Eagle Intelligence Reports

فخ الديون الأمريكية ومستقبل هيمنة واشنطن

Eagle Intelligence Reports • سبتمبر 4, 2025 •

كاتب

  • James O’Shea- Eagle Intelligence Reports

    جيمس أوشيا، صحفي ومؤلف أمريكي حائز على عدة جوائز، وشغل سابقاً منصب رئيس التحرير لصحيفة لوس أنجلوس تايمز، ومدير التحرير لصحيفة شيكاغو تريبيون، كما شغل منصب رئيس مجلس إدارة شبكات البث في الشرق الأوسط (MBN). وهو مؤلف لثلاثة كتب، من بينها "الصفقة من الجحيم". يحمل درجة الماجستير في الصحافة من جامعة ميسوري.

    View all posts

تجاوزت الديون الأمريكية المتصاعدة تحدياتها الاقتصادية الداخلية الملحّة، لتمثّل اختباراً حاسماً لمكانة واشنطن على الساحة العالمية، ومع بلوغها مستويات تاريخية غير مسبوقة، باتت تهدد استقرار أمريكا المالي الداخلي وتضعف قدرتها على فرض نفوذها في الخارج.

يتوقع خبراء الاقتصاد أن يبلغ الدين الأمريكي نحو 37 تريليون دولار بحلول نهاية عام 2025، في وقت يثير فيه الاعتماد المتزايد على الإنفاق بالعجز لتمويل هذا الدين مخاوف متصاعدة دولياً، حيث تحملت أمريكا مستويات عالية من الدين في السابق، أما الفرق هذه المرة، فهو أن إجمالي الدين الأمريكي يقترب من حجم الاقتصاد بأكمله، ما يضع المسؤولين الأمريكيين في فخ الديون، فهم بحاجة إلى المال لتسديد الفواتير، ولكن اقتراضه يقلص نفوذهم في إدارة أكبر اقتصاد في العالم والوفاء بالتزاماته الأمنية العالمية.

فخ الديون والاقتراض يقلص نفوذ المسؤولين الأمريكيين في إدارة أكبر اقتصاد في العالم والوفاء بالالتزامات الأمنية الدولية

الوضع المتفاقم بشكل متزايد قد يؤدي إلى تحفيز التضخم، وزيادة الضغط لخفض برامج اجتماعية مهمة، وتعزيز الزخم نحو ” التخلص من هيمنة الدولار”، وهي عملية قد تقوّض القوة العالمية لأمريكا وتُقوّي خصومها، وعلى رأسهم الصين وروسيا.

الوضع مختلف هذه المرة

تركز معظم التغطيات الإخبارية للديون الأمريكية على الاقتصاد المحلي للبلاد، وهذا أمر مبرر، فالدين يزيد من الضغوط، لاتخاذ قرارات مؤجّلة تتعلق ببرامج شديدة الحساسية بالنسبة للناخبين الأمريكيين، ومن المرجّح أن تسجّل واشنطن عجزاً في الموازنة هذا العام يُقدَّر بنحو 6.2٪ من الناتج الاقتصادي لأمريكا، كما يُقاس بالناتج المحلي الإجمالي.

رؤساء آخرون سجلوا عجزاً في الموازنة بمعدلات مماثلة، فقد بلغ إجمالي العجز في عهد الرئيس رونالد ريغان ما يزيد قليلاً عن 6٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

ومع ذلك، هناك فرق جوهري بين ريغان وترامب، فعند ذروته، بلغ إجمالي الدين الذي تراكم في عهد ريغان، الذي كان يخوض الحرب الباردة، نحو 53٪ من الناتج الاقتصادي للبلاد، أما ترامب، الذي لا يخوض حرباً، فسينهي العام بمستوى دين إجمالي لا يقل عن 100٪ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.

 تقول مايا ماكغينيس، رئيسة لجنة الميزانية المسؤولة: مستوى الدين الحالي لدينا هو الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية، وها هو يرتفع بسرعة كبيرة، ولزيادة الطين بلة، نحن على طريق إنفاق تريليون دولار هذا العام فقط على فوائد الدين، نأمل أن يكون هذا الرقم كفيلاً بإيقاظ صُنّاع القرار ليدركوا أننا بحاجة إلى التحرك، وبسرعة.”

 تعريفات ترامب تفشل في حلّ المشكلات

بعد نحو ثمانية أشهر من تحذير ماكغينيس، أقرّ الكونغرس تمديد مشروع قانون الضرائب “القانون الضريبي الكبير والجميل” الذي قدّمه الرئيس ترامب، وتشير التوقعات إلى أن موازنة ترامب ستضيف في نهاية المطاف نحو 4.1 تريليون دولار إلى الدين الوطني، ما سيرفع إجمالي الدين إلى نحو 135٪ من الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة.

 في ظل العجز والدين المرتفعين، قد يواجه الاقتصاد الأمريكي معدلات فائدة أعلى وتضخماً متزايداً، ولا شك أن الاحتياجات المالية للحكومة ستزاحم المستثمرين من القطاع الخاص على رأس المال اللازم للاستثمارات الإنتاجية.

يقول الرئيس ترامب إنه سيعوّض احتياجات الاقتراض من خلال العائدات الناتجة عن الرسوم الجمركية التي فرضها على شركاء أمريكا التجاريين، لكن حتى في أكثر التوقعات تفاؤلاً، من المتوقع أن تدر هذه الرسوم عائدات بين 1.3 تريليون و2.8 تريليون دولار، وهو مبلغ غير كافٍ لتعويض زيادات العجز، وفقاً لمختبر الميزانية بجامعة ييل، كما يستخدم ترامب هذه الرسوم كورقة تفاوض في الصفقات التجارية، ما يضيف حالة من عدم اليقين حول مقدار العائدات التي ستتحقق فعلياً.

 الديون تُهدد مكانة أمريكا

رغم أن فخ الديون يشكل عقبات كبيرة أمام الاقتصاد الأمريكي، إلا أن الأزمة المالية قد تحمل عواقب أكثر خطورة على قدرة أمريكا في الحفاظ على التزاماتها العسكرية والدبلوماسية، التي تعاني بالفعل من ضغوط متزايدة.

على سبيل المثال، يشكل ارتفاع مبلغ الفوائد التي يجب على وزارة الخزانة دفعها للدائنين اختباراً كبيراً، حيث يتوقع محللون مستقلون أن تتجاوز الفوائد على الدين الفيدرالي ميزانية وزارة الدفاع وبرنامج ميديكير مجتمعتين في عام 2025، وتُعد فوائد الدين ثاني أكبر بند في الميزانية الأمريكية.

 ارتفاع تكاليف خدمة الدين يزيد الضغوط على البرامج الحكومية ذات الميزانيات الكبيرة، مثل وزارة الدفاع، ومع تزايد النفقات على فوائد الدين، سيواجه المسؤولون الأمريكيون معضلات بشأن قدرة البلاد على تحمل تكاليف مشاريع تحديث الدفاع المكلفة، مثل مشروع الغواصات المتطورة المزودة بالصواريخ الباليستية بقيمة 132 مليار دولار، الذي تقول البحرية إنه ضروري لإظهار القوة في نقاط التوتر مثل تايوان.

مع تزايد النفقات على فوائد الدين سيواجه المسؤولون الأمريكيون معضلات بشأن قدرة البلاد على تحمل تكاليف مشاريع تحديث الدفاع المكلفة

بيع سندات الخزانة الأمريكية تكتيك مشكوك فيه

يمثل الاستفادة من مستويات الديون الثقيلة في واشنطن هدفاً مغرياً للمنافسين، حيث يمتلك المستثمرون الأجانب الآن نحو ربع أوراق الخزانة التي تبيعها أمريكا لتمويل ديونها، إذ تمتلك اليابان نحو 1.145 تريليون دولار، تليها الصين بمبلغ 759 مليار دولار والمملكة المتحدة بمبلغ 723 مليار دولار، لكن ترامب استهدف جميع الدول الثلاث بتعريفات أو تهديدات ضرائب على صادراتها إلى الولايات المتحدة، وخاصة الصين.

 يحذّر أصحاب التوجهات المتشددة بشأن الدين من أن الخصوم الأجانب قد يُقدِمون على بيع سندات الخزانة الأمريكية بشكل جماعي، ما قد يُحدث فوضى عارمة في أسواق السندات العالمية، لكن هذا البيع الجماعي سيكون سلاحاً ذا حدين، إذ سيتكبّد دائنو أمريكا خسائر ضخمة، إلا أن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن التلويح بتمرد مالي يمنح الخصوم الأجانب وسيلة ضغط تحدّ من مرونة القوة السياسية والعسكرية الأمريكية.

إذا كانت سندات الخزانة الأمريكية، التي طالما اعتُبرت “ملاذاً آمناً” في أوقات الأزمات الاقتصادية، ستفقد مكانتها المرموقة، فمن المرجّح أن يكون هذا التراجع تدريجياً، وقد تكون هذه العملية قد بدأت بالفعل؛ فوفقاً لبيانات وزارة الخزانة الأمريكية، كان المستثمرون الأجانب يمتلكون نحو نصف الدين العام الأمريكي في عام 2008، إلا أن هذه النسبة انخفضت إلى 30% بحلول عام 2025.

التحوّل للتخلص من الدولار

يسعى خصوم أمريكا إلى استغلال اعتمادها على رؤوس الأموال الأجنبية، إذ يهدفون إلى إزاحة الدولار من مكانته كعملة احتياطية عالمية، وهي مكانة تمنح أمريكا مزايا هائلة، وقد يكون تحقيق ذلك ممكناً، لكنه سيكون تحدياً صعباً.

 خصوم أمريكا يسعون إلى استغلال اعتمادها على رؤوس الأموال الأجنبية إذ يهدفون إلى إزاحة الدولار من مكانته كعملة احتياطية عالمية

بحسب معهد بروكينغز، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، يُسعّر التجار العالميون نحو 54٪ من المعاملات الدولية بالدولار، كما تشكّل الأصول المقوّمة بالدولار نحو 60٪ من احتياطيات النقد الأجنبي حول العالم، ما يجعل هيمنة الدولار حجر الأساس في القوة المالية والسياسية الأمريكية، إذ يسمح الطلب المرتفع على الدولار للولايات المتحدة بالتمتع بتكاليف اقتراض أقل، ويقلّل من مخاطر تقلبات العملة، كما يمنحها القدرة على فرض عقوبات تجارية عقابية، نظراً لأن معظم المعاملات المقوّمة بالدولار تمر عبر البنوك الأمريكية.

ومع ذلك، فإن هذه الفوائد، التي يُشار إليها أحياناً بـ”الامتياز الباهظ” لأمريكا، تنطوي أيضاً على مخاطر، فإذا تآكلت هيمنة الدولار، فقد تفقد العقوبات فعاليتها، إذ إن هذه الإجراءات العقابية تعتمد بشكل كبير على الدور المركزي للدولار في التجارة والتمويل العالميين.

التحالفات الأمريكية التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية تعتمد هي الأخرى على الولايات المتحدة وجيشها للحفاظ على الاستقرار العالمي، إذ لا تشمل هذه التحالفات مساحات كبيرة من أوروبا فحسب، بل الدول الأساسية في آسيا، حيث يمكن أن تؤدي مستويات الديون غير المستدامة إلى خفض ميزانية الدفاع ما يدفع حلفاء أمريكا إلى البحث عن بدائل، خاصة إذا كانت قيود الديون تؤدي إلى تقليص مشاريع مثل المناورات العسكرية المشتركة أو الإنفاق على الأمن، وفي الواقع مسألة البحث عن بدائل جارية بالفعل.

نمو دول البريكس+ يضغط على التحالف

في عام 2001، صاغ جيم أونيل، وهو خبير اقتصادي محترم ومصرفي سابق للاستثمار، مصطلح البريكس لأربعة اقتصادات ناشئة: البرازيل وروسيا والهند والصين، ثم تطورت Brics إلى Brics+، وهو تحالف جيوسياسي رئيسي مصمم على تحدي الهيمنة العالمية للولايات المتحدة.

حتى يناير 2025، أصبح للتحالف عشرة أعضاء وتسع دول شريكة، ويمثّل نصف سكان العالم، و41% من الاقتصاد العالمي، و30% من إنتاج النفط العالمي، و45% من الإنتاج الزراعي، وينتج نسبة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بدول مجموعة السبع.

ويضع بريكس+ نفسه كحليف مضاد للمؤسسات المالية العالمية التي تهيمن عليها أمريكا، ويوفر لأعضائه الوصول إلى رؤوس أموال مستقلة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتقود الصين الجهود لاستبدال الدولار بعملات أو أصول أخرى، مثل الذهب أو العملات القانونية غير التقليدية، كعملة رقمية صينية.

ويقول أونيل، الذي يتابع تطورات بريكس+ عن كثب: إن “نمو التحالف سيجعل تحديه أكثر صعوبة”.

ويضيف أونيل، وهو أيضاً عضو في مجلس اللوردات البريطاني، في جلسة لمجلس شيكاغو للشؤون العالمية الشهر الماضي: “لم يكن بإمكانهم إنجاز الكثير عندما كان عدد الأعضاء خمسة فقط”، و”زيادة عدد الأعضاء بإضافة دول ذات مصالح متضاربة يجعل إدارة التحالف أكثر تعقيداً”.

الاختبار الحقيقي لعزيمة أمريكا

طالما ظل الاقتصاد الأمريكي مهيمناً، لا يعتقد أونيل أن تحالف بريكس+ أو أي جهة أخرى ستتمكن من تقويض مكانة الدولار، لكن هذا لا يعني أنهم لن يحاولوا، فتعريفات الرئيس ترامب تمنح المنافسين الغاضبين حافزاً لتحمّل المخاطر.

 على سبيل المثال، في مواجهة بين أمريكا والصين حول تايوان، قد ترى الصين أن الخسائر الكبيرة الناتجة عن بيع سندات الخزانة الأمريكية تستحق التكلفة مقابل السيطرة على مضيق تايوان.

واجهت أمريكا أزمات ديون من قبل، لكنها نادراً ما كانت مصالحها العالمية مترابطة بهذه الدرجة من التعقيد مع قوتها المالية، فقد تتمكن الولايات المتحدة من الاستمرار في الاقتراض، لكن السؤال الحقيقي هو: إلى متى سيستمر العالم في دعم وتعزيز نفوذها؟.

الاختبار الحقيقي هو ما إذا كانت واشنطن قادرة فعلاً على حشد الإرادة السياسية والعزم على التحرك قبل أن يعيد فخ الديون تشكيل اقتصاد أمريكا ومكانتها العالمية.