Eagle Intelligence Reports

أزمة أوكرانيا في ظل تغيّر استراتيجية ترامب

Eagle Intelligence Reports • يونيو 26, 2025 •

كاتب

  • منصة عالمية موثوقة، متخصصة في تقديم تحليلات سياسية، واستراتيجية معمقة، إضافة إلى معلومات استخباراتية حصرية، لصنّاع القرار والباحثين والجمهور المهتم بشؤون العلاقات الدولية الراهنة.

    View all posts

خلال حملته الانتخابية، عرض دونالد ترامب قدرته على إنهاء الصراع بين روسيا وأوكرانيا بسرعة، كدليل على كفاءته في السياسة الخارجية.

ولكن مع مرور نحو 160 يوماً على هذا العرض، لا تزال الأزمة بين البلدين تراوح مكانها، من دون تقدم يذكر، فبعد أكثر من خمسة أشهر على تولّي ترامب الرئاسة، تتصاعد وتيرة الحرب بدلاً من أن تقترب من نهايتها.

وترامب، الذي ألّف كتاب فنّ الصفقة وتعهّد بثقة بإنهاء الحرب سريعاً، يتسم أداءه حتى الآن بالتباطؤ والتردد، والافتقار إلى الحسم الفعلي.

ينقسم المحللون اليوم بين من يتوقعون إمكانية التوصل إلى تسوية في المستقبل القريب، ومن يرون أن الصراع لا يزال بعيداً عن أي انفراج دبلوماسي محتمل، أما جولات المحادثات والزيارات المتكررة إلى موسكو وكييف والشرق الأوسط، فلم تُفضِ حتى الآن إلى نتائج ملموسة في مسار الأزمة.

ترامب يواجه خصماً بارعاً ومحنكاً يسعى لاختبار صبر الرئيس الأميركي لإجبار أوكرانيا على التوقيع على ما عجزت روسيا عن تحقيقه بالقوة

الخصم البارع

قبل خمسة أشهر فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بموقفه، في الوقت الذي أبدى فيه إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنه اليوم عقب زعمه أنه حصل على التزام روسي بوقف إطلاق نار محدود، لا سيما فيما يتعلق بالبنية التحتية للطاقة، إلا أنه لم يحرز أي تقدّم فعلي في إقناع بوتين بالانخراط في مفاوضات رسمية.

وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن ترامب بصدد تغيير نهجه في محاولة لجمع الزعيمين إلى طاولة التفاوض، بعد أن أثبتت مساعيه هذه أنها بالغة الصعوبة، كما توقّع الجميع باستثناء ترامب وفريقه، حيث بدأت نبرة إدارته تتغيّر بشكل طفيف، مع إدراك حجم التحديات التي سيواجهونها.

ولكن مع بوتين، يواجه ترامب خصماً بارعاً ومحنّكاً يسعى إلى اختبار صبر الرئيس الأميركي من أجل دفع أوكرانيا، إلى القبول باتفاق تتنازل فيه عن مكاسب لم تتمكن روسيا من تحقيقها عبر القوة العسكرية على الأرض.

موقف ترامب  

في البداية، وضع مساعدو ترامب، ومن بينهم المبعوث الأميركي لأوكرانيا كيث كيلوج، استراتيجية واضحة، تنص على أن الولايات المتحدة ستوقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا ما لم توافق الأخيرة على الدخول في مفاوضات سلام مع روسيا.

وكانت الخطة تقضي بزيادة الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا في حال رفضت روسيا التوصل إلى اتفاق سلام.

غير أن ترامب لم يلتزم بهذه الخطة، إذ رفض زيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وتردد في فرض عقوبات على روسيا، رغم رفض موسكو قبول وقف إطلاق النار، وبدلاً من ذلك، تذبذب موقفه بين انتقاد الكرملين ومدح بوتين.

 ترامب وبوتين

أبدت إدارة ترامب استعدادها لتقديم تنازلات كبيرة لموسكو، شملت اعتراف الولايات المتحدة بضم روسيا غير القانوني لشبه جزيرة القرم، وفرض حظر على انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، بالإضافة إلى رفع العقوبات المفروضة على روسيا.

ومع ذلك، يرفض الزعيم الروسي منح ترامب السلام الذي وعد به.

ولكن على مدار نصف عام، هدد ترامب بالانسحاب من المفاوضات المحبطة حول وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، وفي غضون شهر من توليه رئاسة الولايات المتحدة، شهدت السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا تحولات ملحوظة؛ فقد تحول الالتزام الأميركي الكامل الذي كان يهدف إلى هزيمة روسيا استراتيجياً قبل عدة أشهر إلى رفض لمواجهة الخصم.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سيتخلى ترامب أيضاً عن سياسة دعم أوكرانيا التي استمرت لأربع سنوات؟.

مصالح الولايات المتحدة  

يسعى ترامب إلى تحقيق السلام لتجنب استمرار الإنفاق الأميركي على حرب مستعصية الحل العسكري.

وعلى النقيض من ذلك، يطالب أوكرانيا بالتخلي عن حقوقها في مواردها المعدنية القيمة، فترامب لا يتوقف عن وصف الحرب بأنها “غبية” و”غير عادلة”، مؤكداً أن الولايات المتحدة لم تحقق أي مكاسب تذكر مقابل دعمها العسكري.

 وهذا يشير، إلى أن نهجه في الصفقة مع روسيا قد يؤدي عملياً إلى تنازلات جوهرية لصالح الكرملين، تشمل الموارد النادرة التي تملكها أوكرانيا.

ترامب خلال حملته الانتخابية وعد بأنه سيعمل على تحقيق السلام بين روسيا وأوكرانيا خلال 24 ساعة فقط ليكتشف بعدها أن الحرب على عكس الأعمال التجارية لا تخضع لمن نصبوا أنفسهم صناع صفقات

  ترامب المحبط

كان ترامب من المعجبين العلنيين ببوتين، لكنه تحول إلى مهاجم لاذع للرئيس الروسي، خاصة في ظل تصاعد هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ، ووصف بوتين بـ”المجنون” وحذر من أنه “يلعب بالنار”، في صورة تعكس تحول حاد عن مواقفه السابقة.

وهذا التحول في الموقف يمثل تراجعاً واضحاً، حيث هدد ترامب في منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي بفرض تعريفات جمركية وعقوبات قاسية على روسيا إذا رفضت الانضمام إلى أوكرانيا في إعلان وقف إطلاق نار غير مشروط لمدة 30 يوماً.

مع العلم أن ترامب كان قد أعلن خلال حملته الانتخابية بثقة مطلقة أنه سيحقق السلام بين روسيا وأوكرانيا خلال 24 ساعة فقط، ما أعطى انطباعاً بأنه المفاوض المتمرس القادر على إنجاز ما عجز عنه الآخرون.

ومنذ ذلك الحين، اكتشف أنه أكثر صعوبةً بكثير مما كان يتخيل، إذ كان افتراض ترامب أنه يستطيع إرغام أوكرانيا على تقديم ما تريده موسكو من خلال تبني الرواية الروسية حول الحرب وتهديده بقطع الدعم الأمريكي عن كييف، لكنه كما كان متوقعاً فإن هذا النهج قد فشل.

الخيار الأمريكي لتضييق الخناق

يبدو أن تعهّد دونالد ترامب بإنهاء الحرب بات يترنح ويفقد زخمه يوماً بعد يوم، والاحتمالات تتزايد بأن تلك الوعود قد تبقى مجرد كلام انتخابي، ما دفعه إلى التهديد باتخاذ إجراءات أكثر جرأة؛ إذ توعّد بفرض تعريفة جمركية تصل إلى 50% على الدول التي تواصل شراء النفط الروسي، ما لم يُقدِم الرئيس فلاديمير بوتين على إعلان وقفٍ فوري لإطلاق النار.

وفي ظل مماطلة موسكو وتعطيلها لمسارات التفاوض، يتصاعد إحباط ترامب بشكل واضح.

ومع ذلك، لا يزال يملك أوراق ضغط مؤثرة، من أبرزها التلويح بفرض عقوبات صارمة على “أسطول الظل” الروسي، وهو شبكة من ناقلات النفط غير القانونية التي كانت شرياناً رئيسياً لتمويل الحرب الروسية على مدار السنوات الثلاث الماضية.

ولكن وفقاً لجميع المعطيات، فإن ترامب يفكر جدياً في تنفيذ هذا التهديد إذا لم يتم التوصل إلى هدنة بحلول نهاية الشهر الجاري.

وهذا يشير إلى أنه، ضمن استراتيجية الضغط الأقصى التي تعكف الإدارة الأمريكية على صياغتها، تلعب العقوبات دوراً محورياً في الدفع نحو التفاوض.

وفي تطور لافت، أعلن السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام أن 72 عضواً في مجلس الشيوخ قد أبدوا تأييدهم لفرض عقوبات وصفها بـ”الساحقة” ضد موسكو، تستهدف قلب قطاع الطاقة الروسي، التي ستشلّ صادرات النفط والغاز، وستضاعف من تداعيات التراجع الحاد في أسعار الطاقة بفعل الرسوم الجمركية.

وفي ظل تباطؤ الاقتصاد الروسي، حيث بلغ معدل النمو 1.4%، بينما ارتفع العجز في الموازنة إلى 1.7%، فإن مثل هذه العقوبات قد تأتي في توقيت قاتل لآلة بوتين الحربية، وتدفع الكرملين نحو خيارات أكثر مرارة.

ماذا يريد بوتين؟

على النقيض من ذلك، لا يُظهر فلاديمير بوتين أي نية لإنهاء القتال أو التراجع عن شروطه القصوى للتوصل إلى هدنة.

وحتى هذه اللحظة، يصر بوتين على نزع السلاح من أوكرانيا، ومنعها من الانضمام إلى حلف الناتو، ورفض تقديم أي ضمانات أمنية لها، كما يطالب باعتراف عالمي بالأراضي الأوكرانية التي احتلتها موسكو خلال الحرب باعتبارها أراضٍ روسية.

بينما أكدت أوكرانيا مراراً أنها لن تقبل أبداً بهذه الشروط كجزء من أي اتفاق لوقف إطلاق النار مع موسكو، فالمزاج الشعبي في الداخل، بالإضافة إلى موقف الجيش، لا يمكن تجاهله، بل إن هناك قناعة راسخة داخل القوات المسلحة الأوكرانية برفض أي صفقة تترك بلادهم بهذا القدر من الضعف والهشاشة.

مع ذلك، تأتي محاولات الدفع نحو السلام هذه في وقت تشن فيه روسيا هجوماً جديداً على مدن استراتيجية في شرق أوكرانيا، من بينها بوكروفسك وتوريتسك وتشاسيف يار، في مؤشر واضح على أن موسكو لا تزال تفضّل الخيار العسكري على الحلول السياسية.

الهجوم الصيفي الروسي  

مع دخول الحرب بين البلدين صيفها الرابع، عادت روسيا إلى الهجوم على أوكرانيا من جديد، ما يعني أنه بعد جهود حثيثة لوقف إطلاق النار برعاية فاترة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تصاعدت وتيرة القتال بين روسيا وأوكرانيا بشكل غير مسبوق.

بالتزامن مع ذلك، حذرت كييف في الأشهر الماضية من أن موسكو تستعد لهجوم جديد وواسع داخل الأراضي الأوكرانية لتعزيز موقفها التفاوضي، إذ تحدث مسؤولون أوكرانيون مؤخراً عن تصاعد العمليات العسكرية الروسية في منطقتَي خاركيف وسومي شمال شرقي البلاد.

وبحسب منظمة “ديب ستيت”، وهي مجموعة أوكرانية متخصصة في تتبّع مجريات الصراع باستخدام لقطات من أرض المعركة، فإن القوات الروسية نفذت خلال فترة وقف إطلاق النار الأحادي الذي أعلنته موسكو من 8 إلى 10 مايو الماضي، عدداً من الهجمات اليومية يفوق ما نفذته في نفس الفترة من أبريل، إذ سُجِّلت نحو 155 هجوماً منفصلاً يوميّاً خلال تلك الأيام الثلاثة فقط.

وعلى النقيض من ذلك، فإن جميع المؤشرات الآن تنذر بأن ما حدث ليس سوى تمهيد للحدث الكبير المنتظر، بهجوم صيفي واسع النطاق تسعى روسيا من خلاله إلى كسر الروح المعنوية الأوكرانية ومنح الرئيس فلاديمير بوتين نصراً مهما كلّف الثمن.

روسيا تفتح جبهات جديدة  

لأول مرة منذ اندلاع الحرب قبل أربع سنوات، اخترقت القوات الروسية حدود منطقة دنيبروبتروفسك، في تطور يُعدّ تحولاً استراتيجياً خطيراً يُبرز تغيّر موازين القوى على الأرض.

وبعد شهور من التقدم البطيء، باتت القوات الروسية الآن تتحرك على الجبهات الأوكرانية بأسرع وتيرة منذ بداية عام 2025.

وقد كثّفت موسكو قصفها للمدن الأوكرانية باستخدام طائرات مسيّرة وصواريخ بعيدة المدى تُعدّ من الأكبر والأكثر تدميراً، وافتتحت جبهة جديدة في شمال أوكرانيا، في إشارة واضحة إلى أن الهجوم الصيفي الذي طالما لوّح به الكرملين قد دخل حيّز التنفيذ.

وهذا يشير إلى أن هذه التطورات تكشف عن زخم ميداني متصاعد للجانب الروسي، ففي مايو وحده، سيطرت موسكو على ما يزيد عن 200 ميل مربع من الأراضي الأوكرانية، أي أكثر من ضعف ما حققته في أبريل.

ووفقاً لتقرير صادر عن مجموعة “بلاك بيرد” الفنلندية المتخصصة في رصد تحركات المعارك، يُعد هذا التقدم ثاني أكبر توسع ميداني تحققه روسيا منذ السنة الأولى للحرب.

لكن هذه المكاسب المتسارعة لا تعني فقط تعزيز الموقف الروسي في الميدان، بل توجّه رسالة سياسية وعسكرية حاسمة لأوكرانيا وحلفائها الغربيين، بأن موسكو لم تتراجع، بل تستعد للمرحلة الأشدّ من الحرب.

التحرك الروسي للخريف  

وهذا يشير إلى أن أسوأ السيناريوهات المتوقعة تفيد بأنه إذا نجحت القوات الروسية في تنفيذ خطتها في منطقة دونيتسك خلال صيف 2025، فقد تشن هجوماً على خاركيف في الخريف المقبل.

وفي الوقت نفسه، هناك عنصران حيويان في الدفاع الأوكراني سيحاول الروس بلا شك استهدافهما لإضعاف قدرات أوكرانيا الدفاعية، حيث ستُستخدم القنابل الموجهة المزودة بوحدات UMPK (الوحدة الشاملة للتوجيه والتصحيح) لهذا الغرض.

وبالفعل، وجهت روسيا مؤخراً أنظارها نحو مدينة سومي في شمال أوكرانيا، حيث نشرت أكثر من 67,000 جندي، وشنت هجمات صاروخية أسفرت عن مقتل 31 مدنياً في سومي خلال يومين فقط.

كما تتقدم القوات الروسية حول كوستانتينيفكا وفي منطقة سومي باستخدام وحدات صغيرة وسريعة الحركة، في حين يعتمد الطرفان على تكتيك جديد يتمثل في استخدام الدراجات النارية والسيارات المدنية لعبور المناطق المفتوحة بسرعة.

يُظهر الهجوم الصيفي الروسي في شرق أوكرانيا، الذي انطلق في مايو، مكاسب ميدانية على عدة جبهات، مع تكثيف الهجمات والتمهيدات بواسطة وحدات صغيرة وسريعة الحركة، في ظل تصاعد القتال يوماً بعد يوم.

تثبيت المكاسب

مع تقدّمها، غيّرت روسيا إيقاع الحرب بشكل واضح، إذ استولت في مايو الماضي على نحو 173 ميلاً مربعاً، أي أكثر من ضعف ما حققته في أبريل، وفقاً لمجموعة “ديب ستيت”.

وجاءت معظم المكاسب جنوب كوستانتينيفكا في منطقة دونيتسك، وقرب الحدود الروسية في شمال منطقة سومي.

وقد قدّرت وزارة الدفاع البريطانية أن القوات الروسية سيطرت على مساحة إضافية تبلغ 143 كيلومتراً مربعاً (55 ميلاً مربعاً) من الأراضي الأوكرانية في مارس، مقارنة بـ196 كيلومتراً مربعاً (75 ميلاً مربعاً) في فبراير، و326 كيلومتراً مربعاً (125 ميلاً مربعاً) في يناير الماضي.

أما معهد دراسة الحرب في واشنطن بين أن روسيا حققت مكاسب بلغت 203 كيلومترات مربعة (78 ميلاً مربعاً) في مارس، و354 كيلومتراً مربعاً (136 ميلاً مربعاً) في فبراير، و427 كيلومتراً مربعاً (165 ميلاً مربعاً) في يناير.

لكن مع انطلاق موسم الهجوم الصيفي، بات واضحاً أن روسيا قد حولت جهودها الرئيسية نحو زعزعة استقرار أوكرانيا بشكل دائم، فهل سينجح بوتين في هذا التحرك؟.

يرى المحللون أن روسيا لا تمتلك الموارد اللازمة لشن هجمات واسعة النطاق على نقاط متعددة عبر مئات الأميال من الخطوط الأمامية هذا الصيف، لكنها قد تركز قوات ومعدات أكبر في نقاط محددة لإبقاء الدفاعات الأوكرانية تحت الضغط المستمر.

ويؤكدون أن القوات الروسية بدأت هذا الشهر أحدث محاولاتها المركزة لتحقيق اختراق، رغم استمرار ممثلي موسكو في المشاركة بمحادثات سلام مباشرة مع أوكرانيا منذ عام 2022.

كما تعمل روسيا على توسيع عدة ألوية لتصبح فرقاً أكبر، وكل هذه الخطوات ستستغرق سنوات لتنفيذها، لكن إذا نجحت، حسب ما تلاحظ وكالة المخابرات الليتوانية، فإنها ستزيد عدد القوات والمعدات والأسلحة على جبهتها الغربية بنسبة تتراوح بين 30 إلى 50 %.

التحديات الداخلية

على الورق، تمتلك روسيا خططاً ضخمة، تهدف إلى زيادة عدد قواتها المسلحة إلى 1.5 مليون جندي، مقارنة بنحو 1.3 مليون في سبتمبر الماضي.

وفي عام 2023، أعلنت موسكو عن تشكيل الفيلق 44، في كارليا على الحدود الفنلندية، حيث تكبدت أول وحداته خسائر كبيرة في أوكرانيا خلال العام الماضي.

بعد ثلاث سنوات من القتال، تحولت الحرب إلى أيديولوجية تهيمن على المجتمع الروسي، حيث كان 60% من الروس يرون أن الأولوية يجب أن تكون لرفع مستوى المعيشة، أما اليوم، فقد انخفضت هذه النسبة إلى 41%، بينما يعبر 55% منهم عن رغبتهم في أن تُحترم روسيا كقوة عالمية، مع العلم أن بوتين قد جعل المجتمع الروسي بأكمله في حالة تعبئة دائمة للحرب.

اقتصاد الحرب

تشكل صناعة الأسلحة الروسية مصدراً هاماً للتوظيف، إذ تبلغ المدفوعات السخية للجنود وعائلاتهم نحو 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

ووصل الإنفاق الدفاعي الروسي إلى أعلى مستوياته منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث يمثل الآن ثلث إجمالي الإنفاق الحكومي.

كما زادت ميزانية الحكومة بنسبة 26% العام الماضي، ومن المتوقع أن ترتفع بنسبة 16% إضافية العام المقبل.

وبلغ الإنفاق الدفاعي العام الماضي نحو 13.1 تريليون روبل (145.9 مليار دولار)، بما يعادل 6.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 40% عن العام السابق.

وعلى النقيض من ذلك، يشهد الإنفاق على الصحة والتعليم تراجعاً حقيقياً، حيث يستخدم بوتين الحرب ذريعة لتعزيز القمع والتشدد، مع مزيد من العزلة عن الغرب.

التحدي الديموغرافي

قبل الحرب كان عدد سكان روسيا، يبلغ 144 مليون نسمة، وكان حجم القوى العاملة نحو 75 مليون شخص وكلاهما شهدا انخفاضاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة.


وللحفاظ على معدل التجنيد الحالي البالغ 30,000 جندي شهرياً، اضطر الجيش إلى رفع مكافأة الانتساب إليه إلى أكثر من خمسة أضعاف، من 200,000 روبل في بداية الحرب إلى نحو 1.2 مليون روبل في المتوسط الآن.

ومع ذلك، فرّ ما لا يقل عن 650,000 روسي وربما مليون، من البلاد لتجنب الالتحاق بآلة الحرب المستمرة، فرغم أن هذا الرقم يشكل نحو 1% فقط من القوى العاملة قبل الحرب، إلا أن من هربوا هم من الشباب والمؤيدين والمتعلمين.

في الوقت نفسه، انخفض معدل الولادات إلى مستويات لم تُرَ منذ تسعينيات القرن الماضي، في أسوأ مراحل الانهيار الاقتصادي الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إذ كان من المتوقع أن تنجب المرأة الروسية النموذجية 1.4 طفلاً خلال حياتها، وهو معدل أقل بكثير من 2.1 طفلاً اللازم للحفاظ على استقرار عدد السكان.

وفي يناير من هذا العام، سجل عدد المواليد أقل من 100,000 للمرة الأولى في تاريخ روسيا، حتى لو انتهت الحرب غداً، فقد غيّرت بالفعل المسار الديموغرافي لروسيا.

الروس المُغتربون

أجرى مختبر السوسيولوجيا العامة، وهو مجموعة بحثية مستقلة، دراسة حديثة تعكس مدى شعور الروس العاديين بالغربة حيال الحرب، شملت ثلاث مدن إقليمية، كل منها في منطقة مختلفة، بورياتيا في شرق روسيا، والأورال في الوسط، وكراسنودار في الجنوب.

وعلى مدار عدة أسابيع، أجرى علماء الأنثروبولوجيا مقابلات ورصدوا الحياة اليومية، مقدمين تقارير مباشرة عن المزاج في قلب المنطقة السياسية لبوتين.

أظهرت الدراسة أن الروس في هذه المناطق ليسوا مناصرَين متعصبين أو أتباعاً كما يُعتقد في العادة، بل يعانون من شعور بالغربة تجاه الدولة، ومثلهم الوطنيين المتشددين، وكذلك المنفيين المؤيدين للغرب، وفي المدن الثلاث، تكاد الدعاية المؤيدة للحرب أن تختفي بالكامل.

التزام الرئيس فلاديمير بوتين الثابت بطموحه الأقصى في أوكرانيا أدى إلى استقطاب المجتمع الروسي، حيث أظهر استطلاع لمركز ليفادا في مارس 2025 أن 59% من الروس يؤيدون بدء مفاوضات السلام، وارتفعت هذه النسبة إلى 76% من بين الروس الذين تقل أعمارهم عن 24 عاماً.

العقوبات الأجنبية

أدت العقوبات الأجنبية إلى شل الصناعة الروسية عبر حرمانها من المواد الحيوية اللازمة لإنتاج بعض الأسلحة المتقدمة تكنولوجياً، ومثال على ذلك مادة التانتالوم، وهي معدن نادر يُستخدم في المكثفات في معظم الصناعات التقنية العالية.

كما تُعد مكثفات التانتالوم، المستخدمة في مكونات متعددة، ضرورية للإمدادات العسكرية الروسية الجديدة والأكثر تقدماً، من الصواريخ المجنحة والبالستية إلى الطائرات المسيرة والدبابات.

ويُستخرج هذا العنصر النادر أساساً من دول مثل: جمهورية الكونغو الديمقراطية والبرازيل والصين، التي تزود معظم دول العالم به.

 ومع ذلك، تواجه روسيا صعوبة في الحصول على كميات كافية من التانتالوم لصناعة أسلحتها، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على هذا العنصر.

وتستورد روسيا معظم التانتالوم من جمهورية الكونغو الديمقراطية والبرازيل والصين، الموردين الرئيسين له، وقد أدت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إلى تضييق تلك الإمدادات.

موقف أوكرانيا

اعتقد الرئيس دونالد ترامب أنه يستطيع دفع الأوكرانيين للموافقة على تبادل الأراضي مقابل السلام، لكن هذا من منظور نظري قد يكون ذلك ممكناً في العلاقات الدولية، إلا أنه لو نجح  فإن أوكرانيا ستجد نفسها في النهاية بلا سلام وبلا أرض.

علاوة على ذلك، من غير المرجح أن توافق أوكرانيا على مثل هذا الاتفاق، إذ لن يؤدي ذلك فقط إلى بقاء 20% من أراضيها تحت الاحتلال، بل سيفتح الباب أمام اندلاع حرب جديدة تحمل طموحات مماثلة، وسرقة مستقبل الأطفال الأوكرانيين.

  عضوية الناتو

لقد استبعدت الولايات المتحدة بالفعل انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وضغطت أيضاً على كييف لاقتراح وقف إطلاق نار لمدة 30 يوماً.

وتضع إدارة ترامب أوكرانيا أمام خيارين أحلاهما مر، إما أن تقبل كييف بخطة سلام أمريكية تكافئ روسيا على غزوها الأراضي الأوكرانية، أو أن تتخلى الولايات المتحدة عن جهودها لوساطة إنهاء الحرب.

وعلى النقيض من ذلك، يُعتبر الأمل في الانضمام إلى الناتو جزءاً مركزياً من خطة أوكرانيا لتأمين مستقبلها داخل الاتحاد الأوروبي، لكن من غير المرجح أن تنضم كييف إلى الحلف أثناء الحرب، لأن ذلك سيضع أعضاء الناتو في مواجهة مباشرة مع روسيا.

صفقة ترامب  

يتضح يوماً بعد يوم أن ترامب حريص على إبرام أي صفقة مع بوتين بغض النظر عن تفاصيلها، فهو لا يبدي اهتماماً كبيراً بمضمون هذه الصفقة أو بالعواقب التي قد تترتب عليها بالنسبة لأوكرانيا.

إلا أن شغفه بالمجد والشهرة، يجعل توقيع مثل هذه الصفقة إنجازاً باهراً بالنسبة له، وقد تقربه إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام.

أمل أوكرانيا  

بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب، بات من الواضح أن أوكرانيا غير قادرة على مواجهة إمكانيات روسيا من حيث عدد السكان والاقتصاد والمساحة، حتى مع الدعم الغربي، فروسيا لديها عدد سكان أكبر وقادرة على تعبئة المزيد من الرجال للقتال، واقتصادها كان أكبر بعشر مرات من اقتصاد أوكرانيا قبل اندلاع الحرب.

على النقيض من ذلك، خسائر أوكرانيا التراكمية، التي تُقدّر ببعض التقديرات بنحو نصف تريليون دولار، وحجمها الأصغر، يجعل من الصعب أو من المستحيل استهداف البنية التحتية العسكرية الروسية بشكل فعال.

اليوم، روسيا تحقق تقدماً ملحوظاً على أرض المعركة، حيث تسيطر على خُمس أراضي أوكرانيا، فيما يشكل ترسانتها النووية تهديداً مستمراً، وشركاء أوكرانيا، مثل: الولايات المتحدة وأعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) واليابان وكوريا الجنوبية، لا يشاركون في القتال بشكل مباشر، وقد وصلت أوكرانيا إلى الحد الأقصى لما يمكنها تحقيقه بمفردها.

أصبح من المقبول على نطاق واسع أن أوكرانيا تخسر الحرب مع روسيا، ففي أقل من ستة أشهر، تغيرت الرواية السائدة من تحقيق النصر إلى تجنب الهزيمة.

في عام 2022، ومع تقدم الجيش الأوكراني تدريجياً، كانت التطلعات الأوروبية تتمثل في استعادة كل الأراضي المحتلة من روسيا ودفع العدو عميقاً في أراضيه حيث كانت هناك نية لمعاقبة روسيا على شنها الحرب، لكن اليوم، تبدو هذه الطموحات بعيدة المنال.

ومع ذلك، تحول النقاش بين داعمي أوكرانيا إلى كيفية إنهاء الحرب بشروط تمنع روسيا من تحقيق نصر كامل.

والتساؤل الآن: كيف يمكن دفع روسيا للموافقة على وقف إطلاق النار والتفاوض لإنهاء الحرب التي تكسبها حالياً؟.

الحياد الأوكراني

من السمات الغريبة لهذه الأزمة أنه رغم أن لا أحد في حلف الناتو يرى أن أوكرانيا مؤهلة للانضمام إليه قريباً، إلا أن الحلف لا يستطيع أن يُظهر تخليه عن سياسة الباب المفتوح في وجه التهديدات الروسية.

ويرى بعض الدبلوماسيين الأوروبيين أن هذه المعادلة قد تُحل إذا أعلنت أوكرانيا بنفسها حيادها، كما فعلت النمسا وفنلندا بعد الحرب العالمية الثانية، فإمكانية الحياد الأوكراني على المدى الطويل بعد الحرب قد تكون كفيلة بجذب روسيا إلى طاولة المفاوضات.

وعندما سُئل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن “فنلندة أوكرانيا”، أشار إلى أنها أحد النماذج المطروحة على الطاولة، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن المفاوضين المبدعين سيحتاجون إلى ابتكار شيء جديد، إذ صرح دبلوماسيون روس بأنهم منفتحون على هذا الطرح.

في ظل سنوات الحرب، مع تراجع قوة روسيا، وتعرض أوكرانيا للدمار، تم إعداد وثيقة تُعرف باسم “بيان إسطنبول”، تتضمن قبول أوكرانيا الحياد الدائم، وتخليها عن طموحات الانضمام إلى الناتو، والموافقة على تقليص كبير في حجم قواتها المسلحة.

وفي المقابل، ستحصل كييف على ضمانات أمنية لها من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، روسيا، والصين.

الصمود

في الوقت الذي تشهد فيه الحرب مراحل متغيرة، أثبتت كييف أنها لم تعد في موقف دفاعي بالكامل، وأنها بعيدة كل البعد عن الهزيمة.

من الناحية العسكرية، أوكرانيا بلا شك تواجه تفوقاً عددياً، إذ تملك نحو 900 ألف جندي نظامي مقابل 1.3 مليون لدى روسيا، دون احتساب المعدات، وتتمتع روسيا بتفوق كبير في العتاد، يعادل عشرة أضعاف في عدد الطائرات والمدفعية، وخمسة أضعاف في الدبابات، بالإضافة إلى فارق ضخم في الصواريخ والقذائف.

ومع ذلك، تواصل القوات الأوكرانية التمسك بمواقعها في مواجهة عدو يتفوق عددياً، مع تناقص مستمر في إمدادات الأسلحة الغربية.

كما يقرّ القادة العسكريون الأوكرانيون بأن استمرار الدعم الغربي يمكن أن يساعد في منع روسيا من تحقيق تقدم كبير خلال صيف هذا العام، لكن تحقيق ذلك يتطلب إقناع الساسة المتشككين في واشنطن والعواصم الأوروبية بأن أوكرانيا لا تزال قادرة على الصمود والانتصار إذا استمر الدعم.

وقد ساهمت الدول الأوروبية بنحو 62 مليار يورو في تسليح الجيش الأوكراني منذ اندلاع الحرب، وهو مبلغ كبير مكّن كييف من الحفاظ على دفاع قوي في مواجهة خصم يفوقها حجماً وتسليحاً.

ومع استعداد الطرفين لما قد يكون مرحلة حاسمة من الصراع، قد تحدد الأشهر المقبلة مصير الحرب، فإما أن تتمكن أوكرانيا من الحفاظ على وحدة أراضيها، أو تُجبر على قبول تسوية سلام تُبقي البلاد مقسّمة ومعرضة لعدوان روسي مستقبلي، وبوجود هذا القدر الكبير من الرهانات، قد يُشكّل صيف عام 2025 اختباراً حاسماً لقدرة أوكرانيا على الصمود، ولجدية التزام الغرب بدفاعها.

وهذا يشير إلى أن أوكرانيا رغم أنها لا تملك حالياً القدرة على طرد روسيا من أراضيها خلال هذا العام، إلا أنها لا تزال صامدة، وربما تجد نفسها في موقع أقوى خلال العام المقبل، مع بدء تدفق المساعدات الأوروبية التي من المتوقع أن تعوّض توقف الدعم العسكري الأمريكي في الوقت الراهن.

هل ستوقف واشنطن الدعم؟

منذ غزو بوتين لأوكرانيا في فبراير 2022، قدمت الولايات المتحدة نحو 74 مليار دولار كمساعدات عسكرية لكييف، تضمنت معدات متطورة من منظومات الدفاع الجوي “باتريوت”، التي تُعد خط الدفاع الفعّال الوحيد ضد الصواريخ الباليستية الروسية، وصواريخ أتاكمز وهيمارس، ومدافع بعيدة المدى من طراز M777، ودبابات، وآليات مدرعة، وملايين القذائف المدفعية.

لكن في عام 2025، لم يقدم الرئيس دونالد ترامب أي دعم عسكري جديد، مع العلم أن نحو 3.85 مليار دولار من مخصصات سابقة لم تُنفق بعد، إلا أن المساعدات العسكرية الفعلية منذ بداية العام الحالي توقفت تماماً.

وفي ظل تصاعد القتال، واجهت الجهود الدبلوماسية صعوبات كبيرة، حيث أعلنت أوكرانيا عن استعدادها لقبول وقف إطلاق نار اقترحته الولايات المتحدة لمدة 30 يوماً، بهدف فتح نافذة لبدء مفاوضات سلام.

غير أن رد روسيا جاء فاتراً، حيث شدد الرئيس فلاديمير بوتين على أن أي وقف للأعمال القتالية يجب أن يؤدي إلى سلام دائم يعالج الأسباب الجذرية للصراع، على حد تعبيره.

ارتفاع عدد القتلى  

على مدار أربع سنوات، أسفر الصراع عن مقتل أكثر من 200,000 شخص، فيما تُقدّر أعداد الجرحى والمصابين بثلاثة إلى أربعة أضعاف هذا الرقم.

 وتشير التقديرات الغربية إلى أن إجمالي الخسائر البشرية قد بلغ نحو نصف مليون شخص، ويقاتل نحو 700,000 جندي على الخطوط الأمامية، يكافحون للبقاء على قيد الحياة.

بالإضافة إلى ذلك، نزح الملايين من منازلهم، في حين تعرض الاقتصاد الأوكراني لدمار هائل، وتواجه البلاد أزمة ديموغرافية متفاقمة بسبب مغادرة أعداد كبيرة من النساء والأطفال لها.

وما يثير التساؤل هو الغياب شبه التام لجهود سلام جادة، رغم سقوط مئات الآلاف من الضحايا في قلب القارة الأوروبية.

الخلاف الأمريكي-الأوروبي  

في أول مئة يوم من ولايته، أدخل دونالد ترامب السياسة الخارجية الغربية في حالة من الارتباك الشديد، إذ شهدت مواقف الإدارة الأمريكية تطوراً ملحوظاً؛ فبينما كانت تدعو في البداية إلى تسوية سريعة، تشير الرسائل الأخيرة إلى تحول نحو دفع أوكرانيا للتفاوض المباشر مع روسيا.

 كما كشفت تسريبات حول خطة السلام التي تقترحها إدارة ترامب أن الولايات المتحدة قد تتجاوز حلفاءها الأوروبيين وتقدم تنازلات لروسيا بهدف تسريع مسار المفاوضات.

وقد أثار هذا التحول في سياسة واشنطن، الذي يشمل الابتعاد عن التحالف الوثيق مع كييف، قلق الحلفاء الأوروبيين، وأثار مخاوف بشأن مستقبل سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها.

ورغم أن الموقف الأمريكي-الأوروبي قد يبدو موحداً ظاهرياً في ملف أوكرانيا، إلا أنه الواقع مختلف تماماً، فالولايات المتحدة مستعدة للذهاب أبعد مما يمكن لأوروبا تحمّله، في حين أن الأخيرة، التي تخشى العواقب، باتت مهددة بأن تتحول إلى المعطّل لمسار سياسي لا يتماشى مع مصالحها أو رؤيتها للصراع.

الضغط على أوروبا

على النقيض من ذلك، يواجه المسؤولون الأوروبيون مأزقاً متزايداً في ظل تصاعد جهود الرئيس ترامب لإبرام اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا.

وقد تضمّن اقتراح أمريكي سابق، عُرض على الحلفاء، بنوداً مثيرة للجدل، من بينها رفع العقوبات المفروضة على روسيا، واستبعاد أوكرانيا من قائمة الدول المؤهلة للانضمام إلى حلف الناتو وهو ما يتناقض تماماً مع المواقف التي اتخذتها الإدارة الأمريكية السابقة، والتي كانت داعمة بقوة لأوكرانيا.

وهذا يشير إلى أنه مع هذا الاقتراح، سيتبخر عملياً الدعم الذي قدمه سلف ترامب لكييف قبل عامين، ويرى المسؤولون الأوروبيون أن المبادرة الأمريكية تنحاز بشكل مفرط لصالح روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين.

 ومع ذلك، شدد الرئيس ترامب ونائبه جي دي فانس على أن هذا العرض هو “الفرصة الأخيرة”، مؤكدين أن الولايات المتحدة مستعدة بشكل متزايد للانسحاب من الملف برمّته إذا لم يتم القبول بشروطها.

ماذا ستفعل أوروبا إذا انسحبت أمريكا؟

إذا قررت الولايات المتحدة الانسحاب من الملف الأوكراني، فإنها تضع أوروبا في موقف بالغ الصعوبة، وخروجها من المعادلة قد يُقوّض مبدأ الدفاع الجماعي المنصوص عليه في المادة الخامسة من ميثاق الناتو، ويجعل الحفاظ على وجود أوكرانيا مرهوناً بالكامل بضمانات أمنية أوروبية من دون المظلة الأمريكية.

كما يحاول حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا منذ فترة إقناع الرئيس ترامب بجدوى اتباع نهج مشترك لإنهاء الحرب في أوكرانيا، بما يعزز نفوذ الغرب على موسكو وكييف معاً، ويصون أمن القارة الأوروبية.

ويرى المسؤولون الأوروبيون أن المبدأ الأساسي لأمن أوروبا على المحك؛ إذ إن احترام الحدود الدولية، كما رُسمت بعد الحرب العالمية الثانية، يجب أن يبقى قائماً وألا يتم تغييرها بالقوة.

ويقول محللون: “إن الجهود الأوروبية لإقناع واشنطن بأن موسكو وليس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، هي من يعرقل التوصل إلى اتفاق”، لذا باءت المحاولات بالفشل.

ومع ذلك، من المرجح أن يقرر ترامب التخلي عن القضية برمتها، كما فعل مع ملف كوريا الشمالية في ولايته الأولى، عندما اتضح له أن الصفقة التي كان يأمل فيها غير قابلة للتحقيق.

وعلى مدى أسابيع، كانت أوروبا تخشى هذا السيناريو أو بالأحرى كانت تعتبره محتماً، كما يخشى المريض من خبر تشخيصه النهائي.

لذا يبقى السؤال المهم الآن: ماذا سيحدث بعد ذلك؟، وإذا انسحب ترامب فعلاً، هل سيوقف تبادل المعلومات الاستخباراتية؟، وهل سيتخذ خطوة أحادية لرفع العقوبات عن روسيا؟.

والأهم من كل ذلك، هل سيسمح لأوروبا بشراء الأسلحة الأمريكية الحيوية، وعلى رأسها أنظمة الدفاع الجوي “باتريوت”، لتسليمها إلى أوكرانيا؟.

في الغالب، لا أحد لديه إجابة واضحة عن كل هذه التساؤلات.

الشراكة وذكريات الماضي

يبدو أن التطورات الحالية قد تدفع أوروبا نحو اتخاذ خطوات مستقلة والوقوف على قدميها أخيراً بعد 80 عاماً من الاعتماد على الولايات المتحدة، حيث تعيش القارة مرحلة مؤلمة من الانفصال عن شريكها التاريخي، وكأنها تخرج من علاقة طويلة مليئة بالثقة والاعتياد.

لقد كانت الشراكة الأمريكية مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية أكثر من مجرد تحالف براغماتي، إذ احتضن الأوروبيون القوة الأمريكية، وثقافتها، وأفكارها، حتى بات حضورها جزءاً مسلماً به.

وترافق هذا الاحتضان مع سياسات أوروبية اتسمت أحياناً بالركود وأحياناً أخرى بالتراخي، في مواجهة أزمات كبرى مثل الإرهاب العابر للحدود، وتدفقات الهجرة، وصعود الشعبوية، وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي (بريكست).

لكن الآن، في ظل اندلاع أكبر حرب برية على الأراضي الأوروبية منذ عام 1945، لم يعد بإمكان لندن وباريس وبرلين وبروكسل أن تتّكل مجدداً على رئيس أمريكي تربّى في ظل الحرب الباردة، فأوروبا لا تزال مرتبطة بقوة بالبنية الأمنية التي أرساها ذلك الصراع، لكن الواقع الجديد يفرض عليها التفكير بطريقة مختلفة.

ومع ذلك، رغم هذه التحديات، لا تزال العواصم الأوروبية تبدي استعدادها لمواصلة دعم أوكرانيا، حتى في حال انسحبت الولايات المتحدة من المشهد.

بالنسبة إلى أوروبا فإنها تعد لحظة حاسمة، لاختبار قدرتها على التحرك كقوة جيوسياسية مستقلة، وعلى تحويل الذكريات المشتركة مع واشنطن إلى دروس للمستقبل، لا مجرد حنين إلى الماضي.

أوروبا والأزمة الأمنية

شكّل غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022 نقطة تحوّل حاسمة في الجغرافيا السياسية الأوروبية والعالمية، حيث وجّه ضربة قاسية إلى أسس النظام الأمني الذي تأسس بعد الحرب الباردة.

للمرة الأولى منذ عقود، يواجه القادة الأوروبيون رئيساً أمريكياً لا يُعير اهتماماً كبيراً للمبادئ الأمنية التي نشأت في حقبة الحرب الباردة.

وقد يعني ذلك أن القارة الأوروبية تُترك وحيدة في مواجهة تحديات أمنية خطيرة، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، فالبنية الأمنية التي اعتمدت عليها أوروبا لأجيال تبددت ولا يبدو أنها ستعود.

كما يحذر الخبراء من أن موسكو توسع وجودها العسكري في شمال غرب روسيا، في خطوة محسوبة تهدف إلى دعم هذه المنطقة، خاصة في ضوء انضمام فنلندا والسويد مؤخراً إلى حلف الناتو.

ووفقاً لتقييم استخباراتي دنماركي صدر مؤخراً، فإن إعادة تسليح روسيا خلال عام 2024 غيّر طابعها من إعادة بناء إلى تصعيد مكثف في التسلّح العسكري، والهدف من ذلك هو القدرة على القتال بندّية مع قوات الناتو.

أما في الشرق، فالوضع ليس أقل خطورة، فالتعزيزات العسكرية الروسية هناك تثير قلقاً متزايداً، في وقت تتآكل فيه العلاقات الدفاعية التقليدية بين أوروبا والولايات المتحدة تحت إدارة ترامب.

ومع ذلك، قد لا تكون روسيا على وشك غزو أجزاء أخرى من أوروبا الآن، لكنها ستحاول بسط نفوذها من خلال تكثيف الهجمات السيبرانية، والتدخلات السياسية، والاغتيالات، وعمليات التخريب.

ولكن إذا شعر بوتين بضعف أو تردد، فقد يسعى إلى اختبار وحدة الناتو عبر الاستيلاء على جزء صغير من أراضي إحدى دول الحلف، متحدياً الجميع للرد، وقد يكون مستعداً لهذا السيناريو في غضون عامين إلى خمسة، وهي فترة تبدو طويلة في الحسابات السياسية، لكنها لا تكاد تُذكر في الحسابات العسكرية.

وعلى النقيض من ذلك، تعتمد قدرة أوروبا على الردع الآن على مدى إدراكها الحقيقي لحجم التهديد الذي يشكله بوتين، وعلى مدى استعدادها للتحرك دون انتظار دعم أمريكي قد لا يأتي.

كيف يمكن لأوروبا ردع روسيا؟

يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم مجموعة من السيناريوهات التي قد تعيد رسم مستقبل أوكرانيا، وفي الوقت نفسه تُعيد تعريف دور الاتحاد الأوروبي ونفوذه على الساحة الدولية.

ولكن في ظل غياب الدعم الأمريكي المحتمل في عهد ترامب، تمتلك أوروبا ورقة ضغط مهمة يمكن استخدامها، تتمثل بتهديدها بمصادرة أصول البنك المركزي الروسي المجمدة في أوروبا، حيث يمكن تفعيل هذا التهديد في أي لحظة، الآن أو لاحقاً، في حال انتهكت روسيا شروط وقف إطلاق النار أو أي اتفاق سلام مستقبلي.

ومع ذلك فالأولوية العاجلة أمام القادة الأوروبيين، كما أظهرت مناقشات مؤتمر ميونيخ للأمن، هي كيفية تقديم الدعم الفعّال لأوكرانيا، لكن التحديات تتجاوز ذلك بكثير.

والعالم يراقب ليرى ما إذا كان بإمكان قادة أوروبا التوحد لتعزيز دفاعاتهم في وقت يشهد تقلّبات سياسية واقتصادية حادة، وحتى لو نجحوا في ذلك، من غير المؤكد أن هذه الجهود ستكون كافية لردع روسيا العدوانية والمنهكة والخطرة، خصوصاً في ظل غياب الدعم العسكري الأمريكي.

وهذا يشير إلى أنه رغم أن أوروبا بدأت شراء المزيد من الأسلحة، لكن التنافس بين الدول الأوروبية على عقود التسليح يعيق التنسيق الفعّال.

وتُظهر بيانات جديدة صادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، أن إنفاق الناتو الدفاعي (باستثناء مساهمة الولايات المتحدة) ارتفع إلى 68  مليار دولار في الفترة 2022–2023، بزيادة قدرها 19 %.

ورغم أن هذا الإنفاق يعكس اتجاهاً إيجابياً، إلا أن القلق لا يزال قائماً، فالزيادة غير كافية حتى الآن.

ببساطة، ردع روسيا يتطلب أكثر من المال والسلاح، من وحدة سياسية حقيقية، وإرادة استراتيجية واضحة، واستعداد لمواجهة الخطر دون ضمانات أمريكية تقليدية.

هل يمكن لأوروبا دعم أوكرانيا؟

قلب الرئيس الأوكراني زيلينسكي مزاعم ترامب التي تقول: “إن أوكرانيا تريد حرباً لا نهاية لها”، عبر طرحه مبادرة “وقف لإطلاق النار” بنفسه، لتأتي ردود الفعل الأوروبية سريعة وموحدة، وسارعت القيادات للتعبير عن دعمها لأوكرانيا ولزيلينسكي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن نشر قوات عسكرية في أوكرانيا والالتزام بالدفاع عنها سيكون أمراً مختلفاً تماماً، وهي مهمة أكبر بكثير وأكثر تكلفة، وتتطلب ضمانات أمريكية واضحة لحماية أوكرانيا وشركائها الأوروبيين في حال خرق روسيا لأي اتفاق وقف إطلاق نار.

وهذا هو بالضبط ما ترغب إدارة ترامب في تجنبه، نظراً للمخاطر الكبيرة التي ستكون على صعيد تصاعد الصراع إلى مواجهة مباشرة مع روسيا النووية.

ولو كان لدى الأوروبيين خطة بديلة واضحة، لكان كل هذا منطقياً، لكن الواقع أن أوروبا لا تملك سوى تصريحات عامة ومكررة حول دعم أوكرانيا كلما استدعى الأمر، وإبقاء الضغط على بوتين بأي ثمن، والتمسك بحلم “السلام العادل”.

ومع ذلك، فإن ما يصفه زيلينسكي بـ”السلام العادل” يعني انسحاباً كاملاً وقاطعاً للقوات الروسية، وهو أمر يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي.

في الوقت نفسه، استنزفت المساعدات العسكرية والمالية الأوروبية السخية إلى أوكرانيا ميزانيات الدول، وضاعفت الضغوط على موارد اقتصادات أوروبا التي تعاني أصلاً من التضخم، والديون، وبطء النمو، كما أن على القادة الأوروبيين الاستعداد لإقناع شعوبهم بالتضحيات القادمة.

وبالتالي، يبقى السؤال: هل تمتلك أوروبا الإرادة والموارد اللازمة لدعم أوكرانيا حقاً في هذه المرحلة الحرجة، أم أن دعمها سيظل محصوراً ضمن حدود الإمكانيات والتوازنات المعقدة؟.

بديل الاتحاد الأوروبي  

على النقيض من ذلك، قدمت أوكرانيا وأوروبا مبادرة بديلة لوقف إطلاق النار تختلف عن خطة ترامب، إذ لا تتضمن أي تنازلات إقليمية لروسيا رغم مرور نحو أربع سنوات على الغزو.

ما يدعو للتساؤل: هل الأوروبيون مستعدون وقادرون على دعم هذه المبادرة بمزيد من الجهد العسكري إذا رفضتها روسيا والولايات المتحدة؟.

في العواصم الأوروبية، يخشى القادة من أن يبرم ترامب صفقة مع بوتين تلبي مطالبه وتفرط في مصالح أوكرانيا، في عجلة منه لإنهاء القتال.

وبما أن إدارة ترامب تبدو مستعدة لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا ولا تعتبر الأمن الأوروبي مصلحة وطنية أمريكية أساسية، يطرح التساؤل الثاني: هل ستتقدم أوروبا وتتحمل المسؤولية؟.

تتولى ألمانيا القيادة في هذا المسعى، لكن يبقى التحدي، كيف ستترجم أوروبا أقوالها إلى أفعال؟.

على أوروبا اليوم أن تتولى بمفردها مسؤولية تأمين السلام في القارة، من دون مساعدة الحليف الأميركي الذي كان حاضراً طيلة العقود الثمانية الماضية

المسؤولية الأوروبية

في ظل صراع عالمي جديد بين القيم، يصعب تحديد موقف أمريكا بشكل واضح، وفي حال أصبحت مهمة الدفاع عن الحرية والديمقراطية تقع بالكامل على عاتق أوروبا، فيجب أن تكون مستعدة لتحمل هذه المسؤولية.

لذلك إذا نظر الرئيس ترامب إلى أوكرانيا على أنها مجرد أزمة أخرى، سواء لحلها أو تجاهلها، أو كعقبة أمام تطبيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الرئيس بوتين، فإن على الأوروبيين أن يروا مستقبل أوكرانيا أمراً جوهرياً لا يمكن تجاهله.

على مدار العقود الماضية، سعت أوروبا إلى تحمل المسؤولية تجاه أمنها الخاص، والاستقلال الكامل عن الولايات المتحدة، إلا أنه لتحقيق ذلك، عليها مواجهة تحديين ملحّين يتمثلان بضمان قدرتها على الدفاع عن نفسها، وتحقيق سلام مستدام لأوكرانيا ذات السيادة.

أي أنه يجب على أوروبا الآن أن تتحمل بمفردها مسؤولية تأمين السلام في القارة، دون دعم من الشريك الأمريكي الذي كان حاضراً طوال ثمانية عقود ماضية، وإذا كان القادة الأوروبيون بحاجة إلى دليل إضافي على ضرورة حماية أمنهم المستقبلي، فإن “صفقة السلام” التي طرحها صقور إدارة ترامب يجب أن تكون كافية لإقناعهم بذلك.

فهل تستطيع أوروبا التعامل مع ملف أوكرانيا بمفردها حتى لو أرادت ذلك، رغم التعهدات السريعة التي أعلنتها بريطانيا وفرنسا بزيادة الإنفاق الدفاعي خلال الأيام الماضية؟.
تحمل الإجابة الكثير من الصعوبة والشك حيال ذلك، لكن الأوضاع الراهنة كفيلة بالرد على هذا التساؤل.

السيناريوهات الاستراتيجية  

يمتلك دونالد ترامب جميع الأوراق التفاوضية، سواء على روسيا، أو على الدول التي يمكنها الضغط عليها لتحقيق سلام حقيقي، لذا يجب عليه أن يلعب هذه الأوراق بحكمة، فمستقبل أوكرانيا وأمن العالم بأسره يعتمد على قراراته.

وعلى النقيض من ذلك، إذا لم يوافق الرئيس بوتين الآن على وقف إطلاق النار المقترح، ستكون الخطوة التالية اختبار استعداد ترامب للتعاون مع أوروبا من خلال تشديد العقوبات.

وقد لا تُحدث عقوبات أشد على جهود روسيا الحربية، لكنها قد تساعد في توضيح نوايا ترامب طويلة المدى تجاه الحرب، والأيام المقبلة ستكشف بشكل أكبر إلى أي جانب يقف.

وبعد أشهر من تدهور العلاقات بين واشنطن وكييف إثر لقاء زيلينسكي-ترامب في المكتب البيضاوي، قد تتمكن أوكرانيا من استعادة آمال واقعية في الحصول على صادرات جديدة من الأسلحة الأمريكية، وإذا تحققت هذه الإمدادات، فقد تُبطئ الهجوم الروسي وتُجبر بوتين على السعي للسلام بشروط أقل فائدة له، وهو احتمال يقلق الكرملين.

ومع ذلك، إذا تمكنت أوكرانيا من الصمود خلال الأشهر القادمة، فقد يبدأ الضغط بالتحول ما قد يجبر روسيا على العودة إلى طاولة المفاوضات، ليس من موقع قوة، بل بشروط أكثر قبولاً لأوكرانيا.

موسكو تملك حالياً الأفضلية في ساحة المعركة لكن آلة الحرب الروسية تعاني من الإنهاك اقتصادياً وصناعياً وديموغرافياً

القيود على الصناعات والاقتصاد  

على الرغم من التقدم الميداني الذي تحققه روسيا، تتصاعد الضغوط عليها بشكل متزايد، إذا تمكنت أوكرانيا من الصمود خلال صيف هذا العام، وبدون تحقيق أي اختراقات دبلوماسية، فستواجه موسكو قيدين طويلَي الأمد يحدان من قدرتها على مواصلة الحرب بنفس وتيرتها الحالية.

على الصعيد العسكري، تعاني روسيا من نقص متزايد في الدبابات المدرعة، حيث يرى بعض المحللين أنها تقترب من استنفاد مخزونها من دبابات الحقبة السوفيتية.

لكن التحدي الأكبر يكمن في الجانب الاقتصادي، حيث تمثل نفقات الدفاع الآن نحو 40% من إجمالي ميزانية الدولة، وقد ساهم الاعتماد على صندوق الثروة الوطنية في تحفيز النمو مؤقتاً، إلا أن التحول الكامل إلى اقتصاد الحرب، إلى جانب العقوبات الدولية، يخلق اختلالات واضحة في الاقتصاد الروسي.

الاقتصاد الروسي ليس على الانهيار، لكنه يواجه ضغوطاً متزايدة تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين العاديين، وإذا ما زادت العقوبات التي قد يعتمدها ترامب، بالإضافة إلى تصاعد الهجمات الأوكرانية بالطائرات المسيرة والصواريخ على البنية التحتية للطاقة، فمن المتوقع أن تتفاقم هذه الأعباء بشكل كبير.

من المتوقع أن تخصص الحكومة الروسية نحو 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع هذا العام، وهو أعلى مستوى منذ الحرب الباردة، لكنه لا يزال بعيداً عن مستوى التعبئة الكاملة للدولة في وقت الحرب.

بالمقابل، أنفقت أوكرانيا نحو 34% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع خلال العام الماضي، فيما تجاوز الإنفاق العسكري لبريطانيا 50% خلال الحرب العالمية الثانية.

رغم تقدم روسيا على الأرض، إلا أن آلة الحرب الروسية تعاني من إرهاق متزايد على الصعيدين الاقتصادي والصناعي، فضلاً عن الضغوط الديموغرافية التي تثقل كاهلها.

أزمة بوتين

يواجه بوتين أزمة حقيقية، فمن جهة، لا يستطيع أن يغضب دونالد ترامب، المعروف بتقلب مزاجه، فالكرملين لم ينسَ أن ترامب، عند توليه الرئاسة عام 2017، اتخذ موقفاً أكثر تشدداً تجاه روسيا مما كان عليه باراك أوباما.

وقد فرض ترامب عقوبات على مشروع خط أنابيب غازبروم “نورد ستريم 2” وزاد من حجم وصلابة الأسلحة التي تقدمها أمريكا لأوكرانيا.

من جهة أخرى، يعتقد بوتين أن الوقت يصب في صالحه، فجيشه يحقق انتصارات بطيئة ومكلفة على الأرض، لذلك، يحتاج ترامب الآن إلى دفعه نحو صفقة جدية عبر فرض ضغوط قوية وحازمة، لذا أثبت بوتين مرة أخرى أنه يستجيب فقط للإجراءات القوية، لا للمبادرات الدبلوماسية.

الأسس الفلسفية للصراع  

أشار جورجي أرباتوف، العالم السياسي ومستشار ميخائيل جورباتشوف ومؤسس ومدير معهد الدراسات الأمريكية والكندية في الأكاديمية الروسية للعلوم، إلى نقطة جوهرية حول العلاقات بين الغرب وروسيا، ففي لقاء مع كبار المسؤولين الأمريكيين عام 1987، قال: “سنرتكب فعلاً مريعاً بحقكم، وسنحرمكم من عدو”.

وهذا يشير إلى أنه يمكن تفسير رفض الغرب المتكرر لجهود جورباتشوف وبوريس يلتسين وبوتين لإقامة علاقات غير عدائية مع الدول الغربية من هذا المنظور، فالغرب يحتاج إلى روسيا كعدو للحفاظ على الوحدة الداخلية، لكنه في الوقت ذاته يحتاج إلى روسيا كشريك متعاون يظهر الاحترام المناسب للغرب، خصوصاً في العقود المقبلة مع تصاعد قوة الصين.

الصين

وسط هذه الأوضاع، تتابع الصين عن كثب تطورات الأزمة الأوكرانية، وكذلك الاستراتيجية الأمريكية والأطلسية، وتعيد حساباتها بشأن مدى تراجع النفوذ الغربي.

وهذه المراجعة قد تدفع بكين إلى توثيق علاقاتها مع موسكو، لكن دون أن تصل إلى حد تمكين روسيا من تهديد طموحات الصين في الهيمنة على كتلة أوراسيا، وهي الطموحات التي تسير بوتيرة متسارعة من خلال تحالفات البنية التحتية الضخمة التي تشكلها مبادرة “الحزام والطريق”.

مصير أوكرانيا  

إذا كان مصير تايوان، كما كان يقول الراحل دونالد رامسفيلد، “مجهولاً معروفاً”، فإن موقف إدارة ترامب من أوكرانيا يبقى “مجهولاً غير معروف”، فلا يزال احتمال تغيّر موقف الرئيس الأمريكي وارداً في كلا الاتجاهين.

ومع ذلك، من المرجح أن تجد أوكرانيا نفسها قريباً أمام إنذار نهائي، إما القبول باتفاق سلام برعاية ترامب يُملى بشروط روسية، أو فقدان الدعم الاستخباراتي واللوجستي الأمريكي بشكل دائم، لكن، كيف سيتغير شكل خريطة أوكرانيا بعد وقف إطلاق نار بهذه الطبيعة غير المتكافئة؟.

يطالب بوتين بخمسة أقاليم أوكرانية: القرم، ولوغانسك، ودونيتسك، وخيرسون، وزابوريجيا،  علماً أن هذه الأقاليم الثلاثة لا تزال خاضعة جزئياً فقط للسيطرة الروسية، وإذا وافقت أوكرانيا على الانسحاب من هذه المناطق، فإن نسبة الأراضي الخاضعة لروسيا سترتفع من نحو 20% إلى نحو 25% من الأراضي السيادية الأوكرانية.

قد يبدو ذلك ثمناً مقبولاً لإنهاء حمام الدم، لكنّه سيكلف كييف خسارة المزيد من مواردها الاقتصادية الحيوية، فضلاً عن خطوطها الدفاعية المحصنة، ما يجعلها أكثر هشاشة في وجه أي هجوم مستقبلي.

ما النهاية المحتملة؟

للحروب منطقها الخاص وإيقاعها المتقلب، وإنهاؤها بالكامل يُعد حدثاً نادراً ومفصلياً ومعقداً في آنٍ واحد.

قال فلاديمير لينين ذات مرة: “هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع يحدث فيها ما يعادل عقوداً”، وما يشهده العالم من زخم دبلوماسي حول الرئيس ترامب يُثبت أن تلك المقولة لم تبتعد كثيراً عن الواقع.

ومع ذلك، فإن أي اتفاق سلام لا يمنع اندلاع حرب جديدة بعد فترة وجيزة لا يستحق أن يُبرم من الأساس.

ومع دخول الحرب صيفها الرابع، تقف أوكرانيا عند مفترق طرق خطير، فالضغوط العسكرية تتصاعد، والدعم الأمريكي يتآكل، وأوروبا مضطرة لأن تخطو إلى مرحلة “النضج الاستراتيجي”، والرسالة الواضحة: “لا يمكن اعتبار الضمانات العابرة للأطلسي أمراً مضموناً طالما أن ترامب في البيت الأبيض”.

بالمحصلة، مصير أوكرانيا، سواء كدولة ذات سيادة أو كضحية جيوسياسية، لن يتحدد عبر التصريحات والخطابات، بل من خلال الدعم المتواصل والعزيمة الجماعية، وإذا كانت أوروبا جادة في تجنب سلام يُفرض من طرف روسيا، فعليها أن تتقدم الصفوف، وتثبت استقلال قرارها، وتتجاوز دور المساندة.

فهل ستنهض أوروبا بدورها كفاعل استراتيجي حقيقي؟، وهل ستملأ الفراغ الذي يخلّفه تراجع واشنطن، أم ستتركه ليُملأ من قِبل قوى منافسة بأجندات مختلفة؟.

مصير أوكرانيا سواء كدولة ذات سيادة أو كضحية جيوسياسية لا يتوقف على التصريحات بل على الدعم المستمر والعزيمة الجماعية