Eagle Intelligence Reports

 الصحافة الأمريكية الحرة تواجه اختباراً حاسماً

Eagle Intelligence Reports • نوفمبر 2, 2025 •

يُمجِّد الأمريكيون التعديل الأول للدستور بعبارات تُستخدم عادة لوصف الوصايا العشر، فهو يُعدّ نصاً مقدساً في منظومة الحكم، جعل من البلاد منارة عالمية لحرية التعبير، ومع ذلك، فإن كثيراً من الأمريكيين يجدون صعوبة في تحديد الحريات التي يكفلها هذا التعديل بدقة.

واليوم، يبدو أن بعض المخضرمين في عالم الاستراتيجيات السياسية يستعدون لاستغلال هذه الفجوة بين التقديس والمعرفة، إذ يوجّهون أنظارهم نحو سابقة قضائية طالما اعتُبرت حجر الزاوية في ضمان حرية الصحافة التي يكفلها التعديل الأول، ويرى عدد من خبراء القانون أن ما يجري يُشكّل أخطر تهديد تتعرض له الصحافة الأمريكية منذ أكثر من خمسين عاماً.

الجماعة التي تقف وراء هذا الهجوم لا تُسمّي التعديل الأول صراحةً بوصفه هدفاً لها، وهي استراتيجية يُرجَّح أنها تعكس صعوبة الطعن في مبدأ يحظى بتقدير واسع، فاستهدافه بشكل مباشر سيكون بمثابة انتحار سياسي، إذ أظهر استطلاع أجرته مؤسسة فريدوم فوروُم عام 2025 أن أكثر من 90% من الأمريكيين يعتبرون التعديل الأول عنصراً أساسياً في مستقبل الأمة.

ويرى معظم الأمريكيين، نحو 74% بحسب استطلاع أجراه مركز آننبرغ للسياسات العامة، أن التعديل الأول يضمن حرية التعبير، ومع ذلك، فإن أقل من نصفهم استطاعوا تسمية الحريات الجوهرية الأخرى التي يكفلها، وهي: حرية الصحافة، وحرية الدين، وحقّ التجمّع، وحقّ الالتماس لرفع المظالم.

توماس في موقع محوري لدفع التغيير في قضية “سوليفان”

في قلب المعركة المرتقبة، يأتي حكم المحكمة في قضية شركة نيويورك تايمز ضد سوليفان، ورغم أن معظم الأمريكيين ربما لم يسمعوا بالقضية من قبل، إلا أن حكم سوليفان لعام 1946 يسمح للصحافة بالعمل بحرية أكبر، ونشر تقارير عن تصرفات الشخصيات البارزة التي تضع السياسات، أو تنفق المال العام، أو تتصدر عناوين الأخبار.

على الرغم من انتقادات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتكرّرة للصحافة، إلا أن القاضي في المحكمة العليا كلارنس توماس يُشكّل اليوم تهديداً مباشراً واستثنائياً لحرية الصحافة ولمستقبل سابقة سوليفان، وذلك بحكم موقعه وموقفه داخل أعلى هيئة قضائية في البلاد، فبينما يطالب ترامب بإجراء تغييرات قانونية، يقف توماس في موقع يمكّنه من التأثير على مراجعة المحكمة العليا للقضية وربما إعادة تفسيرها أو تعديلها، الأمر الذي يجعله قوة محورية في أي تحدٍّ قادم لحرية الصحافة.

رغم انتقادات ترامب المتكرّرة للصحافة إلا أن القاضي في المحكمة العليا كلارنس توماس يُشكّل اليوم تهديداً مباشراً واستثنائياً لحرية الصحافة

تتعلق قضية شركة نيويورك تايمز ضد سوليفان بمبدأ قانوني غامض، ولكنه بالغ الأهمية يُعرف بمعيار “الضرر المتعمد” في قضايا التشهير التي تشمل شخصيات عامة، حيث يمنح هذا المبدأ الصحفيين والمعلقين والناشطين حرية واسعة في كشف تجاوزات أصحاب النفوذ والسلطة.

وينسب إلى هذا الحكم الفضل في تمكين عدد من الإنجازات الصحفية التاريخية، مثل فضيحة “ووترغيت” التي أدّت إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، ونشر أوراق البنتاغون التي كشفت عن إخفاقات القيادة والتضليل المستخدم لتبرير حرب فيتنام.

شاحنة إعلانية متنقلة تدعو توماس إلى التنحّي عن قضايا السادس من يناير في واشنطن (أ ف ب)
إعلان خاطئ وسابقة في محكمة سوليفان العليا

لم يكن كشف الصحيفة للأحداث هو ما أثار القضية، ففي عام 1960، نشر ناشطون في مجال الحقوق المدنية إعلاناً في صحيفة نيويورك تايمز ينتقد شرطة مدينة مونتغومري، وعلى إثر ذلك رفع “إل. بي. سوليفان”، مفوّض الشرطة المحلي، دعوى قضائية بسبب أخطاء بسيطة في الإعلان، حيث خسرت الصحيفة في محاكم الولاية والمحاكم الابتدائية، ثم استأنفت القضية أمام المحكمة العليا الأمريكية.

في عام 1964، حكمت المحكمة العليا بأن على المسؤولين الحكوميين إثبات أن البيانات الكاذبة صدرت بـ”نية الضرر المتعمد”، أي أن الصحيفة كانت تعلم بزيف هذه التصريحات أو نشرتها بتجاهل متعمد للحقيقة.

كتب القاضي ويليام برينان، الذي صاغ رأي المحكمة مع زملائه القضاة، أن الأخطاء أمر لا مفر منه في النقاش الحر ويجب حمايتها لمنح حرية التعبير “المساحة اللازمة”، وحذّر من أنه إذا لم يتم حماية هذه الحرية، فإن تهديدات التشهير ستخنق النقد وتضعف المساءلة الديمقراطية.

وقد جعل معيار “الضرر المتعمد” من الصعب على المسؤولين الحكوميين الفوز في دعاوى التشهير، ما منح الصحافة مساحة واسعة للكشف عن التجاوزات والانتهاكات دون الخوف الدائم من الملاحقة القانونية.

الآن، يسعى القاضي توماس وحلفاؤه إلى إلغاء أو تعديل معيار “الضرر المتعمد” الذي أقرّه هذا الحكم.

توماس يتجنّب الإجابة عن أسئلة حول القضية خلال جلسات الاستماع

خلال جلسات تثبيت تعيينه عام 1991، لم ينتقد توماس حكم سوليفان، وكحال معظم المرشحين القضائيين، قدّم إجابات غامضة على الأسئلة الصعبة المتعلقة بالقضايا السابقة، بما في ذلك سوليفان، وقال: “إنه لا يستطيع التعليق على القضايا التي قد تُعرض على المحكمة في المستقبل.”

لكن بعد سنوات من التغطية الإعلامية السلبية المتعلقة بتوماس وزوجته جيني توماس، الناشطة المحافظة، تغيّرت وجهات نظر القاضي بشكل واضح، وهو ما يبدو استجابة مباشرة لهذا التدقيق الإعلامي والمجتمعي.

في عام 2019، أصدر توماس رأياً قضائياً مكوناً من 12 صفحة في قضية تشهير تتعلق بالممثل بيل كوسبي، داعياً المحكمة إلى إعادة النظر في حكم سوليفان.

 وصرّح توماس بأن التعديل الأول للدستور لا يتناول قضايا القدح والذم (التشهير)، وأن سابقة المحكمة لم تُبَنَ على نصوص الدستور، بل على ما وصفه بـ”الاستدلال العام”.

وأضاف: “إن قوانين التشهير يجب أن تُبتَّ في محاكم الولايات، وهو خيار من شأنه أن يجعل من الأسهل على المسؤولين الحكوميين مقاضاة منتقديهم”.

توماس يثبت جدارته أمام المحافظين

لسنوات عدة، تعاملت الصحافة مع توماس على أنه شخصية ذات خلفية مثيرة للجدل، شملت إفصاحات مالية مثيرة للجدل حول نشاطاته ونشاطات زوجته خارج المحكمة، لكن تحدّي توماس لحكم سوليفان أكسبه مصداقية أكبر في الأوساط المحافظة، فقد جادل بقوة بأن هذه السابقة لم تكن مجرد نزاع حول قوانين التشهير، بل أصبحت جزءاً من صراع فلسفي أوسع بين تفسيرين مختلفين للدستور.

تعاملت الصحافة مع توماس لسنوات عدة على أنه شخصية ذات خلفية مثيرة للجدل لكن تحدّيه لحكم سوليفان أكسبه مصداقية أكبر في الأوساط المحافظة

لا شك أن هاتين القراءتين ستشكلان المحكمة العليا، وستكون لهما تداعيات واسعة النطاق على الحريات المنصوص عليها في التعديل الأول، إلا أن تحديه لسابقة تحظى باحترام الصحافة والليبراليين، وضعه بوضوح في المعسكر المحافظ للفلسفة القضائية المعروفة بالأصوليّة الدستورية.

الأصولية مقابل الدستورية الحيّة

يقوم القضاة الأصليون بتفسير الدستور بناءً على كيفية فهم الآباء المؤسسون للغة الوثيقة عند التصديق عليها في القرن الثامن عشر، وبموجب الفلسفة القضائية لتوماس، فإن التعديل الأول لم يذكر صراحة حماية من التشهير أو أي شيء يتعلق بـ”الضرر المتعمد”، لذلك، يرى توماس والأصليون أن هذه الحمايات تفتقر إلى الشرعية الدستورية وأنها تتجاوز الدور المناسب للمحكمة العليا.

المعيار القضائي الذي صاغه توماس يتناقض بشكل حاد مع فلسفة الدستورية الحيّة،
فالكثير من القضاة الوسطيين يدعمون هذا النهج في تفسير الدستور، معتبرين أنه يعبر عن مبادئ عامة تتطور مع المجتمع وتتكيّف مع ظروف لم يكن يمكن تصورها في القرن الثامن عشر، وبالنسبة لهم، فإن سابقة سوليفان تعد تطبيقاً حرفياً للتعديل الأول بما يتوافق مع احتياجات الديمقراطية الحديثة، خصوصاً في ظل الثورة السريعة في وسائل الإعلام والسياسة.  

لقد جعل هذا الانقسام القاضي توماس رمزاً للمحافظين، لكن الحجج تتجاوز مجرد النظرية القضائية، فالأصوليّة الدستورية تجذب أولئك الذين يرون أن النشاط الليبرالي في أحكام المحكمة يشوّه الفقه القانوني، بينما تجذب الدستورية الحيّة أولئك الذين يعتبرون أن الوثيقة المؤسسة تمثل عقداً اجتماعياً حيّاً يتطور مع الزمن.

وأصبحت سابقة سوليفان اليوم بمثابة رمز للصراع الأكبر حول ما إذا كان الدستور وثيقة ثابتة لا تتغير أم نصاً حيّاً يتطور مع الزمن، وسيشكّل هذا الصراع تفسير المحكمة للتعديل الأول وحريات المواطنين المكفولة به لعقود قادمة.

أصبحت سابقة سوليفان اليوم بمثابة رمز للصراع الأكبر حول ما إذا كان الدستور وثيقة ثابتة لا تتغير أم نصاً حيّاً يتطور مع الزمن

المحكمة العليا الحالية تميل نحو الأصوليّة الدستورية

لم يؤيد أي من القضاة الثمانية الآخرين تصريحات توماس في قضية التشهير لعام 2019، لكن كلماته ترددت أصداؤها في الأوساط القانونية والسياسية، حيث جذبت انتقاداته أنصار الراحل أنطون سكاليا، القاضي البارز في المحكمة العليا الذي رأى في الأصالة حصناً منيعاً ضد عقود من النشاط القضائي الليبرالي،
ومع وجود خمسة قضاة آخرين على الأقل في المحكمة الحالية متعاطفين مع الأصوليّة الدستورية، يعتقد كثيرون أن المحكمة تنتظر القضية المناسبة لإعادة النظر في قضية سوليفان.

سيمتد تأثير إلغاء قرار سوليفان إلى ما هو أبعد من المشهد الإعلامي الأمريكي، فعلى مدى ستة عقود، اعتبر العالم الديمقراطي سابقة سوليفان نموذجاً لحرية الصحافة.

​​وتستشهد المحاكم في دول مثل: كندا والهند وجنوب أفريقيا والمملكة المتحدة، بسابقة سوليفان بشكل روتيني لضمان وتعزيز حماية موسعة للتقارير الاستقصائية والنقد السياسي.

عشرات الصحفيين والمصورين وأنصارهم يشاركون في تجمع “الصحافة ليست جريمة” في مانهاتن بالولايات المتحدة (أ ف ب)
إلغاء حكم سوليفان سيضر بالصحافة الحرة في الولايات المتحدة

سيبعث إلغاء الحكم برسالة مقلقة للصحافة الحرة، إذ سيشير إلى أن أمريكا، المعيار الذهبي لحرية التعبير، قد ترغب في التراجع عن التزاماتها تجاه التعديل الأول،
وسيصبح على الصحافة الحرة طوق رمزي معلّق حول عنقها، وقد تستغل أنظمة في هنغاريا وبولندا وتركيا وإثيوبيا وفنزويلا هذا التحوّل لتبرير تشديد قوانين التشهير وفرض الرقابة، مدعية أنها تتبع خطوات أمريكا.

كما أن إغلاق محتمل لإذاعات صوت أمريكا، وأوروبا الحرة – إذاعة الحرية، وإذاعة آسيا الحرة إضافةً إلى خفض مساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للصحفيين المُعرضين للخطر، سيزيد من الأضرار الرمزية، وقد تتأثر القوة الناعمة الأمريكية بشكل عميق، ما يقوض مصداقية أمريكا كمدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

على الصعيد المحلي، قد يكون إعادة النظر في سابقة سوليفان أمر بالغة الأهمية،
فبدون حماية الحكم الصادر في عصر الحقوق المدنية، يمكن للشخصيات القوية استغلال دعاوى التشهير لتخويف الصحفيين والعلماء والمواطنين العاديين، لا سيما وسائل الإعلام الصغيرة، وإجبارهم على الدفاع عن أنفسهم في دعاوى قضائية مكلفة.

بدون حماية الحكم الصادر في عصر الحقوق المدنية يمكن للشخصيات القوية استغلال دعاوى التشهير لتخويف الصحفيين والعلماء والمواطنين العاديين

ولن يخفف هذا الوضع من تأثيره السلبي على الصحافة الاستقصائية فحسب، بل قد يؤدي إلى إسكات المبلغين عن المخالفات وإضعاف دور الصحافة كجهة رقابية،
وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، كما سيمتد التأثير إلى ما هو أبعد من الصحافة التقليدية، ليشمل المدونين ومقدمي البودكاست والمواطنين العاديين الذين ينتقدون المسؤولين الحكوميين، الذين قد يصبحون عرضة للمساءلة القانونية أو التضييق.

الآباء المؤسسون كانوا مدركين للديكتاتورية

بالنسبة لمنتقدي وجهات نظر القاضي توماس، فإن العواقب المحتملة تسلط الضوء على الخطر الذي أراد الآباء المؤسسون تفاديه، إذ لم يكن بإمكانهم التنبؤ بعصر الرقمنة، لكنهم كانوا يدركون كيف يمكن لحكومة استبدادية أن تُسيطر على حرية التعبير والصحافة، وقد أنشأ المؤسسون التعديل الأول ليس فقط لحماية الخطاب العام العقلاني، بل أيضاً لضمان حق المعارضة، حتى عندما يكون النقد مزعجاً أو غير دقيق أو خاطئاً.

إلغاء حكم سوليفان سيكون له تأثير يتجاوز حدود قوانين التشهير، فهو سيعيد تقييم الثقل الذي تمنحه الحكومات حول العالم للسلطة مقابل الحقيقة، كما أن إعادة النظر في الحكم سيعيد تعريف مفهوم الديمقراطية، فإذا كان الآباء المؤسسون يخشون الطغيان من الملوك، فإن الأمريكيين اليوم عليهم الحذر من عودته بطرق أكثر تخفياً عبر المحاكم.