشبكات السكك الحديدية الممتدة نحو البلقان إلى نشوء “ممر لوجستي” يعيد توجيه جزء من تدفقات التجارة بين آسيا وأوروبا عبر بنى تحتية صُمّمت بما يتماشى مع الأولويات التجارية الصينية، بالإضافة إلى ذلك، تمتلك الصين حصة بنسبة 24% في مشغل الشبكة الكهربائية الوطنية عالية الجهد (ADMIE)، حيث يُترجم وجودها إلى تأثير على مستوى النظام بدلاً من التأثير على المعاملات، وكذلك على القرارات التشغيلية والنقاشات التنظيمية وسرعة التنويع ونتيجة لذلك، اعتمدت أثينا بشكل متزايد استراتيجية متوازنة، تعزز التوافق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع احترام الاتفاقيات القائمة مع بكين، من أجل إدارة التعرض دون إثارة الانتقام الاقتصادي أو الدبلوماسي.

عمال بناء مصريون وصينيون في منطقة الأعمال والمال في العاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة (أ ف ب)
استراتيجية أمريكا لإعادة توازن النفوذ الصيني

تسعى واشنطن الآن إلى التأثير على الظروف التشغيلية العامة التي تُتخذ فيها قرارات البنية التحتية، ويشمل ذلك مراقبة أشد للمشغلين الأجانب في المراكز البحرية والرقمية الرئيسية، وتشجيع مسارات استثمارية بديلة تتراوح بين التمويل المدعوم من الولايات المتحدة والمشاركة من القطاع الخاص، بالإضافة إلى دمج قرارات الموانئ ضمن مبادرات أوسع تشمل ترابط الطاقة، والوصول البحري، والحوار الأمني الناشئ حول البحر الأحمر.

 الهدف ليس مجرد إحباط التوسع الصيني، بل منع الاعتماد الهيكلي من خلال تمكين الشركاء من التنويع دون تكبّد عقوبات اقتصادية، ويمثل هذا تحولاً عن النهج الأمريكي السابق، الذي كان يركز على القوة العسكرية ويعتبر البنية التحتية التجارية جانباً ثانوياً، أما اليوم، فتُعد الموانئ وأنظمة البيانات واللوجستيات المرتبطة بالطاقة جزءاً أساسياً من مرونة التحالفات.

ضمن هذا التحول الأوسع، أصبحت اليونان مثالاً واضحاً أكثر منها حالة استثنائية، فهي تحتضن أهم ميناء تسيطر عليه الصين داخل الاتحاد الأوروبي، وتقع عند مفترق الجناح الجنوبي الشرقي للناتو ومسارات الطاقة الناشئة، وفي هذا السياق، تعكس السياسة الأمريكية تجاه اليونان منطقاً إقليمياً، يسعى لإعادة ضبط مستوى التعرض للصين مع إظهار أن التنويع ممكن ومستدام سياسياً.

أصبحت اليونان مثالاً واضحاً أكثر منها حالة استثنائية فهي تحتضن أهم ميناء تسيطر عليه الصين داخل الاتحاد الأوروبي

 توضح هذه التحركات كيف تحاول واشنطن تشكيل البيئة الإقليمية بدلاً من التركيز على أصول منفردة، ويظهر هذا التعديل بوضوح أكبر في اليونان، حيث تحول ميناء بيرايوس من كونه يُنظر إليه في الأساس كامتياز تجاري إلى أحد أكثر الملفات متابعة عن قرب في سياق التنافس بين الولايات المتحدة والصين داخل الاتحاد الأوروبي.

ميناء بيرايوس كحالة اختبار استراتيجية

يشكّل التبادل العلني الأخير بين السفارتين الأمريكية والصينية في أثينا تحولاً نوعياً في طريقة التنافس على ميناء بيرايوس، فالأمر الذي كان يُدار سابقاً بشكل سري أصبح الآن جزءاً من إشارات دبلوماسية مفتوحة، ما يبرز تحوّل الميناء من مجرد قصة نجاح تجارية إلى رمز للتعرض الاستراتيجي داخل الاتحاد الأوروبي والناتو.

وتشير مقترحات واشنطن إلى أن تقليص النفوذ الصيني قد يعزز الصمود، ورد بكين الفوري، إلى أن بيرايوس لم يعد يُنظر إليه كأصل منفرد، بل أصبح بمثابة مختبر حي للتنافس النفوذي داخل دولة حليفة، ما يقلص قدرة أثينا التقليدية على الموازنة بين الأطراف.

إليفسينا كثقل موازن متعمد

في ظل هذا الاهتمام المتزايد بميناء بيرايوس، اكتسبت الاتفاقية الأخيرة، التي تسمح لتحالف ONEX-DFC المدعوم من الولايات المتحدة في أحواض بناء السفن إليفسينا بالتوسع في الأنشطة المرتبطة بالموانئ، أهمية استراتيجية متزايدة، فبدلاً من كونها تطويراً صناعياً روتينياً، تعكس هذه الاتفاقية جهداً منسقاً بين واشنطن وأثينا لتنويع البنية التحتية في منظومة الموانئ اليونانية.

من الناحية العملية، يُظهر ميناء بيرايوس جانباً من الديناميكية الناشئة، ففي الأماكن التي تبلور فيها النفوذ الصيني بالفعل، تركز الاستراتيجية الأمريكية واليونانية على التنويع المدروس بدل التراجع القسري، أما مصر فتمثل المسار المعاكس، حيث لا يزال النفوذ الصيني في توسع، ويحوّل وزنه الاقتصادي إلى توافق مؤسسي، وفي تزايد تدريجي نحو المجال الأمني أيضاً.

انضمام مصر إلى مجموعة بريكس+  

تُعد مصر أكثر الدول انفتاحاً على الصين في شرق البحر المتوسط، رغم تلقيها تمويلاً عسكرياً أمريكياً خارجياً سنوياً بقيمة 1.3 مليار دولار، وعلى عكس دول إقليمية أخرى بدأت بإعادة تقييم مستوى تعرضها لبكين، واصلت القاهرة توسيع التعاون عبر المجالات الاقتصادية والمؤسسية، والآن العسكرية.

تُعد مصر أكثر الدول انفتاحاً على الصين في شرق البحر المتوسط رغم تلقيها تمويلاً عسكرياً أمريكياً خارجياً سنوياً بقيمة 1.3 مليار دولار

 وبحلول مارس 2025، تجاوزت الاستثمارات الصينية في مصر 7 مليارات دولار، مع توقع تنفيذ مشاريع إضافية، إذ تبني الشركات الصينية منطقة الأعمال المركزية في العاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع طاقة رياح بقدرة 1.1 غيغاواط في خليج السويس، ومصنع أمونيا بقيمة 5.1 مليار دولار مخصص للتصدير إلى الأسواق الأوروبية، كما أعلنت شركة السيارات الصينية BAIC عن خطط لإنشاء مصنع للسيارات الكهربائية، ما يعزز دور القاهرة كحاضنة تصنيع محتملة ضمن سلاسل الإمداد المرتبطة بالصين.

الدلالة الاستراتيجية  

علاوة على ذلك، يمثل انضمام مصر إلى بريكس+ أكثر من مجرد تنويع رمزي، فهو يشير إلى تحول نحو حوكمة اقتصادية بديلة وعزلة مالية جزئية في وقت تعاني فيه البلاد من هشاشة كبيرة، وتتيح العضوية الوصول إلى قنوات تمويل جديدة عبر بنك التنمية الجديد، وفرصاً محتملة لتخفيف نقص الدولار، وخيار تسوية التجارة بالعملات الوطنية، وتكتسب هذه الأمور أهمية خاصة لاقتصاد يعاني من ضغوط الديون الخارجية، والتضخم، واحتياطيات محدودة من العملات الصعبة.

على المستوى الجيوسياسي، توفر مجموعة بريكس+ لمصر منصة لتقليل الاعتماد على المؤسسات الغربية دون الحاجة إلى إعادة توجيه رسمي لعلاقاتها، حيث تعزز هذه الخطوة استراتيجية القاهرة القائمة على عدم الحصرية الاستراتيجية، من خلال الحفاظ على العلاقات الأمنية مع واشنطن مع الاستفادة من بكين وبقية أعضاء بريكس، بما في ذلك دول الخليج، لتأمين هامش من المناورة الاقتصادية، أما بالنسبة للصين، فإن عضوية مصر تكرّس الشراكة التي كانت تعتمد سابقاً على القروض الثنائية، ما يجعل دور بكين أكثر استدامة وأقل عرضة للضغط الأمريكي.

تعزز مجموعة بريكس+ أيضاً جهود الصين الأوسع لإعادة توجيه الشبكات العالمية بعيداً عن الآليات التي تهيمن عليها الدول الغربية، فمشاركة مصر تربط قناة السويس، أهم نقطة اختناق بحرية في العالم، بكتلة ناشئة تدعم أنظمة دفع بديلة وتعاوناً صناعياً بين الدول النامية، ومن الناحية العملية، يمنح هذا بكين نفوذاً ليس فقط على البنية التحتية المصرية، بل على القواعد والمنصات التي تحدد كيفية حركة التجارة والتمويل عبر شرق البحر المتوسط.

انضمام دول إلى مجموعة بريكس+ يعزز جهود الصين الأوسع لإعادة توجيه شبكات الارتباط العالمية بعيداً عن الآليات التي يهيمن عليها الغرب

 الأبعاد الأمنية الناشئة

بعيداً عن الاقتصاد، اكتسبت العلاقات الصينية–المصرية بعداً أمنياً جديداً، ففي عام 2025، أجرت الدولتان أول تدريبات جوية مشتركة لهما تحت اسم “نسور الحضارة 2025″، بمشاركة مقاتلات صينية من طراز J-10C، وقد فسّرها الكثيرون كفرصة للقوات الجوية المصرية لتقييم الأنظمة الصينية المتقدمة ودراسة إمكانية شرائها، كما أكدت القاهرة نشر منظومة الدفاع الجوي طويلة المدى HQ-9B في سيناء، ما يشكل تطوراً ملحوظاً في التعاون الدفاعي مع أقوى قوة عسكرية في العالم العربي.

النتيجة هي نموذجٌ هجينٌ من التوافق، واندماج اقتصادي مرتبطٌ بوصولٍ أمنيٍّ انتقائي، ما يُعمّق الدور الإقليمي للصين مع الحفاظ على سياسة الإنكار المقبولة والمرونة الاستراتيجية، ومع تعزيز الصين لنفوذها في مصر، وتعزيز الولايات المتحدة لتنويع اقتصادها في اليونان، بدأت المنطقة تعكس نموذجين متوازيين من التنافس بين القوى العظمى، يحمل كلٌّ منهما مخاطرَ مُختلفة على الاستقرار الإقليمي.

التداعيات على الاستقرار الإقليمي والتنافس بين القوى الكبرى

تبرز ثلاثة ديناميكيات رئيسية:

أولاً، يتجه الإقليم نحو نظم اتصال مزدوجة، ففي اليونان ودول أخرى متحالفة مع الولايات المتحدة، تتمثل الأولوية في التنويع المدروس، لتقليل الاعتماد على العقود الخاضعة للسيطرة الصينية دون السعي لعكس الأصول المدمجة مثل ميناء بيرايوس.

أما في مصر، وبشكل متزايد في تركيا، فالصين توسع حضورها من خلال الاستثمارات الصناعية، وأدوات التمويل، والتعاون الدفاعي الانتقائي، وإذا تعمقت هذه المسارات بالتوازي، فإن شرق البحر المتوسط يواجه خطر تطوير نظم لوجستية وتنظيمية مجزأة، حيث تتماشى الموانئ، وتدفقات البيانات، وآليات الدفع مع جهات خارجية مختلفة، ولن تعكس هذه التجزئة التوترات الجيوسياسية فحسب، بل قد تتحول إلى انقسام هيكلي متفاقم.

ثانياً، تتزايد هشاشة المنطقة تجاه الأزمات أسرع من قدرتها على إدارتها: لقد أظهرت الاضطرابات في البحر الأحمر وصراع أوكرانيا مدى سرعة زعزعة استقرار سلاسل الإمداد الإقليمية، ففي بيئة ترتبط فيها العقد الحيوية بجهات خارجية متنافسة، يمكن للصدمات المحلية -سواء في حركة المرور بقناة السويس، أو تدفقات الطاقة، أو حالة عدم الاستقرار السياسي- أن تولّد تأثيرات متسلسلة عبر عدة ممرات لوجستية، حيث يزيد غياب المعايير المشتركة وآليات التنسيق أو أطر تفادي الصدامات من خطر أن تتحول الترابطات الاقتصادية من قوة مهدئة إلى مصدر عدم استقرار.

ثالثاً، تكسب الدول الإقليمية نفوذاً، لكن بهوامش ضيقة: حيث تشير هذه الديناميكيات مجتمعة إلى تحول تدريجي من التحوط المرن نحو القيود الهيكلية، حيث تبدأ خيارات الربط والاتصال في تشكيل التحالفات طويلة الأمد، حتى من دون إعادة توجيه رسمي للعلاقات.

الصين تعد قناة السويس نقطة عبور حيوية لها بين البحر المتوسط والهندي والهادئ (أ ف ب)
  السيناريوهات:  
 الاستقرار المُدار (أفضل الحالات):

يتقدم التنويع الاقتصادي دون مواجهة، حيث يظل ميناء بيرايوس موقعاً مهماً تجارياً ولكنه لم يعد مهيمناً، وتمتص إليفسينا الضغوط، فتستفيد مصر من تمويل مجموعة بريكس+ دون تعميق اعتمادها على الدفاع.

النتيجة: تعايش تنافسي مع انخفاض مستوى الضعف.

التوازن التنافسي (المرجح):

يتمثل بنظامين متكاملين للاتصال، أي تنويع اقتصادي متماشي مع الولايات المتحدة في اليونان، وتوسع اقتصادي مرتكز على الصين في مصر وتركيا، حيث تتباعد المعايير وأنظمة الدفع دون تصعيد مباشر.

النتيجة: احتكاك مُدار، مع بؤر توتر دورية، مع الحفاظ على الاستقلالية.

الانقسام الهيكلي (المخاطرة)

تتحول قرارات البنية التحتية إلى خيارات حصرية، حيث تتفرع سلاسل التوريد وأنظمة البيانات، وتُطلق الأزمات تصعيداً جيوسياسياً.

النتيجة: ضعف منهجي، وتقلص مساحة التحوط، وارتفاع المخاطر الاستراتيجية.

ويجب توضيح أنه سواء استقرت هذه الديناميكيات في توازن عملي يمكن التعامل معه، أو تحولت إلى تجزئة هيكلية، فإن ذلك سيحدد دور شرق البحر المتوسط في المرحلة التالية من التنافس العالمي.

 محددات الاستقرار أو التصعيد

مع ذلك، إذا بدأت البنية التحتية والأطر التنظيمية بالتوافق التام مع الكتل الاستراتيجية المتعارضة، فقد يصبح الانقسام هيكلياً وليس مؤقتاً، أما العامل الثاني يتعلق بقدرة إدارة الأزمات على مستوى العقد الحرجة، حيث أظهرت الاضطرابات الأخيرة في البحر الأحمر والصراع في أوكرانيا مدى سرعة تسلسل الصدمات عبر سلاسل التوريد المترابطة.

وفي غياب معايير مشتركة، أو آليات تنسيق، أو أطر عمل لفض النزاعات، قد تتفاقم الاضطرابات المحلية في حركة قناة السويس، أو تدفقات الطاقة، أو الاستقرار السياسي، لتتحول إلى ضعف على مستوى النظام.

أما العامل الثالث يتعلق بتضييق هامش المناورة بين الدول الإقليمية، ففي الوقت الحالي، تواصل اليونان ومصر وتركيا جني الفوائد من كل من الولايات المتحدة والصين، مستخدمةً الوصول والبنية التحتية كأدوات للتفاوض، ومع ذلك، مع ربط واشنطن التعرض لمرونة التحالف، وترسيخ بكين لنفوذها من خلال آليات اقتصادية ومؤسسية تعتمد على المسار، يصبح التحوط مقيداً بشكل متزايد، حيث تحمل القرارات الفنية عواقب استراتيجية طويلة الأجل.

وإذا أخذنا هذه الديناميكيات في مجموعها، فإنها سوف تحدد ما إذا كانت المنطقة ستستقر في حالة توازن قابلة للتطبيق أم أنها سوف تدخل في دورة من الضغوط المتصاعدة، حيث تبدأ خيارات الاتصال في تحديد التوافق مسبقاً بدلاً من عكسه.

مقدمة استراتيجية

يتحوّل شرق البحر المتوسط من مسرح ثانوي إلى نموذج أولي يوضح كيف ستتطور منافسة القوى الكبرى على الصعيد العالمي، فقد أصبح النفوذ الصيني، الذي كان في السابق مقتصراً على عمليات الاستحواذ الانتهازية على الموانئ، متجذراً الآن في مجالات اللوجستيات والطاقة والإنتاج الصناعي وأدوات العملة، ما يمنح بكين تأثيراً واسعاً دون وجود عسكري كبير.

شرق البحر المتوسط يتحوّل من مسرح ثانوي إلى نموذج أولي يوضح كيف ستتطور منافسة القوى الكبرى على الصعيد العالمي

في الوقت نفسه، تُكيّف الولايات المتحدة وضعها الإقليمي، منتقلةً من التحذيرات الانفعالية إلى جهودٍ مُصمّمة لإعادة تشكيل المخاطر الهيكلية واستعراض بدائل قابلة للتطبيق.

 والسؤال الآن ليس ما إذا كانت المنافسة ستستمر، بل ما إذا كانت ستظلّ تحت السيطرة، إذا استمرّ التنويع الاقتصادي والمشاركة المؤسسية دون تصعيد، فقد تُصبح المنطقة نموذجاً لحوكمة البنية التحتية الخالية من الصراعات، وإن لم يحدث ذلك، فقد تُصبح منطقةً لنقاط ضعفٍ مُركّبة، حيث يُغذّي الترابط الاقتصادي انعدام الأمن بدلاً من المرونة.

في كلتا الحالتين، لن تظل الديناميكيات التي تتكشف في شرق البحر المتوسط محصورة في المنطقة، فمن المرجح أن تؤثر في السياسات المتبعة عند نقاط الاختناق الأخرى، من البحر الأحمر ومضيق هرمز إلى المحيط الهندي الغربي، وصولاً إلى القطب الشمالي، ما يجعل هذه المنطقة ليست استثناءً، بل واحدة من أوائل ميادين الاختبار للمرحلة القادمة من المنافسة العالمية.