للمرة الأولى منذ سنوات، تهيمن آسيا الوسطى على نقاشات السياسة الخارجية في واشنطن، ففي السادس من نوفمبر، التقى رؤساء كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في القمة الرئاسية C5+1 التي لم تُسفر عن اختراقات كبرى، لكن كان من اللافت رؤية القادة الخمسة مجتمعين في واشنطن ويتحدثون مباشرة مع الولايات المتحدة على ذلك المستوى.
في المقابل، يبقى الأثر طويل المدى لهذا الحدث غير المسبوق غير واضح، فهل ستواصل واشنطن اهتمامها بشكل أعمق في منطقة شكّل النفوذ الروسي مسارها منذ زمن طويل وتنجذب اليوم بشكل متزايد إلى دائرة الصين، أم أن الأمر لا يتجاوز فترة اهتمام قصيرة أخرى، مدفوعة في الغالب باعتبارات تجارية، ستتلاشى تماماً كما حدث في لحظات مماثلة في الماضي؟.
لكن لا يزال من المبكر اليوم الحكم على القمة ما إذا كانت ستطلق إعادة انخراط استراتيجي دائم للولايات المتحدة في المنطقة أم ستمثل لحظة عابرة مدفوعة بالمصالح التجارية، فرغم أن النتيجة الرئيسة للقمة كانت صفقات اقتصادية، إلا أن هذه الصفقات قد تُرسِي قاعدةً لانخراط أوسع مستقبلاً.
مع ذلك، تواجه واشنطن تحديات كبيرة على الصعيد المالي والمؤسسي والتشريعي والإدراكي لتحقيق طموحاتها في آسيا الوسطى، تشمل ضعف الموارد المخصصة لأدوات السياسة الخارجية الأمريكية، وتشريعات الكونغرس القديمة، والشكوك بشأن استدامة الالتزامات الأمريكية، كما تمثل الثروة المحدودة وحجم الأسواق في دول آسيا الوسطى، إلى جانب معارضة روسيا والصين لوجود أمريكي قوي في المنطقة، تحديات إضافية.
تواجه واشنطن تحديات كبيرة على الصعيد المالي والمؤسسي والتشريعي والإدراكي لتحقيق طموحاتها في آسيا الوسطى
سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق أهداف متعددة في آسيا الوسطى منذ استقلال المنطقة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، شملت الوصول إلى الموارد المحلية (كان النفط والغاز يتصدران القائمة، حتى وقت قريب) من خلال توسيع التجارة والاستثمار الأمريكي؛ ومكافحة الجماعات المتطرفة العنيفة وغيرها من التهديدات العابرة للحدود الوطنية غير الحكومية؛ وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ وربط آسيا الوسطى بمناطق أخرى مثل أوروبا وجنوب آسيا؛ والتنافس على النفوذ مع جهات فاعلة حكومية مثل روسيا والصين، ومع ذلك، غالباً ما كانت أولويتان أو هدفان فقط يهيمنان على السياسة الأمريكية، حسب أولويات الإدارة الرئاسية القائمة.
في السادس من نوفمبر، كانت أولوية البيت الأبيض هي الأعمال التجارية، حيث أكدت تصريحات ووثائق الحكومة الأمريكية أن الشراكة مع آسيا الوسطى ستُعيد الوظائف الأمريكية وتُحفز المبيعات (لا سيما طائرات بوينغ)، وصفقات الاستثمار (في قطاع المعادن الحيوي).
وبالمثل، تحدث رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، ورئيس قيرغيزستان صدر جباروف، ورئيس طاجيكستان إمام علي رحمانوف، وبصورة أقل رئيس تركمانستان سردار بردي محمدوف، عن الفرص التجارية التي يمكن أن تُقدمها بلدانهم للأمريكيين.
لكن غياب أي مناقشة رسمية للقضايا الأمنية أو أي مسؤولين دفاعيين ضمن الوفود الرئاسية الزائرة عزّز هيمنة البعد المالي، فحتى وقت قريب، كانت القضايا الأمنية مثل أفغانستان وأوكرانيا والإرهاب العابر للحدود تهيمن على حوارات حكومات آسيا الوسطى مع الولايات المتحدة.
ولا تزال مخاوف دول آسيا الوسطى بشأن الإرهاب الإقليمي والتهديدات الأمنية الأخرى قائمة، كما يتضح من تصريحاتهم في سياقات أخرى، لكن في هذه المناسبة أراد رؤساؤهم أن يتركوا صدى لدى مضيفيهم الأمريكيين، ومع ذلك، كان التباين بين الرمزية الكبيرة للقمة وأجندتها الضيقة مربكاً.

العقبات المالية والمؤسسية والتشريعية والإدراكية ستعيق الولايات المتحدة عن تحقيق حتى هذه الأجندة الضيقة.
في السابق، كانت وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (USAID) تساعد في تلبية الطلب المحلي على الدعم البيئي وإدارة المياه، كما عززت المنح الدراسية والتبادلات الأكاديمية التي تقدمها وزارة الخارجية رأس المال البشري في المنطقة، وكانت وسائل الإعلام الممولة من الولايات المتحدة تواجه الروايات المعادية والمعلومات المضللة، ولكن الحكومة الأمريكية قامت مؤخراً إما بتفكيك هذه الأدوات أو تقليص تمويلها بشكل كبير.
شهدت الأسابيع الماضية دعماً من الحزبين في الكونغرس لتعزيز الانخراط الأمريكي في المنطقة، ومع ذلك، لا تزال مطالب دول آسيا الوسطى بإلغاء تعديل جاكسون-فانيك القديم دون تحقيق، فعلى الرغم من حصولهم على إعفاءات منتظمة، لا تستطيع الحكومات المعنية فهم سبب استمرار قانون من الحرب الباردة، كان يهدف إلى معاقبة النظام السوفيتي على تقييد الهجرة اليهودية، في حرمانهم من وضع الدولة الأكثر تفضيلاً الدائم في التجارة، وبالمثل، يشكون من الأضرار الجانبية للعقوبات الأمريكية على اقتصاداتهم.
لا تزال مطالب دول آسيا الوسطى بإلغاء تعديل جاكسون-فانيك القديم دون تحقيق فعلى الرغم من حصولهم على إعفاءات منتظمة إلا أن الحكومات المعنية لا تستطيع فهم سبب استمرار قانون من الحرب الباردة
علاوة على ذلك، لا يزال قادة آسيا الوسطى يشككون في استمرارية المشاركة الأمريكية، في ظل تغير الأولويات الأمريكية، ما يُجبر هذه الحكومات على الموازنة بين مطالبها الحالية والمستقبلية المتوقعة، فعلى سبيل المثال، مع أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تعد تضغط على هذه الدول للحد من انبعاثات الكربون أو إحراز تقدم في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، فمن المرجح أن يعود أي رئيس أمريكي مستقبلي إلى أولويات عهد بايدن.
رغم أن إدارة ترامب تهدف إلى استخدام الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتكملة أدوات الحكومة الأمريكية، إلا أن العديد من التحديات تواجه الشركات الأمريكية في المنطقة، فالشركات الأمريكية عادة أقل ميلاً من نظرائها الروس والصينيين الذين تقودهم الدولة لتمويل المشاريع الضخمة، كما أن محدودية الثروة وحجم السوق لدى دول آسيا الوسطى، إلى جانب موقعها الداخلي البري، تحد من الأرباح المتوقعة التي قد يأمل المستثمرون الأمريكيون في تحقيقها من الشراكة.
تواجه مشاريع التجارة والاستثمار التي تقودها الولايات المتحدة على مستوى المنطقة في آسيا الوسطى أيضاً العديد من العوائق غير المادية، بما في ذلك سياسات التأشيرات والجمارك غير الفعّالة، ومسائل سيادة القانون، ومهارات اللغة الإنجليزية المحدودة، وتهديدات أمن الحدود، كما تصطدم طموحات دول آسيا الوسطى في استثمار وفرة الطاقة والأراضي لإنشاء مراكز بيانات للذكاء الاصطناعي بالتحديات المائية المتزايدة في المنطقة.
تسعى الحكومتان الروسية والصينية إلى الحد من علاقاتهما في آسيا الوسطى مع واشنطن وحلفائها، فبفضل القرب الجغرافي، والتزاماتهما الكبيرة بالموارد، ومزايا أخرى، غالباً ما تتفوق أدوات النفوذ الإقليمي الروسية والصينية على أدوات الدول الغربية.
في آسيا الوسطى، تسعى موسكو إلى حدود آمنة، وهيمنة أمنية، وخطط لتجاوز العقوبات الغربية، فمنذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في 2022، أصبحت روسيا أكثر اعتماداً على التجارة مع آسيا الوسطى ومن خلالها.
في آسيا الوسطى تسعى موسكو إلى حدود آمنة وهيمنة أمنية وخطط لتجاوز العقوبات الغربية
تراجع النفوذ الروسي بسبب حربها في أوكرانيا، لكن موسكو لا تزال تمتلك قوة كبيرة، وتشمل أدوات نفوذها الشبكات السياسية والأمنية الموروثة من الاتحاد السوفيتي، ومبيعات الأسلحة وغيرها من أشكال التعاون الدفاعي، والروابط التجارية والنقلية الخاضعة للسيطرة الروسية، والقوة الناعمة القائمة على اللغة الروسية واستخدام الإعلام، وقيادة موسكو في المؤسسات الإقليمية مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ورابطة الدول المستقلة، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي.
تنبع أهمية آسيا الوسطى لبكين من قربها الجغرافي، فالمقاطعات الغربية للصين معرضة للإرهاب وغيره من التهديدات العابرة للحدود الوطنية القادمة من المنطقة، ومن أهم أبعاد الدبلوماسية الصينية الضغط على حكومات آسيا الوسطى للسيطرة على الجماعات المناهضة لجمهورية الصين الشعبية، وتأكيد سيطرة بكين على شينجيانغ والتبت وتايوان، كما ساعدت الحكومة الصينية حكومات آسيا الوسطى على تعزيز ضوابطها على الإنترنت وغيرها من أدوات الأمن الداخلي.
وفي الوقت نفسه، تُعد آسيا الوسطى منطقة عبور مهمة وسوقاً حيوياً للكيانات التجارية الصينية، وليس من قبيل الصدفة أن الرئيس شي جين بينغ أعلن عن مبادرة الحزام والطريق أثناء زيارته لكازاخستان، حيث ساعدت الاستثمارات الصينية في بناء خطوط الأنابيب والبنى التحتية الأخرى التي تمكّن الشركات الصينية من استيراد النفط والغاز من المنطقة، وتصدير السلع بشكل متزايد إلى الأسواق الأوراسية والأوروبية، كما توفر الصين قروضاً كبيرة بشروط سداد أكثر مرونة وأقل تشدداً مقارنة بالتمويل الأمريكي.

تتعاون موسكو وبكين بشكل روتيني لتعزيز أهدافهما الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية المشتركة في آسيا الوسطى، فكلاهما يسعى لتحقيق أمن الحدود، واستغلال الفرص التجارية، وضمان الاستقرار الإقليمي، والحصول على شركاء موالين، ويمكن القول إن المنطقة أصبحت أكثر أهمية لكل من بكين وموسكو في السنوات الأخيرة نتيجة تدهور علاقاتهما مع العديد من الدول الأخرى.
تُكمِّل أدوات النفوذ الرئيسية لدى بكين وموسكو بعضها بعضاً، فقد أذعنت الصين لسيادة روسيا الأمنية في العديد من دول آسيا الوسطى، بينما تقبّل صانعو السياسات الروس الأنشطة الاقتصادية الصينية المتنامية في المنطقة، والتي يفتقرون إلى وسائل فعّالة لمقاومتها.
لقد وجدت روسيا والصين أن منظمة شنغهاي للتعاون مفيدة بشكل خاص لتنسيق سياساتهما، حيث وسعت الجهات الروسية والصينية مشاريعها المشتركة، بالتعاون مع الشركات في آسيا الوسطى واستغلال البنية التحتية الجديدة في المنطقة، كما وضعت موسكو وبكين خططاً معقدة لتمرير السلع الخاضعة للعقوبات الغربية من الصين إلى روسيا عبر آسيا الوسطى.
وجدت روسيا والصين أن منظمة شنغهاي للتعاون مفيدة بشكل خاص لتنسيق سياساتهما حيث وسعت الجهتان مشاريعها المشتركة بالتعاون مع الشركات في آسيا الوسطى
لطالما كانت آسيا الوسطى منطقةً للتنافس بين القوى العظمى نظراً لموقعها المحوري بين الصين وروسيا وأوروبا وجنوب آسيا والشرق الأوسط، إلا أن حكومات آسيا الوسطى قللت مؤخراً من أهمية هذه الرواية، وأكدت التزامها بسياسات متعددة الأبعاد، سعياً للاستفادة من الشراكات المتنوعة والتعددية الجيوسياسية.
خلال قمة C5+1 الأخيرة، تجنّب رؤساء دول آسيا الوسطى التركيز على بُعد التنافس بين القوى الكبرى، وأبرزوا الفوائد التي يمكن أن تحققها الولايات المتحدة من خلال الشراكة معهم، سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي، وعلى خلاف الإدارات السابقة، تجنّب مسؤولو إدارة ترامب علناً مطالبة قادة آسيا الوسطى بمعارضة حرب روسيا على أوكرانيا أو التصدي للنفوذ الاقتصادي المتزايد للصين في المنطقة، وخلال القمة وبعدها، بدا موقف الحكومتين الروسية والصينية متراخياً تجاه هذه القمة.
مع ذلك، حفّزت بعض السياسات الأمريكية كياناتٍ في آسيا الوسطى على التعاون مع شركائها الروس والصينيين للتهرّب من العقوبات، لكن في المقابل، قد يُعزّز انخراط الولايات المتحدة الأكبر في آسيا الوسطى، في ظلّ سيناريوهات مُحدّدة، استقلالية دولها، على الرغم من جوارها المضطرب.
قمة C5+1 الأخيرة منحت حكومات آسيا الوسطى حافزاً إضافياً للتعاون فيما بينها، وإذا تمكنت من تحقيق ذلك، فسيسهم في خلق أسواق أكبر، وجذب المزيد من المستثمرين الأجانب، وخفض التكاليف عبر الوفورات، كما أن زيادة التعاون داخل المنطقة ستمنح آسيا الوسطى مجالاً أكبر للمناورة بين القوى الكبرى، ما يعزز التعددية الجيوسياسية.
من المرجح أن يستمر التعاون الصيني-الروسي في آسيا الوسطى نظراً لأهدافهما المشتركة المتمثلة في مواجهة التهديدات العابرة للحدود، ومنع تغيير الأنظمة، والشراكة في المشاريع الاقتصادية المربحة للطرفين، وتقييد أنشطة الولايات المتحدة في المنطقة، لذلك فإن جهداً أمريكياً حثيثاً لتوسيع حضوره الاقتصادي في المنطقة سيكون أقل تهديداً من جهد أمريكي لاستعادة قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان، ومع ذلك، من المرجح أن يعزز هذا التعاون الصيني-الروسي في آسيا الوسطى.
يُشكّل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية تحدياتٍ أمام التعاون الصيني الروسي في آسيا الوسطى، وقد يدفع تشديد العقوبات الغربية، مع مرور الوقت، حكومات الصين وآسيا الوسطى إلى توسيع تعاونها التجاري غير الروسي، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك قرار بكين الأخير بالمضي قدماً في مشروع سكة حديد الصين-قيرغيزستان-أوزبكستان، المتعثر منذ فترة طويلة.
علاوةً على ذلك، قد يدفع تنامي النفوذ الاقتصادي للصين في آسيا الوسطى بكين إلى التخلي عن تبعيتها لموسكو في قضايا الدفاع الإقليمية، خاصةً إذا رأت بكين أن روسيا غير قادرة على الدفاع عن مصالحها.
قد يدفع تنامي النفوذ الاقتصادي للصين في آسيا الوسطى إلى التخلي عن تبعيتها لموسكو في قضايا الدفاع خاصةً إذا رأت بكين أن روسيا غير قادرة على الدفاع عن مصالحها
وعلى النقيض، فإن انتهاء الحرب الروسية-الأوكرانية سيمكن موسكو من إعادة توجيه مواردها نحو آسيا الوسطى، مع تقليل أهمية المنطقة في مساعدة روسيا والصين على الالتفاف على العقوبات، كما سيقلل انتهاء الحرب من حاجة روسيا للدعم العسكري الصيني، بينما سيزيد من احتمالات الانقسام الصيني-الروسي، وفي هذه الحالة، قد ترحب موسكو بتوسيع الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى لموازنة النفوذ المتنامي لبكين في المنطقة.
رغم أن حكومات آسيا الوسطى تعلّمت التكيّف مع سياسات القوى الخارجية المتغيرة، إلا أن استمرار اهتمام واشنطن وتوجيه مواردها نحو المنطقة سيكون ذا أهمية كبيرة، ليس فقط للمنطقة نفسها، بل أيضاً لتوازن القوى المتنافسة حولها.