لم ينمُ عالم العملات المشفّرة نمواً طبيعياً، بل ظهر على فترات متقطّعة، حيث بدأ كتجربة بين عدد من أنصار التكنولوجيا، ثم تحوّل إلى سوق سريع الحركة اجتذب ملايين المستثمرين قبل أن يفهم معظم الناس ما الذي كان يتشكّل بالفعل، وفي غضون سنوات قليلة فقط، انتزع مكانة خاصة به داخل النظام المالي العالمي، ومع ذلك، ورغم كل الاهتمام وتدفّق الأموال إليه، ما يزال عالم العملات المشفّرة في بداياته، يعمل تحت رقابة ضعيفة، ويقف على هامش الأطر التي تنظّم الأسواق التقليدية.
تلك الفجوة ليست تفصيلاً تقنياً فحسب، بل هي صدعٌ متأصل في عالم العملات المشفّرة، وبين كل فترة وأخرى، لا تبقى التقلبات التي تميّز هذا المجال محصورة داخله كما يفترض، بل تتسرّب خارجه، فتفاجئ الأسواق التقليدية وتذكّر الجميع بأن نظاماً يقوم على الابتكار والسرعة قادرٌ، رغم وعوده بالتجديد، على زعزعة الهياكل المالية التي سعى يوماً إلى إعادة ابتكارها.
أدّى تهديد الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الصين إلى صدمة في أسواق العملات المشفرة في 10 أكتوبر الماضي، ما تسبب في خسارة بيتكوين أكثر من 10% من قيمتها في غضون دقائق، والتي تعد العملة الأغلى في السوق، كما أدى إلى انخفاض القيمة السوقية الإجمالية لأصول العملات المشفرة بمليارات الدولارات.
وبينما سارع المتداولون المصدومونإلى دعم حساباتهم الممولة بالاقتراض والضمانات غير المستقرة، أطلقت الخوارزميات تلقائياً عمليات تصفية تجاوزت 19 مليار دولار في غضون 24 ساعة، ما أدى إلى شطب حسابات نحو 1.6 مليون متداول.
إذا كانت أخبار ذلك اليوم سيئة، فإن التداعيات التي يحملها هذا الانهيار على مستقبل اقتصاد عالمي غير منظَّم تبدو أسوأ بكثير، حيث كشف انهيار العملات المشفّرة عن نقاط ضعف قد تشعل كارثة اقتصادية جديدة، شبيهة بفضيحة الادخار والقروض التي كلفت دافعي الضرائب الأمريكيين 124 مليار دولار، أو أزمة الرهن العقاري عالية المخاطر التي أشعلت الركود الكبير (2007–2009)، وهو أسوأ تراجع اقتصادي منذ الكساد الكبير (1929–1939).
انهيار العملات المشفّرة كشف عن نقاط ضعف قد تشعل كارثة اقتصادية جديدة شبيهة بفضيحة الادخار والقروض أو أزمة الرهن العقاري
لحسن الحظ، لم يحدث شيء من هذا القبيل خلال الانهيار الذي بدأ في 10 أكتوبر 2025، إذ أدرك متداولو العملات المشفّرة سريعاً أن التهديد بفرض الرسوم لم يكن سوى ورقة ضغط جديدة في الحرب التجارية الجارية مع الصين، حيث انتهت أسوأ مراحل الانهيار خلال أيام، وبدا أن الأمور تعود إلى طبيعتها لكن الواقع كان مختلفاً، فمنذ ذلك الحين، ظلّت أسواق العملات المشفّرة هشة، مع تراجع البيتكوين بأكثر من 20% عن ذروته، كما تلوح في الأفق مؤشرات مألوفة ومقلقة تشبه تلك التي سبقت أزمات اقتصادية كبرى، وهي نقاط ضعف توحي بأن مشكلات اقتصادية حادّة قد تظهر ما لم تتخذ الحكومات إجراءات تصحيحية قريباً.
أول وأخطر المؤشرات هو الإيمان الشديد بحرية الأسواق وعدم الحاجة للتنظيم بين متداولي العملات المشفّرة، فالفلسفة التي تقول إن “الحكومة هي المشكلة”، والتي روّج لها الرئيس رونالد ريغان، غالباً ما تصاحبها دعوات حماسية بأن الجهات التنظيمية تقف عائقاً أمام الابتكار، وهي فكرة يفتخر بها الأمريكيون المتحمسون للسوق الحرة، بينما تُحمَّل نتائج إخفاقاتها العالم بأسره، فقد بدأت فضيحة الادخار والقروض في ثمانينيات القرن الماضي كنتيجة لسعي نحو تحرير السوق، عندما أقرّت إدارة ريغان قانوناً سمح بتحرير مؤسسات الادخار والقروض (S&Ls)، وهي أنشئت أصلاً لتحويل المدخرات المحلية إلى قروض عقارية لسكان الحي نفسه.
كانت مؤسسات الادخار والقروض بحاجة إلى إعادة هيكلة، إذ كانت تُدار من قبل مصارف محلية مُتزمة لم تغيّر أساليبها منذ عقود، لكن التشريع الذي حمل بصمة ريغان في الابتكار تجاوز الحدود، فقد أزال القيود على أسعار الفائدة على الودائع، وسمح لمؤسسات الادخار والقروض بالاستثمار في العقارات التجارية وإقراض مبالغ أكبر بمخاطر أعلى، مع الإبقاء على التأمين الفيدرالي على الودائع الذي يحمي المودعين ويقلل من صلاحيات الجهات التنظيمية التي كانت تراقب أنشطتهم.
وكانت النتيجة أن دافعي الضرائب أصبحوا عرضة لخسائر ضخمة عندما انهار هذا القطاع المحرر من القيود، إذ استحوذ المستثمرون ورواد العقارات على العديد من مؤسسات الادخار والقروض، وتجاهلوا الاحتياطيات اللازمة، تاركين البنوك منخفضة رأس المال، واستقطبوا ودائع جديدة من خلال تقديم فائدة أعلى في الأسواق المالية الوطنية، وأقرّوا قروضاً أكثر مخاطرة، أحياناً لمشاريع كانت لهم فيها مصالح شخصية، وعندما انتهت الأزمة، كلفت فضيحة مؤسسات الادخار والقروض دافعي الضرائب الأمريكيين نحو 124 مليار دولار.

حدث موقف مشابه في أزمة سوق الرهن العقاري عالية المخاطر بعد عدة سنوات، حيث حدّد المصرفيون المشكلة الحقيقية، بصعوبة حصول المقترضين ذوي التاريخ الائتماني الضعيف على قروض عقارية، ما أعاق تحقيق الحلم الأمريكي بامتلاك منزل، فتعاونوا مع زملائهم في قطاع البنوك الاستثمارية لتطوير منتجات جديدة، وروّجوا لها على أنها حلول مبتكرة.
وقاموا بتجميع آلاف القروض عالية المخاطر في أدوات مالية جديدة، عبر الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري والتزامات الدين المضمونة (CDOs) وقسّموا هذه الحزم إلى شرائح مختلفة لتوزيع مخاطرها، وقدمت وكالات التصنيف الائتماني، متجاهلةً في الغالب تضارب مصالحها، ومنحتها تقييمات مرتفعة، بينما باعت البنوك الاستثمارية هذه المنتجات للمستثمرين حول العالم، فكانت الأمور معقدة للغاية، حيث تضاعفت مستوياتها لدرجة جعلت من الصعب جداً تقدير المخاطر بدقة.
في حالة التزامات الدين المضمونة (CDOs)، لم يكن السبب هو تحرير الأسواق، بل غياب التنظيم، فقد تجاهل مجلس الاحتياطي الفيدرالي نصائح خبرائه الاقتصاديين، ورفض تنظيم معايير الإقراض العقاري، كما ترددت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية في التدخل، وأعفت البنوك الاستثمارية الكبرى من متطلبات رأس المال الصافي، وسمحت الجهات التنظيمية المصرفية للمؤسسات بإبقاء الأصول عالية المخاطر خارج ميزانياتها العمومية.
ثم اعترف رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، آلان جرينسبان، خلال شهادته أمام الكونغرس بعد اندلاع الأزمة، بوجود “خلل” في آلية التفكير، مفادها بأن مصالح الشركات الكبرى التي كان يراقبها ستكفل حماية المساهمين والمؤسسات، فانتشرت العدوى الاقتصادية من أمريكا لتصيب اقتصادات العالم بالركود، حيث اضطرت الحكومة للتدخل لدعم البنوك المسببة للمشكلة، ما أثار غضب الناخبين.
ما حدث في انهيار العملات المشفّرة قبل نحو شهر يوضح أن قطاع العملات المشفّرة والحكومة يسيران على نفس الطريق الذي سلكه أسلافهم، لكن هذه المرة سيكون الأثر حادّاً وممتداً على نطاق أوسع نظراً للطابع العالمي للعملات المشفّرة وطبيعة تداولها المستمرة على مدار الساعة.
تُعدّ العملات المشفّرة -بمثابة “الغرب المتوحش” في عالم المال- سوقاً معقد وغامض، وأكثر صعوبة في الفهم من التزامات الدين المضمونة (CDOs)، حيث يقوم مؤيدو العملات المشفّرة بتطوير القطاع في ظل فراغ تنظيمي ناجم عن ثغرات في القوانين الحالية وأطر جديدة تكافح لمعالجة المشكلات القائمة، ويترك غياب المعايير والرقابة معرضين لمخاطر كبيرة على هذه المنصات.
يقوم مؤيدو العملات المشفّرة بتطوير القطاع في ظل فراغ تنظيمي ناجم عن ثغرات في القوانين الحالية وأطر جديدة تكافح لمعالجة المشكلات القائمة
كالعادة، هناك بعض الحقيقة في أسطورة العملات المشفّرة، فالسوق المتطور يتميز بلمسة ابتكارية، حيث فقد مثل إطلاق البيتكوين في 2009 إدخال تقنية جديدة تعتمد على سجل البلوكشين التحويلي، والذي يمكن أن يكون مفيداً للجمهور، ولكن للأسف، انتشرت بعد ذلك آلاف العملات المشفّرة ونسخها المقلدة، تعمل تحت إشراف تنظيمي محدود للغاية، وتغري المودعين بعوائد أعلى بكثير من تلك التي تقدمها البنوك التقليدية، والرقابة التنظيمية شبه غائبة.
في الوقت الحالي، يبدو أن دافعي الضرائب الأمريكيين ليسوا معرضين للخطر بنفس الدرجة التي كانوا عليها خلال أزمة مؤسسات الادخار والقروض أو أزمة الرهن العقاري عالية المخاطر، لكن في الحقيقة أن هؤلاء لم يبدوا معرضين للخطر في البداية خلال تلك الكوارث أيضاً.
يطلق قطاع العملات المشفرة نفس دعوات إلغاء القيود التنظيمية التي أطلقها أسلافه، مُعارضاً التنظيم بشدة، ومُجادلاً بأن الابتكار يتطلب الحرية، وأن الأسواق اللامركزية تُلغي الرقابة التقليدية، ولديهم مُؤيدون أقوياء في البيت الأبيض، بمن فيهم الرئيس ترامب، الذي تُشارك عائلته وأصدقاؤه بشكل كبير في شركة “وورلد ليبرتي فاينانشال”، وهي شركة مُتخصصة في العملات المشفرة.
وقّع الرئيس ترامب أمراً تنفيذياً في أغسطس يسمح لمستثمري خطة التقاعد 401(k) بالوصول إلى أصول بديلة، بما في ذلك العملات المشفرة، كما عيّن ديفيد ساكس، رائد أعمال بارز من وادي السيليكون ومُناصراً لإلغاء القيود التنظيمية، مسؤولاً حكومياً عن العملات المشفرة والذكاء الاصطناعي، إلا أن انهيار أكتوبر يُشير إلى أن كلماتهم المُطمئنة بشأن اللوائح القديمة خاطئة.
جميع الأسواق تتطلب تسعيراً متكاملاً يمكّن المستثمرين والجمهور من رؤية أسعار موثوقة ومتسقة، وعلى النقيض من ذلك لا توجد مثل هذه المتطلبات في منصات العملات المشفّرة، ما يخلق بيئة خصبة لشبهات التلاعب بالسوق.
ذكرت مولي وايت، التي تدير موقع Citation Needed، أحد الوسائل الإعلامية المستقلة التي تغطي قطاع العملات المشفّرة بشكل موثوق، أن شخصاً حقق 150 مليون دولار من صفقة بيع على المكشوف خلال انهيار أكتوبر، ما أثار الشبهات بأن المستثمر كان يمتلك معلومات داخلية، وكتبت قائلة: «في الأسواق التقليدية، قد تؤدي أرباح بقيمة 150 مليون دولار من مراكز بيع على المكشوف تم توقيتها جيداً قبل إعلان رئاسي إلى فتح تحقيقات من قبل لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية أو لجنة تداول العقود الآجلة للسلع أو وزارة العدل، لكن في عالم العملات المشفّرة، ليس واضحاً حتى أي جهة، إن وجدت، تملك السلطة للتحقيق في مثل هذه الصفقات”.
تملك الأسواق التقليدية آليات توقف التداول و”ضوابط أمان” يمكنها وقف عمليات التصفية المتسلسلة الناتجة عن أسعار غير موثوقة أو ديون مضمونة بأصول مشفّرة شديدة التقلب، وقد كشفت الأزمة أن البنوك كانت قادرة على تصفية مراكز المتداولين في العملات المشفّرة قبل أن يدرك هؤلاء أنهم على وشك مواجهة مشاكل، وكتبت وايت قائلة: “أسواق العملات المشفّرة كلها تعمل بقوة بلا ضوابط”.
أخطر نقطة كشفت عنها أزمة أكتوبر هي ظاهرة سلاسل التصفية المترابطة، والتي تحدث عندما يؤدي حدث خارجي، مثل منشور ترامب، إلى انخفاض واسع في أسعار العملات المشفّرة، حيث يواجه المتداولون الذين يستخدمون أموالاً مقترضة لشراء العملات المشفّرة ما يُعرف بمطالبات الهامش، أو أنظمة التصفية الآلية التي تعمل بخوارزميات تبيع العملات تلقائياً لاستعادة أموال المقرضين.
تتسبب عمليات التصفية الجماعية في إجهاد المشترين المحتملين، ما يزيد الضغط على هبوط الأسعار، وسرعان ما يؤدي انخفاض أسعار البيتكوين إلى بيع أصول أخرى مرتبطة بها، وتتعرض البورصات لضغوط، وتخفق الصناديق ذات الرافعة المالية العالية عن السداد، وتؤدي كل موجة بيع جديدة إلى تصفيات إضافية، وقد تجسدت هذه الأحداث خلال ساعات قليلة في انهيار أكتوبر، حيث انهارت عمق السوق بأكثر من 80% عبر البورصات الكبرى خلال دقائق، وقامت خوارزميات البنوك بتصفية مراكز قيمتها 2.1 مليار دولار.
كشف انهيار أكتوبر عن حجم الروابط المقلقة بين أسواق العملات المشفّرة والنظام المالي العالمي، فالتدفقات المالية لا تعترف بالحدود الوطنية، كما يُظهر الانهيار كيف يمكن لسقوط مفاجئ في سوق العملات المشفّرة أن يُحدث تأثيرات متتالية على أسواق الأسهم في أوروبا وآسيا، حيث زاد المستثمرون حصصهم في الأصول الرقمية.
التدفقات المالية لا تعترف بالحدود الوطنية ويُظهر الانهيار كيف يمكن لسقوط مفاجئ في سوق العملات المشفّرة أن يُحدث تأثيرات متتالية على أسواق الأسهم في أوروبا وآسيا
وتشكل الصدمات المفاجئة تحدياً خطيراً للبنوك المركزية، فأسواق العملات المشفّرة تعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، بينما يصمّم الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السياسات النقدية للأسواق التي تغلق بنهاية يوم العمل الأسبوعي، وعندما يحدث البيع بدافع الذعر خلال أوقات إغلاق الأسواق التقليدية، كما حصل في أكتوبر، فإن هذه الفجوات تترك للبنوك المركزية خيارات محدودة للغاية.
كشف غياب الانضباط الذي تفرضه عادة التنظيمات الحكومية الرشيدة عن ثغرات تجعل سوق العملات المشفّرة مرشحاً قوياً لانهيار أوسع بكثير، حيث انتشر انهيار السوق في أكتوبر بسرعة إلى الأسواق العالمية، إذ شهد المستثمرون المؤسسيون الأوروبيون الذين لديهم تعرض كبير لصناديق تداول العملات المشفّرة المدرجة في الولايات المتحدة والمشتقات المرتبطة بها عمليات بيع مكثفة، ما أدى إلى مطالبات الهامش ودوامات تصفية خاصة بهم.
كما فتحت البورصات الآسيوية، التي تتميز بنسب رفع مالي أعلى وساعات تشغيل مختلفة، على وضع متدهور بالفعل، وسرعان ما وصلت إلى مستويات التصفية القصوى، ما قلّص قدرة النظام المالي الأمريكي على احتواء حالة الذعر.
لحسن الحظ، تجنّبت أسواق العملات المشفّرة مثل هذا الإخفاق حين جذبت الانخفاضات الحادة في الأسعار مستثمرين يبحثون عن أرباح قائمة على المخاطرة، فتدخّلوا لـ “شراء الانخفاض” ما حدّ من أثر الهبوط في السوق، وساهم الرئيس ترامب أيضاً عندما تراجع عن تهديداته بفرض الرسوم الجمركية.
ومع ذلك، ما تزال مؤشرات الهشاشة قائمة، فمن غير المرجّح أن يتخذ المنظّمون أي إجراء، ولا يُظهر القطاع أي بوادر تصحيح، بل إن منصّات تداول العملات المشفّرة تواصل إتاحة مستويات استثنائية من الرافعة المالية للمستثمرين، ويواصل أنصار العملات المشفّرة الضغط من أجل مزيد من الاندماج مع الأسواق المالية التقليدية.
مثل هذا الارتباط يهدّد بانفصالٍ فوضوي، فحالياً يؤكّد المنظّمون أن التعرّض للعملات المشفّرة يشكّل خطراً نظامياً محدوداً على التمويل التقليدي، حيث تُتداول الأسهم والسندات في أسواق شديدة التنظيم، لكن المشهد المالي يتطوّر بسرعة، خصوصاً عبر البنوك الأوروبية والآسيوية، ومع تزايد فعالية المدافعين عن العملات المشفّرة في تحقيق الاندماج مع الأسواق التقليدية، يزداد خطر انتقال العدوى، حيث يمكن أن تنتشر الأزمات في أحد الأسواق بسرعة إلى أخرى.
وإدراكاً لهذا الخطر، بات المنظّمون في أوروبا وآسيا أكثر حساسية تجاه الاستثمارات في العملات المشفّرة مقارنة بنظرائهم في الولايات المتحدة، فقد أنشأت السلطات الأوروبية بالفعل أحد أكثر أطر الرقابة شمولاً في العالم، فمنذ 1 يناير 2025، بدأ تطبيق أول إطار تنظيمي للأصول المشفّرة في الاتحاد الأوروبي، الذي صدر أواخر عام 2024، والذي يقيّد الاستثمارات المباشرة لضمان الحد الأدنى من التعرّض الائتماني.
ومع ذلك، يستطيع المستثمرون المتمرّسون ابتكار طرق التفافية من خلال الاستفادة من القنوات غير المباشرة للاستثمار في صناديق المؤشرات المرتبطة بالعملات المشفّرة، والمنتجات الهيكلية، وصناديق العملات الرقمية، ورغم أن الرفض الصريح من البنوك للتعامل بالعملات المشفّرة أكثر حدّة في أوروبا، يقدّر الخبراء اليوم أن نحو 10 % من الأسر في الدول الكبرى داخل منطقة اليورو تمتلك شكلاً من أشكال العملات المشفّرة، وأن نحو 63 بنكاً يقدّم خدمات مرتبطة بالعملات الرقمية.
في آسيا، يُعد الاستثمار في العملات المشفّرة أكثر جرأة بكثير، ففي الفترة ما بين 2018 و2024، حقّق قطاع العملات المشفّرة الآسيوي قيمة سوقية بلغت 3.3 تريليون دولار، بزيادة تعادل 24 مرة، ما جعل المنطقة مركزاً للنشاط العالمي في هذا المجال، كما فرض المنظّمون الآسيويون قيوداً صارمة على حيازات الشركات من الأصول الرقمية، إلا أنهم يتّبعون نهجاً أكثر مرونة تجاه أدوات الاستثمار المنظَّمة، مثل مكاتب العائلات الثرية التي أصبحت لاعباً بارزاً في سوق العملات المشفّرة، حيث تعكس اللوائح الحالية مخاوف من أن المشكلات التي قد تواجه مستثمراً كبيراً واحداً في هذا القطاع يمكن أن تُحدث أثراً امتدادياً يُصيب الآخرين.

تكمن المشكلة الأكبر في أن الاضطرابات في عالم العملات المشفرة قد تؤثر على أسواق الأسهم والسندات التقليدية مع ازدياد تشابكها، وهو ما يصبو إليه مستثمرو العملات المشفرة، حيث يواجه المستثمرون المؤسسيون الأوروبيون والآسيويون انكشافاً كبيراً على الأسهم الأمريكية، لا سيما من خلال تخصيصات الأسهم العالمية التي تتبع مؤشر MSCI، وهو ما يشبه مؤشر داو جونز للأسهم العالمية.
ونظراً لأن مؤشر MSCI يضم أكثر من 70% من الأسهم الأمريكية، فإن المتابعة الدقيقة من جانب المستثمرين الأوروبيين والآسيويين تشير إلى أن الانكشاف على الأسهم الأمريكية كبير، وتقدر مجلة الإيكونوميست الانكشاف الأجنبي على الأسهم الأمريكية بنحو 18 تريليون دولار، ما يعني أن عدوى السوق قد تنتقل إلى الأسواق إذا امتد انهيار آخر للعملات المشفرة إلى الأسهم الأمريكية، ما قد يؤدي إلى تأثير تسلسلي قد يصعب احتواؤه عالمياً.
تُضيف الجغرافيا السياسية مزيداً من التعقيد إلى المشهد، فالصين حظرت تداول العملات المشفّرة، ومع ذلك تواصل تطوير عملتها الرقمية “اليوان الرقمي” كبديل، إذ ترى في العملات المشفّرة تهديداً لقيودها على حركة رؤوس الأموال، كما تعتبر الصين أن هشاشة سوق العملات المشفّرة تمثّل خطراً على الاستقرار المالي في الغرب.
الصين تعد العملات المشفّرة تهديداً لقيودها على حركة رؤوس الأموال أما الهند فتتبنّى نهجاً أكثر حذراً إذ فرضت ضريبة مرتفعة على أرباح رأس المال من العملات المشفّرة
أما الهند فتتبنّى نهجاً أكثر حذراً، إذ فرضت ضريبة مرتفعة على أرباح رأس المال من العملات المشفّرة بينما تواصل استكشاف عملتها الرقمية الخاصة الصادرة عن البنك المركزي، ويرى البلدان أن انفتاح الولايات المتحدة على العملات المشفّرة نذير بعدم الاستقرار، ما يجعل عملاتهما الرقمية بدائل جذّابة، ويدفع العملات المشفّرة إلى قلب المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبرى الساعية إلى رسم مستقبل التمويل العالمي وموازين القوة.
بالمحصلة، لم تُسقط الاضطرابات التي اندلعت في أكتوبر النظام المالي، بل ذكّرت الجميع، ربما بوضوحٍ أكبر من أي وقتٍ مضى في السنوات الأخيرة، بمدى سهولة زعزعة استقرار الأسواق العالمية، حيث يُصرّ المؤمنون بالعملات المشفرة على القول: “إن عصاً مالياً جديداً يتشكل بالفعل”، وقد يكون كلامهم مُحقاً بالفعل، ومن الواضح أن جوانب من هذا المستقبل تتشكل، لكن ما يبدو من الصعب تجاهله أيضاً هو درسٌ مُتكرر من الأزمات الماضية: “عندما تتحرك الأموال عبر أسواقٍ تعتمد على هياكل غامضة واقتراضٍ كثيف، عادةً ما تظهر المشاكل في مرحلةٍ ما”، لذلك سيعتمد استقرار العملات المشفرة في النظام المالي العالمي أو إشعال فتيل الأزمة الكبرى القادمة على ما إذا كانت الجهات التنظيمية ستتصرف ببصيرةٍ الآن، وليس بعد بدء الضرر.