عادت إلى أوروبا اليوم معضلة استراتيجية قديمة، لكن بحدة لم تُشهدها منذ الحرب الباردة، فحرب روسيا في أوكرانيا لم تعد مجرد صراع على الأراضي، ولا حتى معركة حول مستقبل دولة واحدة، بل أصبحت، قبل كل شيء، مختبراً لفعالية الردع ذاته، فمع كل شحنة أسلحة، وكل إعلان عن دعم “صارم”، يُجبر العواصم الأوروبية على مواجهة سؤال مُلحّ: هل يمكن تقديم ضمانات أمنية موثوقة من دون الولايات المتحدة؟، فعلى مدى سبعة عقود، ظل هذا السؤال أقرب إلى مجرد نقاش أكاديمي بحت.
وُجد حلف الناتو كمشروع أمريكي، مدعوم بالسلاح النووي للولايات المتحدة ويستند إلى يقين التدخل الأمريكي، أما اليوم، فقد تزعزعت هذه الثقة، فعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إلى جانب ضعف الاستثمارات الدفاعية الأوروبية منذ نهاية الحرب الباردة، وأوهام بوتين الإمبريالية الجديدة، حوّلت ما كان في السابق مجرد نظرية إلى مشكلة وجودية، وقد يجد الأوروبيون أنفسهم قريباً أمام احتمال ضمان أمن أوكرانيا سواء تحت مظلة واشنطن أو من دونها.
في بروكسل وبرلين وباريس ووارسو، نقاش واسع بالفعل يطرح خيارات عدة: هل يجب عرض عضوية الناتو على أوكرانيا؟، ما سيُلزم جميع دول أوروبا بالدفاع عنها، وهل يجب تقديم ضمانات بديلة، أقل رسمية ولكنها لا تزال قوية؟، وهل ينبغي على الأوروبيين صياغة مبادئ جديدة أو حتى تطوير أسلحة جديدة لتعويض ما قد لا توفره أمريكا بعد الآن؟، كل خيار من هذه الخيارات محفوف بالمخاطر، ويصطدم بقيود سياسية وعسكرية ونفسية.
جدل واسع في بروكسل وبرلين وباريس ووارسو حول ما إذا كان ينبغي عرض عضوية الناتو على أوكرانيا ما سيُلزم أوروبا كلها بالدفاع عنها أم أنه ينبغي ابتكار ضمانات بديلة
لكن ما يوحدهم جميعاً الآن هو إدراك أن الردع ليس مفهوماً مجرداً، بل هو واقعٌ يُعاش، حيث يستكشف الخصوم الخطوط الحمراء، ويدرس الحلفاء تطبيقها، ومع ذلك، بالنسبة لأوروبا، لم يعد التحدي افتراضياً، بل آنياً، فالفشل لن يعني هزيمة أوكرانيا فحسب، بل تآكل الأمن الأوروبي نفسه.
لقد تجسد هذا الواقع بوضوح في الأيام الأخيرة، حيث اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين إحدى أكثر الأفكار تحديداً حتى الآن: نشر قوات بقيادة أوروبية في أوكرانيا، مع دور داعم للولايات المتحدة، وقد مثل اقتراحها انحرافاً حاداً عن الضمانات الورقية في الماضي، حيث كان الهدف من هذه الخطوة هو الردع من خلال الوجود الفعلي بدلاً من الوعود.
مع ذلك، في غضون ساعات، رفض وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس من الحزب الاشتراكي الديمقراطي هذه الفكرة علناً، محذراً من أن بروكسل لا تملك التفويض ولا الإجماع السياسي لإرسال جنود إلى منطقة حرب حقيقية، إذ تلخص هذه المبادلة مأزق أوروبا.
تُشير رؤية فون دير لاين إلى ضرورة تجاوز الرمزية، وتعريض الأوروبيين للخطر بشكل مباشر لجعل الردع ملموساً، لكن رد بيستوريوس يعكس حدود المؤسسات المتصدعة والجماهير المترددة، وبين هذين القطبين يكمن السؤال الذي سيحدد مصير أوكرانيا وأوروبا: هل يمكن تحويل المقترحات الجريئة إلى ضمانات موثوقة قبل أن تُعلن موسكو عن خدعتها؟.
لم يكن هذا الجدل حول العقيدة فحسب، بل كان حول خطوط الصدع داخل أوروبا نفسها، حيث غالباً ما تتفكك الوحدة بشأن أوكرانيا على أسس شرقية–غربية.
في النهاية، تتعقد الوحدة السياسية لأوروبا بسبب اختلاف وجهات النظر بين دول الأعضاء الغربية والوسطى/الشرقية، حيث تشكل ذكريات تاريخية عميقة وأولويات إقليمية، مواقف متفاوتة تجاه المواجهة مع روسيا وتقاسم الأعباء.
على سبيل المثال، تظل بولندا ودول البلطيق من أبرز الداعمين للضمانات القوية، بينما تواصل دول مثل هنغاريا عرقلة المبادرات المالية والسياسية على مستوى الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك انضمام أوكرانيا وتوسيع نطاق تمويل الدفاع، وفي المقابل، غالباً ما تركز وجهات النظر الفرنسية-الألمانية على الحذر الدبلوماسي وإدارة التكاليف، ما يخلق توتراً حول التدابير الجريئة والمحفوفة بالمخاطر للردع.
هذا الانقسام يعقد أي توافق بشأن نشر القوات، سواء كانت فرقاً مزدوجة المهام أو بطاريات صواريخ مشتركة، إذ تدفع الدول الشرقية نحو الردع الملموس والمتقدم، بينما عواصم الغرب، التي يحدها الناخبون المتخوفون من التورط والقيود المالية، أقل حماسة، ومن دون آليات تُوائم بين هذه التوترات الداخلية -تضم أدوات تمويل على مستوى الاتحاد الأوروبي مثل أداة دعم أوكرانيا أو المشتريات المشتركة عبر استراتيجية الدفاع الصناعي الأوروبية- فإن الانقسامات السياسية في القارة قد تعرقل تقديم ضمانات موثوقة حقيقية.
على مدار أكثر من عقد من الزمن، عاد صانعو السياسة الغربيون، بشكل شبه روتيني، إلى نفس مجموعة الضمانات الأمنية التقليدية لأوكرانيا، حيث كانت المعاهدات والمذكرات أرخص وسائل الاطمئنان، وأقلها موثوقية.
وقعت روسيا العشرات من التعهدات الرسمية لاحترام سيادة جيرانها، مثل: اتفاقيات هلسنكي عام 1975، وميثاق باريس عام 1990، ومذكرة بودابست عام 1994، ومع ذلك، لم تمنع أي منها غزو موسكو لجورجيا في 2008، أو القرم في 2014، أو الهجوم الكامل على أوكرانيا في 2022، لذا فإن تقديم وثيقة أخرى لكييف لن يكون بداية جديدة بل محاكاة غير منصفة للتاريخ، فالأوكرانيون يعرفون أكثر من أي شخص آخر أن روسيا توقّع المعاهدات عندما تكون ضعيفة، وتتنكر لها عندما تكون قوية، وتقوم بهذه الممارسات على أنها إثبات لسذاجة الغرب.
الأوكرانيون يعرفون أكثر من غيرهم أن روسيا توقّع المعاهدات عندما تكون ضعيفة وتتخلص منها عندما تصبح قوية وتتعامل مع الأمر كله كدليل على سذاجة الغرب
مفهوم المناطق العازلة ليس حديثاً، فخلال الحرب الباردة، لم تكتسب المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين الشمالية والجنوبية مصداقيتها إلا بفضل وجود عشرات الآلاف من القوات الأمريكية ودعم الأسلحة النووية الأمريكية، أي لا يمكن تصور وجود شيء بهذا الحجم على السهول الواسعة والمفتوحة الممتدة من خاركيف إلى أوديسا.
حدود أوكرانيا شاسعةٌ للغاية ومخترقةٌ لدرجة يصعب معها تأمينها ببضعة خطوط محايدة يحرسها مراقبون دوليون، كما أن أي خط منزوع السلاح لن يمنع أدوات حرب القرن الحادي والعشرين من الطائرات بدون طيار، والهجمات الإلكترونية، ووحدات التخريب، وصواريخ كروز، لذلك إن طرح مثل هذا الاقتراح اليوم هو خلطٌ بين الجغرافيا والتكنولوجيا والحنين إلى الماضي.
قوات حفظ السلام أيضاً تنتمي إلى عالم الوهم الدبلوماسي، إذ يمكن للأمم المتحدة، أو ربما الاتحاد الأوروبي، إرسال قوات حفظ سلام إلى الأراضي الأوكرانية، لكن ما الذي سيحققونه؟.
في البوسنة خلال التسعينيات، وقفت قوات حفظ السلام عاجزة وهي تراقب المجازر التي تقع من حولها، فالوحدات المسلحة تسليحاً خفيفاً تعمل كشهود على الفظائع، لا كمانعة لها، وفي أوكرانيا، سيكونون أكثر عرضة للخطر، مثل رهائن يعتمد مصيرهم كلياً على حسن نية الكرملين.
تشترك جميع هذه المقترحات في العيب نفسه، فهي لا تعتمد على القوة الغربية، بل على ضبط النفس الروسي، حيث بنت روسيا إمبراطوريتها الحديثة بالضبط من خلال استغلال هذه الأوهام، مثل فكرة أن الاتفاقيات والمناطق المحايدة والمراقبين الدوليين يمكن أن تروض نظاماً لا يحترم سوى القوة، لذلك إذا كانت أوروبا جادة بشأن الردع، فعليها تجاوز هذه الأفكار الفارغة ومواجهة ما تتطلبه الضمانات الحقيقية بالفعل.
لكن إذا كانت الخيارات المألوفة قد فشلت، فما تبقى هو ما لم يُجرّب بعد، وأكبر مهمة لأوروبا هي التخلص من عقود من السلبية الاستراتيجية ومواجهة الخيارات التي تم تجنبها طويلاً، ليست أي منها سهلة، وبعضها محمّل بالمتاعب السياسية؛ والبعض الآخر مُرهق عملياً، لكن جميعها تشترك في فضيلة واحدة: أنها تتجاوز الرمزية نحو الردع الحقيقي، ذلك النوع الذي يجبر موسكو على مواجهة العواقب حتى في عالم لم يعد يمكن فيه افتراض موثوقية واشنطن.
منذ عام 1949، ارتكز الأمن الأوروبي على مفارقة، أن واشنطن قد تُخاطر بنيويورك لإنقاذ برلين، لكن اليوم، لم تعد هذه المفارقة ذات مصداقية، إذا أعلن ترامب أو خليفته أن المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو مشروطة، فإن الجناح الشرقي لأوروبا يصبح مكشوفاً، ومع ذلك، تمتلك القارة قوتين نوويتين: فرنسا والمملكة المتحدة، ولديهما معاً نحو 500 رأس نووي يمكن إطلاقها بواسطة الغواصات والطائرات، ولم يقم أيٌ من هذين البلدين تاريخياً بوضع رادعهما النووي لحماية القارة.
بنى شارل ديغول قوة الردع الفرنسية تحديداً لتجنب الاعتماد على الآخرين، بينما ظلت بريطانيا مرتبطة بالولايات المتحدة في الاستهداف وتكامل الأنظمة، لكن في غياب أمريكا، يمكن تخيلها “مظلة نووية خفيفة”.
القارّة لديها قوتين نوويتين (فرنسا والمملكة المتحدة) تمتلكان 500 رأس نووي يمكن إطلاقها بواسطة الغواصات والطائرات ولم تقم أي منهما بوضع رادعهما النووي لحماية القارة
وفي الواقع، قدمت باريس بالفعل الحماية لألمانيا تحت مظلتها، وبالتالي، يمكن لفرنسا وبريطانيا إعلان مشترك بأن أي هجوم نووي روسي على أوكرانيا أو القوات الأوروبية المتمركزة هناك سيستدعي رداً نووياً، حتى الغموض، إذا تم تعمد ترويجه، سيكون ذا أهمية، فخلال الحرب الباردة، غالباً ما كان السوفييت يتصرفون ليس انطلاقاً من يقينهم بشأن رد فعل الناتو، بل انطلاقاً من حالة من عدم اليقين.
ومع ذلك، لا شك أن العقبات هائلة، فالرأي العام في كلا البلدين لا يزال حذراً من التورط النووي، وتوسيع نطاق الردع خارج الناتو من شأنه أن يثير غضباً داخلياً، ولكن من الناحية الاستراتيجية، قد يُثير مجرد التلميح إلى مثل هذه المظلة تردداً في موسكو، فالردع، في نهاية المطاف، نفسي بقدر ما هو مادي.
إذا كانت الضمانات النووية غير واردة سياسياً، فإن الدفاعات الصاروخية قد توفر بديلاً عملياً أكثر، فقد كانت أكثر الضربات تدميراً التي وجهتها روسيا إلى أوكرانيا ليست من الدبابات، بل من السماء مثل: الصواريخ المجنحة، والصواريخ الباليستية، والطائرات بدون طيار الإيرانية.
إن حماية سماء أوكرانيا ستقلل من التفوق الهجومي لموسكو، وتُجسّد مصلحة أوروبا في بقاء كييف، كما يمكن لمظلة دفاع جوي دائمة تُدار من قِبل أوروبا أن تجمع بين أنظمة آرو الألمانية-الإسرائيلية، وأنظمة سكاي سابر البريطانية، وبطاريات سامب/تي الفرنسية-الإيطالية، ووحدات باتريوت، وعلى عكس التوقعات غير الرسمية، ستكون هذه المظلة بمثابة درع دائم، يُموّل جماعياً ويُدار من قِبل تحالف من الراغبين، ويشبه القبة الحديدية الإسرائيلية التي لا تعد مثالية، ولا شاملة، لكنها محورية من الناحية السياسية.
كل صاروخ يتم اعتراضه يُظهر التزاماً أوروبياً، وكل نظام رادار يُنشر في أوكرانيا يخلق مخاطرة مشتركة، لأن الهجمات الروسية على تلك المواقع ستشمل الأوروبيين مباشرة، وعلى عكس الردع النووي، فإن هذا النموذج أكثر قابلية للتطبيق من الناحيتين التكنولوجية والسياسية، فهو يبني على مبادرة الدرع الجوي الأوروبية التي اقترحتها برلين في البداية، لكن التحدي يكمن في الديمومة، فالضمانات تتطلب عمليات نشر مُؤسسية، وليس شحنات مؤقتة.
لكن السؤال لا يقتصر فقط على ما إذا كان من الممكن نشر مثل هذه الأنظمة، بل ما إذا كانت أوروبا قادرة فعلاً على دعمها بشكل دائم وعلى نطاق واسع.
إن موقف الدفاع الأوروبي بدأ بالفعل يتحول من الاعتماد على المخزونات إلى تعزيز الإنتاج الصناعي رغم وجود مصاعب كبيرة، فعلى سبيل المثال، افتتحت شركة راينميتال الألمانية مؤخراً أكبر مصنع للذخيرة بالقارة في مدينة أونترلوس، بهدف زيادة إنتاج القذائف السنوي من 25,000 إلى 350,000 بحلول عام 2027، ومساهمة في هدف الاتحاد الأوروبي في تصنيع 2 مليون طلقة سنوياً.
في جميع أنحاء أوروبا تتوسع مصانع الأسلحة بمعدل ثلاثة أضعاف المعدل في وقت السلم، مع إنشاء أكثر من 7 مليون متر مربع من المنشآت الجديدة، ومن المتوقع أن يرتفع إنتاج الذخيرة من 300,000 إلى 2 مليون طلقة سنوياً.
بالإضافة إلى ذلك، يتوقع قانون الاتحاد الأوروبي لدعم إنتاج الذخيرة (ASAP)، إلى جانب خطة فون دير لاين الأوسع نطاقاً للاستعداد لعام 2030، تعبئة ما يصل إلى 800 مليار يورو على مدى السنوات القادمة لدعم البنية التحتية الدفاعية بدءاً من المرونة المالية والقروض الدفاعية بقيمة 150 مليار يورو وصولاً إلى تعبئة رأس المال الخاص.
مع ذلك، يواجه توسيع الإنتاج قيوداً منهجية، إذ لا يزال النقص في المواد المتفجرة ومكونات الصواريخ بعيدة المدى قائماً، وقد تُحذر شركات الدفاع قريباً من قيود القدرة على الاستيعاب، أي قدرتها على تحويل الأموال إلى إنتاج فعال، ما يعني أن مقترحات مثل إنشاء مظلة دفاع جوي دائمة أو أنظمة صواريخ ساحلية قابلة للتطبيق نظرياً، ولكن فقط إذا استمرت القدرة الصناعية في التوسع بقوة، وجرى تحديث سلاسل اللوجستيات، من النقل إلى الصيانة، بالتوازي، بدون معالجة هذه الفجوات الهيكلية، تُخاطر أوروبا بتقديم وعود مبالغ فيها مع عدم الوفاء بها.
مقترحات إنشاء مظلة دفاع جوي دائمة أو أنظمة صواريخ ساحلية قابلة للتطبيق نظرياً لكن إذا استمرت القدرة الصناعية في التوسع بقوة وجرى تحديث سلاسل اللوجستيات من النقل إلى الصيانة
لا يعتمد مستقبل أوكرانيا على خنادق دونباس فحسب، بل إن موانئها على البحر الأسود تُعدّ شريان حياة لصادرات الحبوب، والعملات الأجنبية، والشعور بأن أوكرانيا لا تزال متصلة بالعالم، وروسيا تُدرك ذلك، فكل ضربة صاروخية على أوديسا، وكل لغم ينجرف إلى الممرات الملاحية، يهدف إلى خنق اقتصاد أوكرانيا وتذكير حلفائها بأن موسكو لا تزال قادرة على إملاء شروطها في البحر، لكن بإمكان أوروبا تغيير هذا التوازن.
تمتلك العديد من الدول الأعضاء بالفعل أنظمة دفاع ساحلي متطورة، مثل: صواريخ الهجوم البحري النرويجية، وإكزوسيت الفرنسية، وسي سيبتور البريطانية، وأستر-30 الإيطالية، وبوجود هذه الأنظمة على طول ساحل أوكرانيا على البحر الأسود، سيُزيد من تكلفة التهديد البحري الروسي، لكن قوتها الحقيقية لا تكمن في المعدات فحسب، بل في الأعلام المرسومة على منصات الإطلاق.
إن الضمان الموثوق يتطلب مشاركة الأوروبيين أنفسهم، من طواقم بولندية وفرنسية وبريطانية تتناوب على القواعد الأوكرانية، تماماً كما يتناوب طيارو الناتو في مراقبة الجو في البلطيق، فوجودهم يعني أن أي ضربة روسية على ساحل أوكرانيا قد تؤدي إلى مقتل أوروبيين.
لن يقتصر الهجوم على أوديسا على أوكرانيا فحسب، بل سيتحول إلى هجوم على أوروبا، بكل ما يترتب على ذلك من عواقب تصعيدية، وهذا النموذج ليس بالأمر الجديد، فمنذ عام 2004، نشر الناتو مجموعات جوية متناوبة في دول البلطيق لضمان عدم تعرض سمائها لأي هجوم، وفي كوريا الجنوبية، يتولى الضباط الأمريكيون إدارة أنظمة المدفعية والدفاع الجوي جنباً إلى جنب مع الدول المضيفة، ما يربط مصداقية الولايات المتحدة ببقاء شبه الجزيرة.
تكامل الدفاع الساحلي في أوكرانيا سيتبع المنطق نفسه أي الردع عبر تقاسم المخاطر، وسياسياً، سيكون هذا الأمر مثيراً للجدل، كما سيتعين على الشعوب الأوروبية تقبّل أن جنودها لا يُدربون الأوكرانيين فحسب، بل يقفون في مرمى النيران.
بدورها ستُدين روسيا هذا الأمر باعتباره تعدياً على الناتو وهو أمر صحيح إلى حد ما، لكن هذا هو السبب في أنه قد يكون فعالاً، فقد لا تُجدي الضمانات نفعاً إلا عندما تتغيّر حسابات موسكو للتكاليف والفوائد.
لعل الخيار الأكثر إبداعاً هو دمج وحدات أوكرانية مختارة مباشرةً في هياكل القيادة الأوروبية، تماماً كما تخدم الفرقة الفرنسية-الألمانية كلاً من باريس وبرلين، يمكن للكتائب الأوكرانية أن تحمل رؤوساً مزدوجة تحت قيادة الناتو أو الاتحاد الأوروبي
عملياً، سيعني ذلك أن الضباط الأوكرانيين سيقدمون تقارير إلى المقرات الأوروبية، ويشاركون في التدريبات المشتركة، وربما يرتدون علمين على زيهم العسكري، ومن ثم، أي هجوم على مثل هذه الفرقة، بحكم التعريف، سيكون هجوماً على هيكل أوروبي، وبالتالي ستكون الرمزية هائلة: أوكرانيا ليست متوسلة، بل مشاركة في الدفاع عن أوروبا، أما بالنسبة لموسكو، ستكون الرسالة واضحة: “لن يكون العدوان ثنائياً، بل متعدد الأطراف”.
مع ذلك، يميل هذا النهج نحو عضوية الناتو بحكم الأمر الواقع دون معاهدة، ولكن كنوع من الغموض الإبداعي، قد يكون له تأثير قوي، فهو، بتشويشه للخطوط الفاصلة، يُعقّد خطط موسكو وفي الردع، يُستخدم التعقيد كسلاح.
مع ذلك، فإن كل ضمانة أوروبية، سواءً كانت تقليدية أو جديدة، تصطدم بنفس العقبة: تهديدات فلاديمير بوتين النووية، فكلما اقتربت أوروبا من الالتزام بإرسال قوات، أو نشر أنظمة، أو تمديد الضمانات، تُلوّح موسكو بالسيف النووي، ويبث التلفزيون الرسمي محاكاة لهجمات على لندن.
يُحذّر المسؤولون من “عواقب لا يُمكن التنبؤ بها”، حيث يتردد القادة الغربيون، في أغلب الأحيان، ويعود ذلك جزئياً إلى جهل الجمهور الواسع بمفهوم “التدمير المتبادل المؤكد” -الذي يعني أن أي تصعيد نووي بين دولتين نوويتين سيؤدي إلى دمار شامل للطرفين- وهو ما يدركه بوتين جيداً، إلا أن هذا النمط يكشف جوهر مشكلة الردع: “أوروبا ليست مشلولة بسبب الدبابات الروسية، بل نتيجة الاستعراضات الروسية”.
جوهر مشكلة الردع أن أوروبا ليست مشلولة بسبب الدبابات الروسية بل نتيجة الاستعراضات الروسية
منذ ستينيات القرن الماضي، حافظ مبدأ “التدمير المتبادل المؤكد” على السلام النووي، إذ لم يجرؤ أي قائد، سواءً سوفيتياً أو أمريكياً، على كسر المحظور النووي، حيث أدرك كلٌّ منهما أن التصعيد يعني نهاية الحضارة.
ومع ذلك، تتصرف أوروبا كما لو أن مبدأ الدمار الشامل المتبادل لا ينطبق عليها، فهي تقبل التهديدات الروسية كما هي، كما لو أن موسكو مستعدةٌ لكسر المحظور النووي، لكن المفارقة: إذا كان بوتين يقدر بقائه على قيد الحياة بالفعل -وكل الدلائل تُشير إلى ذلك- فهو مرتبط بمبدأ الدمار المتبادل المؤكد مثل أسلافه.
تتصرف روسيا كما لو أنها تسيطر على سلم التصعيد العسكري، في كل مرة ترفع فيها الرهانات، تتراجع أوروبا، ومع ذلك، فإن هذه الهيمنة وهمية، يدعمها الخجل الأوروبي، حيث لا يعمل الردع لأن أحد الطرفين قادر على التصعيد أكثر، بل لأن كلا الطرفين يعتقد أن الآخر قادر على ذلك.
تعتمد المصداقية على الالتزام الواضح، لا على توازن القوى، ما دام الأوروبيون يتصرفون بخوف من الحرب النووية أكثر من موسكو، فسيفشل الردع، وبمجرد أن تدرك موسكو أن الأوروبيين قد يردون بالفعل، سينجح الردع، إذ لا يزال الدفاع المتبادل المؤكد (ADD) صامداً، لكن التحدي الأكبر هنا ليس عسكرياً، بل نفسياً، إذ يجب على الأوروبيين أن يتعلموا استخدام شبح الأسلحة النووية كوسيلة ضغط، بدلاً من الخوف المفرط.
بمجرد إدراك موسكو أن الأوروبيين قد يردون بالفعل سينجح الردع فلا يزال الدفاع المتبادل المؤكد صامداً لكن التحدي الأكبر هنا ليس عسكرياً بل نفسياً
ولكن، حتى لو انكشفت خدعة التهديد النووي، لا تزال أوروبا تواجه حسابات سياسية وميزانيات أكثر صرامة، فليست كل الضمانات متساوية، وبعضها، مثل المظلة النووية الفرنسية-البريطانية، يمكن تصورها استراتيجياً لكنها بعيدة سياسياً حتى الخيارات الأكثر وعداً تصطدم بالحدود الصارمة للإرادة السياسية، والقدرة المالية، والأولويات الاجتماعية.
تصطدم مساعي أوروبا لإعادة التسلح بحدود اقتصادية صارمة، مثل: ميزانيات مقيدة، وأولويات اجتماعية متنافسة، ومخاطر تضخمية، إذ ستتطلب استثمارات الدفاع بنسبة 3-4% من الناتج المحلي الإجمالي، إعادة تخصيص مؤلمة سياسياً، بدون تمويل مستدام -سواء من خلال الاقتراض المشترك، أو رأس المال الخاص، أو أموال الاتحاد الأوروبي- فإن العديد من الأفكار الأكثر جرأة تبقى غير قابلة للتحقيق.
أكثر الضمانات الممكنة في المدى القريب تبقى مظلة الدفاع الجوي الأوروبية، فهي تُعالج ضعف أوكرانيا المُباشر وتُجنّبها المسألة النووية، ومع ذلك، يعتمد هذا الخيار أيضاً على تجاوز عقبات أعمق، مثل: الاختناقات الصناعية، والقيود المالية، والخلافات السياسية بين الشرق والغرب، وما لم تتمكن أوروبا من توسيع الإنتاج، وتوحيد التمويل، ومحاذاة حكوماتها، فإنه حتى الدرع الجوي قد يتحول إلى مجرد فكرة مبالغ فيها.
قد لا يكون المسار الحقيقي ضماناً واحداً شاملاً، بل مزيجاً من عدة إجراءات، تضم نشر تدريجي للقوات، ودمج جزئي للوحدات الأوكرانية، وبناء تدريجي للقدرات الصناعية الدفاعية، فقد تفتقر هذه الخطوات إلى طابع المعاهدات أو المظلة النووية، لكنها قد تُشكّل مع مرور الوقت رادعاً متعدد المهام.
في النهاية، السؤال ليس ما إذا كانت أوروبا قادرة على ضمان أمن أوكرانيا، بل ما إذا كانت أوروبا قادرة على ضمان شجاعتها الخاصة، لقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن الكثير من الأوهام، إذ يجب على القارة أن تقرر ما إذا كانت ستظل مسرحاً للوعود البعيدة، أم ستصبح ضامناً لمبادئها الخاصة ومستعدة لتحمل المخاطر الحقيقية دفاعاً عن جارتها المحاصرة.
الإجابة ستحدد ليس فقط مصير أوكرانيا، بل مستقبل الأمن الأوروبي نفسه في عالم لا يمكن فيه الاعتماد على يقين أمريكا بعد الآن.